مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي
رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي
عدلوقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة، السالك الناسك أبي الفتح نصر فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته.
أما بعد، فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون عُلُوًا في الأرض ولا فسادا منزلة علىة، ومودة إلهية؛ لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى والعبادة.
وقد بعث الله محمدًا ﷺ بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله التي هي أصل الأعمال المحبة التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله} 1، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} 2.
ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني، والوجد الديني، كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)، فجعل ﷺ وجود حلاوة الإيمان معلقا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله، وبكراهة ضد الإيمان.
وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله ﷺ: (ذاق طعمَ الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا)، فجعل ذوق طعم الإيمان معلقا بالرضي بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقا بالمحبة؛ ليفرق ﷺ بين الذوق والوجد، الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله وبين غيره كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، إذ كان كل من أحب شيئا فله ذوق بحسب محبته.
ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 3، قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله، فطالبهم بهذه الآية، فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده.
وقد ذكر نعت المحبين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} 4، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال، الذي نعت الله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال، المفرق في الملتين قبلنا، وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله، ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق، كما قال فيه كبير من كبرائهم:
مشرد عن الوطن**مبعد عن السكن
يبكي الطول والدمن**يهوى ولا يدري لمن
فالشيخ أحسن الله إليه قد جعل الله فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة، عن المجملة المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضا في التوحيد، قال الله تعالى في أم الكتاب، التي هي مفروضة على العبد وواجبة في كل صلاة أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثني عليّ عبدي، وإذ قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي أو قال: فوض إلى عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل) ولهذا روى أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في القرآن، ومعاني القرآن في المفصل، ومعاني المفصل في أم الكتاب، ومعاني أم الكتاب، في هاتين الكلمتين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهذا المعنى قد ثناه الله في مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه} 6، وفي مثل قوله: {عليه تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 7، وقوله: {عليه تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 8.
وكان النبي ﷺ يقول في نسكه: (اللهم هذا منك ولك)
فهو سبحانه مستحق التوحيد، الذي هو دعاؤه وإخلاص الدين له: دعاء العبادة بالمحبة والإنابة، والطاعة والإجلال، والإكرام والخشية، والرجاء، ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه الأول والآخر، والباطن والظاهر.
ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله، وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان: الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك.
وفي السؤال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} 9، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} 10، {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ على فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ} 11، {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} 12، {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} 13، {رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 14، ونحو ذلك.
وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية، والقيومية الكاملة الشاملة لكل مخلوق، من الأعيان والصفات.
وهذه الأمور قائمة بكلمات الله الكونية، التي كان النبي ﷺ يستعيذ بها فيقول: (أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن).
فيغيب ويفنى بهذا التوحيد الرباني عما هو مأمور به أيضا ومطلوب منه، وهو محبوب الحق ومرضيه من التوحيد الإلهي، الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، والأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، والحب فيه، والبغض فيه، ومن أعرض عن هذا التوحيد وأخذ بالأول، فهو يشبه القدرية المشركية الذين قالوا: {لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} 15.
ومن أخذ بالثاني دون الأول، فهو من القدرية المجوسية الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال العباد، ولا شاء جميع الكائنات، كما تقول المعتزلة والرافضة، ويقع في كلام كثير من المتكلمة والمتفقهة.
والأول ذهب إليه طوائف من الإباحية المنحلين عن الأوامر والنواهي، وإنما يستعملون ذلك عند أهوائهم وإلا فهو لا يستمر، وهو كثير في المتألهة الخارجين عن الشريعة خفو العدووغيرهم، فإن لهم زهادات وعبادات فيها ما هو غير مأمور به، فيفيدهم أحوالا فيها ما هو فاسد، يشبهون من بعض الوجوه الرهبان وعباد البدود.
ولهذا قال الشيخ عبد القادر قدس الله روحه: كثير من الرجال إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه رَوْزَنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والولي من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا له.
وهذا الذي قاله الشيخ تكلم به على لسان المحمدية، أي أن المسلم مأمور أن يفعل ما أمر الله به، ويدفع ما نهى الله عنه، وإن كانت أسبابه قد قدرت، فيدفع قدر الله بقدر الله، كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي ﷺ: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض)، وفي الترمذي قيل: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: (هن من قدر الله).
وإلى هذين المعنين أشار الحديث الذي رواه الطبراني أيضا عن النبي ﷺ أنه قال: (يقول الله: يابن آدم، إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي. فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي هي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلى الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فائت إلى الناس بما تحب أن يأتوه إليك)
ثم إن التوحيد الجامع لتوحيد الألوهية والربوبية، أو توحيد أحدهما، للعبد فيه ثلاثة مقامات:
أحدها: مقام الفرق والكثرة بإنعامه من كثرة المخلوقات والمأمورات.
والثاني: مقام الجمع والفناء، بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبموحده عن توحيده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبه، فهذا فناء عن إدراك السوى وهو فناء القاصرين.
وأما الفناء الكامل المحمدي، فهو الفناء عن عبادة السوى، والاستعانة بالسوى، وإرادة وجه السوى، وهذا في الدرجة الثالثة، وهو شهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، فيشهد قيام الكائنات مع تفرقها بإقامة الله تعالى وحده وربوبيته.
ويرى أنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وأنه على كل شيء وكيل، وأنه رب العالمين، وأن قلوب العباد ونواصيهم بيده، لا خالق غيره ولا نافع ولا ضار، ولا معطي ولا مانع ولا حافظ ولا معز ولا مذل سواه، ويشهد أيضا فعل المأمورات مع كثرتها، وترك الشبهات مع كثرتها لله وحده لا شريك له.
وهذا هو الدين الجامع العام الذي اشترك فيه جميع الأنبياء، والإسلام العام والإيمان العام، وبه أنزلت السور المكية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وصينَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 16، وبقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 17، وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} 18 ؛ ولهذا ترجم البخاري عليه باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد.
وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 19، فجمع في الملل الأربع: {مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} وذلك قبل النسخ والتبديل.
وخص في أول الآية المؤمنين، وهو الإيمان الخاص الشرعي الذي قال فيه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 20، والشرعة هي الشريعة، والمنهاج هو الطريقة، والدين الجامع هو الحقيقة الدينية، وتوحيد الربوبية، هو الحقيقة الكونية، فالحقيقة المقصودة الدينية الموجودة الكونية متفق عليها بين الأنبياء والمرسلين.
فأما الشرعة والمنهاج الإسلاميان فهو لأمة محمد ﷺ: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 21 وبها أنزلت السور المدنية؛ إذ في المدينة النبوية شرعت الشرائع، وسنت السنن، ونزلت الأحكام والفرائض والحدود.
فهذا التوحيد، هو الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين، لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكر وغيبة عن السوى، والسكر وجد بلا تمييز.
فقد يقول في تلك الحال: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبي يزيد البسطامي أو غيره من الأصحاء، وكلمات السكران تطوى ولا تروى ولا تؤدى، إذا لم يكن سكره بسبب محظور من عبادة أو وجه منهي عنه.
فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا، لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني، فسكر الأجسام بالطعام والشراب، وسكر النفوس بالصور، وسكر الأرواح بالأصوات.
وفي مثل هذا الحال، غَلَطَ من غَلَطَ بدعوى الاتحاد والحلول العيني، في مثل دعوى النصارى في المسيح، ودعوى الغالية في عليّ وأهل البيت، ودعوى قوم من الجهال الغالية في مثل الحلاج أو الحاكم بمصر أو غيرهما، وربما اشتبه عليهم الاتحاد النوعي الحكمي بالاتحاد العيني الذاتي.
فالأول كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: (يقول الله: عبدي، مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أنه مرض عبدي فلان، فلو عدته لوجدتني عنده؟، عبدي، جعت فلم تطعمني، فيقول: رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟)
ففسر ما تكلم به في هذا الحديث أنه جوع عبده ومحبوبه لقوله: (لوجدت ذلك عندي) ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله: (لوجدتني عنده)، ولم يقل: لوجدتني إياه؛ وذلك لأن المحب يتفق هو ومحبوبه بحيث يرضي أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهي عنه.
وهؤلاء هم الذين يرضي الحق لرضاهم، ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولهذا قال تعالى فيه: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} 22، وقال: {وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} 23، وقال {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} 24
وقد جاء في الإنجيل الذي بأيدي النصارى كلمات مجملة إن صح أن المسيح قالها فهذا معناها، كقوله: (أنا وأبي واحد. من رآني فقد رأى أبي) ونحو ذلك وبها ضلت النصارى، حيث اتبعوا المتشابه، كما ذكر الله عنهم في القرآن، لما قدم وفد نجران على النبي ﷺ وناظروه في المسيح.
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، فأخبر في هذا الحديث أن الحق سبحانه إذا تقرب إليه العبد بالنوافل المستحبة التي يحبها الله بعد الفرائض أحبه الحق على هذا الوجه.
وقد غلط من زعم أن هذا قرب النوافل، وأن قرب الفرائض أن يكون هو إياه، فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، فهذا القرب يجمع الفرائض والنوافل، فهذه المعاني وما يشبهها هي أصول مذهب أهل الطريقة الإسلامية، أتباع الأنبياء والمرسلين.
وقد بلغني أن بعض الناس ذكر عند خدمتكم الكلام في مذهب الاتحادية، وكنت قد كتبت إلى خدمتكم كتابًا اقتضى الحال من غير قصد أن أشرت فيه إشارة لطيفة إلى حال هؤلاء، ولم يكن القصد به والله واحدًا بعينه، وإنما الشيخ هو مجمع المؤمنين، فعلىنا أن نعينه في الدين والدنيا، بما هو اللائق به، وأما هؤلاء الاتحادية فقد أرسل إليَّ الداعي من طلب كشف حقيقة أمرهم.
وقد كتبت في ذلك كتابًا ربما يرسل إلى الشيخ، وقد كتب سيدنا الشيخ عماد الدين في ذلك رسائل، والله تعالى يعلم وكفى به عليما لولا أني أرى دفع ضرر هؤلاء عن أهل طريق الله تعالى، السالكين إليه من أعظم الواجبات وهو شبيه بدفع التتار عن المؤمنين لم يكن للمؤمنين بالله ورسوله حاجة إلى أن تكشف أسرار الطريق، وتهتك أستارها، ولكن الشيخ أحسن الله تعالى إليه يعلم أن مقصود الدعوة النبوية، بل المقصود بخلق الخلق، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل: أن يكون الدين كله لله، هو دعوة الخلائق إلى خالقهم بما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} 25، وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 26، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى الله تَصِيرُ الأمُورُ} 27. وهؤلاء موهوا على السالكين التوحيد الذيأنزل الله تعالى به الكتب، وبعث به الرسل بالاتحاد الذي سموه توحيدًا، وحقيقته تعطيل الصانع وجحود الخالق.
وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه، لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكنة، والمحكم المربوط والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك. ولم نكن بَعْدُ اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علىنا.
فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون، وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية، والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء، وجب البيان.
وكذلك كتب إلينا من أطراف الشام رجال سالكون أهل صدق وطلب، أن أذكر النكت الجامعة لحقيقة مقصودهم.
والشيخ أيده الله تعالى بنور قلبه، وذكاء نفسه وحقق قصده من نصحه للإسلام وأهله، ولإخوانه السالكين يفعل في ذلك ما يرجو به رضوان الله سبحانه ومغفرته في الدنيا والآخرة.
وهؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر، لم يعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين، وذلك أن القسمة رباعية، فإن كل واحد من الاتحاد والحلول، إما معين في شخص وإما مطلق.
أما الاتحاد والحلول المعين، كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة وفي المشائخ من جهال الفقراء والصوفية، فإنهم يقولون به في معين، إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن، وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط، وإما بالحلول وهو قول النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية.
وأما الحلول المطلق وهو أن الله تعالى بذاته حال في كل شيء، فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك.
وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام، فما علمت أحدا سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل فرعون والقرامطة وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين، ولا أنه غني، وما سواه فقير.
لكن تفرقوا على ثلاثة طرق، وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم؛ لأنه أمر مبهم.
الأول: أن يقولوا: إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها أبدية أزلية، حتى ذوات الحيوان، والنبات والمعادن، والحركات والسكنات، وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات، فوجودها وجود الحق، وذواتها ليست ذوات الحق، ويفرقون بين الوجود والثبوت، فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك.
ويقولون: إن الله سبحانه لم يعط أحدًا شيئا، ولا أغنى أحدًا، ولا أسعده ولا أشقاه، وإنما وجوده فاض على الذوات، فلا تحمد إلا نفسك، ولا تذم إلا نفسك.
ويقولون: إن هذا هو سر القدر، وأن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجًا عن نفسه المقدسة.
ويقولون: إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم، وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد، وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه؛ لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به الرسل.
ويقولون: إنهم لم يعبدوا غير الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى، وأن عبّاد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه، وأن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} 28 معنى حكم، لا معنى أمر، فما عبد غير الله في كل معبود، فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع.
ويقولون: إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، وإن قوم نوح قالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} 29 ؛ لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم؛ لأن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه، وينكره من أنكره، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، وأن العارف منهم يعرف من عبدَ وفي أي صورة ظهر حتى عبد.
فإن الجاهل يقول: هذا حجر وشجر، والعارف يقول: هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا؛ لأنهم خصصوا، وإن عبّاد الأصنام ما أخطؤوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء.
والله يعبد أيضا كل شيء لأن الأشياء غذاؤه بالأسماء والأحكام، وهو غذاؤها بالوجود، وهو فقير إليها وهي فقيرة إليه، وهو خليل كل شيء بهذا المعنى، ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة، وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أمورًا عدمية.
ويقولون: من أسمائه الحسنى: العلى، عن ماذا وما ثم إلا هو؟ وعلى ماذا وما ثم غيره؟ فالمسمى محدثات وهي العلىة لذاتها وليست إلا هو، وما نكح سوى نفسه، وما ذبح سوى نفسه، والمتكلم هو عين المستمع.
وأن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل لضيقه وعدم اتساعه وأن موسى كان أوسع في العلم، فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وأن أعلى ما عبد الهوى، وأن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله، وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين، وقد صدقه السحرة في قوله: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 30، وفي قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 31.
وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول: إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون، المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون، ويقولون: نحن على قول فرعون.
وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 32
والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص، المضاف إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه جاء به: وهو ما إذا فهمه المسلم علم بالاضطرار أن جميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأولياء والصالحين، بل جميع عوام أهل الملل، من اليهود والنصارى والصابئين: يبرؤون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه كله؟
ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور، الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ربهم ورب آبائهم الأولين، رب المشرق والمغرب.
ولا يقول أحد منهم: إنه عين المخلوقات، ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى إنهم يقولون: لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين:
أحدهما: أن المعدوم شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة والرافضة وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب السنة والإجماع. وكثير من متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر كفر من يقول بهذا.
وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله تعالى. فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها، فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي.
ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 33 فذكر المراتب الأربع: وهي الوجود العيني الذي خلقه، والوجود الرسمي المطابق للفظي الدال على العلمي، وبين أن الله تعالى علمه، ولهذا ذكر التعليم بالقلم، فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة.
وهذا القول أعني قول من يقول: إن المعدوم شيء ثابت في نفسه، خارج عن علم الله تعالى وإن كان باطلا ودلالته واضحة لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة، وابن عربي وافق أصحابه، وهو أحد أصلي مذهبه الذي في الفصوص.
والأصل الثاني: أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق، ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن عربي أقربهم إلى الإسلام، وأحسن كلاما في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر، فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشائخ من الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم، فينتفعون بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله.
وأما صاحبه الصدر الرومي فإنه كان متفلسفا، فهو أبعد عن الشريعة والإسلام؛ ولهذا كان الفاجر التلمساني الملقب بالعفيف يقول: كان شيخي القديم متروحنًا متفلسفًا، والآخر فيلسوفا متروحنا يعني الصدر الرومي فإنه كان قد أخذ عنه، ولم يدرك ابن عربي في كتاب مفتاح غيب الجمع والوجود، وغيره يقول: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين، كما يفرق بين الحيوان المطلق والحيوان المعين، والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في الخارج مطلقا، لا يوجد المطلق إلا في الأعيان الخارجة.
فحقيقة قوله: إنه ليس لله سبحانه وجود أصلا، ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات؛ ولهذا يقول هو وشيخه: إن الله تعالى لا يرى أصلا، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير، والبول والعذرة، عين وجوده تعالى الله عما يقولون.
وأما الفاجر التلمساني، فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر، فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين كما يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وإن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوبا، فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر.
ولهذا كان يستحل جميع المحرمات، حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول: البنت والأم والأجنبية شيء واحد، ليس في ذلك حرام علىنا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
وكان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، وإنما التوحيد في كلامنا.
وكان يقول: أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول: القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشرح الأسماء الحسنى على هذا الأصل الذي له.
وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء، وشعره في صناعة الشعر جيد، ولكنه كما قيل: (لَحْمُ خِنْزِير في طَبَق صيني) وصنف للنصيرية عقيدة، وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر، وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه.
وأما ابن سبعين، فإنه في البدو والإحاطة يقول أيضا بوحدة الوجود، وأنه ما ثم غير، وكذلك ابن الفارض في آخر نظم السلوك، لكن لم يصرح: هل يقول بمثل قول التلمساني، أو قول الرومي، أو قول ابن عربي؟ وهو إلى كلام التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي ما كفره أحد قط مثل التلمساني، وآخر يقال له: البلياني من مشايخ شيراز. ومن شعره:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه عينه
وأيضا:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ** ويفهم هذا السر من هو ذائقه
وأيضا:
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ** لأني في التحقيق لست سواكم
وأيضا:
ما بال عيسك لا يقر قرارها ** وإلام ظلك لا يني متنقلا؟
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ** إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وأيضا:
ما الأمر إلا نسق واحد ** ما فيه من حمد ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت ** والطبع والشارع في الحكم
وأيضا:
يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني ** والوجد أصدق نهاء وأمار
فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي ** عن العيان إلى أوهام أخبار
فعين ما أنت تدعوني إليه إذا ** حققته تره المنهي يا جاري
وأيضا:
وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ** وإن فرقته كثرة المتعدد
إلى أمثال هذه الأشعار، وفي النثر ما لا يحصى، ويوهمون الجهال أنهم مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة، مثل سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن انس، والأوزاعي، وإبراهيم بن أدهم، وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، ومعروف الكرخي، والشافعي، وأبي سليمان، وأحمد بن حنبل، وبشر الحافي، وعبد الله بن المبارك، وشقيق البلخي، ومن لا يحصى كثرة.
إلى مثل المتأخرين، مثل الجنيد بن محمد القواريري، وسهل بن عبد الله التستري، وعمر بن عثمان المكي، ومن بعدهم، إلى أبي طالب المكي، إلى مثل الشيخ عبد القادر الكيلاني، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي مدين، والشيخ عقيل، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ رسلان، والشيخ عبد الرحيم، والشيخ عبد الله اليونيني، والشيخ القرشي، وأمثال هؤلاء المشايخ الذين كانوا بالحجاز والشام والعراق، ومصر والمغرب وخراسان، من الأولين والأخرىن.
كل هؤلاء متفقون على تكفير هؤلاء ومن هو أرجح منهم، وإن الله سبحانه ليس هو خلقه ولا جزءًا من خلقه ولا صفة لخلقه، بل هو سبحانه وتعالى متميز بنفسه المقدسة، بائن بذاته المعظمة عن مخلوقاته، وبذلك جاءت الكتب الأربعة الإلهية، من التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، وعليه فطر الله تعالى عباده، وعلى ذلك دلت العقول.
وكثيرا ما كنت أظن أن ظهور مثل هؤلاء أكبر أسباب ظهور التتار، واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب، الذي يزعم أنه هو الله.
فإن هؤلاء عندهم كل شيء هو الله، ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض وأعظم.
وأما على رأي صاحب الفصوص، فإن بعض المظاهر والمستجليات يكون أعظم لعظم ذاته الثابتة في العدم، وأما على رأي الرومي فإن بعض المتعينات يكون أكبر، فإن بعض جزئيات الكلي أكبر من بعض، وأما على البقية فالكل أجزاء منه، وبعض الجزء أكبر من بعض.
فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من كبار العارفين، وأكبر من الرسل بعد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وإبراهيم وموسى، وعيسى عليهم السلام فموسى قاتل فرعون الذي يدعي الربوبية، ويسلط الله تعالى مسيح الهدى الذي قيل فيه: إنه الله تعالى وهو بريء من ذلك على مسيح الضلالة الذي قال: إنه الله.
ولهذا كان بعض الناس يعجب من كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (إنه أعور)، وكونه قال: (واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت). وابن الخطيب أنكر أن يكون النبي ﷺ قال هذا؛ لأن ظهور دلائل الحدوث والنقص على الدجال، أبين من أن يستدل عليه بأنه أعور.
فلما رأينا حقيقة قول هؤلاء الاتحادية، وتدبرنا ما وقعت فيه النصارى والحلولية، ظهر سبب دلالة النبي ﷺ لأمته بهذه العلامة، فإنه بعث رحمة للعالمين، فإذا كان كثير من الخلق يجوز ظهور الرب في البشر، أو يقول: إنه هو البشر، كان الاستدلال على ذلك بالعور دليلا على انتفاء الإلهية عنه.
وقد خاطبني قديما شخص من خيار أصحابنا كان يميل إلى الاتحاد ثم تاب منه وذكر هذا الحديث فبينت له وجهه.
وجاء إلينا شخص كان يقول: إنه خاتم الأولياء، فزعم أن الحلاج لما قال: أنا الحق كان الله تعالى هو المتكلم على لسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع، وأن الصحابة لما سمعوا كلام الله تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا الباب، فبينت له فساد هذا، وأنه لو كان كذلك كان الصحابة بمنزلة موسى بن عمران، وكان من خاطبه هؤلاء أعظم من موسى، لأن موسى سمع الكلام الإلهي من الشجرة وهؤلاء يسمعون من الجن الناطق.
وهذا يقوله قوم من الاتحادية، لكن أكثرهم جهال لا يفرقون بين الاتحاد العام المطلق الذي يذهب إليه الفاجر التلمساني وذووه، وبين الاتحاد المعين الذي يذهب إليه النصارى والغالية.
وقد كان سلف الأمة، وسادات الأئمة، يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود، كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحًا، وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان.
وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، ولكن السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه، فإن كثيرًا من الناس قد لا يفهم تغليظهم في ذم المقالة، حتى يتدبرها ويرزق نور الهدى، فلما اطلع السلف على سر القول نفروا منه.
وهذا كما قال بعض الناس: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء ؛ وذلك لأن متكلمهم ليس في قلبه تأله ولا تعبد، فهو يصف ربه بصفات العدم والموات.
وأما المتعبد ففي قلبه تأله وتعبد، والقلب لا يقصد إلا موجودًا لا معدوما فيحتاج أن يعبد المخلوقات، إما الوجود المطلق وإما بعض المظاهر، كالشمس والقمر، والبشر والأوثان وغير ذلك، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم، وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات، فهم بربهم يعدلون.
ولهذا حدثني الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند، وقال: إن أرض الإسلام لا تسعه؛ لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان.
وهذا حقيقة قول الاتحادية، وأعرف ناسا لهم اشتغال بالفلسفة والكلام وقد تَألَّهوا على طريق هؤلاء الاتحادية، فإذا أخذوا يصفون الرب سبحانه بالكلام قالوا: ليس بكذا، ليس بكذا، ووصفوه بأنه ليس هو رب المخلوقات كما يقوله المسلمون، لكن يجحدون صفات الخالق التي جاءت بها الرسل عليهم السلام.
وإذا صار لأحدهم ذوق ووجد، تأله وسلك طريق الاتحادية، وقال: إنه هو الموجودات كلها، فإذا قيل له: أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟ قال: ذلك وجدي، وهذا ذوقي. فيقال لهذا الضال: كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد فأحدهما أو كلاهما باطل، وإنما الأذواق والمواجيد نتائج المعارف والاعتقادات، فإن علم القلب وحاله متلازمان، فعلى قدر العلم والمعرفة يكون الوجد والمحبة والحال.
ولو سلك هؤلاء طريق الأنبياء والمرسلين عليهم السلام الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله واتبعوا طريق السابقين الأولين، لسلكوا طريق الهدى، ووجدوا بَرْد اليقين وقُرَّة العين، فإن الأمر كما قال بعض الناس: إن الرسل جاؤوا بإثبات مُفَصَّل ونفي مجمل، والصابئة المعطلة جاؤوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، فالقرآن مملوء من قوله تعالى في الإثبات: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ} 34 و{عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 35، و{إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 36، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} 37، وفي النفي{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 38، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 39، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 40، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} 41.
وهذا الكتاب مع أني قد أطلت فيه الكلام على الشيخ أيَّد الله تعالى به الإسلام، ونفع المسلمين ببركة أنفاسه، وحسن مقاصده ونور قلبه فإن ما فيه نكت مختصرة، فلا يمكن شرح هذه الأشياء في كتاب، ولكن ذكرت للشيخ أحسن الله تعالى إليه ما اقتضى الحال أن أذكره وحامل الكتاب مستوفز عجلان، وأنا أسأل الله العظيم أن يصلح أمر المسلمين، عامتهم وخاصتهم، ويهديهم إلى ما يقربهم، وأن يجعل الشيخ من دعاة الخير، الذين قال الله سبحانه فيهم: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 42.
هامش
عدل- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الشورى: 10]
- ↑ [الرعد: 30]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [نوح: 28]
- ↑ [القصص: 17]
- ↑ [القصص: 16]
- ↑ [آل عمران: 147]
- ↑ [المؤمنون: 118]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [الشورى: 13]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [المائدة: 48]
- ↑ [آل عمران: 110]
- ↑ [الفتح: 10]
- ↑ [التوبة: 62]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [الأحزاب: 45، 46]
- ↑ [يوسف: 108]
- ↑ [الشورى: 52، 53]
- ↑ [الإسراء: 23]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [النازعات: 24]
- ↑ [القصص: 38]
- ↑ [الحشر: 10]
- ↑ [العلق: 1: 5]
- ↑ [التوبة: 115]
- ↑ [فاطر: 1]
- ↑ [لقمان: 28]
- ↑ [غافر: 7]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [الإخلاص: 4]
- ↑ [مريم: 65]
- ↑ [الصافات 180، 181]
- ↑ [آل عمران: 104]