مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/الوجه السادس
الوجه السادس
عدلالوجه السادس: أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى، وتناقضهم في الأقانيم.
فإنهم يقولون: الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد.
والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة.
فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلها، إلا أن يكون هو الآب، وإن كانت جواهر وجب ألا تكون إلها واحدا؛ لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهرا واحدا، وقد يمثلون ذلك بقولنا: زيد العالم القادر الحي، فهو بكونه عالمًا ليس هو بكونه قادرًا.
فإذا قيل لهم: هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتا واحدة لها صفات متعددة، وأنتم لا تقولون ذلك.
وأيضا، فالمتحد بالمسيح إذا كان إلها امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف، وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه، وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ َّ} 1.
فالنصارى حيارى متناقضون، إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلها، وإن جعلوه جوهرا امتنع أن يكون الإله واحدا، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الأب والابن وروح القدس إلهًا واحدًا؛ ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسما غير المشركين تارة؛ لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين.
وهكذا حال هؤلاء، فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غير، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجليا لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلي لا غيره، وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم.
وهذا الرجل، وابن عربي، يشتركان في هذا، ولكن يفترقان من وجه آخر.
فإن ابن عربي يقول: وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها، فإن شئت قلت: هو الحق، وإن شئت قلت: هو الخلق، وإن شئت قلت: هو الحق والخلق، وإن شئت قلت: لا حق من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك.
وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح، حيث قالوا بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرًا واحدًا له أقنومان.
وأما التلمساني فإنه لا يثبت تعددًا بحال، فهو مثل يَعَاقِبَه النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا: إن اللاهوت يتدرع بالناسوت بعد أن لم يكن متدرعا به.
وهؤلاء قالوا: إنه في جميع العالم، وإنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصوصه وحدوثه، حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا.
وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عُبّاد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر، وهو العابد والمعبود، وأن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل، لضيق هارون، وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وإن أعظم مظهر عبد فيه هو الهوى، فما عبد أعظم من الهوى، لكن ابن عربي يثبت أعيانًا ثابتة في العدم.
وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح، لكن لا يتم معه ما طلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد وأقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضًا وهذيانًا، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر.
ومقتضى كلامه هذا: أنه جعل وجوده مشروطًا بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائما بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقرًا إلى العالم محتاجًا إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين، وقد قال الله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءِ}إلى آخر الآية 2.
فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته، وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق، ويعدم إذا عدم الجفن؟
وقد قال في كتابه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا} الآية 3. فمن يمسك السموات والأرض؟ وَقَالَ فِي كِتَابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ٌ} الآية 4. وقال: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 5 وقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعلى الْعَظِيمُ} 6 لا يؤوده: لا يثقله ولا يكرثه.
وقد جاء في الحديث، حديث أبي داود: (ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة). وقد قال في كتابه: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}الآية 7.
وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود: (إن الله يَمْسِكُ السَّمَواتِ والأرْضَ بِيَدِهِ) فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما، وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكهما أن تزولا، أيكون محتاجًا إليهما مفتقرًا إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر؟
وإذا كان المسلمون يكفّرون من يقول: إن السموات تقلِّه أو تظلِّه، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؛ لأن الله غني عن العالمين حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول: إنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض، تفرق، وانتشر، وعدم فأين حاجته في الحمل إلى العرش، من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش؟
ثم يقال لهؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم السموات والأرض ودوامهما، فهذا كفر. وهو قول بقدم العالم، وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما؟ هل كان منتشرًا، متفرقًا معدومًا، ثم لما خلقهما صار موجودًا مجتمعًا؟ هل يقول هذا عاقل؟
فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم. إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك، ينتقص من نور الحق، ويتفرق ويعدم، بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك، زاد نوره واجتمع ووجد.
وأما إن عنى أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض، لكن لا يظهر فيه شيء، فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء؟ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله؟
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري، عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه)، وقال عبد الله بن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه.
فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض، وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض، وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض؟
هامش
عدل- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [آل عمران: 181]
- ↑ [فاطر: 41]
- ↑ [الروم: 25]
- ↑ [الرعد: 2]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الزمر: 67]