الإعلام بما في دين النصارى/الباب الأول/الفصل الثالث

​الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد  المؤلف القرطبي
الفصل الثالث: تعليل التثليث


الفصل الثالث: تعليل التثليث

في حكاية كلامه أيضا

ثم قال: فإن قلت بالتثليث لأنها أسماء أفعال الله فأسماء أفعاله أكثر من ثلاثة فقولوا بها كقولكم بالتثليث لأن عزيز وقوى وغلوب وسميع وقاهر وبصير وغفور وراضي وساخط ومعاقب وغيرها من أسماء أفعاله فقولوا بها أجمع كقولكم بالتثليث قلت لك هذه التي ذركناها هي أصول جميع التسمية ومنها تنبثق وفيها تندعم فعزير وقوي وغلوب وقاهر وما أشبهها أصلها القدرة ومنها تنبثق وفيما تندغم وغفور ورحيم وراضي وساخط ومعاقب أصلها الإرادة منها تنبثق وفيها تندغم فإن قلت فقديم وحي ليست منبثقة منها ولا مندغمة فيها فقولوا بالتخميس قلت لك إن قديم وحي أسماء ذات لا أسماء أفعال وكل اسم للذات إنما يؤدي معنى واحدا لنفي ضده فقديم لنفي محدث وحى لنفي ميت ورب لنفى مربوب وإله لنفى مألوه فكل اسم من هذه القدرة والعلم والإرادة التي هي أسماء أفعال ثلاثة لذات واحدة لا يتكثر وكما أنا قد فهمنا أن نفس الإنسان لا يقوم لها فعل إلا عن ثلاثة إن نقص منها واحد لم يتم له فعل وإن زاد فيها رابع لم يتفق كذلك فهمنا عن خالقنا أن تدبيره بنا عن ثلاثة وذلك أن الإنسان لا يقوم له فعل دون الثلاثة وذلك القدرة والعلم والإرادة ولا رابع منها فإن عجزت منها واحدة لم يتم له بالإثنين فعل لأنه إن علم وأراد ولم يقدر فقد عجز وإن قدر وعلم ولم يريد فلا يتم له شيء إلا بالإرادة وإن قدر ولم يعلم لم يتم له فعل بالجهل فقرب لنا الكتاب معرفة الخالق بخلقه لهم بمثل تعارفنا في أنفسنا أن القدرة والعلم والإرادة خواص قائمة هي المتممة للفعل منا وإنها لذات واحدة وكذلك التثليث في الله واحد

الجواب عن ما ذكر

اعلم يا هذا أنك اعترضت على نفسك بما يدل على كلال ذهنك وعدم حدسك لأنك أخللت بالسؤال وتحكمت في الانفصال أما إخلالك بالسؤال فأول ذلك أنك لحنت في هذا الفصل في ثمانية عشر موضعا وذلك بين عند من تأمل مكتوبك وثانية أنه كان ينبغي لك أن تقدم قبل هذا السؤال النظر في حد هذه الأقانيم وحقيقتها ثم في الدليل على وجودها فإن النظر في كون الشيء واحدا أو كثيرا إنما يصار إليه بعد معرفة حقيقته ومعرفة وجوده فإذا فرغت من ذلك نظرت فيها هل وجودها زائد على الذات أعنى ذات الفاعل أم هو عين الذات فإذا عرفت هذه المطالب كلها حينئذ كان يمكنك أن تنظر هل هي واحدة أم كثيرة أو هل ترجع إلى شيء أو يرجع إليها شيء لا بد لكل ناظر ينظر فيها نظرت أنت فيه أن تعرف قبله ما ذكرته بالبراهين القاطعة وإلا فكيف تتكلم في فرع لم يثبت عندك أصله ولو كنت في نظرك من المتفطنين لنظرت على الطريقة التي علمها لكم أغشتين

وأما تحكم في الانفصال فإنما يتبين إذا حكيت كلامك وفهمت مرادك وذلك أنك وجهت على نفسك كان قائلا قال لك لم جعلت الأقانيم ثلاثة وأسماء الله تعالى أكثر من ذلك قانفصلت عن ذلك وقلت أسماء اللة تعالى وإن كانت كثيرة فإنما ترجع إلى هذه الثلاثة فقاهر وقوي وغلوب وما أشبهها راجع إلى القدرة وغفور ورحيم وما أشبههما راجع إلى الإرادة هذا مقتضى كلامك بعد التكرار والإكثار وهذا كله منك تحكم بما لم يقم لك عليه دليل ولا يشهد له من كلامك نظر ولا تعليل

وإلا فما الذي يدلك على أن أسماء مختلفة المفهومات والحقائق راجعة إلى معنى واحد وإن جاز أن ترد الأسماء المختلفة المفهومات إلى معنى واحد بالتحكم جاز أن تقضى بعكس ذلك وهو أن ترد الأسماء المترادفة على معنى واحد إلى معان مختلفة وذلك لا يقوله الغبي الجاهل بله الكيس الفاضل تقول على جهة السؤال وبه يظهر تحكمك في الانفصال بم تنكر على من يزعم أن جميع صفات الكمال مثل القدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة والقدم والبقاء وغير ذلك من صفات الكمال والإستغناء هي أقانيم الموجودات وأصولها فإن الممكنات إنما يتبدل عدمها بوجودها بإيجاد موجد متصف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص والإفتقار وإن اتصف بصفات النقص والإفتقار كان محتاجا إلى مزيل النقص عنه ومن كان محتاجا كان ممكنا وكل ممكن فلابد أن يستند وجوبه إلى سبب واجب الوجود فحصل من هذا أن صفات الكمال والإستغناء كلها لا يصح إيجاد موجود محدث إلا ممن اتصف بمجموعها وأن من لم يتصف بها فلا يصح منه إيجاد موجود فإذن هي أصول الموجودات الممكنة فإذن هي أقانيم على قولك

وسيأتي مزيد كلام في الأقانيم ثم نقول إن قضيت برجوع هذه الأسماء بعضها إلى بعض مع تباين مفهوماتها واختلاف معانيها فلم لا تقضى برجوع الإرادة إلى العلم وبرجوع العلم إلى التجرد عن المادة كما زعمت الفلاسفة ولم لا تقضى برجوع القدرة إلى الوجود كما قد ذهب إليه طوائف من النصارى المتقدمين فقد كان طوائف منهم لا يعدون القدرة أقنوما وكانوا يردونها إلى الوجود وكانوا يردون الإرادة للحياة فالأقانيم عندهم الوجود والعلم والحياة وسيأتي حكاية مذهبهم إن شاء الله تعالى

وهذا كله يدل على أنكم في عقائدكم متحكمون لا ترجعون فيها إلى أصل عليه تعولون

وأما سؤالك الثاني الذي وجهت على نفسك فوارد عليك ولازم لك ولم تنفصل عنه على أنك أخللت به فإن الذي يعترض به عليك أكثر من قديم وحي اذ قد يرد عليك الوجود فان اصل الاقانيم ةالسمع والبصر فإن لا يصح رجوعها بحال إلى العلم فإن العلم لا ينوب عن الإدراك فأنا بالضرورة نعلم الفرق بين العلم بالصوت وسماع الصوت وبين العلم بالمرئى ورؤية المرئى مثال ذلك أنا نعلم معلوما على غاية ما يمكن من العلم ثم إذا رأيناه حصل لنا بالضرورة مزيد وضوح ومزيد بينة على العلم به وكذلك في المسموع فذلك المزيد وتلك المزيد أما أن نقول أن الله تبارك وتعالى مدرك لها أو ليس مدركا لها فإن لم يدركها فقد فاته بعض المزايا ولم يحصل له ذلك الوضوح فيكون من يدركها وحصلت له أكمل ممن لم تحصل له فيؤدي إلى أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والمصنوع أشرف وأتم من الصانع وذلك محال وإن كان مدركا لها فبذلك الإدراك يسمى بصيرا سمعيا وهو زائد على العلم فإن العلم لا يغنى عنه كما تقدم ولسنا تشترط فيها بنية مخصوصة ولا جارحة ولا اتصال أشعة بل تنزه الله تعالى عن كل ما يوهم النقص القصور في حقه وهذا كما أنا لم نشترط في كونه تعالى عالما قلبا ولا دماغا ولا في كونه قادرا بنية ولا آلة بل السمع والبصر ادراكان أعنى صفتين متعلقتين بالمسموعات والمبصرات على ما يعرف في موضعه فإذا تبين أنهما لا يرجعان إلى العلم فعدوهما أقنومين زائدين على ما ذكرتم وهذا ما لا محيص عنه ولا جواب عليه

وأما قولك وكل اسم للذات إنما يؤدي معنى واحدا لنفى ضده فكلام من لم يحنكه الإعتبار ولا عرف اصطلاح النظار وذلك أنك أطلقت صفات الذات وصفات الأفعال على ما لم يطلقه عليه النظار ولا أستعمله في نظره أحد من علماء الأمصار

ونحن نذكر اصطلاح النظار المعتبرين في صفة النظر والأفكار في إطلاق هذه الأسماء ليتبين للواقف على هذا الكتاب أنك لم تعرف شيئا من اصطلاحاتهم ولاحطت على شيء من مفهوماتهم

قالوا إنما تطلق الأسماء بحسب المسميات والمسميات إما ذات أو أمر زائد على الذات فالذي يدل من الأسماء على الذات هو الذي يقال عليه اسم ذات مثال قولنا إنسان وملك ومن أسمائه تبارك وتعال الله والحق وأما الذي يدل على أمر زائد على الذات فذلك الأمر إما أن يكون نفى شيء عن الذات أو ثبوت شيء للذات فالذي يدل على نفي شيء عن الذات هو الذي يقال عليه اسم سلب مثال ذلك فقير وسالم ومن أسمائه تبارك وتعالى القدوس والسلام فإنها تدل على البراءة من العيوب وعلى نفيها وأما الذي يدل على ثبوت شيء للذات فذلك الثابت إما أن يقوم بالذات أو لا يقوم بها فالذي يقوم بالذات هو الذي يقال عليه اسم صفة ومثال ذلك عالم وقادر وسميع وبصير فإن هذه صفات زائدة على الذات وأما الزائد على الذات الذي لا يقوم بها فهو الذي يقال عليه اسم الفعل وقد يقال عليه اسم الإضافة مثل خالق ورازق وما أشبه ذلك

فحصل من التقسيم أن الأسماء على أربعة أضرب أسماء ذات وأسماء صفات وأسماء سلوب وأسماء أفعال وقد يقال عليها المعتبرين فإن كنت اصطلحت مع نفسك على غير ما تعارفه النظار خلست على شيء مما كان عليه العلماء والأحبار فتكلم باصطلاحك مع نفسك ولا تخاطب به أحدا من أبناء جنسك ولا يظن ظان أن هذا السائل اراد بأسماء الأفعال الأسماء التي لا يوجد الفعل إلا بها مثل العلم والقدرة والإرادة فإنه قد جعل من أسماء الأفعال مالا يوجد به فعل كسميع وبصير وغيرهما مما ذكر وفيما أحسب أنه أراد هذا المعنى ولم تساعده العبارة فعنى وعنى

وأما قولك حي لنفى ميت ورب لنفى مربوب وإله لنفى مألوه فكلام مجنون معتوه فإنه إن جاز أن يكون حيا من أسماء السلوب والنفى فما المانع من أن يكون العلم من أسماء السلوب فإنه ممكن أن يقال عالم لنفى جاهل ومريد لنفى كاره وقادر لنفى عاجز وهكذا يجري في جميع الصفات والأسماء التي لها نقائض وذلك يؤدي إلى جهالات وجحد المعقولات وأيضا فإن كانت الحياة سلبا فيستحيل أن تكون شرطا للعلم والقدرة والإرادة وغيرها وكونها شرطا لهذه الصفات معلوم بالضرورة والنفى لا يكون شرطا ولا مشروطا في مثل ما نحن فيه

ثم نقول قولك هذا مخالف لما تقوله أقستكم هذا صاحب كتاب الحروف يقول الباري تعالى لم يزل حيا بروحه وناطقا بكلمته فمهما قلت لم يزل حيا ولم يزل ناطقا أوجبت في نطقك لحياته ونطقه الأزلية وهذا منه تصريح بأن الحياة ليست ترجع إلى نفى الموت ثم قال بعد ذلك بكلام وروحه أعنى حياته أقنوم خاص كامل لم يزل وسيأتي الكلام معه في هذا إن شاء الله تعالى

وأما قولك رب لنفى مربوب فقول مختلط عقله مغلوب فإن الرب معناه الملك فهو من أسماء الإضافة والأفعال وأما الإله فهو من الآلهة وهي العبادة فهو مألوه أي معبود آلهة عبادة فهو من أسماء الأفعال والإضافة

وأما قولك وكما أنا قد فهمنا أن نفس الإنسان لا يقوم لها فعل إلا عن ثلاثة كذلك فهمنا عن خالقنا أن تدبيره بنا عن ثلاثة فقول يدل على سوء نظرك وقلة تثبتك وذلك أن مفهوم ما ذكرته في هذا الفصل على تثبيجه وسوء ترتيبه هو أنك قلت إن الإنسان لا يتأتى منه فعل حتى يكون قادرا عالما مريدا فإن نقصه منها واحد لم يصح إيجاد الفعل منه فكذلك خالقنا سبحانه وتعالى هو قادر عالم مريد ولو نقصه منها واحد لم يصح منه إيجاد فعل كالإنسان هذا مفهوم كلامك على كثرته

وهذا كلام فاسد لأنه قياس الغائب على الشاهد إذ هو قياس خال عن الجامع وأيضا فلو كان هنالك جامع لكان باطلا فإنه قياس جزئي على جزئى وذلك إنما هو صالح للظنيات لا للعمليات ولو جاز قياس الباري سبحانه على خلقه للزم ألا يكون قادرا حتى يكون ذا آلة وعصب ويد الجارحة فإن الواحد منا لا يكون قادرا حتى يكون كذلك وكذلك كان يلزم ألا يكون عالما حتى يكون ذا قلب ودماغ إلى غير ذلك من المحالات ويلزمك على مساق قولك أن يكون الباري تعلى جسما فانك كما لم ترى موجدا ولا فاعل لفعل الا قادرا عالما مريدا كذلك لم ترد فاعلا ولا موجدا إلا جسما وهذه جهالات لازمة على قولك ومنتجة عن صمم جهلك فلا تنتفع بهذا الكلام حتى تسبره على محك النظار الأعلام ولو تتبعنا خطاك في هذا الفصل لطال الكلام ولكثر عليك التوبيخ والملام لكنا نكل الناظر فيه للوقوف على فساد معانيه

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام