الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/الفصل الثاني
الفصل الثاني: المسيح المنتظر
في حكاية كلامه أيضا
قال: ومن بينة النصراني على اليهودي أن في الكتب التي أقر له بها وجامعه عليها مسيح منتظر لا يقدرون على جحده لأن إنتظاره معروف فيهم وظاهر عليهم ودل على زمان مجيئه أنهم منتظرون له منذ سبيت اليهود وبددت إلى اليوم فإذ قد لزم اليهود بإنتظاره من وقت تفريقهم في الدنيا فقد وجب للنصارى أن يقولوا أنه قد جاء والدليل على أنه هو أن اليهود اختلفت من سببه فصارت فرقتين على الكفر والإيمان به فالفرقة الكافرة هم اليهود والفرقة المؤمنة هم النصارى فآمنت طائفة وكفرت طائفة والكتب أجمع مع كلامهم يحتجون بها بعضهم على بعض يجتمعون على ألفاظها وقراءاتها ويختلفون في تأويلها كفعلهم إلى هذه المدة والذي يستدل به للفرقتين على كفر أحدهما أن ننظر في الكتب ونستدل بها على حالة بني إسرائل منذ كانت على الإيمان والكفر فإنهم إن كانوا على الكفر فإنه يلزمهم الذلة إذ الذلة والأسرة والفرقة علامة الكافرين وموجود في الكتب أن الله لم يوعد بالثواب في الآخرة لبني إسرائل على الطاعة والإيمان وإنما وعدهم في الدنيا فوعدهم عند الطاعة والإيمان بالملك والنعمة والنقمة من عدوهم والتثمير لزرعهم وفواكههم وأوعدهم عند الكفر والعصيان بالتغلب عليهم والملك والقهرة لهم من عدوهم فلم يزالوا مؤيدين عند الطاعة والإيمان ومستعبدين عند الكفر والعصيان
فافهم الجواب عنه
اعلم يا هذا أنه لولا أننا نخاف أن نساعد اليهود على كفرهم وأن يحملهم ذلك على دوام الإصرار وزيادة العناد لنبهناهم على مواضع في هذه الأدلة التي ذكرت يفسد عليك لأجل ذلك أكثرها ويبطل عليكم الاحتجاج بها ولو فعلنا ذلك لما كان مما يقدح في صحة نبوة المسيح فإنها تثبت بطرق أخر
وإنما يكون ذلك دليلا على أنك لا تحسن الاستدلال ولا تعرف طرق المناظرة والجدال ولكن حاشى لله أن أعين اليهود أولى اللعنة والعداوة والبغضاء والأحنة على من التزم شرعة المسيح وركب منها المنهج الصحيح وكيف أفعل ذلك وقد أخبرنا الله على لسان نبيه ورسوله بأنه كان منهم عالمون بالله ومصدقون بما جاءهم على لسان محمد رسول الله ﷺ فقال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين
فهؤلاء الذين عرفوا شرعة المسيح عليه السلام وعلموا ما عهد إليه من نعت محمد خير الأنام فبادروا لتصديقه ولم يمكنهم العدول عن طريقه ولولا حرمة هؤلاء الأولياء الذين كانوا منكم لما بقى ستر الله عليكم لكن كما قال تعالى إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء
ومع هذا فلا نخلي هذا الباب من التنبيه على نكت تدل على سوء استدلال هذا السائل خاصة بعون الله
قلت يا هذا والدليل على أنه هو أن اليهود اختلفت من سببه فصارت فرقتين على الكفر والإيمان به فالفرقة الكافرة هم اليهود والفرقة المؤمنة هم النصارى فآمنت طائفة وكفرت طائفة
هذا دليل ليس له للدلالة على مجيء المسيح من سبيل بل هو عين المذهب الذي تدعونه ويبقى عليك الاستدلال عليه وإن جاز أن يكون مثل هذا دليلا صحيحا على مجيئه جاز أن يكن نقيضه دليلا على إنتفاء مجيئه ولا فرق بين ما قلت وبين ما يقوله اليهودي إذ كل واحد منكم تكلم بدعوى ولم يثبتها ولا بد لك من إقامة دليل فاذكره فإن كلامك الأول ليس بدليل فإن أخذت تستدل بدليل آخر خلاف ما ذكرت فقد اعترفت بأن كلامك الأول ليس بدليل وانقطعت وإن رجعت تستدل بذلك تبين جهلك هنالك
فانظر ما أحسن هذا الدليل فلعمري ما للمستدل به من النظر العقلي كثير ولا قليل
ثم قلت والكتب أجمع مع كلامهم يحتجون بها بعضهم على بعض يجتمعون على ألفاظها وقراءاتها ويختلفون في تأويلها كفعلهم إلى هذا المدة
تناقضت يا مخدوع ولم تشعر وظننت أنك تنتصر فإذا بك تستأسر أفصحت هنا بأنكم يحتج بعضكم على بعض ويتضمن ذلك أنكم تحتجون بالتوراة عليهم وكيف يصح لك هذا مع أنك قد ادعيت أنها منسوخة بكتابكم فإن قلت إن هذا عليهم في معرض الإلزام قيل لك فلا تأخذ من التوراة شيئا من الأحكام ولا تحكم منها على شيء بحلال ولا حرام
ثم إن كلامك هذا يفهم منه أنهم يحتجون عليكم بكتبهم على أن المسيح لم يجيء وإذا اتفق أن يحتجوا عليكم بمثل هذا من كتبكم فقد أفحموكم
هذا كله على ظاهر كلامك ولم ترو هذا المعنى وإنما أردت أن تقول إن الجميع قد اتفقوا على ألفاظ الكتب وإختلفوا في تأويلها ولم تساعدك العبارة وهذا أكثر كلامك تريد أن تقول شيئا ثم تعبر عنه بعبارة تدل على خلاف ما أردت وسبب ذلك أنك أدخلت نفسك في شيء لم تعرفه وتعاطيت ما لم تحسنه فكنت بمثابة من أدخل نفسه في شفط ثم جاء آخر فشد عليه وربط
ثم قلت والذي يستدل به للفرقتين على كفر أحدهما أن ننظر في الكتب إلى أن قلت إذ الذلة والأسرة والفرقة علامة الكافرين
وهذا الإطلاق لو علمت ما يلزمك عليه لاستغفرت إلهك منه لكنك جهلت فأطلقت وحيث وجب أن تمسك أرسلت وذلك أنه إن صح ما ذكرت فلا ذلة ولا أسرة ولا تفرقة أبلغ من ذلة من يصفع في قفاه ويجعل على رأسه شوك وفي يده قصبة ويساق للقتل وعلى عنقه خشبة ويصلب وتسمر يداه ورجلاه وينخز وهو يطلب ما ء فيرفع إليه إناء خل وهذا كله بزعمكم ولا رتبة في المذلة أبلغ من هذه فعلى قولك وسياق دليلك يلزمك تكفير المصلوب ويحصل لليهودي منكم الغرض المطلوب فإن كنت عاقلا فثقل كلامك ولا يكن عارا عليك لسانك وقد نصحتك يا فشكل وما أظنك تقبل
وإنما أردت أن تقول فلم تطاوعك العبارة يا جهول الدليل على مجيء المسيح المنتظر أنه قد ثبت في كتب الأنبياء عليهم السلام أن الله قال لليهود لا يزال ملككم قائما وخيركم دائما ما دمتم مؤمنين حتى تكفروا فإذا كفرتم أزلت ملككم وأبدلتكم منه ذلا وصغارا وغضبا ونقمة وعند ذلك أرسل إليكم المسيح ولا يشك أحد في زوال ملك اليهود وإنقطاعه وفي نزول الذلة والمسكنة عليهم فلا يشك في كفرهم ولا يشك في مجيء المسيح وأنهم كفروا به ولو هكذا قلت لما لزمك شيء مما ألزمت وهذا الدليل الذي استدللت به على اليهود إذا سيق على الطريقة التي ذكرناها وصح نقله عن الأنبياء بطريق القطع هو حجة على اليهود لا مخرج لهم منها ولا محيص عنها على أنه بقى فيه مواضع للبحث إذا انفصلت تم الدليل ووضح السبيل