الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثاني/الفصل الثاني

​الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد  المؤلف القرطبي
الفصل الثاني: معنى الاتحاد


الفصل الثاني: معنى الاتحاد عدل

من حكاية كلامه أيضا عدل

قال: فإن سأل سائل عن معنى الاتحاد قلنا نقول بذلك تقليدا للإنجيل والنبيين ورسل رب العالمين فيما نقلوا من ذلك وأعلموناه عمن الله وفيما نص لنا عنهم تصديق الأخبار الذي لا تكاذب فيها

فإن قلت وكيف يجوز أن يتوحد القديم بالحادث والخالق بالمخلوق قلنا على تقليد الكتاب وعلى الجائز في العقول وذلك أنا لا نقول إن القديم في الجوهر صار حادثا ولا الحادث في الجوهر صار قديما ولكنا نقول صار الحادث إلها ولا نقول صار الإله حادثا كما نقول صارت الفحمة نارا ولا نقول صارت النار فحمة

فإن قلت فما علة هذا الاتحاد قيل لك الإرادة وسائلك هذا كسائل يسأل فقال لم خلق الله العالم فمن الجواب له أن يقال له أراد ذلك فإن قلت أفهذا الاتحاد قديم أو حادث قيل لك قديم وحادث فإن قلت فكيف يكون قديما وحادثا قيل لك قديم بالقوة حادث بالفعل وكل عنده حاضر لأنه تبارك وتعالى لا تأخذه الأزمان ولا يعد الأشياء بالأعداد وكل عنده حاضر مقيم

الجواب عنه عدل

هذا كلام تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع سأل فيه قائله عن حقيقة الاتحاد ومعناه فأجابه بالدليل عليه وما جرى مجراه ومن حق الانفصال أن يكون مطابقا للسؤال فكان يلزمك لما سئلت عن معنى الاتحاد أن تجيب بحده وحقيقته ثم بعد ذلك تستدل على صحته ووجوده إن صح ذلك وأمكن الاستدلال هنالك

أما قولك في جواب من سألك عن الاتحاد وحقيقته نقول بذلك تقليدا للإنجيل والنبيين ورسل رب العالمين فكلام غير متين لا يصدر مثله عن عقل رصين

لتعلم يا هذا أن الأنبياء عليهم السلام صادقون مصدقون والصادق ما يخبر بصحة ما يعلم بالعقول فساده وإستحالته فإن الصادق لا يناقض قوله دليل العقل ولا يعارضه بل يصدقه ويشهد بصحته فلو فرضنا شخصا جاء بأمر معجز فيما يرى وادعى أنه أرسله الله لنا ليخبرنا أن الثلاثة واحد من حيث هي ثلاثة وأن الواحد ثلاثة من حيث أنه واحد وفهم ذلك منه بنص لا يقبل التأويل لبادر العقلاء إلى تكذيبه ولعلموا أن ما أظهره على جهة المعجزة إنما هي حيلة ومخرقة لأن المعجزة إنما هي دليل الصدق ولا يقلب دليل الصدق دليل الكذب

وكذلك لو قال إن الضدين يجتمعان بعد مراعاة شروط التضاد وكذلك لو أخبر أن الله تعالى يقلب جوهرا عرضا ولونا وطعما إلى غير ذلك من أنواع المحالات ومن هذا القبيل هو ما ادعيتم من الاتحاد وسيتبين إن شاء الله

وبعد هذا فلو فرضنا نبينا علمنا صدقه على القطع تكلم بشيء من هذا فيكون ذلك الكلام لا يدل على ذلك المعنى دلالة قاطعة بل دلالة محتملة أو ظاهرة فسبيلنا أن نتأول إن وجدنا وجها للتأويل أو نتوقف على تأويله إن لم نجد له محملا في التأويل مع أن العقل يعلم استحالة الظاهر ويكل معرفة باطنه إلى الله تعالى فإن الشرائع وإن لم تأت بما يخالف العقول فقد تأتي مما تقصر العقول عن دركه وفرق بين يعلمه العقلاء بين العلم بالإستحالة وبين عدم العلم بالإستحالة فإن عدم العلم بالإستحالة لا يلزم منه نفى الجواز ولا إثباته ولانفى الوجوب ولا إثباته وهذا مما لا خفاء به عند العقلاء

وأما قولك وعلى الجائز في العقول فينبغي لنا أن نسألك هنا أسئلة تبين أنك بما ادعيت جهول فنقول لك ما حد العقل أولا وما حد الجائز العقلي وما حقيقته وكم أقسامه وما حد الواجب العقلي وكم أقسامه وما حد المحال العقلي وكم أقسامه فإذا فرغت من جواب هذه المسائل سألناك هل أحكام العقل تنحصر في هذه الثلاثة أم تزيد عليها أم تنقص عنها ولعمري ما ينبغي أن تتكلم مع من لا يعرفها وأعلم علىالقطع والثبات أنك لا تعرفها ولا قرأت على من يفهمها وإلا فالجواب وإن لم تجب وإلا فيظهر أنك من دينك على شك وإرتياب ثم نقول كيف يتجاسر عاقل أن يقول إن علم الله تعالى الذي هو صفته ولازم له وقديم أزلي حل في جسد إنسان حادث بعد أن لم يكن حالا فيه ومع أنه حل فيه فهو لم يفارق الله تعالى ولولا الله تعالى سلبكم عقولكم وإبتلاكم بظلمة التقليد الذي أفضى بكم إلى مكابرة العقول وإنكار البداية لما وجد مثل هذا المذهب مستقرا في قلب مجنون فأجرى في قلب غافل ولكن لله تعالى سر في أبعاد بعض العباد ومن يضلل الله فما له من هاد

وأما قولك إنا لا نقول أن القديم في الجوهر صار حادثا ولا الحادث في الجوهر صار قديما ولكنا نقول صار الحادث إلها فهذا القول منك يدل على أنك تقول بحلول الحادث في الجوهر واتحاده به ولم يقل بهذا قط أحد من المخلوقات وهذا أشنع وأقبح وأمحل من اتحاد القديم بالحادث وحلوله فيه وهذا الذي ذكرت أنه يلزمك يدل عليه قولك ولا الحادث في الجوهر صار قديما فنفيت عن الحادث القدم وأبقيت عليه الحلول في الجواهر وهذا بين بنفسه من كلامك ثم هذا الذي فررت منه يلزمك وذلك أنا نقول هذا القديم الحال لا يخلو أن يكون حالا في ناسوت المسيح قبل خلق المسيح أو لم يكن فإن كان حالا فيه قبل خلقه كان محالا وباطلا بالضرورة فإنه قبل خلقه معدوم والموجود لا يحل في المعدوم وإن كان حلوله في ناسوته بعد خلقه فقبل خلقه لم يكن حالا فقد حدث له حلول وقد صار حالا بعد أن لم يكن حالا ويلزم على هذا أن تقوم الحوادث بالقديم وهو محال فإنه يؤدي إلى حدوثه على ما يعرفه أرباب النظر

وأما قولك صار الحادث إلها فكلام تشمئز منه النفوس ويشهد لقائله بالويل والعكوس وكيف لا يستحي العاقل من مثل هذا الكلام الذي والله هو عار على الأنام وكيف يتصور أن يعقل الإلهية لمحدث مخلوق يحزن تارة ويفرح أخرى ويجوع تارة ويشبع أخرى ويتبول ويتغوط وتظفر به أعداؤه ويعذبونه بالضرب والإهانة والشوك والصلب والقتل بزعمكم وهو مع ذلك يقول اعبدوا الله ربي وربكم ويقول لكم إذا صليتم فقولوا يا أبانا السماوي تقدس اسمك وقرب ملكك ويقول إن الله وحده ولا إله إلا هو ويقول لإبليس إنما أمرت أن تعبد السيد إلهك وحده ويقول حين قرب رفعه وأعلمه الله به سيلقى ابن الإنسان ما كتب له يعنى نفسه ثم تقدم وسجد على الأرض ودعى أن يزاح عنه ما هو فيه وقال يا أبتاه إنك قادر على جميع الأشياء فرج عني هذه الكأس وقال في إنجيل لوقا يا أبتاه إن كانت هذه الكأس لا تقدر تجاوزني حتى أشربها فلتكن إرادتك

ومن اطلع على أناجيلكم علم على القطع أن عيسى عليه السلام برئ مما تدعونه به وتنسبونه إليه وستلقونه بين يدي الله في الوقت الذي يقول الله تبارك وتعالى يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخدوني وأمي إلهين من دون الله فيتبرأ من ذلك القول فيقول سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب علهيم وأنت على كل شيء شهيد

وقد جاءنا على لسان من دلت المعجزة بصدقه أن الله تعالى إذا حشر الخلائق في صعيد واحد يعنى يوم القيامة فيقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقول لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبه ولا ولد ثم يقال لهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا

فالله الله أدرك بقية نفسك قبل حلول رمسك واستعمل سديد عقلك ولا تعول على تقليد فاسد نقلك واتبع الدين القويم دين الأب إبراهيم فما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين

فالله يعلم أني أنظر إليك وإلى كافة خلق الله بعين الرحمة وأسأله هداية من ضل من هذة الأمة وأتأسف على الأباطيل التي ينتحلون فإنا لله وإنا إليه راجعون وسيأتي إن شاء الله تعالى في النبوات كلام على حقائق الملل وتبين الهداة والضالين من ذوي النحل ولا حول ولا قوة إلا بالله

وأما قولك كما نقول صارت الفحمة نارا ولا نقول صارت النار فحمة فتمثيل ليس بمستقيم ولا جار على منهج قويم وذلك أن الفحمة مهما صارت نارا فقد حدثت النارية وانعدمت الفحمية وليس هذا مساويا لقولك صار الحادث إلها فإن الشيء الذي صار به الحادث إلها عندكم هو قديم فكيف تشبههه بالنارية الطارئة وهي حادثة وإن ساويت بينهما لزمك أن يكون الحال في الناسوت حادثا أو النارية قديمة فترتفع الفحمية وهو محال بالضرورة

وأما قولك فإن قلت فما علة هذا الاتحاد قيل لك الإرادة فهذا قول فاسد فإن الإرادة إنما يصح تعلقها بالجائزات ولا يصح تعلقها بالمحالات والاتحاد محال فلا تتعلق به الإرادة على ما نقرره إن شاء الله إذا نقلنا مذاهب أقستكم في هذا المعنى وتكلمنا معهم عليها

وأما قولك في جواب سائلك عن الاتحاد هل حادث أو قديم حيث قلت إنه قديم وحادث فقول لم يقل به مؤمن ولا ناكث فإن الجمع بين القدم والحدوث مما يعلم فساده بضرورة العقل فإن معنى القديم الذي لا أول لوجوده والحادث هو الذي لوجوده أول والجمع بين نفى الأولية وإثبات الأولية محال

وأما قولك قديم بالقوة حادث بالفعل فكلام ليس له أصل إذ لا يعقل العقلاء في القدم قوة ولا فعلا فإن القدم من أسماء السلوب والقوة والفعل فإنما يتواردان عند القائلين بهما على الصفات الوجوديات وعلى عدمها مع إمكان وجودها ثم إنا نسألك عن حد القوة وحقيقتها وما الفرق بينهما وبين الإمكان وهل هي موجودة وعن حد الفعل وما حقيقته

فإنك تكلمت بما سمعته وما حصلته ولا وعيته

وأما قولك وكل عنده حاضر مقيم فكلام حق ومقال صدق إن كنت أردت بحاضر أنه معلوم وقد أخطأت بإدخالك مقيم في هذا المعنى فإن المقيم إنما هو مأخوذ من أقام بالموضع إذا ثبت فيه فإن أردت هذا المعنى لزمك أن تكون المعدومات الممكنة موجودة عنده في حال عدمها وذلك محال وإن أردت غيره فكان ينبغي لك أن تبين مرادك فإنك لم تتكلم به على مقتضى كلام القوم الذين تعاطيت التكلم بلسانهم

ثم قولك لأنه تبارك وتعالى لا تأخذه الأزمان ذكرته موهما أنك تستدل به على أنه تعالى عالم بجميع الأمور محيط بالكل ولا يدل ذلك على ما أردته وإلا فكونه قابلا للزمان أو غير قابل للزمان ما المناسبة بينه وبين كونه عالما بجميع المعلومات أو ببعضها ولا بد أن يسأل عن الزمان ما هو وهل هو موجود أو معدوم فإن كان موجودا فهل هو جوهر أو عرض وإن كان جوهرا أو عرضا فهل هو في زمان أوليس في زمان فإن لم يكن في زمان فلتستغن الموجودات كلها عن زمان ويلزم عليه إثبات موجودات ليس بزمانية غير الباري تعالى وتقدس وذلك محال على ما تقرر وإن كان في زمان فهل ذلك الزمان في زمان ويتسلسل فلا بد لك من علم هذه المسائل إن أردت أت تلحق بالصنف العاقل ومن أراد أن يعلم فليرحل على الرأس والقدم

وأما قولك ولا يعد الأشياء بالأعداد فيفهم منه أن المعلومات لا تتعدد عنده وإذا لم تتعدد المعلومات عنده لا تتميز جزئياتها وإذا كان ذلك فإنما يعلم الأمور على وجه كلي وهو ما تقوله الفلاسفة وأهل الشرائع كلهم مطبقون على أن الله تعالى يعلم جزئيات الأمور وإن دقت على التفصيل ومن لم يقل هذا يحكم عليه في كل ملة بالتكفير والتضليل

فأنت يا هذا في أكثر كلامك بين أمرين إما أن تنكر الضروريات أو تكفر بالشرعيات فنسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا ويسدد أحوالنا وأمورنا وأن لا يجعل وبالا علينا أعمالنا وأقوالنا أنه سميع الدعاء قريب مجيب

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام