الإعلام بما في دين النصارى/الباب الأول/الفصل الخامس
الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم
عدلنبين في هذا الفصل مذاهب أوائلهم ونتكلم معهم فيها ونوضح مسائلهم فيها إن شاء الله تعالى ونحكى مذاهبهم بألفاظهم كما وجدتها في كتبهم ولم أعول في ذلك على نقل علمائنا عنهم فقط بل تتبعت ما أمكنني من كتبهم والله الموفق
قالوا: لما أفهمتنا الشواهد العقلية أن الخالق لم يزل حيا ولم يزل ناطقا قلنا فهل يحق أن يكون هو بحياته ونطقه شخصا واحدا جامعا لأجزاء مختلفة كما يقال في حد الإنسان أنه حيوان ناطق مائت إذ تسمى أجزاء جوهره مع أعراضه المختلفة فيه أقنوما واحدا شخصا واحدا ولا يسمى كل جزء وكل عرض منها أقنوما أنسيا وذلك لأن اسم الأقنوم واجب للشيء المستغنى بذاته القائم بشخصه لالذي الإضطرار ولالذي الإشتباك كالأعراض فإن الأجزاء والأعراض لا تقوم مكتفية بذواتها كما أن حر النار الذي هو جزء من قوى النار لا يقوم بذاته أقنوما منفردا دون أصلية النار وضوئها وكذلك الأعراض المشتبكة في الجوهر كالسواد والبياض وما أشب 4 ههما لا تقوم أشخاصها مكتفية بذواتها دون الجوهر اللازم لها فالأقنوم هو المستغنى بذاته عن أصل جوهريته كالإنسان المستغنى بخاصية إنسانه عن الناس والشجرة عن الأشجار والدينار عن الدنانير فامتناع أجزاء الإنسان من القيام أشخاصا لاضطرارها وعجزها عن القيام بذواتها كروحه العاجزة عن القيام بتحديدها إنسانا دون جسمه ونطقه وكذلك نطفة وجسمه يعجز كل واحد منهما عن القيام بتحديده إنسانا دون روحه وذلك لاضطرار كل جزء منها إلى صاحبه في القيام بإنسانيته
فإذا تقرر هذا فحياة الله ونطقه لا يخلو من أن يكونا جزأين من جوهره كما هو من الإنسان أو غير جوهرة فان قلنا هما جزءان من الجوهره ألزمنا ما يلزم الإنسان من الإضطرار والتأليف لأنا وجدنا أجزاء الإنسان لاضطرار بعضها إلى بعض تقصر عن احتمال أسماء الأقانيم وهذا يستحيل على الجوهر الأزلي إذ هو ومتعالى عن الأجزاء والتأليف والتركيب والأعراض فأوجبوا أن تكون خواصه لغنائه وكمالها تسمى أقانيم قائمة بخواصها ومستحقة الذي توصف به بجوهرية قديمة كقدمه لا جزأين مركبين ولا عرضين منفصلين لأنه لم يزل حيا وناطقا بكلمته
ومن زعم أن الحياة من الله والنطق منه محدثان وصف الله تعالى في أزليته بالموت والجهل وإن قلنا حياته ونطقه غير جوهره أزليان فقد أشركنا مع الله في أزليته غيره فلذلك يسمى كل واحد من الروح والكلمة جوهرية خاصة فوجب أن يكون جوهر الخالق تعالى أقنوما خاصا قائما كاملا بخاصيه لم يزل ونطقه الذي هو كلمته أقنوما خاصا كاملا قائما بخاصية لم تزل وروحه أعنى حياته أقنوما خاصا كاملا بخاصة لم يزل فهذه ثلاثة أقانيم معروفة بمعانيها لا متفاصلة ولا متركبة ولا متشابكة جوهر واحد ذات واحدة
هذا كلام صاحب الحروف وهو عندهم القسيس المعروف ولقد رام تحسين مذهبهم وتبيين مطلبهم ولكن لا يستوي الظل والعود أعوج ولا يصلح المذهب وقائله أهوج... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وهم مع ذلك فيما ذكرناه من الأقانيم مختلفون وبالحيرة عمهون
هذا صاحب كتاب المسائل يقول هذه الثلاثة الأقانيم متوحدة لأجل الأب متساوية لأجل الابن منتظمة الروح فنؤمن أن الأب أب لأجل أنه ذو ابن والابن ابن لأنه ذو أب والروح القدس منبثق لأنه من الأب والابن فالأب أصلية الإلهية لأنه كما لا يخلو قط أن يكون إلها كذلك لم يخلو قط أن يكون أبا الذي الابن منه مولود والذي الروح القدس منه ليس مولودا لأنه ليس ابنا ولا غير مولود لأنه ليس مخلوقا لأنه ليس من شيء بل إله منبثق من الأب والابن إله وأقنوم الأب غير أقنوم الابن وأقنوم الابن غير أقنوم الروح القدس لكن التثليث المقدس ذات واحدة إلهية واحدة وهذا تصريح بأن الأقانيم آلهة وإن كان واحد منها غير الآخر
وقد ذهب شباليش إلى أن الثلاثة الأقانيم ممتزجة في أقنوم واحد وهو عند كثير منهم مكفرا وكالمكفر وقد ذهب آريش إلى أنه إلهية الأقانيم منخزلة ومتبعضة الذات وهو عندهم مفتر خارجي
وقال صاحب كتاب المسائل لسنا نؤمن أن في التثليث شيئا مخلوقا أو خادما كالذي أنشأه دنونيشيش أو غير معتزل كقول أونوميش أو ناقص الإمتنان كقول أوتفش أو مقدما أو مؤخرا أو صغيرا كقول آريش ولا ذا جسد كقول مالطه وترتليان ولا مصورا بالحيدية كقول أربد ونمرشيش أو محجوبا بعضه عن بعض كقول أوريان ولا مربيا من المخلوقات كقول فرشاط ولا متفرق الإدارة والعوائد كقول مرحيون ولا منقلبا من ذات التثليث إلى طبيعة المخلوقات كقول فلاطون وترتلليان ولا منفردا في رتبة مشتركا في أخرى كقول أوريان ولا ممتزجا كقول شباليش بدل كله كامل لأنه كله واحد ومن واحد لا تعدد كزعم شلبانش
وإذا وفقت على هذه الأقاويل الضعيفة والآراء السخيفة لم تشك في تخبطهم في عقائدهم وحيرتهم في مقاصدهم قالوا في الله تبارك وتعالى بآرائهم واتبعوا فيها ظاهر أهوائهم فهم في ريبهم يترددون ولجهالهم مقلدون وبضلالهم مقتدرون
ولما رأينا هذه المذاهب الركيكة لا تستحق أن تحكى بل يضحك من ذهاب عقول أربابها ويبكي أعرضت عنها أعراض المطلع على عوره أمام من يخاف جوره فعزمت على نقل مذهب كبيرهم أغشتين فإن مذهبه في الأقانيم مقارب في الصفات مذهب المسلمين
وذلك أنه قال بعد مقدمة كلام يرجع حاصله إلى ما نذكره لما أقر علماء المجوس بالقوة الماسكة لكل شيء وأراد بعضهم أن ينزلوها جوهرا غير حي ولا مستغن بنفسه وجب علينا أن نحتج عليهم بما يضمهم إلى الإقرار بأن تلك القدرة ذات علم وإرادة
قال وقد رد علينا هذه المقالة برفيريش فقال لا نقول أنه شيء فيكون قد سميناه بالإشياء التي لا تسلم من عيب ولكنا نقول إنه ولا نقول شيء ثم قال ألستم تقرأون أن الذي قدر هو الذي علم وأن الذي علم هو الذي أراد فهو واحد في جميع المعاني وإنما القدرة والعلم والإرادة أسماء صارت فيما بين الخلق والمخلوق وليست لا خالقة ولا مخلوقة لأنه لو لم يكن الشيء المقدور لم يسم ذا قدرة ولو لم يكن الشيء المعلوم لم يسم ذا علم وكذلك القول في الإرادة فهذه الأسماء إنما هي أعراض وأسماء فيما بينه وبين الخلق مثل قولنا ذو رحمة وذو حكم وذو عقاب فلو لم يكن الخلق المرحوم لم يلزمه اسم الرحمة وكذلك غيرها
قال أغشتين في جوابه عن قوله لا نقول أن لكل شيء عقيب وما لم يكن له عقيب فليس بشيء لأن عقيب شيء لا شيء وإذا كان إنما ينفى عنه اسم شيء لأن الأشياء كلها له فمثل ذلك يجب عليه في قوله أن أو قوله كان مع أنا لا نعرف شيئا نقول فيه أن إلا بعد معرفتنا إياه شيئا وحسبنا في هذا قولنا شيء ليس كشيء من جميع الأشياء
قال وأما قوله أن القدرة والعلم إنما هي أعراض لزمنه فيما بينه وبين الخلق وأنها مثل الرحمة والحكم فأنا نحتج عليه في ذلك بأن نقول لست تنكر أنه كان قبل الأشياء ودون الأشياء بلا إبتداء فهل تقدر أن تجحد أنه كان أبدا قادرا فإذا أقررت أنه لم يزل قادرا فقد أقررت أن القدرة صفة أزلية فإن قلت أنه لا يجوز أن يسمى قبل أن يكون الشيء المقدور عليه وإنما يسمى قادرا بعد كون الشيء المقدور علينا قلنا أفكان يقدر على أن يقدر أم لا فلا بد لك من أن تقول كان يقدر على أن يقدر أم لا فلا بد لك من أن تقول كان يقدر فيلزمك وصفه بالقدرة على كل حال
وكذلك قولنا في العلم والإرادة وقولك يرحم ويغفر ويحكم ليس مثل قولنا يقدر ويعلم ويريد لأنك لا تقول كان أبدا يرحم وكان أبدا يخلق ولا بد من أن تقول كان أبدا يقدر وكان أبدا يعلم وكان أبدا يريد
ثم قال بعد كلامه مع الفلاسفة فنحن ما لم نصفه بالعلم والإرادة لم نصفه بمدبر ولا حي
ثم قال إن قلنا عرفناه بوحدانيته وعلمناه بذاته من غير نظرنا إلى فعله الدال على قدرته وعلمه وإرادته فقد كذبنا لأنه لا يقدر أحد أن يقول أنه وقع على معرفته إلا بما نظر إليه من خلقه وتفكر فيه من حكمه وبمعرفته بنفسه وكل هذا إقرار بالثلاثة الأقانيم التي ذكرنا لأنا لما وجدنا الخلق الذي لم يقدر أن يكون بنفسه وجب الإقرار بالشيء الذي قدر أن يكون وهي القدرة التي سماها علماء المجوس الهيول ثم لما نظرنا إلى تدبير الخلق وجب الإقرار بالعلم والإرادة لأن التدبير لا يكون إلا ممن يعلم ويريد فثلاثتها اسم لإله واحد ونعت لمدبر فرد ولا تجد هي غيره ولا يجد هو غيرها فهذا قولنا في التثليث الذي وصفه الإنجيل وأمر بالإيمان به وسماه باللسان العجمي الأب والابن والروح القدس
فهذا كلام هذا القس والنصارى يعترفون بأنه أعرفهم بدينهم وأعلمهم بشرعهم ويقينهم ينص على أن الأقانيم الثلاثة صفات ونعوت للواحد الفرد ولا يقال فيها أنها هو ولا هي غيره وهو لعمرى من المسددين في هذا النظر إذ قد سلك مناهج البحث والعبر ولقد قارب الحنيفية وتباعد عن الملة النصرانية إلا أننا ننازعه نزاعين أحدهما في تسمية هذه الصفات الأب والابن والروح القدس على ما تقرر وهذا نزاع لفظي ليس بكبير ولا له حظ خطير والنزاع الثاني في أنه قصر الأقانيم على هذه الثلاثة ولم يعد الحياة فيها كما فعل غيره منهم وكذلك الوجود الموصوف بهذه الصفات لم يعده أقنوما وقد صرح بأنها صفات ولا بد للصفات من موصوف بها
وسنعطف عليه بالرد إذا تكلمنا مع غيره إن شاء الله تعالى ومع هذا فقد سلك هذا الرجل مسلك أرباب العقول وتبرأ من جهالة كل جهول وإذا كان كذلك فسبيلنا أن نتكلم مع الذي صدرنا هذا الفصل بذكر كلامه فإنه كثير الفساد مضرب عن الرشاد ويتضمن الرد عليه الرد على غيره ممن يقول مثل قوله أو ما يقاربه مستعينين بالله متوكلين عليه
الجواب عن ما ذكره المصدر كلامه
لتعلم أيها الناظر في كتابنا أننا يمكننا أن نناقش هذا القائل كما ناقشنا السائل فإن كلامه كثير الغلط ظاهر التكلف والشطط لكنا تركنا مناقشته اللفظية وصرفنا المناقشة للمباحثة المعنوية كراهة للإكثار وميلا للإيجاز والإختصار وأيضا فإن نفس الله في العمر وصرف عنا عوائق الدهر فسنرد عليه في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى أبين فيه غلطاته وأوضح جهالاته وسقطاته بحول الله وقوته
فنقول له لا يشك عاقل سليم الفطرة أن خالق العالم موجود ليس بمعدوم وقد اعترفتم بأنه حي عالم ومن لم يعترف بذلك أقيمت عليه البراهين القاطعة فإذا تقرر ذلك قلنا فمفهوم أنه حي هو عين مفهوم أنه عالم أو غيره فإن كان عينه فقولكم حي عالم كقولكم حي حي أو عالم عالم والفرق ما بينهما معلوم ضرورة ولو كان عينه لاختلطت الحقائق فثبت أنهما متغايران متعددان فإذا ثبت ذلك فأما أن يرجعا إلى الخالق سبحانه وتعالى في قولكم أنه حي عالم أو لا يرجعان فإن لم يرجعا لم يصح الإخبار عنه بهما ولم يكونا وصفين له فثبت أنهما يرجعان إليه وإذا ثبت ذلك فأما أن يكونا من أوصافه تعالى النفسية أعنى الذاتية فإن كانا من أوصافه النفسية أدى ذلك إلى أن يكون ذاته وماهيته متركبة متبعضة وذلك محال على ما قررتم فيما تقدم من كلامكم
وأيضا لو عقل كون العلم والحياة من الأوصاف النفسية في محل عقل ذلك في كل محل ويلزم من ذلك كون العلم والحياة من صفات أنفسنا وذلك معلوم البطلان بالضرورة
وأيضا فلو جاز ذلك للزم أن يكون العلم والحياة قائمين بأنفسهما أعنى موصوفين لأن جزء القائم بنفسه قائم بنفسه وقد ثبت بالأدلة القاطعة أن الباري تعالى قائم بنفسه والمعقول من العلم والحياة أنهما صفتان لا موصوفان فإذا تقرر ذلك وثبت لزم منه أنهما زائدان على النفس فإذ ثبت ذلك فأما أن يقوما به أو لا يقوما به فإن لم يقوما به لم يتصف بهما ولو جاز أن يتصف فيما لا يقوم به لجاز ذلك في حقنا فكان يلزم عليه أن يكون علم زيد يتصف به عمرو وذلك محال ضرورة فدل ذلك على أنهما قائمان به فإذا قاما به وهما وجودان زائدان على الذات حصل من ذلك كله أن ذاته واحدة لا تركيب فيها ولا تعدد وأن صفاته الزائدة هي المتعددة وهذا لا إحالة فيه بل هو الحق الذي لا غبار عليه ولا بد لكل ناظر من الرجوع وأن تخبط إليه فهكذا ينبغي أن تفيهم صفات الباري تبارك وتعالى وتقدس وتنزه عما يقول الجاحدون والكافرون علوا كبيرا
وهذه الطريقة البرهانية تجرى في كل صفة يدعى ثبوتها للباري تعالى وبعد الإنتهاء إلى هذا المحل ينظر هل أوصافه أزلية أم ليست أزلية والحق أنها أزلية ولا محرز أن يكون شيء منها حادثا إذ لو كان شيء من صفاته حادثا للزم عليه أن يكون محلا للحوادث ويلزم على ذلك حدوثه تعالى وهو محال على ما يعرف في موضعه فإذا تمهد هذا الأصل قلنا بعده للمتكلم معه الأقانيم عندكم لا تخلو من أن ترجع إما إلى صفاته النفسية أو إلى صفاته المعنوية أعنى الزائدة على النفس ولا واسطة بين القسمين فإن رددتموها إلى القسم الأول لزمكم ما تقدم من المحالات حذو النعل بالنعل وإن رددتموها إلى القسم الآخر فلأي معنى قلتم في حد الأقنوم أنه الشيء المستغنى بذاته عن أصل جوهره في إقامة خاصة جوهريته وهل المفهوم من هذا إلا أنه صفة نفس لأن المستغنى بذاته عن أصل جوهره هو الذي نعبر نحن عنه بالقائم بنفسه ويعبر عنه غيرنا من النظار بالموجود لا في موضوع
وأيضا إن كان أراد هذا القائل أن الأقنوم هو الصفة الزائدة على الذات فيلزمه أن يجعل الأعراض أقانيم فإنها زائدة على الذات
ومن عجيب أمره أنه ألزم من قال إن العلم والحياة غير الجوهر الإشراك به وأي إشراك يلزم من قال إن صفات المعاني زائدة على ذات الموصوف بها وكيف يمكن أن يقول عاقل إن الصفة الزائدة على الجوهر أنها عين الجوهر وهل قائل هذا إلا جاهل أو متجاهل
فتحصل من هذا كله أن الأقانيم لا يصح عندهم أن تقال على الصفات النفسية ولا على الصفات المعنوية ولا يعقل هنالك أمر آخر متوسط بينهما فقولهم في الأقانيم غير معقول فكأنه قول مجنون مخبول
ثم نقول لهذا القائل لأي شيء لم تجعل القدرة من الأقانيم كما ذهب إليه مقدمكم الأقدم وأسقفكم الأزعم أغشتين فتكون الأقانيم أربعة فإن قال إن القدرة ترجع إلى الوجود كما صرح بذلك بعضهم فنقول لمن يقول ذلك ولم ذلك وهل لا يرجع العلم والحياة إلى الوجود وما الفصل بينهما إلا محض التحكم
وكذلك القول في الإرادة ترجع إلى الحياة
قيل له إن صح ذلك فليرجع إليها العلم وإن جاز شيء من ذلك فلترجع كل واحدة من هذه الصفات إلى الأخرى ويرجع الكل إلى الموجود والوجود هو نفس الذات فترجع الأقانيم الثلاثة إلى واحد وهو محال على ما تقدم لكم وعليكم ويكون هذا أيضا قولا بامتزاج الثلاثة الأقانيم في أقنوم واحد كقول الخارجي الجاهل شباليش وأنتم لا ترضون شيئا من قوله ولا مذهبه
ثم نقول لأي شيء تحكمتم بأن الأقانيم ثلاثة وهلا أضفتم إليها القدرة والعلم والسمع والبصر كما تقدم الكلام عليه أو لعلها اثنان وعدم انتصارهم يدل على ضعف أنصارهم ولا حجة لهم في هذه المواطن كلها أكثر من التحكم فينبغي إذن أن يتكلم معهم على جهة المناقضة والتهكم وغايتهم في ذلك أن يرجعوا إلى الإستقراء والتمثيل وهما في المعتقدات طريقا الخطأ والتضليل
ثم نقول هذه الأقانيم الثلاثة قد قلتم أن كل واحد منها مستغن بذاته عن أصل جوهره وإذا كان ذلك فأما أن يكون كل واحد منها إلها أو جزء إله أو يكون مجموعها إلها واحدا فإن كان جزء إله لزم عليه أن يكون الإله متركبا متبعضا ويلزمكم على ذلك إبطال التثليث الذي تقولون به ويلزمكم على ذلك الامتزاج الذي ذهب إليه شباليش وإن كان كل واحد منها إلها بإنفراده لزمكم على ذلك أمور كثيرة مشينة باطلة منها أن يكون كل واحد من هذه الأقانيم حيا عالما مريدا قادرا موصوفا بصفات الكمال إذ الإله هو الموصوف بصفات الكمال المتعالى عن صفات النقص فإذا التزم ذلك ملتزم لزم عليه أن تقوم الصفة بالصفة وإن جاز ذلك جاز أن يقوم العلم والقدرة بالإرادة والإرادة والقدرة بالعلم والقدرة والعلم بالحركة والحركة والقدرة والعلم باللون إلى غير ذلك من أنواع الجهالات التي لا يبوء بها عاقل ولا يرضى بسماعها فاضل وإن جاز قيام الصفة بالصفة جاز أن يقوم بالصفة صفة وبتلك الصفة صفة ويتسلسل وما يتسلسل لم يتحصل ويلزم عليه أن تكون الأقانيم لا نهاية لها إذ العلم يقوم به حياة وتلك الحياة حية بحياة إلى غير آخر ومنها أن تكون القدرة قادرة بقدرة والعلم عالم بعلم والحياة حية بحياة إلى غير ذلك من الصفات وهذا غير معقول فإن العلم والقدرة وسائرصفات المعاني إنما توجب أحكامها للمحال التي تقوم بها لا لأنفسها بالعلم لا يكون عالما ولا قادرا وكذلك القدرة لا تكون عالمة ولا قادرة وكذلك سائرها وإنما العالم والقادر والمريد والحي هو الذات الذي تقوم به هذه الصفات وهذا معلوم من غير أسباب ولا أطناب
ومنها أن يكون الإله صفة لموصوف فإن المفهوم المعقول من هذه الأقانيم أنها صفات لا موصوفات على ما تقدم إلى أمور كثيرة يطول الكلام بذكرها
ثم نرجع إلى بقية التقسيم فنقول وإن لم تكن هذا الأقانيم حية ولا عالمة ولا قادرة فلا تكون إلهية وقد أطبق النصارى على أنها آلهة ويلزمهم أن لم تكن الأقانيم موصوفة بهذه الصفات وصفها بأضدادها أو بالإنفكاك عنها إن لم يوصف بحياة وصفت بالإنفكاك عنها والمنفك عن الحياة ميت فيلزم عليه أن يقولوا بآلهة أموات وكذلك يلزم في سائر الصفات
وقد كع المصدر بكلامه عن هذا الإلزام وصعب عليه المرام فتكلم بما لا يعقل فليته سكت ولم يتقول وبعد الخبط والتأوه قال هذا ما لا يجوز لنا به التفوه ومن أراد أن يقضي العجب العجاب فليقف على ذلك الكتاب
وتلخيص ما ذكره في الانفصال أن قال إن قلنا إن الأب ليس يحيا كذبنا وإن قلنا هو الحياة أبطلنا فإذا كان ليس حيا وليس بحياة وجب أن يكون حيا بلا محالة وكذلك قال في العلم والحياة
ومن أفضى به إلى هذا الهذيان بحثه ونزاعه فقد تعين تركه وإنقطاعه وحسبك في شر سماعه وذلك كله يدل على أنهم ليسوا من العقلاء ولا معدودين من جملة الفضلاء بل قد انخرطوا في سلك الحمقاء الجهلة الأغبياء فهم قد جعلوا إلههم هواهم فأضلهم لذلك وأرداهم فهم كما قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
أما حكاية صاحب كتاب المسائل فكلام يدل على أن القوم ليس فيهم مستحي ولا عاقل كابروا الضرورات وجحدوا المعقولات تارة يتناقضون وأخرى يتواقحون إفتراء على الله وإستهانة بحرم الله وحسبك دليلا على ذلك إختلافهم في البديهيات هنالك وقد وكلت الناظر فيه لظهور تناقضه وفساد معانيه فإن غاية الناظر في كلامه أن يلزمه من المحال والتناقض مثل ما صرح بالتزامه ومن أنكر الضروريات وارتكب المحالات فدار المرضى والمجانين أولى به وأليق من اشتغاله بالمعقولات