الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/النوع الثاني
النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله ﷺ
فأول ذلك ما ظهر على أبيه عبد الله بن عبد المطلب
وذلك أنه لما أراد الله خلقه وقرب وقته وحان خروج نطفته من صلب أبيه حمل بين عيني أبيه نور فكان يراه الرائي كغرة الفرس وقد ثبت في كتب نبوته على ألسنة النقلة الثقات العدول الأثبات الذين يدينون بتحريم الكذب ويعتقدون وجوب الصدق ولا تأخذهم في الله لومة لائم أن عبد الله بن عبدالمطلب والد رسول الله ﷺ كانت له امرأتان احداهما آمنة أم رسول الله ﷺ وامرأة أخرى فحمل يوما في طين لبناء بيته فتعلقت به آثار من الطين فمر بتلك المرأة فدعاها لنفسه فأبت لما كان عليه من الطين فخرج من عندها فاغتسل وغسل ما به من أثر الطين فدعته تلك المرأة إلى نفسها فأبى عليها ثم خرج عامدا إلى آمنة فدخل عليها فأصابها فحملت بمحمد رسول الله ﷺ ثم مر بامرأته تلك فقال لها هل لك قالت لا إنك مررت بي وبين عينيك غرة مثل غرة الفرس فدعوتك رجاء أن يكون لي فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها
ثم لما حملت به آمنة أمه أتيت فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا
ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام
ولقد قالت أم عثمان الثقفية حضرت ولادة رسول الله ﷺ فرأيت البيت حين وضع قد امتلأ نورا ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع علي وولد ﷺ مختونا
وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجد الحوامل من ثقل وألم ولا غير ذلك ولما وضعته أمه وقع على الأرض مقبوضة أصابع يديه مشيرا بالسبابة كالمسبح بها
وذكر ابن دريد أنه ألقت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه
ثم لم يلبث عبد الله بن عبدالملطلب أبوه أن توفى وأم رسول الله ﷺ حامل به فكفله جده عبدالمطلب وقيل لجده لم سميت ابنك محمدا وليس هذا الاسم لأحد من آبائك وقومك فقال إني لأرجو أن تحمده أهل الأرض كلهم
وذلك أنه كان يرى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يعتلقون بها فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء وأهل الأرض فلذلك سماه محمدا
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين أعقل كل ما سمعته إذ سمعت يهوديا على أطم يثرب يصرخ بأعلى صوته يقول يا معشر يهود فلما اجتمعوا له قالوا له ويلك مالك قال طلع الليلة نجم أحمد
ثم التمس له المراضع فاسترضع له امراة من بني سعد بن بكر اسمها حليمة بنت أبي ذؤيب قالت حليمة خرجت من بلدي مع زوجي وابن لي في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء قالت وفي سنة شهباء لم تبق لنا شيئا قالت فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تفيض بقطرة وما ننام ليلنا مع صبينا من بكائه من الجوع وما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغديه ولكنا نرجو الغيث والفرج فلقد حيست الركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد بن عبد الله فتأباه إذا قيل لها أنه يتيم
وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم فما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلى أخذت رضيعا غيري فلما أجمعنا الإنطلاق قلت لصاحبي إني والله أكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلأخذنه فقال افعلي عسى الله أن يجعل فيه بركة قالت فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره
قالت فلما أخذته رجعت به إلى رجلي فلما وضعته في حجري أقبل على ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك
وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا أنها لحافل فحلب منها ماشرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا فبتنا بخير ليلة قالت يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة قلت والله إني لأرجو ذلك قالت ثم خرجنا فركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما يقدر على شيء من حمرهم حتى أن صواحبي ليقلن لي يا ابنة أبي ذؤيت ويحك أربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى والله فيقلن لي والله أن لها لشأنا
قال ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يجلب إنسان قطرة ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعاتهم ويحكم أسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا
قالت فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه وقلت لها لو تركت بني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة قالت فلم نزل بها حتى ردته لنا قالت فرجعنا به فوالله أنه بعد مقدمنا بشهر مع أخيه لفى بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه يعنى يخلطانه قالت فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقحا وجهه قالت فألتزمته وألتزمه أبوه فقلنا له مالك يا بني قال جاءني رجلان عليها ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا شيئا لا أدري ما هو قالت فرجعنا به إلى خبائنا
قالت وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به قالت فاحتملناه فقدمنا به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك قالت فقلت قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي وتخوفت الأحداث عليه فاديته إليك كما تحبين قالت ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك قالت فلم تدعني حتى أخبرتها قالت أفتخوفت عليه الشيطان قالت قلت نعم قالت كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل وإن لبني لشأنا أفلا أخبرك خبره قالت قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وأنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء دعيه عنك وانصرفي راشدة
فكان رسول الله ﷺ مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبدالمطلب بن هاشم في كلأة الله تعالى وحفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته فلما بلغ رسول الله ﷺ ست سنين توفيت أمه آمنة فكان رسول الله ﷺ مع جده عبدالمطلب وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له قال فكان رسول الله ﷺ يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه فيقول عبدالمطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني فوالله أن له لشأنا ثم يجلسه معه على الفراش ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع فلما بلغ رسول الله ﷺ ثماني سنين هلك عبدالمطلب جده فكان مع عمه أبي طالب فكان يحنو عليه ويحفظه فبينما هو عنده يوما إذ قدم مكة رجل عائف من أزد شنوءة وكان ذلك الرجل إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم ويتفرس وكان ماهرا في ذلك معروفا به مجربا عليه الإصابة في ذلك
فأتاه أبو طالب به وهو غلام قال فنظر العائف إلى رسول الله ﷺ ثم شغله عنه شيء فلما فرغ قال أين الغلام على به فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه فجعل يقول ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكونن له شأن
ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام فلما تهيأ للرحيل ضبث به رسول الله ﷺ فرق له أبو طالب وقال والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا وكان يحبه حبا شديدا فخرج به معه فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بخيرا في صومعة له وكان إليه علم النصرانية ولم ينزل في تلك الصومعة منذ قط راهب يصير إليه علم النصرانية لأجل كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكان كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يعرض لهم ولا يكلمهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا
وذلك عن شيء رآه في صومعته وذلك أنه رأى رسول الله ﷺ من صومعته وهو في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله ﷺ حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال إني قد صنعت لكم طعاما فقال له رجل والله يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا فما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم
فقال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله ﷺ من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده قال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي فقالوا له يا بحيرا ما تخلف عنكم أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم قال لا تفعلوا دعوه فليحضر هذا الطعام معكم
فجاء وقد احتضنه رجل من القوم فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا وقال له يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه كان يسمع قومه يحلفون بهما فقال رسول الله ﷺ لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما
فقال له بحيرا فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه قال له سل عما بدا لك فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله ﷺ يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده وكان مثل أثر المحجم ثم أقبل على عمه أبي طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بإبنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال فإنه ابن أخي قال ما فعل أبوه قال مات وأمه حبلى به قال صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبلغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته فزعموا فيما يروي الناس أن زريرا وتماما ودريسا وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله ﷺ مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرا وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركون وانصرفوا
فشب رسول الله ﷺ والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا وأعظمهم حلما وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة
فلما بلغ رسول الله ﷺ خمسا وعشرين سنة وعرفت أمانته وصدق حديثه وظهرت بركته عرضت عليه خديجة بنت خويلد ما لا يخرج به مسافرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله ﷺ منها وخرج في ذلك المال وخرج معه ميسرة حتى قدما الشام فنزل رسول الله ﷺ في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان فاطلع الراهب إلى ميسرة وقال من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة قال له ميسرة هذا رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي
ثم باع رسول الله ﷺ سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره
فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به بأضعف أو قريبا
وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعن ما كان يرى من إظلال الملكين إياه وكانت خديجة رضي الله عنها امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها بعثت إلى رسول الله ﷺ فقالت له يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك ووسطك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها
وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه فلما قالت ذلك لرسول الله ﷺ ذكر لأعمامه فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها
وقد كانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه فقال ورقة لئن كان هذا حقا يا خديجة فإن محمدا لنبي هذه الأمة وقد عرفت أنه كان لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول حتى متى فلما تقارب زمان مبعثه كثرت أحاديث الكهان عن نبوته والأخبار بذلك فبشر بقرب ظهوره جماعة من الكهان
وأما اليهود فكانت تكون بينها وبين العرب شرور وحروب فربما أصابت العرب منهم فكانت اليهود تقول قد قرب زمان نبي سيبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وارم ثم لم يلبثوا حتى ظهر وعرفوه كما يعرفون أبناءهم
فلما بعث منهم من آمن به ومنهم من كفر به حسدا وعنادا كما فعلتم أنتم
ولقد قدم المدينة نفر من اليهود يلتمسون هجرته إليها وكونه فيها من ذلك ما يحكى عن ابن الهيبان حبر من أحبار يهود وممن كان ينتهي إليه علمهم وكان فاضلا في دينه مجاب الدعوة ممن علم ذلك منه بكثرة تجربة ذلك فقال لليهود يوما ما ترونه أخرجني من الشام أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع قالوا له أنت أعلم قال فإني قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبى الذرارى والنساء ممن خالفه فلا يمنعكم ذلك منه
فلما بعث رسول الله ﷺ وحاصر بني قريظة قال نفر من اليهود يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته فنزلوا وأسلموا ومثل هذا كثير
ومن أوضح ذلك وأبينه: قصة سلمان الفارسي وذلك أنه كان تنصر وقرأ كتبكم وبحث عن جماعة من أهل دينكم أعنى الذين كانوا متمسكين بدين المسيح فلم يزل يبحث عنهم واحدا بعد واحد ويخدمهم حتى يحضرهم الوفاة فكان الواحد منهم إذا حضرته الوفاة وصاه بأن يلحق بمن هو على مثل دينه وحاله ويعينه له ويدله عليه إلى أن وصل إلى عمورية إلى أرض الروم إلى راهب نصراني كان هنالك
قال سلمان فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم يعني الدين كانوا دلوا عليه إلى أن حضرته الوفاة فقلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ثم أوصاني فلان إلى فلان ثم أوصاني فلان إليك فإلى من توصى بي أنت وبم تأمرني؟ قال أي بني والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبي وهو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل
قال ثم مات وغيب ولحق سلمان بالمدينة بالأرض التي عينت له فأقام هنالك حتى قدم عليه رسول الله ﷺ مهاجرا فبحث عن تلك العلامات التي رسمت له فوجدها كما رسمت له فآمن به وأتبعه وصدقه وكان معه وعلى دينه إلى أن توفاه الله تعالى رضي الله عنه
ولو ذهبت إلى استقصاء مثل هذا لطال الكتاب
فلما بلغ محمد رسول الله ﷺ أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا
فكان أول ما ابتدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب الله إليه الخلوة فكان ينقطع إلى الكهوف والجبال ويأوى إليها
فكان يخلو بغار حراء وكان في ذلك لا يمر بحجر ولا شجرة إلا قال السلام عليك يا رسول الله فيلتفت رسول الله ﷺ حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة تكلمه
فمكث رسول الله ﷺ يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث ثم جاء جبريل ﷺ بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء في رمضان ومن ذلك الوقت ظهرت آياته وعمت بركاته وتنوقلت رسالته ومعجزاته وإذ ذاك جمع الله له كل خصال الكمال وخصه بصفات الشرف والجلال فلقد جمع الله له الكمال الظاهر والباطن بما جعل فيه من الفضائل والمحاسن
وينبغي الآن أن يعرف الجاحد والجاهل بعض ما خص به من صفات الكمال والفضائل
اعلم أن الكمال البشري ضربنا ظاهر وباطن وكل واحد من هذين الضربين ضربان ضرب يكون الإنسان مجبولا عليه ولا اكتساب له فيه وضرب يكون مكتسبا للإنسان يحصل له بسعيه وتكسبه فقد انحصرت صفات الكمال في أربعة أقسام كمال ظاهر ضروري وكمال ظاهر مكتسب وكمال باطن ضروري وكمال باطن مكتسب
وقد جمع الله هذه الأربعة الأصناف للنبي محمد ﷺ ونحن نذكرها جملة ثم نشرع بعد في التفصيل إن شاء الله تعالى
اعلم أنا إنما نذكر من صفات كماله وجلاله المشهور بشرط الإختصار خوفا من التطويل والإكثار ولو ذهبنا إلى الإستقصاء لعجزنا عن ذلك
فمن ذلك
كمال خلقته وجمال صورته وفصاحة لسانه وشرف نسبه وعزة قومه وكرم أرضه وقوة عقله وصحة فهمه ومتين علمه وجميل صبره وعظيم حلمه وحسن تواضعه وعدله وجزيل زهده وفضله وعميم جوده وكرمه ووثيق عهوده وذممه ورائق سمته وأدبه وطهارة ذاته ونسبه وعظيم شجاعته ونجدته وكثير حيائه ومروءته
وجملة أمره ﷺ أنه أكمل الناس خلالا وأفضلهم حالا وأعلمهم بحدود الله وأخوفهم من الله
فأما كمال خلقته وجمال صورته فشيء معلوم لم يذهب أحد من أعدائه إلى خلاف ذلك ولا استطاع أن ينسب إليه نقصا ولا شينا في شيء من ذلك لقد اعترف الكل أنه كان أزهر اللون أدعج العينين أشكل أهدب الأشفار أفلج أزج أقنى مدور الوجه واسع الجبين كث اللحية تملأ صدره موصول ما بين اللبة والسرة بشعر واسع الصدر عظيم المنكبين ضخم العظام والعضدين والذراعين والأسافل رحب الكفين والقدمين سائل الأطراف أنور المتجرد دقيق المسربة مربوع القد ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طاله رجل الشعر إذا افتر ضاحكا عن جمان افتر عن مثل سنا البرق وعن مثل حب الغمام إذا تكلم رؤى كالنور يخرج من ثناياه أحسن الناس عنقا ليس بمطهم ولا بمكلثم متماسك اللحم
قال ناعته: ما رأيت أحدا في حلة حمراء مرجلا أحسن منه ﷺ كأن الشمس تجرى في وجهه وإذا ضحك يتلألأ في الجد وأجمل الناس من بعيد وأحسنهم من قريب من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه
يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله طيب الرائحة والعرف ولقد كان ﷺ يعرف برائحته وإن لم ير ولقد كان يتطيب برائحته ويوضع في الطيب فينم أكثر منه
ولقد كان يضع يده على رأس الطفل رحمة له فكانت تنم عليه رائحة طيبة ﷺ ولقد اشتهر وصح أنه ﷺ بعد موته طال مكثه في البيت قبل أن يدفن بيومين وليلة في المشهور وكان موته في شهر أيلول ومع ذلك فلم يتغير له ريح ولا ظهر عليه شيء مما يظهر على الموتى حتى كانت الصحابة رضي الله عنهم تقول له طبت حيا وميتا
ولقد روى أن أم سلمة قالت وضعت يدي على صدر رسول الله ﷺ وهو ميت فمرت على جمع لا آكل ولا أتوضأ إلا وجدت ريح المسك من يدي
فإن قيل نسلم أنه كما وصفت لكن أي فضيلة لحسن الصورة الظاهرة وأي مزية لها على غيرها إذ رب قبيح المنظر حسن الفعل والمخبر ورب حسن الظاهر والمنظر قبيح الفعل والمخبر
فنقول هذا الذي ذكرت يندر ويقل بل لا يبعد أن يقول قائل لا يوجد كامل الصورة الظاهرة ألا وهو كامل الصورة الباطنة إذ كلاهما إنما سببه بحسب ما أجرى الله العادة مزاج معتدل فهما ثمرتا مثمر واحد ولأجل هذا والله أعلم لم نسمع قط عن نبي من أنبياء الله تعالى أن الله تعالى خلقه ناقص الخلقة أو مشوهها اللهم ألا قد طرأت علىبعضهم آفات لأسباب شاءها الله تعالى مثل أيوب وغيره وليس الكلام في الطارئ وإنما الكلام في أصل الخلقة ثم إن الحكماء والعلماء قد استدلوا بحسن الخلق على حسن الخلق حتى أن الحكماء قالوا أقصدوا بحوائجكم سماح الوجوه فإنه أنجح لها أو فإنه أحرى أن تقضى
وأيضا فإن الجمال والحسن محبوب بالطبع ومرغوب فيه والقبح منفور عنه ومقصود الله تعالى أن يحب الأنبياء وأن لا ينفر منهم والحسن موجب لذلك وأيضا فإن صفة نبينا هذه هي صفة جده إبراهيم خليل الرحمن حتى كأنه هو على ما ثبت من صفة إبراهيم في كتب الأنبياء عليهم السلام
وأما فصاحة لسانه
فلقد أطل من الفصاحة على كل نهاية وبلغ من البلاغة كل غاية فلقد أوتين ﷺ سلامة الطبع وبراعة المنزع وعذوبة اللفظ وحسن الإيراد وجزالة القول وصحة المعاني مع إيجاز اللفظ وقلة التكلف، أوتي ﷺ جوامع الكلم وبدائع الحكم فلقد كان يخاطب كل حي من أحياء العرب بلغتهم ولم يكن يقتصر على لغة واحدة مع أنه إنما نشأ على لغة بني سعد وقريش وكان يعرف لغات غيرهم حتى كانوا يتعجبون منه ويقولون ما رأينا بالذي هو أفصح منه وهذا معلوم عند الفصحاء العرب العرباء
ويقف على معرفة ذلك بالذوق والمشاهدة من كان عارفا بلسان العرب ولغتهم ووقف على شيء من كلامه معهم ومجاوبتهم
وأما نسبه
فمعلوم لا يجهل ومشهود لا ينكر جده الأعلى إبراهيم والأقرب عبد المطلب كابرا عن كابر وشريفا عن شريف فهم بين أنبيائه فضلاء وبين شرفاء حكماء وهذا كله مسلم لا يمنع ومقبول لا يدفع فهو ﷺ من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا وذلك أن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل كما قد شهدت التوراة وغيرها بذلك واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاه ﷺ من بني هاشم فهو خيار من خيار من خيار وكذلك الرسل صلى الله عليهم وسلم تبعث في أشرف أنساب قومها صلى الله عليهم ذلك ليكون أميل لقلوب الخلق إليهم والله أعلم
وأما عزة قومه
فقد كانوا في جاهليتهم لم ينلهم سباء ولا ظفرت بهم أعداء ولا دخلوا في أغلب أزمانهم تحت قهر غيرهم بل كانوا قد حازوا الشرف الباهر والمفاخر والمآثر هم أوفر الناس عقولا وأقلهم فضولا وأفصح الناس مقالا وأكرمهم فعالا الشجعان الكرماء والحكماء الأدباء
أما سفساف الأخلاق ودنيها
فهم مبرأون عنها وأما حسنها وعليها فهم أحرص الناس عليها والموصوفون بها وكفى دليلا على ذلك ما علم من حسن جوابهم وكريم عمودهم وعميم بذلهم وجودهم وكل هذا من أوصافه معروف والغالب منهم بذلك موصوف وحق لقائلهم أن يقول... لنا الشرف الذي يطأالثريا... مع الفجر الذي بهر العباد...
وأما أرضه
فناهيك من أرض أسس بقيتها إبراهيم الخليل وأمره بأن بدعو الناس إليها الملك الجليل وتولى عمارتها والمقام بها النبي إسماعيل وتوارثها الأشراف جيلا بعد جيل وكفى بلدته شرفا ما فعل الله بملك الحبشة الذي جاء لهدمها فلما قرب منها وعزم على هدمها ووجه فيله عليها أرسل الله عليهم طيرا أشباه الخطاطيف مع كل واحد منها ثلاثة أحجار حجر في منقاره وحجران في رجليه فرمت الطير ذلك الجيش بتلك الجهات فكل من أصابه من تلك الحجارة شيء هلك مكانه وأصاب ملكهم منها حجر فهلك بعد أن تناثر لحمه وتساقط أنملة أنملة فتفرقوا في كل وجه وأهلكهم الله كل هلاك وبدد شملهم أي تبديد وكل هذا معروف لا ينكر ومشهور لا يجهل فهذه الأرض علىمحلها وجدبها وشظف عيش أهلها خير البلاد عند ربها دل على ذلك كلام الأنبياء والرسل وما جاء من ذلك في متقدمي الكتب ولا يظن الجاهل أن خير بلاد الدنيا عند الله أكثرها خصبا وأعظمها فاكهة وأبا فإن هذا ظن من ليس له نطق ولا فهم وهمته ما يجعل في بطنه كالبهم بل خير البلاد عند الله ما كوبدت فيه المشقات التي توصل إلى ما عند الله من الدرجات وكانت مع ذلك مما قدس وانتشرت منه الديانات
وكل ذلك في حق أرضه معلوم من جهة النبوات وسيأتي ما ذكر الله تعالى في مكة بلده عليه السلام على لسان أشعياء عليه السلام
وأما قوة عقله وعلمه
فلقد أوتي منهما ما لم يؤته أحد وأعطى منها ما لم يعطه والد ولا ولد وكفى دليلا على ذلك ما ظهر عليه من حسن السياسة وأحكام أمور الرياسة والأخذ في العلوم العقليات من غير اكتساب شيء مما يحتاج إليه من المقدمات حتى إتخذ أرباب كل علم كلامه في ذلك العلم أصلا يرجع إليه ويعول في صناعته عليه فتارة يكون كلامه في بعض العلوم منشئا ممهدا وأخرى متمما ومؤيدا وإن أردت أن تعلم ذلك علم اليقين فتأمل تأمل اليقظين ما تضمنه من ذلك الكتاب والسنة فبهما كثرت الخيرات وعظمت المنة فإنك تجدها قد جمع له منهما علوم الأولين والآخرين على اختلاف علوم العالمين من الرياضيات على اختلاف أوصافها والإلهيات مع تعذرها على أكثر الأفهام واعتياصها والسياسات على تشتت أوصافها
أما الأمور المصلحية
التي يعبر عنها بالقوانين الشرعية فيقضي العقلاء منها العجب فإنه أطل منها على أعلى المراتب والرتب وذلك أن أعمال شريعته ﷺ انقسمت إلى أمور تعبدية مثل الصوم والصلاة والحج وغير ذلك مما لا يدرك معانيها وحكمها إلا من أمده الله بتوفيق خاص فنور بالمعارف باطنه وزين بالأعمال ظاهره وإلى أمور مصلحية يدرك معانيها الجفلى والجمهور من أهل الديانة الحنيفية
ثم أنه اعتبر أصول مصالح العالم فأوجبها واعتبر أصول مفاسد العالم وحرمها وأصول المصالح إنما هي خمسة المحافظة على صيانة الدماء في أهبها والأموال على ملاكها والأنساب على أهليها والعقول على المتصفين بها والأديان التي بها عيش النفوس وزكاتها
فأصول الشريعة وإن تعددت صورها فهي راجعة إلى هذه الخمسة
فأما بمرتبة واحدة أو بمراتب على ما يعرف في موضعه
وأما الدماء
فحقنها بأن شرع أن من قتل يقتل ومن جرح يجرح ومن فقأ عين إنسان فقئت عينه وهكذا
فإذا علم القاتل أن يفعل به مثل ما يفعل انكف عن القتل فحصلت حياة النفوس وصيانة الدماء ولأجل ذلك قال الله تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب
ثم سوى في القصاص بين الكبير والصغير والشريف والمشروف إشعارا بأن مزايا الدنيا وفضائلها لا مبالاة بها عند الله أن الشرف إنما هو بالدين والتقوى ولأجل هذا قال الله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال عليه السلام الناس كأسنان المشط يريد بذلك أن الأحكام متساوية بينهم وأنهم فيما شرع سواء
وأما الأموال
فصانها على ملاكها بأن شرع قطع يد السارق للنصاب وقتل المحارب وغرم مثل المتلف أو المغصوب إن كان مما له مثل فاذا علم السارق والمحارب أنهما يعاقبان بما يناسب جنايتهما ارتدعا وانكفا فانحفظت الأموال
وأما العقول
فحرم استعمال ما يؤدي إلى تلفها وذهابها كالخمر وذلك أن مناط التكليف العقل وهو الذي به يعرف الله تعالى وهو الذي ينتظم مصالح الدنيا والدين فإذا أذهبه الإنسان بالخمر وما في معناه فقد تعرض لإسقاط التكليف وللكفر بالله تعالى بل لكل المفاسد ولأجل هذا قال عليه السلام الخمر جماع الإثم وأم الخبائث والكبائر ولأجل هذا قال الله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون
ثم أكد الكف عن الخمر بأن شرع على شربه حدا هو ضرب بالسوط ليكون ذلك أبلغ في الردع والزجر
وأما حفظ الأنساب وصيانة اختلاط المياه في الأرحام
فشرع النكاح وحرم السفاح لينتسب كل ولد لوالده ويتميز الولي عن مضادده ولينضاف كل إلى شيعته ويتحقق نسبته بقبيلته ولأجل هذا قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
ولم لم يكن ذلك لارتفع التعارف ولم يسمع ولاتسع خرق لا يرقع
وأما المحافظة على الأديان وصيانتها
فهو المقصود الأعظم والمستند الأعصم فحرم الكفر والفسوق والعصيان وأوجب الطاعات والإيمان وأوجب قتل الكافر وتوعده بالعذاب الدائم والهوان ولا يخفى على من معه أدنى مسكة إذا تأمل بأدنى فكرة أن الإيمان بالله رأس المصالح والخيرات والكفر رأس المقابح والهلكات ولأجل وجوب الإيمان وتحريم الكفران أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ولأجل ذلك قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
فهذه الأصول الخمسة بها يتم نظام العالم وبأضدادها يخرب العالم وبنظام العالم يتم نظام الأديان وبنظام الأديان يحصل النجاة من عذاب النيران والفوز بنعيم الجنان مع رضى الرحمن
فهذا بيان أنموذج من أصول السياسات الشرعيات وأما الرياضات
فيكفيك منها مثال واحد من الطيبات وذلك أنه عليه السلام قال المعدة بيت الداء والحمية أصل الدواء وأصل كل داء البرد ولقد سمع بعض أطباء الهند هذا الكلام فقال لم يترك نبيكم من الطب لأحد شيئا أو كلاما هذا معناه
وتتبع ما استفيد من جهته من العلوم بحر لا ساحل له وليس هذا موضع استيفائه ومقصود هذا الكلام أن النبي الرفيع عند الله العظيم القدر لديه كان أميا منسوبا إلى ولادة الأم ومعنى هذه النسبة أنه بقى على ما كان عليه أي لم يتعلم علما من أحد ولا اكتسبه ولا خط كتابا بيمينه وهذا معروف من حاله عند الموافق والمخالف وربما كان إذا أراد أن يحسب شيئا عدده بأصابعه فكان يقول أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يشير بيديه ثلاثا والشهر هكذا وهكذا ويخنس بإحدى أصابعه يعني في الثالثة ومع ذلك فقد أوتى جوامع الكلم وبدائع الحكم وعلوم الأولين فأخبر عن القرون الماضية والأمم السالفة بأخبار هي حق عند أرباب العلوم ولا ينازعه أحد منهم فيها بل إذا سمعوها أذعنوا للتصديق بها ولم يكذبوه في شيء منها وكذلك أخبر عن الأمم الآتية والوقائع المنتظرة أخبارا لا يتوصل إليها بإكتساب وإنما ذلك بإعلام العليم الوهاب فجاءت على نحو ما أخبر وما به بشر وأنذر
وسيأتي من ذلك مواضع يتبين فيها ذلك إن شاء الله تعالى
وهذا دليل من أدلة نبوته لا يخفى على متأمل وبالله التوفيق بل نقول أنه ليس في القوة البشرية والجبلة الإنسانيه الوصول من العلوم والمعقولات إلى مثل ما وصل هو إليه إذ قد علم أمورا لا يستقل العقل بدركها وأخبر بها وعند هذا يعلم أن ذلك بتوفيق إلهي ونور رباني ولأجل هذا قال الله له وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
وأما صبره وحلمه
فيكفيك من ذلك أنه كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجه فشق ذلك على أصحابه فقالوا له لو دعوت الله عليهم فقال إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ثم قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون
فانظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم إذ لم يقصر على السكوت عنهم حتى عفى ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله لقومي ثم اعتذر عنهم لجهلهم فقال فإنهم لا يعلمون وكذلك جاء أعرابي جلف جاف وكان على النبي ﷺ برد غليظ الحاشية فجذبه الأعرابي بردائيه جبذا شديدا حتى أثر حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال يا محمد احملني على بعير من مال الله الذي بيدك فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك فسكت النبي ﷺ وقال المال مال الله وأنا عبده ثم قال له لم فعلت بي ما فعلت قال كأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة فضحك رسول الله ﷺ ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى آخر تمر
وكذلك قال له آخر اعدل يا محمد فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فقال النبي ﷺ ويلك إن لم أعدل أنا فمن يعدل أيأمنني الله على خزائنه ولا تأمنوني وكذلك سحره لبيد بن الأعصم اليهودي فأعلمه الله بسحره وحيث هو فاستخرجه الله فبرئ فقيل له ألا تقتله فقال أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا
وكذلك قدمت إليه يهودية ذراع شاة مسمومة فأكل منه النبي عليه السلام فعافاه الله في ذلك الوقت من ضرر ذلك السم فاستحضر المرأة وقال لها ما الذي حملك على ذلك قالت أردت إن كنت كاذبا أرحت منك وإن كنت صادقا لا يضرك فعفى عنها
وقد قال بعض أصحابه ما رأيت رسول الله ﷺ متصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله وما ضرب خادما ولا أمرأة وجئ إليه برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك فقال له ﷺ لن ترع لن ترع ولو أردت ذلك لم تسلط علي
وجاءه زيد بن سعية يتقاضاه دينا له عليه فجبذ ثوبه عن منكبيه وأخذ بمجامع ثيابه وأغلظ له فانتهره عمر وشدد له في القول والنبي ﷺ يتبسم فقال رسول الله ﷺ أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي ثم قال لقد بقى من أجله ثلاثة وأمر عمر يقتضيه ما له ويزيده عشرين صاعا فكان سبب إسلامه
والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن يأتي على حصرها هذا الكتاب
وعلى الجملة فقد تواتر صبره على أذى قريش وسبه وإخراجه من بلده ونيل الأذى حتى بلغوا منه مبلغا لا يصبر عليه إلا من هو مثله فلما أظفره الله بهم قال لهم ما تقولون أني فاعل بكم قالوا خيرا أخ كريم وأبن كريم فقال أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين أذهبوا فأنتم الطلقاء
ولقد ثبت عنه أنه لما كذبه قومه جاءه جبريل عليهما السلام فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد أمر ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداه ملك الجبال وسلم عليه وقال مرني بما شئت إن شئت أطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله ﷺ أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا
ولقد هبط ثمانون رجلا من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله ﷺ فأخذوا فأعتقهم
ومثل هذا كثير
وعند هذا يتبين أنه ﷺ أحلم الناس عند مقدرته وأصبرهم على مكرهته وأنه امتثل أمر الله حيث قال له خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وحيث قال له تعالى فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين
وأما تواضعه ﷺ
على علو منصبه ورفعة رتبته فكان أشد الناس تواضعا وأبعدهم عن كبر وحسبك أن الله خيره بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا فاختار أن يكون نبيا عبدا فقال له إسرافيل عليه السلام عند ذلك فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق الأرض عنه وأول شافع
وقال أبو أمامة خرج علينا رسول الله ﷺ متوكأ على عصا فقمنا له فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا وقال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد وكان يركب الحمار ويردف خلفه ويعود المساكين ويجالس الفقراء ويجيب دعوة العبيد ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم حيث ما انتهى به المجلس جلس
وقال عليه السلام لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
وجاءته امرأة فقالت إن لي إليك حاجة قال لها اجلسي يا أم فلان في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضى حاجتك فجلس إليها حتى فرغت من حاجتها وكان يوم بني قريظة على حمار ومخطوم بحبل من ليف عليه أكاف
وكان يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب
وقد حج وكان عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم هذا كله وقد أقبلت عليه الدنيا بحذافيرها وألقت إليه أفلاذ كبدها فلم يلتفت إليها ولا عبأ بها وكان ﷺ في بيته في مهنة أهله يفلى ثوبه ويحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويعلف ناضحه ويقم البيت ويعقل البعير ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق وكانت الأمة من إماء أهل المدينة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت من المدينة حتى يقضى حاجتها
ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة فقال له هون عليك فاني لست بملك انما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد وقال أبو هريرة دخلت السوق مع النبي ﷺ فاشترى سراويل وقال للوازن زن وارجح وذكر قصته فقال فوثب إلى يد النبي ﷺ يقبلها فجذب يده وقال هذا تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك إنما أنا رجل منكم ثم أخذ السراويل فذهبت لأحمله فقال صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله
وأما عدله وصدقه ﷺ وأمانته وصدق لهجته
فكان ﷺ آمن الناس وأعدل الناس وأعف الناس وأصدقهم لهجة منذ كان اعترف بذلك محادوه وعداته وكان يسمى قبل النبوة الأمين وذلك لما جعل الله فيه من الأخلاق الصالحة
ومما يدل على ذلك أن قريشا لما بنيت الكعبة اختلفت فيمن يضع الحجر الأسود موضعه فحكموا بينهم أول داخل عليهم فإذا بالنبي محمد ﷺ داخلا فقالوا هذا محمد هذا الأمين قد رضينا به وذلك قبل أن يبعث
ولقد اجتمع الأخنس بن شريق مع أبي جهل يوم بدر وكلاهما مخالف وعدو له قد أجمع على قتله وقتاله فقال الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا فأخبرني عن محمد أصادق أم كاذب فقال أبو جهل والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط
ولقد سأل هرقل أبا سفيان وهو على شركه ومخالفته فقال له هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قال لا قال هرقل قد أعلم أنه لم يكن يدع الكذب على الناس ويكذب على الله
وقال النضر بن الحارث لقريش وهو عدوه ومخالفه قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاء به قلتم أنه كذاب وأنه ساحر، لا والله ما هو بساحر ولا بكذاب
فهذا كان حاله فاعترف أعداؤه بمناقبه ولا يقدرون على إنكار شيء من فضائله
من أدل دليل على عدله وعظيم تواضعه وفضله أنه كان قد انتهى به الأمر إلى أن تهابه الملوك وتفرق منه الجبابرة ومع ذلك فإنه كان يوفي لكل ذي حق حقه ويعرف لذي الفضل فضله حتى كان يقول إني أريد أن ألقى الله وليس لأحد منكم يطالبني بمظلمة في أهل ولا مال ولأجل ذلك أقاد عكاشة بن محصن من نفسه وذلك أنه ﷺ ضربه بقضيب في ظهره غير قاصد لضربه فقال له عكاشة إنك قد أوجعتني فأقدني معناه مكني منك حتى أضربك مثلما ضربتني فكشف له عن ظهره وناوله القضيب وقال اضرب فأكب عكاشة على ظهره يقبله وقال إنما أردت أن يمس جلدي جلدك
والأخبار في هذا أكثر من أن يحيط بها هذا الكتاب
وأما زهده ﷺ
فلقد كان أزهد الناس وأورعهم وحسبك شاهدا على ذلك ما علم من حاله ﷺ وذلك أنه أعرض عن الدنيا وزهرتها ولم يلتفت إلى شيء منها مع إقبالها عليه وسياقتها إليه وذلك أن الدنيا سيقت إليه بحذافيرها وترادفت عليه فتوحها وهو مع ذلك لا يعرج عليها ولا يلتفت إليها إلى أن مات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله وهو يدعو ويقول اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ويقول اللهم أحييني مسكينا وأمتني مسكينا وأحشرني في جملة المساكين ولقد صحت الأخبار عنه أنه ما شبع ثلاثا تباعا حتى مضى لسبيله ولقد روى أنه ما شبع من خبز الشعير يومين متواليين وما ترك رسول الله ﷺ دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا وما ترك إلا بغلته وسلاحه وأرضا جعلها صدقة وكان يقول ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي ثالثة وعندي منه دينارا إلا شيئا أرصده لدين ولقد قال ﷺ عرض على ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب بل أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ولقد حكى عنه جماعة من أصحابه أنه كان يبيت هو وعياله الليالي المتتابعة طاويا لا يجدون عشاء وقال أنس خادمه ما أكل رسول الله ﷺ على خوان ولا في سكرجة ولا خبز له مرقق ولا رأى شاة عبيطا قط
ودخل عليه عمر بن الخطاب فوجده مضطجعا على رمل حصير قد أثر في جنبه قال عمر فنظرت في بيته فلم أر فيه شيئا فبكيت لما رأيت برسول الله ﷺ من الحاجة والفاقة فقال ما شأنك يا ابن الخطاب فقلت يا رسول الله ذكرت كسرى وقيصر وما أعطاهما الله تعالى فقال أفي شك أنت يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة وقالت عائشة لم يمتلئ جوف نبي الله شبعا قط ولم يبث شكوى إلى أحد وكانت الفاقة أحب إليه من الغناء وإن كان ليظل جائعا يلتوي طول ليله من الجوع فلا يمنعه صيام يومه ولو شاء سأل ربه كنوز جميع الأرض وثمارها ورغد عيشها ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع وأقول نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بما قوتك فيقول يا عائشة مالي وللدنيا إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرمهم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي أن ترفهت في معيشتي أن يقصرني غدا دونهم وما شيء هو أحب إلى من اللحوق بإخواني وأخلاني قالت فما أقام بعد ذلك إلا شهرا حتى توفى صلوات الله عليه
ولقد شكى إليه بعض أصحابه الجوع وكشف له عن بطنه عن حجر فكشف له رسول الله ﷺ عن بطنه عن حجرين ﷺ تسليما وهذا معلوم قطعا من أحواله لا يقدر على جحده أحد من أعدائه ولا أوليائه
وأما كثرة جوده وكرمه
فشيء معروف من شيمه فلقد تواتر أنه كان أكرم الناس وأجودهم حتى أنه ما سئل قط شيئا فمنعه إذا كان ذلك الشيء المسئول مما لا يمنع شرعا
قال ابن عباس رضي الله عنهما كان النبي ﷺ أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان وكان أجود بالخير من الريح المرسلة
ولقد سأله رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع ذلك الرجل إلى قومه فقال أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى فاقة وأعطى أناسا كثيرين مائة مائة من الإبل وأعطى صفوان مائة ثم مائة وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله وسيق له ﷺ تسعون ألفا فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منه
وكان ﷺ لا يرد سائلا جاءه وربما كان السائل لا يجد عنده شيئا فيأخذ له بالدين ويعطيه السائل حتى يقضيه النبي ﷺ ولقد جاءه رجل فسأله فقال ما عندي شيء ولكن أبتع على بدين فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال له عمر ما كلفك الله مالا تقدر عليه فكره رسول الله ﷺ ما قاله عمر فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا فتبسم وعرف بشر ذلك القول في وجهه وقال بهذا أمرت
ولقد كان ﷺ يقبل الهدية وإن لم يحتج إليها ويثيب عليها بأضعافها روى أن معاذ بن عفراء أهدى للنبي ﷺ طبقا فيه رطب وقثاء فأعطاه النبي ﷺ ملء كفه ذهبا وحليا وكان ﷺ لا يدخر شيئا لغده لنفسه وقد ثبت عنه أنه كان يقول ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمضي على ثالثة وعندي منه دينارا إلا شيئا أرصده لدين وما سيق له قط شيء يقسم ذهبا كان أو غيره إلا أمر بقسمه ولم يبت عنده
وهكذا كان المعروف من خلقه قبل مبعثه وكان هذا معروفا عند قومه الذين نشأ فيهم حتى لقد قال له ورقة بن نوفل وكان امرءا تنصر وقرأ الكتب العبرانية وكان قد تفطن واستشعر بنبوته عليه السلام لما رأى من العلامات التي علمها من الكتب المتقدم فقال له إنك لتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق
وهذا كله من أخلاقه معروف حاصل لا يتمارى فيه منصف عاقل
وأما وفاؤه بالعهد
فلا يتمارى فيه إلا خسيس وغد فقد كان ﷺ أحفظ الناس بعهد وأوفاهم بميثاق ووعد وأحسنهم جوارا وأصدقهم قولا وأخبارا روى عن عبد الله ابن أبي الحمساء أنه قال بايعت النبي ﷺ ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه فقال يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك وذلك للميعاد الذي كان بينهما وكان المعلوم من سيرته ﷺ أنه كان يعقد العهود والمواثيق بينه وبين عداته وغيرهم فيفي بها ويؤذنهم بإنقضائها عند تمامها ولم يغدر قط في شيء منها ولقد كان هذا معروفا عند أعدائه كما هو معروفا عند أوليائه
ولقد روى أن هرقل ملك النصارى لما سأل كفار قريش عن صفات النبي ﷺ قال فهل يغدر قالوا له لا فقال لهم كذلك الرسل لا تغدر وكيف يغدر ﷺ وهو قال ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به يقال هذه غدرة فلان ولقد جاءه المغيرة بن شعبة مسلما وجاء معه بمال قوم من الجاهلية كان قد صحبهم ثم قتلهم وأخذ أموالهم فقال له النبي ﷺ أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء وقال ﷺ وقد عرض له بعض أصحابه بغدر المشركين دعني لهم ونستعين الله عليهم
وفي خبر الجلندي ملك عمان لما بلغه أن رسول الله ﷺ يدعوه إلى الإسلام فقال الجلندي والله لقد دلني على أن هذا نبي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ويفي بالعهود وينجز الموعود أشهد أنه نبي
يا هذا تأمل بعقلك! أين هذا مما يحكى اليهود والنصارى عن موسى عليه السلام في كتبهم من أن موسى عليه السلام لما أراد الخروج من مصر استعار حلي بني إسرائيل ثم فر به ليلا
وعند الانتهاء إلى هذا المقام يعلم العاقل ما في كتب القوم من الأباطل والأوهام وموسى عليه السلام مبرأ عن النقائص والآثام ومن وفائه بالعهد وقيامه في حفظه بالحد أنه قدم عليه وفد النجاشي فقام ﷺ يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه نحن نكفيك فقال إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم وقال ﷺ حسن العهد من الإيمان
وحقيقة الوفاء بالعهد تتميم ما ربط من العقد ومراعاة ما تقدم من الود ومكافأة من له يد وقد كانت هذه الخصال اجتمعت فيه لا ينازع في ذلك أحد وإن كان يناوئه
وأما حسن سمته وتؤدته وكثير حيائه ومروءته
فشيء لا يجحد ولا يجهل ولا يلحقه في شيء من ذلك أحد وإن بدل غاية جده ولم يكسل فهو بالحقيقة كما قال الشاعر الأول
سعى بعدهم قوم لكي يدركونهم... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
كان ﷺ كثير الصمت والوقار طويل الإطراق والإعتبار تكسو هيبة وقاره جسائه حتى إذا جلسوا بين يديه كأن على رؤوسهم الطير إعظاما له وهيبة منه، مجلسه أوفر المجالس لا يسمع فيه ضحت الأصوات ولا اختلاط اللغات ليس فيه مراء ولا جدال ولا للهجر والفحش فيه مجال لا توبن في مجلسه الحرم ولا يغض فيه من الأقدار والقيم بل كان مجلس علم
وأصحابه يعظمون في مجلسهم معه حرمات الله ويتعلمون منه أحكام الله فتارة يعلمهم بأمور الآخرة كأنهم ينظرون إليها وأخرى يعلمهم أحكام شريعته كي يعملوا بها
قال ابن أبي هالة كان سكوته على أربع على الحكم والحذر والتقوى والتفكر يعلم الجاهل المسترشد ويدنيه ويطرد المعاند المتكبر ويقصيه يتواضع للفقراء ويتواضع لديه الأمراء
كان ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها الرفيعة الشريفة في قومها كان إذا سمع ما يستحيى منه ظهر نور الخفر على وجهه ولذلك مر ﷺ على رجل وهو يعتب أخاه على الحياء فقال ﷺ دعه فإن الحياء من الإيمان وقال الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير وقال استحيوا من الله حق الحياء وكان ﷺ ضحكه تبسما ولم ير قط في ضحكه مقهقها ولا مترنما
كان كلامه فصلا يفهمه كل من سمعه وربما تكلم بالكلمة ثلاثا حتى تفهم عنه وكان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه وكان إذا مر بقوم يسلم عليهم ثلاثا وكان ﷺ يحافظ على مروءته وعلى استقامة حالته وتحسين هيئته يمشي هونا كأنما ينحط من صبب إذا مشى مشى مجتمعا وإذا جلس جلس محتبيا وقرب إليه طعام ومتكأ فقال لا أتكئ إنما آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد
كان ﷺ يحب الطيب والرائحة الحسنة ويستعملها ويحض عليهما ويقول إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويأمر بالسواك وغسل البراجم والدواجب وإستعمال خصال الفطرة ويأخذ بذلك ويعمل به
وكان ﷺ لكثرة محافظته على جلال مروءته إذا عطس غطا وجهه وخفض بها صوته
وما عسى أن يقول القاص فيمن جمعت فيه كل الفضائل والمآثر بل غاية الفصيح الأثر أن ينتهي إلى ما قاله الشاعر
ماذا أقول وقولي فيك ذو حصر... وقد كفيتني التفصيل والجملا
إن قلت ما زلت مرفوعا فأنت كذا... أو قلت زانك دى فهو قد فعلا
وأما شجاعته ونجدته
فكان منها ﷺ بالمكان الذي لا يجهل وحظه منها الحظ الأوفى الأفضل قد كان مارس الضراب ووقف مواقف الصعاب لا يبالي بكثرة العدد ولم يفر قط أمام أحد وما من شجاع إلا وقد أحصيت له فرة وإن كان له بعدها كرة إلا هو ﷺ فلم يدبر قط منهزما ولا فارق مكرها ملتزما
وكان علي بن أبي طالب يقول كنا إذا اشتد البأس وحميت الحرب اتقينا برسول الله ﷺ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتنا يوم بدر نلوذ برسول الله ﷺ وهو أقربنا إلى العدو ولقد كانت الصحابة تقول إن الشجاع منا للذي يقوم بجانبه يستتر به
وقيل ل أنس أفررتم يوم حنين عن رسول الله ﷺ فقال لكن رسول الله ﷺ لم يفر
ثم قال رأيته على بغلته البيضاء وأبو سفيان آخذا بلجامها والنبي ﷺ يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
قيل فما رؤى يومئذ أحد كان أجرأ منه ولا أشد وقد روى عنه أنه نزل عن بغلته متوجها نحو العدو وقال العباس ابن عبد المطلب لما التقى المسلمون والكفار يوم حنين ولى المسلمون مدبرين فطفق النبي ﷺ يركض بغلته نحو الكفار
قال العباس وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه ثم نادى بالمسلمين وذكر الحديث
وقال أنس كان النبي ﷺ أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق أناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله ﷺ راجعا قد سبقهم إلى الصوت وقد استبرا الخبر على فرس عرى لأبي طلحة وفي عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا لن تراعوا وإنا وجدناه ليجرا يعنى القوس لكثرة جرية
وقال ابن حصين ما لقى رسول الله ﷺ كتيبة إلا كان أول ضارب ولما رآه أبي بن خلف يوم أحد وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجا
وقد كان قال للنبي ﷺ حين افتدى يوم بدر عندي فرس أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها فقال له النبي ﷺ بل أنا أقتلك إن شاء الله فلما رآه أبي يوم أحد شد أبي فرسه على رسول الله ﷺ فاعترضه رجال من المسلمين فقال النبي ﷺ دعوه خلوا طريقه وتناول النبي ﷺ الحربة من الحارث ابن الصمة فانتفض بها انتفاضة فتطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض ثم استقبله النبي ﷺ ثم طعنه بها طعنة تدأدأ منها على فرسه وقيل بل كسر ضلعا من أضلاعه فرجع إلى قريش يقول قتلني محمد وهم يقولون لا بأس بك فقال لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم أليس قد قال لي أنا أقتلك إن شاء الله والله لو بصق على لقتلني فمات ب سرف في قفولهم إلى مكة
ومما يدلك على عظيم شجاعته
أنه يوم أحد فر عنه الناس فاستقبل العدو في نفر قليل من أصحابه فكسر عتبة بن أبي وقاص رباعيته اليمنى وجرح شفته السفلى وشجه في جبهته عبد الله ابن شهاب الزهري وضرب عمرو بن قمئة وجنته فأدخل حلقتين من حلق المغفر في وجنته وهو في ذلك كله لا يزول عن موضعه ولا يولي ظهره ولم يزل كذلك حتى أنزل الله عليه نصره حين رأى صبره
وفي ذلك الموضع وفي تلك الحال نهض نفر من أصحابه لقتال العدو فوافقوهم وقاوموهم مع كثرة عدوهم فانفدت مقاتل واحد منهم فوضع رسول الله ﷺ خد ذلك الرجل على قدمه حتى مات وهذا يدلك على غاية شجاعته وكثرة الجلد وقلة المبالاة بالعدو ولقد كانت غزوة أحد هذه التي جرى فيها ما ذكر من أول الشواهد على نبوته ﷺ وذلك أنه لما التقى هو والمشركون قال النبي ﷺ لبعض أصحابه وكانوا رماة انضحوا عنا الخيل بالنبل لا يأتونا ما خلفنا واثبتوا مكانكم كانت لنا أو علينا
وقد كان أمر عليهم عبد الله بن جبير ثم إن رسول الله ﷺ التقى هو والمشركون فهزموا المشركين وولوا أدبارهم حتى سقط لواءهم صريعا فلما رأى أصحاب عبد الله الهزيمة قالوا الهزيمة الهزيمة تعالوا بنا نصيب مما تصيبه الناس فقال لهم عبد الله ألم يقل لكم رسول الله ﷺ لا تبرحوا من مواضعكم فقالوا له قد هزم الله العدو فلم يلتفتوا كلامه فزالوا عن مواضعهم فلما زالوا عن مواضعهم عاقهم الله بأن رجع العدو عليهم فقتل منهم من قتل لمخالفتم أمر رسول الله ﷺ ومحص الله في تلك الغزوة المؤمنين ومحن الكافرين والمنافقين
وفي تلك الغزوة فقئت عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله ﷺ فكانت أحسن عينيه وسيأتي ذكر هذا وماشاكله بعد هذا إن شاء الله تعالى
وأما خوفه من الله تعالى واجتهاده في عبادته
فقد بلغ من ذلك إلى حد لم يبلغه أحد من الخليقة وذلك أن الله تعالى كلفه من وظائف العبادات مالم يكلف أحدا على الحقيقة وهو مع ذلك لا يقصر في شيء منها بل كان يبذل غاية إجتهاده ووسعه في أدائها فمن العبادات التي كلفها الله له تحمل أعباء الوحي ومشقة ثقله فلقد كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا
ولأجل هذا قال الله تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقال له فإذا قرأناه فاتبع قرآنه
وهذه مشقة لا يعرفها على التحقيق إلا الرسل ولأجل عظم هذا الأمر جاءه جبريل عليه السلام وهو يتعبد بغار حراء وذلك قبل أن يوحى إليه فقال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ فأخذه فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال اقرأ فقال ما أنا بقارئ ففعل به مثل ذلك مرتين فقال له في الثالثة اقرأ باسم ربك الذي خلق الآيات فقرأها ثم رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال زملوني فدثروه فأنزل الله عليه وهو على تلك الحال يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر الآيات
ثم بعد قبول الوحي أمر بتبليغه وتبيينه للناس والصبر على ما يصيبه من أذى قومه فكان ﷺ يعرض نفسه ودينه على قبائل العرب وعلى وفودها إذا قدموا مكة لمواسم الحج فيعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم ويظهر خلافهم ويوبخهم على جهالاتهم فيردون عليه قوله ويكذبونه ويسبونه ويؤذونه بأقصى ممكنهم من أنواع الأذى فيصبر على ذلك ويحتسب ما يلقاه على الله
فلسان الحال ينشد والأنفاس خوفا من التقصير في أمر الله تتصعد.
لا أبالي إذا رضيت إلهي... أي أمر من الأمور دهاني
فلم يزل راضيا صابرا على أنواع البلاء حتى كان لسان حاله يقول
عذب التعذيب عندي وحلا
فأقام على ذلك بمكة ثنتي عشرة سنة يدعو الناس من غير قتل ولا قتال وذلك كله ليظهر الإسلام وتنتشر دعوته لئلا يكون لأحد حجة على الله ورسوله
وبعد ذلك أمر بالهجرة من مكة إلى المدينة فقارق أهله وعشيرته وحاله وماله وولده وبلده ولم يعظم عليه مفارقة شيء من ذلك في ذات الله فترك كل ذلك إلى الله فوقع أجره على الله
فلما حل بالمدينة افترض الله عليه القتال فقاتل في ذات الله جميع من كفر بالله غير مقصر في ذلك ولا مفرط بل جادا مجتهدا حتى أظهر الله دينه وإن رغمت أنوف الجاحدين وفي كل ذلك الزمان كان يقوم بوظائف الشريعة وعباداتها عبادة عبادة فصلى حتى تورمت قدماه وانتفخت وصام حتى كان القائل يقول لا يفطر لكثرة ما كان يرى من صومه ووصاله وكان يذكر الله ويعظمه ويمجده ويشكره على كل أحواله من غير تقصير ولا فتور ولا تشغله عبادة عن عبادة ولا عمل زمان عن عمل زمان آخر
كان عمله دائما وكذلك كان يقول ﷺ خير العمل أدومه فكان يراعي أنفاسه مع الله ولا يضيع شيئا مما كلفه خوفا من الله فكان ربما يتفكر في عظيم أمر الله وعزة سلطانه فيستعظم ما يعرف من هول المطلع فكان يقول والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية وكان يقول يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله وما تلذذتم بالنساء على الفرش لوددت أني شجرة تعضد ولذلك كان يقول إني أرى مالا ترون وأسمع مالا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله
وهذا كله يدل على كثرة معرفته بالله تعالى وشدة خوفه منه ورهبته له وكذلك كان يبكي ويسمع لخوفه صوت كصوت المرجل من البكاء وكذلك صح النقل عنه بأنه كان متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة وكان يقول يا أيها الذين آمنوا توبوا فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة مائة مرة
وروى عن علي بن أبي طالب أنه قال سألت رسول الله ﷺ عن ستة فقال المعرفة راس مالي والعمل رأس ديني والحب أساسي والشوق مركبي وذكر الله مجدي والزهد حرفتي واليقين قوتي والصدق شفيعي والطاعة حسبي والصبر هادي خلقي وقرة عيني في الصلاة
وفي حديث آخر وثمرة فؤادي في ذكره وغمى لأجل أمتي وشوقي إلى ذي الجلال
ووصف خوفه يطول ومعرفة ذلك من حاله لا ينكره عليم ولا جهول إذا كان من أهل الإنصاف والعقول
وعلى الجملة فمناقبه الشريفة لا تحصى وما خص به من الأخلاق الكريمة عديد الحصى كيف لا وقد قال الله تعالى له وإنك لعلى خلق عظيم وما عظمه العظيم فهو عظيم وكيف لا يكون ذلك وقد بعثه الله تعالى متمما لمكارم أخلاق الأولين وقد خصه بصفات جميع النبيين فلو جاز أو تصور أن يعبد أحد من البشر لكمال أخلاقه وكرم أوصافه وطيب أعرافه لكان هو إذ قد أعطى من ذلك ما لم يعطه أحد من البشر ولا دخل لهم تحت كسب ولا قدر