الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/النوع الرابع

​الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد  المؤلف القرطبي
النوع الرابع


النوع الرابع عدل

في الاستدلال على نبوة محمد بجملة من الآيات الخارقة للعادات

نذكر في هذا النوع إن شاء الله جملة كثيرة من آياته الواضحة وبراهينه المصدقة الراجحة فنقول وبالله التوفيق

إن نبينا محمدا أوتى من المعجزات وجمع له من الآيات ما لم يجمع لأحد من الأنبياء قبله ولم يعط أحد مثله فكان لذلك أوضحهم دلالة وأعمهم رسالة ولذلك لم يعط الله نبيا من الأنبياء معجزة إلا أعطى نبينا محمدا مثلها أو أوضح منها أو ما يقاربها وسترى ذلك عيانا إن شاء الله تعالى ولكنا إن ذهبنا نذكر ما نقل إلينا من آياته وأوضح معجزاته طال الكتاب وفي القليل الواضح كفاية لذوى الألباب فلنقتصر من ذلك على ما تناقله علماء الأمصار والعدول من نقلة الأخبار مما صح نقله وأشتهر ذكره وجمله

ونحن نذكر ذلك في فصول

الفصل الأول عدل

الفصل الأول في انشقاق القمر آية له فنقول نقل خلفنا عن سلفنا النقل الذي لا يشك فيه أن كفار قريش سألوا رسول الله أبة وهو بمنى فأراهم انشقاق القمر فصار فرقتين حتى رأوا حبلى حراء بينهما وقال ابن مسعود صار فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة تحته فقال النبي اشهدوا فآمن وصدق من أراد الله نجاته وقال كفار قريش هذا سحر مستمر فقال أبو جهل هذا سحر فابعثوا إلى أهل الآفاق حتى ننظر أرأوا ذلك أم لا فأخبر أهل مكة أنهم رأوه منشقا

فأنزل الله تعالى على نبيه محمد اقتربت الساعة وانشق القمر وأن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر وهذا الحديث قد نقله الجم الغفير والعدد الكثير منهم من الصحابة عبد الله بن مسعود وأنس وابن عباس وأبن عمر وحذيفة وعلى وجبير بن مطعم وغيرهم رضي الله عنهم

وقد نقل إلينا في القرآن نقلا متواترا محصلا للعلم يخبر عن ذلك المعنى من الانشقاق كما تلوناه آنفا فصحت الآية وعلمت المعجزة والحمد لله

فإن قال غبي جاهل أو معاند مجادل كيف يصح هذا ولو كان هذا لم يخف على أهل الأرض إذه هو شيء ظاهر لجميعه ولو ظهر إليهم انتقل عنهم ولكان مشهورا منقولا على التواتر

فالجواب أن نقول هذا الإستبعاد الوهمي يندفع بأيسر أمر وذلك أن هذه الآية كانت آية ليلية والناس على عادتهم المستمرة الغالب عليهم النوم ومن كان منهم منتبها كان منهم من قد انصرف عن ذلك ببعض أشغالهم وكان منهم أيضا من رآه على ما حكيناه عن أهل آفاق مكة وأيضا فلعله إنما كان ذلك في أول طلوع القمر ولا شك أن الناس تختلف رؤيتهم للقمر وغيره من الكواكب بحسب اختلاف ارتفاع البلاد والأقاليم وإنخفاضها فليس كل من في معمور الأرض يراه في وقت واحد بل يختلف ذلك في حقهم فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على آخرين وقد يطلع على قوم لا يشاهده الآخرون وقد يحول بين قوم وبينه سحاب أو جبال

ولهذا تجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض ويكون في بعضها جزئية وفي بعضها كلية وفي بعضها لا يعرفها إلا المشتغلون بعلم ذلك ولا يحس بها غيرهم لا سيما وهذه آية كانت بالليل والعادة من الناس ما تقدم من الهدوء والسكون وإيجاق الأبواب وقطع التصرف ولا يكاد يعرف شيئا من آيات السماء إلا من رصد وأهتبل

وكثيرا ما يحدث الثقات بعجائب يشاهدونها من أنوار وشهب ونجوم طوالع عظام تظهر في أحيان من السماء ولا علم عند أحد غيرهم منها

وانشقاق القمر من هذا القبيل إذ لم يكن دائما وإنما كان يسيرا في زمن قريب ثم لا يبعد أن يكون الله تعالى صرف الناس في تلك الساعة عن النظر إليه لتختص هذه الآية بمشاهدة أهل مكة ومن جاورها من أهل آفاقها فيكون صرف الناس عن ذلك من قبيل خوارق العادات وذلك أوضح في المعجزات فقد صح ما رمناه وانفصلنا عما ألزمناه والحمد لله

وعند الوقوف على هذه المعجزة الطاهرة والآية الباهرة تعلم أنها أعظم من انشقاق البحر الذي خص الله تعالى به موسى عليه السلام وان كان عظيما اذ انشقاق البحر لم يكن قطعا في معظم البحر من احدى ضفتيه إلى الأخرى وإنما كان قطع طريق من بحر القلزم إلى مفارشود والقمر انقسم فرقتين وصار شطرين

الفصل الثاني عدل

الفصل الثاني في حبس الشمس آية له

روى أئمتنا وأهل العدالة منا أن النبي كان يوحي إليه ورأسه في حجر على فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فلما ارتفع الوحي عن رسول الله قال له يا علي أصليت العصر قال لا فقال رسول الله اللهم أنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد قال الراوي فرأيتها غربت ووقفت على الجبال والأرض وذلك بالصهباء في خيبر

ذكر هذا الحديث الطحاوي من طريقين قال عياض وهذان الطريقان ثابتان رواتهما ثقاة حكاه البكري

ومن هذا القبيل ما ذكره يونس بن بكير في زيادة المغازي روايته عن ابن اسحق لما أسرى برسول الله وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير التي رأى في سراه قالوا له متى تجيء فقال لهم يوم الأربعاء فلما كان يوم الأربعاء الموعود به أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم تجيء فدعا رسول الله ربه فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس

وهذه الآية أعظم من آية يشوع بن نون فإنكم تقولون إن يشوع استوقف الشمس فوقفت وفي بعض كتبكم إنما استوقف ضياها ونبينا عليه السلام استرجعها فرجعت واستزاد ساعة في النهار فزيدت ذلك تقدير العزيز العليم

فإن اعترض معترض على معجزة نبينا بشيء فإن كان كتابيا عارضناه بمعجزة يشوع فبالذي ينفصل عن معجزة يشوع بمثله ننفصل عما اعترض به وإن كان طبيعيا غير متشرع انتقل الكلام معه إلى مواضع أخر ليس هذا موضع ذكرها

الفصل الثالث عدل

الفصل الثالث نبع الماء وتكثيره معجزة له

وهذا الفصل نوعان نوع نبع له الماء من بين أصابعه ونوع آخر نبع له الماء من غير أصابعه

فلنبدأ بالأول فنقول روى الجم الغفير والعدد الكثير أن النبي خرج في بعض أسفاره وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فقال رسول الله هل من أحد منكم ماء فأتى بماء في إناء فوضع يده في ذلك الإناء وسمى الله قالت الصحابة فرأينا الماء يخرج من بين أصابعه فتوضأ الناس حتى توضأوا كلهم قيل لأنس كم تراهم قال نحوا من سبعين وقد اتفق له مثل هذا مرة أخرى وكانوا نحوا من ثلاثة مائة

وكذلك عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله بين يديه ركوة فتوضأ منها وأقبل الناس نحوه وقالوا ليس عندنا ماء إلا ما في ركوتك فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون وكانوا خمس عشرة مائة قالوا ولو كنا مائة ألف لكفانا

فهذه ثلاثة مواطن وقد روى عنه نحو هذا من طرق كثيرة لا يتطرق لها الكذب ولم يردها أحد من أهل العقل والأدب لكونها وقعت في جموع كثيرة وتناقلها جماعات عديدة يدينون تحريم الكذب ويرونه أقبح شبهة وأشنع سبب بل يبادرون إلى ذم الكاذب وإظهار فضيحته ولا يقرون شيئا من الكذب بحال عند معرفته فهذا هو النوع الأول

وأما النوع الثاني فهو ما تواردت به الروايات عن الأئمة الأثبات من ذلك ما اتفق له في غزوة تبوك وذلك أنهم وردوا عينا بتبوك وهي تبض بشيء من ماء مثل الشراك فغرفوا من العين بأيديهم حتى اجتمع منه شيء قليل ثم غسل النبي فيه وجهه ويديه وأعاده فيها فجرت بماء كثير فاستقى الناس هذا حديث معاذ

وقال ابن إسحاق فانخرق من الماء ماله حس كحس الصواعق ثم قال رسول الله يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا وكذلك صنع ذلك الموضع جنانا بعده وهذا من باب الأخبار عن الغيب

ومن ذلك ما اتفق له بالحديبية أيضا وذلك أنهم أتوا الحديبية وهم أربع عشرة مائة وبئرها لا تروي خمسين شاة

قال البراء وسلمة بن الأكوع فنزحناها فلم نترك فيها شيئا فقعد رسول الله على بئرها فبصق ودعا وأخرج سهما من كنانته فوضعه في البئر فجاشت العين بماء كثير فأرووا أنفسهم وركابهم وهم ألف وأربع مائة

ومن ذلك ما روى قتادة صاحب رسول الله أن الناس شكوا إليه العطش في بعض أسفاره فدعا بالمبيضأة فجعلها في ضبنه ثم التقم فمها فالله أعلم نفث فيها أم لا فشرب الناس حتى رووا وملأوا كل إناء معهم وكانوا اثنين وسبعين رجلا

ومن ذلك الحديث المشهور عن عمران بن حصين وذلك أنهم كانوا مع رسول الله في بعض أسفاره فأصابهم عطش شديد فوجه رجلين من أصحابه وأعلمهم أنهم يجدون امرأة بمكان كذا لمكان معين عنيه لهم معها بعير عليه مزادتا ماء فوجداها بالموضع الذي عين لهم على الصفة التى ذكر لهم فجاءا بها الى النبي فأخذ من ماء المزادتين وقال فيه ماشاء الله أن يقول ثم أعاد الماء في المزادتين ثم فتحهما وأمر الناس فملأوا أسقيتهم حتى لم يدعوا شيئا إلا ملأوه قال عمران ونحيل لي أنهما لم يزدادا إلا إمتلاء ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملأ ثوبها ثم قال لها اذهبي فانا ما نقصناك من مائك شيئا ولكن الله سقانا

ومن ذلك حديث عمر في حيش العسرة وذكر ما أصابهم من العطش حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصبر فرثه فيشربه فرغب أبو بكر للنبي في الدعاء فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت فملأوا ما معهم من آنية ولم يجاوز ذلك المطر العسكر

ومن ذلك حديث عمرو بن شعيب أن أبا طالب قال للنبي وهو ردفه بذي المجاز عطشت وليس عندي ماء فنزل النبي فضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال له اشرب

والحديث في هذا النوع كثير وفيما ذكرناه كفاية وإذا تأمل العاقل المنصف هذا الباب علم أن نبينا محمد أوتى مثل معجزة موسى التي هي نبع الماء من الحجر كما ذكرنا في هذا النوع الثاني وزاد عليه نبع الماء من بين أصابعه كما ذكرناه في النوع الأول كان إنفجار الماء من اللحم أعجب من إنفجاره من الحجارة فإن رام اليهودي أو النصراني تشكيكا في شيء من معجزات نبينا محمد عليه السلام أو إلحادا أو ادعى أن هذا من قبيل السحر عارضناه بمثل مقالته في معجزة موسى فبالذي ينفصل به بعينه ننفصل

بل نقول إن طرق المطرق الجاهل شيئا من هذه الأوهام والتهم إلى هذه المعجزات لمعجزة موسى في انشقاق الحجر أقبل للتهم في حق الجاهل على ما روت اليهود

وذلك أنهم رووا أن الحجر الذي كان تنفجر منه الأنهار إنما كان حجرا واحدا عمله موسى حيث صار وهذا محل تهمة للجاهل وأما العالم فلا يبالي بهذه الأوهام ولا يطرق إلى العلم التهم

ومعجزات نبينا محمد إنما كان يقول إئتوني بإناء أي إناء وبماء أي ماء كان كما قدمنا ولسنا ننكر إعجاز ما أتى به موسى بل نحن أولى وأحق بموسى منكم وأعرف بقدره وبمحله عند ربه وإنما هذا لهم على جهة الإلزام حتى يزعنوا بصحة معجزات نبينا محمد عليه السلام

الفصل الرابع عدل

الفصل الرابع تكثير الطعام معجزة له

من ذلك ما تضافرت به الروايات واشتهر عند أهل الديانات ونقله العدول الثقات من حديث أبي طلحة أن النبي أطم ثمانين أو سبعين من أقراص شعير جاء بها أنس تحت ابطه وذلك أنه أمر بها ففتت وقال فيها ما شاء الله أن يقول

وكذلك أطعم يوم الخندق ألف رجل من صاع من شعير وعناق

قال جابر بن عبد الله فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز وكان رسول الله بصق في العجين والبرمة ودعا بالبركة وكذلك صنع أبو أيوب الأنصاري لرسول الله ولأبي بكر من الطعام زهاء ما يكفيهما فقال له النبي ادع ثلاثين من أشراف الأنصار فدعاهم فأكلوا حتى تركوه ثم قال ادع ستين فأكلوا حتى شبعوا ثم قال ادع سبعين فأكلوا حتى تركوه وما خرج منهم أحد حتى أسلم

قال أبو أيوب فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلا

وكذلك حديث سمرة بن جندب أن النبي أتى بقصعة فيها لحم فتعاقبوها من غدوة حتى الليل يقوم قوم ويقعد آخرون

ومن ذلك حديث عبدالرحمن بن أبي بكر قال كنا مع النبي ثلاثين ومائة وذكر في الحديث أنه عجن صاع من طعام وصنعت شاة فشوى سواد بطنها قال وايم الله ما من الثلاثين والمائة إلا وقد حز له حزة من سواد بطنها ثم جعل منها قصعتين فأكلنا أجمعين وفضل في القصعتين وحملته على البعير

ومن ذلك الخبر المشهور في غزاة تبوك وذلك أنهم أصابتهم مجاعة شديدة حتى هموا بنحر حمائلهم فجمع النبي ما بقى من أزواد القوم فكان الرجل يجيء بكف ذرة وبكف تمر وبسط نطعا حتى أجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعى عليها رسول الله بالبركة قال خذوا في أوعيتكم فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه فقال عند ذلك رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة

ومن ذلك خبره في تزويج زينب وذلك أنه أمر خادمه أنسا أن يدعو له الناس فدعاهم فاجتمعوا حتى امتلأ البيت والحجرة وقدم إليهم تورا من حجارة فيه حيس أهدته له أم سليم فقال لهم رسول الله ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه قال فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ودخلت طائفة أخرى حتى أكلوا كلهم وكنت قال أنس لم أدع إنسانا إلا دعوته قال أنس ثم قال لي ارفع التور فرفعته فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت

ومثل هذا تقوله في قدح لبن أهدى له

ومن هذا حديث مزود أبي هريرة وذلك أن الناس أصابتهم مجاعة شديدة في بعض أسفاره فقال النبي لأبي هريرة هل من شيء قال قلت نعم شيء من تمر في المزود قال فآتى به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة

ثم قال ادع عشرة فدعوتهم فأكلوا حتى شبعوا ثم لم يزل كذلك حتى أطعم الجيش كله وقال لي خذ ما جئت به فأخذت فأكلت منه وأطعمت حياته وحياة أبي بكر وعمر إلى أن قتل عثمان فانتهب مني فذهب قد قيل أن ذلك التمر إنما كان بضع عشرة تمرة

والأخبار في هذا الباب كثيرة يطول الكتاب بنقلها على أنه لا يجهل شيء منها بل هي عندنا معروفة منقوله مشهورة موصوفة

وهذا النوع من المعجزات هو من قبيل ما نقلت النصارى عن عيسى عليه السلام في الإنجيل وذلك أنهم زعموا أنه أطعم من خمس خبز وحوتين خمسة آلاف رجل سوى النساء وهذا أيضا من قبيل ما ثبت أن موسى عليه السلام أطعم بني إسرائيل بالمفاز المن والسلوى

فإن اعترضت اليهود أو النصارى على هذا النوع من معجزات نبينا عليه السلام عارضناهم بذلك في معجزات أنبيائهم وبالذي ينفصلون عن ذلك به بعينه ننفصل عن معجزات نبينا

وعند الوقوف على هذه الفصول تعلم أن نبينا محمدا أعطاه الله تعالى من المعجزات مثل ما كان أعطى الأنبياء قبله وزاده على ذلك وسنزيد هذا وضوحا حتى يتبين كون المعاند الجاحد جاهلا وقيحا

الفصل الخامس عدل

الفصل الخامس في كلام الشجر وكثير من الجمادات وشهادتها له بالنبوة

وهذا الفصل بكثر حكاياته وتتسع رواياته لكثرة عدد ماروى في ذلك وصحة ما اتفق هنالك وهذا الفصل نوعان

النوع الأول

قد وردت الأخبار ونقل عن الأئمة العدول الأخيار أن النبي كان في بعض غزواته فدنى منه أعرابي فقال له يا أعرابي أين تريد فقال أهلي فقال له هل لك في خير منهم قال ما هو قال تشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال ومن يشهد لك على صحة ما تقول قال هذه الشجرة لشجرة بشاطئ الوادي فادعها فإنها تجيبك قال فدعوتها فأقبلت تخد الأرض حتى وقفت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال ثم رجعت إلى مكانها

وقد روى هذا الحديث عن بريدة وزاد قال فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها فتقطعت عروقها ثم جاءت تجر عروقها مغبرة حتى وقفت بين يدي رسول الله فقال السلام عليك يا رسول الله فقال الأعرابي مرها فلترجع إلى هيئتها فأمرها فرجعت فدلت عروقها حيث كانت واستوت فآمن الأعرابي وقال ائذن لي اسجد لك فقال له عليه السلام لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها قال فائذن لي أن أقبل يديك ورجليك فأذن له

وقد روى عن النبي أنه ظهرت على يديه مثل هذه المعجزة مرات وطرقها صحاح بل منها ما هو متواتر على ما حكاه أهل النقل فقد روى أنه طافت به شجرة ثم رجعت إلى منبتها فقال رسول الله أنها استأذنت أن تسلم

وكذلك سأل ربه أن يجعل له آية فقال انظلق إلى موضع كذا فإن به شجرة فادع منها غصنا فإنه يأتيك ففعل فجاء يخط الأرض حتى انتصب بين يديه فحبسه ما شاء الله أن يحبسه ثم قال له ارجع كما كنت فرجع

وكذلك روى عنه من طرق صحاح أنه خرج يوما ليقضى حاجته فلم يجد بما يستتر وإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله فأخذ بغصن من أغصانها وقال لها انقادي على بإذن الله فانقادت معه كالبعير المذلل ثم فعل بالأخرى مثل ذلك وقال التئما على فالتئما فلما قضى حاجته قال جابر فالتفت فإذا رسول الله مقبل والشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساقها

وكذلك روى أسامة بن زيد مثل هذا في النخيل وقال فيه قال لي انطلق إلى هذه النخلات وقل لهن إن رسول الله يأمركن أن تأتين لحاجة رسول الله وقل للحجارة مثل ذلك

فقلت ذلك لهن فوالذي بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن ويجتمعن والحجارة يتعاقدن ويتراكمن حتى صرن ركاما خلفه فلما قضى حاجته قال لي قل لهن يفترقن فوالذي نفسي بيده لقد رأيت النخلات والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن

وقد حكى الأئمة منهم أبو بكر بن فورك رضي الله عنهم أن رسول الله كان في غزوة الطائف ليلا وهو يسير فاخذته سنة فاعترضته سدره فانفرجت له نصفين حتى جاز بينهما وبقيت على ساقين إلى وقتنا هذا وهي هنالك معروفة معظمة

النوع الثاني

نقل خلفنا عن سلفنا فاشيا مشهورا بحيث لا يشك فيه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأكلون مع رسول الله الطعام وهم يسمعون تسبيحه وقال أنس أخذ رسول الله كفا من حصى فسبحت في يده حتى سمعنا تسبيحها ثم صبهن رسول الله في يد أبي بكر فسبحت كذلك ثم صبها في أيدينا فلم تسبح

ورواه أبو ذر قال إنما سبحت في كف عثمان وقد تواردت الروايات عن الثقات عن علي أنه قال كنا بمكة مع رسول الله فخرج إلى بعض نواحيها فما استقبله شجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله

وقد وقد روى العباس أن النبي غطاه وبنيه بملحفة ودعا لهم بالستر من النار كستره إياهم بملحفته فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت آمين آمين

وقد صحت الأخبار بل تواترت أن النبي لما اتخذ منبره وصعد وترك الجذع الذي كان يخطب عليه حن الجذع حنين الإبل الفاقدة أولادها حتى تصدع وانشق فجاء النبي فوضع يده عليه فسكن وفي بعض طرقه قال النبي أن هذا بكاء لما فقد من الذكر وفي بعض طرق هذا الحديث أنه لم يزل يسمع له حنين في أوقات تحزنا على رسول الله قد فزعت المنبر على ما في حديث أبي فأخذه أبي عنده إلى أن أكلته الأرض وعاد رفاتا

وقد روى هذا الحديث بريدة وزاد فيه فقال النبي للجذع إن شئت أردك إلى الحائط الذي كنت فيه فتنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد خوصك وثمرك وإن شئت أغرسك في الجنة يأكل منك ومن ثمرك أولياء الله ثم أصغى له النبي يستمع له ما يقول فقال بلى تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله وأكون في مكان لا أبلى فيه يسمعه من يليه فقال له قد فعلت ثم قال رسول الله اختار دار البقاء على دار الفناء

فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إليه فأنتم أحق بذلك وأن تشتاقوا إلى لقائه

وكذلك تواتر أيضا أن النبي كان على جبل أحد مع جماعة من اصحابه فتحرك بهم الجبل فقال له رسول الله اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد

والأخبار أيضا في هذا النوع كثيرة وفيما ذكرناه كفاية بل فيه الواحد من هذه الأخبار أبلغ غاية

الفصل السادس عدل

الفصل السادس في كلام ضروب من الحيوان وتسخيرهم آية له

وهذا الفصل أيضا نوعان

النوع الأول

من ذلك ما روى واشتهر عن عمر أن رسول الله كان في محفل من أصحابه إذ جاءه أعرابي قد صاد ضبا فقال ما هذا فقالوا له هذا نبي الله فقال واللات والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن بك هذا الضب وطرحه بين يدي رسول الله فقال له النبي يا ضب فأجابه بلسان عربي مبين يسمعه القوم جميعا لبيك وسعديك يا زين من أوفى القيامة قال من تعبد قال الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي البحر سبيله وفي الجنة رحمته وفي النار عقابه قال فمن أنا قال رسول رب العالمين وخاتم النبيين وقد أفلح من صدقك وخاب من كذبك فأسلم الأعرابي

ومن ذلك القصة المشهورة في كلام الذئب من حديث أبي سعيد الخدري قال بينما راع يرعى غنمه عرض الذئب لشاة منها فأخذها الراعي منه فأقعى الذئب وقال للراعي ألا تتقي الله حلت بيني وبين رزقي قال الراعي العجب من ذئب يتكلم بكلام الإنس فقال الذئب ألا أخبرك بأعجب من ذلك رسول الله بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق

فأتى النبي فأخبره فقال النبي قم فحدثهم ثم قال النبي صدق

وقد روى هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة منهم أبو هريرة وزاد في هذا الحديث فقال له الذئب أنت أعجب وقفت على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله قط نبيا أعظم منه قدرا عنده قد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها على أصحابه ينتظرون إقبالهم وما بينك وبينه إلا هذا الشعب فتصير في جنود الله فقال الراعي لو كان لي من يرعى الغنم لمشيت إليه فقال الذئب أنا أرعاها حتى ترجع فأسلم الراعي إليه غنمه ومضى وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبي يقاتل فقال له النبي عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك وذبح للذئب منها شاة وكان هذا الراعي اسمه أهبان بن أوس

وقد ذكر مثل هذه القصة عن سلمة بن الأكوع وأنها كانت سبب إسلامه

ومن ذلك ما يحكى أن أبا سفيان بن حرب بينا هو في ملأ من قريش بمكة إذ بظبي يطرده ذئب فدخل الظبي الحرم فرجع الذئب فعجبوا من ذلك فقال الذئب أعجب من ذلك محمد ابن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار فقال أبو سفيان بن حرب واللات والعزى لئن ذكرتم هذا بمكة ليتركنها خلوفا

ومن ذلك ما روى عن أم سلمة كان النبي في صحراء فنادته ظبية يا رسول الله قال ماحاجتك قالت صادني هذا الأعرابي ولي خشفان في ذلك الجبل فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع قال وتفعلين قالت نعم فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها وكان ذلك الأعرابي نائما وقال يا رسول الله ألك حاجة قال تطلق هذه الظبية فأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء وتقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله

ومن ذلك ما روي من كلام الحمار الذي أصابه بخيبر وقال اسمي يزيد بن شهاب فسماه النبي يعفور وكان يوجهه إلى دور أصحابه فيضرب عليهم الباب برأسه ويستدعيهم وأنه لما مات النبي تردى في بئر جزعا وحزنا فمات

ومن ذلك حديث الناقة التي شهدت بين يدي النبي لصاحبها أنه ما سرقها وأنها ملكه

النوع الثاني

ما روى عن عائشة زوج النبي أنها قالت كان عندنا داجن فإذا كان عندنا النبي قر وثبت مكانه فلم يجئ ولم يذهب وإذا خرج رسول الله جاء وذهب

ومن ذلك ما روى جابر بن عبد الله قال جاء رجل فآمن بالنبي وهو على بعض حصون خيبر وكان في غنم يرعاها لهم يعني لأهل خيبر فقال لرسول الله كيف بالغنم فقال احصب وجوهها يعني اضربها بالرمل فإن الله سيؤدي أمانتك ويردها إلى أهلها ففعل فسارت كل شاة منها حتى أتت أهلها

ومن ذلك حديث أنس أن النبي دخل حائط دجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار وفي الحائط غنم فسجدت له فقال أبو بكر نحن أحق بالسجود لك منها وذكر الحديث

ومن حديث أبي هريرة دخل النبي حائطا فجاء بعير فسجد بين يديه

ومن حديث جابر قال وكان ذلك الحائط لا يدخله أحد إلا شد عليه ذلك الجمل فلما دخل عليه النبي دعاه فوضع مشفره في الأرض وبرك بين يديه فخطمه فقال النبي ما بين السماء والأرض شيء لا يعلم أنى رسول الله إلا عاصى الجن والإنس

ومن حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي سأل أهل ذلك الجمل عن شأنه فقالوا له أنهم أرادوا نحره

ومن ذلك ما روى ابن وهب أن حمام مكة أظلت النبي يوم فتحها فدعا لها بالبركة

ومن حديث أنس وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة أن النبي ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت تجاه النبي فسترته وأمر حمامتين فوقفتا في فم الغار وأن العنكبوت نسجت على بابه فلما أتى الطالبون له رأوا ذلك فقالوا لو كان فيه أحد لم تكن الحمامات ولا العنكبوت فانصرفوا والنبي يسمع كلامهم

والأخبار في هذا كثيرة شهيرة وفيما ذكرناه كفاية لمن كان ذا عقل وديانة

الفصل السابع عدل

الفصل السابع في إحياء الموتى وكلام الصبيان والمراضع وشهادتهم له بالنبوة

من ذلك الخبر المشهور المعلوم المذكور عن غير واحد من الصحابة والأئمة أن يهودية بخيبر أهدت لرسول الله شاة مشوية فسمتها فأكل منها رسول الله وأكل القوم معه فقال ارفعوا فإن هذه الشاة أخبرتني أنها مسمومة ثم قال لليهودية ما حملك على ما صنعت قالت إن كنت نبيا صادقا لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكا أرحت منك فقال ما كان الله ليسلطك على ذلك فقالوا نقتلها قال لا فلم يزل أثر تلك الأكلة في لهوات رسول الله حتى قال في وجعه الذي مات منه مازالت أكلة خيبر تعاودني فالآن قطعت أبهري

قال ابن إسحق إن كان المسلمون ليرون أن رسول الله مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة

وروى هذا الحديث من طريق البزار عن أبي سعيد الخدري وزاد فيه فبسط رسول الله يده وقال كلوا بسم الله فأكلنا وذكرنا اسم الله فلم تضر أحد منا إلا ما ذكر من موت بشر بن البراء

وفي هذا الحديث أنواع من دلالات نبوته نطق الميت وذلك أن الشاة كلمته بعد أن شويت وأنهم أكلوا السم ولم يضرهم وفي موت البراء دليل على أن الذي أكلوه سم قاتل وبذلك اعترفت اليهودية وقالت أردت قتلك فأراد الله أن يميت أحدهم ليعلم أن الذي أكلوه سم وأن يحيى جميعهم آية لرسول الله ومن آياته في هذه القصة تأخر موته بالسم دون علة لزمته منه نحو عشرين سنة وهذه كلها أمور خارقة للعادات فهي من أوضح الدلالات

ومن ذلك ما روى عن فهد بن عطية أن النبي أتى بصبي قد شب لم يتكلم قط فقال له من أنا فقال أنت رسول الله

ومن ذلك حديث معيقيب قال رأيت من النبي عجبا جيء بصبي يوم ولد فقال له من أنا فقال أنت رسول الله فقال النبي صدقت بارك الله فيك ثم أن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب فكان يدعى مبارك اليمامة وكانت هذه القصة بمكة في حجة الوداع

ومن حديث الحسن قال أتى رجل النبي فذكر أنه طرح بنية له في وادي كذا فانطلق معه إلى ذلك الوادي وناداها باسمها يا فلانة احيى بإذن الله فخرجت وهي تقول لبيك وسعديك فقال لها إن أبويك قد أسلما فإن أحببت أن أردك عليهما فقالت لا حاجة لي فيهما وجدت الله خير منهما

ومن ذلك حديث أنس أن شابا من الأنصار توفى وله أم عجوز قال فسجيناه وعزيناه فقالت مات ابني قلنا نعم قالت اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعينني على كل شدة فلا تحملني على هذه المصيبة فما برح أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا

ومن حديث عبد الله بن عبيدالله قال كنت فيمن دفن ثابت بن قيس بن شماس وكان قتل باليمامة فسمعناه حين أدخلناه في القبر يقول محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الشهيد عثمان البر الرحيم فنظرنا فإذا هو ميت

ومن حديث النعمان بن بشير أن زيد بن خارجة خر ميتا في زقاق من أزقة المدينة فرفع وسجى إذ سمعوه بين العشائين والنساء يصرخن حوله يقول أنصتوا أنصتوا فحسر عن وجهه فقال محمد رسول الله النبي الأمي وخاتم النبييين كان ذلك في الكتاب الأول ثم قال صدق صدق

وذكر أبا بكر وعمر وعثمان ثم قال السلام عليك يارسول الله ورحمة الله وبركاته ثم عاد ميتا كما كان

الفصل الثامن عدل

الفصل الثامن في إبراء النبي المرضى وذوي العاهات

من ذلك ما اشتهر واستفاض من قصة عين قتادة يوم أحد وذلك أنه أصيب في إحدى عينيه حتى وقعت على وجنتيه فردها رسول الله فكانت أحسن عينيه

ومن ذلك حديث عثمان بن حنيف أن أعمى قال يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري فقال له انطلق فتوضأ ثم قل اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري اللهم شفعه في قال فرجع الرجل وقد كشف الله عن بصره

من ذلك حبيب بن فديك أن أباه أبيضت عيناه فكان لا يبصر بهما شيئا فنفث رسول الله في عينيه فأبصر قال فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين

وروى أن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء فبعث إلى رسول الله فأخذ بيده حثوة من تراب فتفل عليها ثم أعطاها رسوله فأخذها رسوله متعجبا يرى أنه قد هزأ به فأتاه بها وهو على شقاء فشربها فشفاه الله تعالى

ومن ذلك حديث كلثوم بن الحصين وذلك أنه أصيب يوم أحد في نحره فبصق فيه رسول الله فبرأ وتفل عى شجة عبد الله بن أنيس فلم تمد

ومن ذلك حديث علي يوم خيبر وذلك أن رسول الله قال وهو على خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات أصحابه تلك الليلة كلهم يرجو أن يعطاها فلما أصبح دعا عليا فإذا به رمد فتفل في عينيه فبرئ لحينه وفتح الله علي يديه الحصن

وفي تلك الغزاة نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع فبرأت

وكذلك فعل بساق على بن الحكم يوم الخندق وكانت قد انكسرت فبرأ مكانه ولم ينزل عن فرسه وأصاب عليا وجع فقال النبي اللهم اشفه أو عافه ثم ضربه برجله فما اشتكى ذلك الوجع بعد

وقطع أبو جهل لعنه الله يوم بدر يد معوذ بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله وألصقها فلصقت

وكذلك أصيب في ذلك اليوم حبيب بن يساف فنفث عليها من ريقه فصح وأتته امرأة من خثعم معها صبي به بلاء لا يعقل ولا يتكلم فأتى بماء فمضمض فاه وغسل يديه ثم أعطاها ذلك الماء وأمرها أن تسقيه إياه ففعلت فبرئ الغلام وعقل عقلا يفضل كثير من الناس

وحديث ابن عباس جاءت امرأة بابن لها به جنون فمسح صدره فثع ثعة فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود وبرأ

وانكفأت القدر وهي تغلي على ذراع محمد بن خاطب وهو طفل صغير فمسح رسول الله عليه ودعا له وتفل فبرأ لحينه

وكانت في كف شرحبيل الجحفي سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي فما زال يمسحها بكفه حتى رفع كفه وما لها أثر

والأخبار في هذا كثيرة وإذا تأملت هذا الفصل والذي قبله علمت أن نبينا محمدا قد أوتي من المعجزات مثل ما أوتى عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء العمى والمجانين وذوي الأسقام والآفات كما تحكي النصارى في إنجيلها وزاد عليه بأمور كما ذكر وستأتي إن شاء الله تعالى

فيلزم النصارى إذ كذبوا بنبوة محمد مع ما أقمنا عليه من الآيات وأثبتنا من واضح المعجزات أن يكذبوا بنبوة عيسى عليه السلام فإن معجزاته كمعجزاته وإن كذبونا فيما نقلنا عارضناهم فيما نقلوه ولم يقدروا أن يثبتوا نبوة عيسى عليه السلام علينا ولا على غيرنا وكذلك يفعل الله بكل كاذب كفار

الفصل العاسع عدل

الفصل التاسع في إجابة دعائه

اعلم يا هذا أنه لو لم يثبت لرسول الله من الآيات إلا ما ثبت في هذا الفصل لكان فيه أعظم دليل على صدق رسالته وصحة نبوته فإنا نعلم بما روى في هذا الباب من الآيات على القطع والإصرار أن دعاؤه عند الله مسموع وأن مقامه عند الله مقام كريم مرفوع وذلك أنه كان كلما دعا الله في شيء أجابه فيه وظهرت بركة دعوته على المدعو له وعلى أهله وبنيه حتى كان حذيفة يقول كان رسول الله إذا دعا لأحد أدركته الدعوة وولد ولده

ونحن نذكر من ذلك طرفا على شرط الاختصار

ومن حديث أنس الصحيح المشهور قال قالت أمي يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له فقال اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه قال أنس حين حدث بهذا الحديث فوالله إن مالي كثير وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم

وفي رواية أخرى عنه أنه قال وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت ولقد دفنت بيدي هاتين مائة من ولدي لا أقول سقطا ولا ولد ولد

ومن دعائه لعبد الرحمن بن عوف بالبركة قال عبدالرحمن فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا وفتح الله عليه ومات فحفر الذهب من تركته بالفئوس حتى محلت الأيدي وأخذت كل زوجة من زوجاته ثمانون ألفا وكن أربعا وقيل بل صولحت إحداهن لأنه طلقها في مرضه على نيف وثمانين ألفا وأوصى بخمسين ألفا وهذا كله بعد صدقاته الفاشية في حياته وعوارفه العظيمة

أعتق يوما ثلاثين عبدا ووردت له مرة عير له فيها سبع مائة بعير تحمل من كل شيء فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها

ومن ذلك دعاؤه لمعاوية بالتمكين في البلاد فنال الخلافة

ومن ذلك دعاؤه لسعد بن أبي وقاص بأن يجيب الله دعوته فما دعا على أحد أو لأحد إلا استجيب له

ومن ذلك دعاؤه حيث قال اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام فأجاب الله دعوته في عمر بن الخطاب

ولذلك قال ابن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب وأصاب الناس عطش شديد في سفر من أسفاره فدعا الله فجاءت سحابة فسقتهم حاجتهم

وقد تقدم مثل ذلك

ومن ذلك حديث الإستسقاء وذلك أن رسول الله بينما هو يوم الجمعة يخطب إذ دخل عليه رجل فقال يا رسول قد هلكت الأموال وانقطعت السبل وهلكت المواشي فادع الله أن يغثنا فقال النبي اللهم أغثنا الله أغثنا الله أغثنا قال فأنشأت سحابة مثل الترس ثم انتشرت قال راويه فلا والله ما رأينا الشمس سبتا يعني جمعة

ثم دخل أعرابي في الجمعة المقبلة فقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا فقال رسول الله اللهم على الآكام والضراب ومنابت الشجر قال فانجابت السحابة عن المدينة انجياب الثوب فخرجنا نمشي

ومن ذلك أنه قال للنابغة الجعدي لا يفضض الله فاك فما سقطت له سن حتى مات

وفي رواية كان أحسن الناس ثغرا إذا سقطت له سن نبتت له أخرى وعاش عشرين ومائة

وقال لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل فكان بحر الفقه وترجمان القرآن ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما اشترى شيئا إلا ربح فيه ودعا للمقداد بن الأسود بالبركة فكان عنده غراير من المال

ودعا لعروة بن أبي الجعد فقال لقد كنت أقدم بالكياسة سوق لهم فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا

وقال البخاري فكان لو اشترى التراب ربح فيه وندت له ناقة فدعا ربه أن يردها عليه فجاء بها إعصار ريح حتى ردها عليه

ودعا لأم أبي هريرة فأسلمت ودعا لعلى أن يكفى ألم الحر والبرد فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حر ولا برد وسأله الطفيل بن عمرو آية لقومه فقال اللهم نور له فسطع له نور بين عينيه فقال يا رب أخاف أن يقولوا إنما مثلة فتحول إلى طرف سوطه فكان يضئ في الليلة المظلمة فسمى ذا النور

ودعا على مضر بالقحط فأقحطوا سبعا حتى أكلوا الجلود والعظام حتى استعطفته قريش فدعا لهم فسقوا

ودعا على كسرى حين مزق كتابه بأن يمزق ملكه فلم تبق له باقية

وقال لرجل رآه يأكل بشماله كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال له لا أستطعت فلم يرفعها إلى فيه بعد

وقال لعتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد

وحديثه المشهور مع ملأ قريش وذلك أنه بينما هو ساجد بإزاء الكعبة إذ ألقت قريش على ظهره فرثا ودما وسلا جزور نحرت فقال اللهم عليك بهم ثم سماهم واحدا واحدا فكان من سمى قتل يوم بدر

ودعا على الحكم بن أبي العاصي وكان يختلج بوجهه ويغمز عند النبي فقال رسول الله كذلك فلم يزل يختلج إلى أن مات

ودعا على غلم بن جثامه فلفظته الأرض فوورى فلفظته الأرض ثم وورى فلفظته الأرض مرارا فألقوه بين ضدين يريد جانبي الوادي ورضوا عليه بالحجارة

وباعه رجل فرسا فجحده فقال اللهم إن كان كاذبا فلا تبارك له فيه فأصبحت شاصية يريد رافعة برجلها يقول ماتت

والأخبار في هذا الباب أكثر من أن يحاط بها

الفصل العاشر عدل

الفصل العاشر في ذكر جمل من بركاته ومعجزاته

ومن ذلك ما اشتهر وصح أنه وقع فزع بالمدينة فركب فرسا لأبي طلحة بطيئا فلما رجع قال لأبي طلحة وجدنا فرسك بحرا يريد كثير الجرى كالبحر قال فكان ذلك الفرس لا يجارى

ونخس جمل جابر وكان قد أعيا فنشط حتى كان ما يملك زمامه

وصنع مثل ذلك بفرس لجميل الأشجعي خفقها بمخفقة معه وترك عليها فلم تملك رأسها نشاطا وباع من بطنها بإثنى عشر ألفا

وكانت شعيرات من شعر رسول الله في قلنسوة خالد بن الوليد فلم يشهد بها قتالا إلا رزق النصر

وكانت جبة رسول الله تغسل للمرضى بعد موته فيستشفى بها

وأخذ جهجاه قضيب رسول الله ليكسره فأخذته في يده أكلة فقطعها ومات قبل الحول

وسكب من فضل وضوئه في بئر قباء فما جف ماؤها بعد

وبزق في بئر كانت في دار أنس فلم يكن بالمدينة أعذب منها

ومر على ماء فسأل عنه فقيل اسمه بيسان وماؤه ملح فقال بل هو نعمان وماؤه طيب فطاب

وأوتى بدلو من ماء زمزم فمج فيه فصارت أطيب من المسك

وأعطى الحسن والحسين لسانه فمصاه وكانا يبكيان عطشا فرويا وسكتا

وكانت لأم مالك عكة تهدى فيها للنبي سمنا فأمرها النبي أن تعصرها ثم دفعها إليها فإذا هي مملوءة سمنا فيأتيها بنوها يسألونها الأدم وليس عندهم شيء فتعمد إليها فتجد فيها سمنا فكانت تقسم أدمها حتى عصرتها

وكان يتفل في أفواه المراضع فيجزيهم ريقه إلى الليل

ومن ذلك بركة يده فيما لمس أو غرس غرس لسلمان ثلاثة مائة ودية وكان كاتب مواليه على ثلاث مائة نخلة وعلى أربعين أوقية فغرسها رسول الله بيده إلا واحدة فأطعمت من عامها إلا تلك الواحدة فقلعها رسول الله وغرسها فأطعمت من عامها

وأعطاه مثل بيضة الدجاجة من ذهب بعد أن أدارها على لسانه فوزن منها أربعين أوقية لمواليه

وفي حديث حنش بن عقيل قال سقاني رسول الله شربة من سويق شرب أولها وشربت آخرها فما زلت أجد شبعها إذا جعت وريها إذا عطشت وبردها إذا ظمئت

وأعطى قتادة بن النعمان وصلى معه العشاء الأخيرة في ليلة مظلمة مطيرة عرجونا فقال انطلق فإنه سيضىء لك من بين يديك عشرا ومن خلفك عشرا فإذا دخلت بيتك فسترى سوادا فاضربه حتى يخرج فإنه الشيطان فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد فضربه حتى خرج

ومنها دفعه لعكاشة جذل حطب وقال له اضرب به حين انكسر سيفه يوم بدر فعاد في يده سيفا صارما طويل القامة أبيض شديد المتن فقاتل به ثم لم يزل عنده يشهد به المواقف إلى أن استشهد في قتال أهل الردة وكان هذا السيف يسمى العون

وكذلك دفع لعبد الله بن جحش يوم أحد وقد ذهب سيفه عسيب نخل فعاد في يده سيفا

ومن ذلك بركته في درور الشياه الحوائل اللبن الكثير كقصة شاة أم معبد وهي قصة مشهورة وكذلك غنم حليمة مرضعته

وقد تقدم ذكره وكذلك قصة شاة عبد الله بن مسعود وكان لم ينز عليها فحل قط وكذلك شاة المقداد ومن ذلك تزويده أصحابه سقاء ماء بعد أن أوكاه ودعا فيه فلما حلاه إذا به لبن طيب وزبده في فمه ومسح على رأس عمير بن سعد وبارك فمات وهو ابن ثمانين فما شاب

وقد روى مثل هذه القصص

ومن ذلك أن عتبة بن فرقد كان يوجد له طيب يغلب طيب نسائه لأن رسول الله مسح بيده بطنه ويده

وسلت عن وجهه عايذ بن عمرو الدم يوم أحد فدعا له فكانت له غرة كغرة الفرس

ومسح على رأس قيس بن زيد الجذامي ودعا له فهلك ابن مائة سنة ورأسه أبيض وموضع كف النبي أسود فكان يدعى الأغر ومسح وجه رجل آخر فما زال على وجهه نور ومسح وجه قتادة بن ملجان فكان لوجهه بريق حتى كان ينظر في وجهه كما ينظر في المرآة

ووضع يده على رأس حنظلة بن خديم وبارك عليه فكان حنظلة يؤتى بالرجل قد ورم وجهه والشاة قد ورم ضرعها فيوضع على موضع كف النبي فيذهب الورم

ونضح في وجه زينب بنت أم سلمة نضحة من ماء فما كان يعرف في وجه امرأة من الجمال ما كان بها ومسح على رأس صبي به عاهة يعني قرعا فبرأ واستوى شعره وكذلك مسح على غير واحد من الصبيان المرضى والمجانين فبرؤا ولأجل هذا قال طاووس لم يؤت النبي بأحد به جنون فصك في صدره إلا ذهب ذلك الجنون وأتاه رجل آدر فأمره أن ينضحها بماء من عس مج فيه ففعل فبرأ ومن ذلك خبره المشهور عن تراب يوم حنين وذلك أنه لما اشتد القتال بينه وبين الكفار ذلك اليوم أخذ غرفة من تراب ورمى بها وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه فما بقى منهم أحد إلا أصاب من عينيه من ذلك التراب فهزمهم الله ورجعوا على أعقابهم يمسحون عن أعينهم

ومن ذلك الخبر المشهور عن أبي هريرة أنه كان كثير النسيان فأمره ببسط ثوبه فغرف بيده ثم أمره بضمه ففعل فما نسى شيئا بعد

والأخبار في هذا كثيرة جدا تفوق الحصر

الفصل الحادي عشر عدل

الفصل الحادي عشر في ما أخبر به مما أطلعه الله من الغيب

هذا الموضوع بحر لا يدرك قعره ولا ينزف غمره وهو من جملة آياته المعلومة على القطع الواصلة إلينا من طريق التواتر لكثرة الحكايات وإنتشار الروايات مع اتفاقها على أنه مطلع على كثير من الغيب فهذا تواتر معنوي يحصل به العلم القطعي وهكذا أكثر الفصول المتقدمة والأخبار المتلقاة عنه في هذا الموضوع قسمان قسم وقع ووجد كما أخبر به وقسم آخر لم يقع لكونه لم يبلغ وقته وسيقع ولا بد ولذلك هو منتظر الوقوع ونحن إنما نذكر في هذا الفصل ما وقع ووجد حسب ما أخبر به إذ به تقع الحجة وعنده يظهر الإعجاز

من ذلك حديث حذيفة قال قام فينا رسول الله مقاما فما ترك شيئا في مقامه ذلك يكون إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وأنه ليكون منه الشيء فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه ثم قال لا أدري أنسى أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاث مائة فصاعدا إلا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته

وقال أبو ذر لقد تركنا رسول الله وما من طائر يحرك جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما

وقد خرج أهل الصحيح في كتبهم واشتهر عن الأئمة ما أعلم به أصحابه مما وعدهم به من الظهور على أعدائه وفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق وظهور الأمن حتى تظعن المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله وأن المدينة لا تغزى

وكذلك أعلم بفتح خيبر على يد علي بن أبي طالب في غد يومه وبما فتح الله على أمته من الدنيا ويؤتون من زهرتها وقسمتهم كنوز كسرى وقيصر وما يحدث بينهم من الفتن والإختلاف والأهواء وسلوك سبيل من قتلهم وإفتراقهم على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة وأنها ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى وتوضع على يديه صحيفة وترفع أخرى ويسترون بيوتهم كما تستر الكعبة وأنهم إذا مشوا المطيطا وجد منهم بنات فارس والروم رد الله بأسهم بينهم وسلط شرارهم على خيارهم

وإخباره على قتال الترك والخزر والروم وذهاب كسرى وفارس حتى لا كسرى بعده وذهاب قيصر حتى لا قيصر بعده وإخباره عن الروم لا تزال ذات أقران حتى تقوم الساعة وإخباره بملك بني أمية وولاية معاوية ووصاه واتخاذ بني أمية ملك الله دولا وإخباره عن خروج ولد العباس بالرايات السود وملكهم أضعاف ما ملكوا وخروج المهدي وإخباره بما ينال أهل بيته من القتل والشدائد وإخباره عن قتل علي وقوله إن أشقاها الذي يخضب هذه من هذه يريد لحيته من رأسه وإخباره بقتل عثمان وهو يقرأ المصحف وأنه سيقطر دمه على قوله تعالى فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وقوله عسى الله أن يلبسك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه يريد بذلك ما ولاه من الخلافة وما أرادوا من خلعه

ومن ذلك خبر حاطب بن أبي بلتعة وذلك أنه كتب كتابا لأهل مكة يخبرهم فيه بغزو رسول الله إياهم وإخفاء ذلك الكتاب ولم يطلع عليه أحدا ودفعه إلى إمرأة فجعلته في عقاصها

فقال النبي لأصحابه انطلقوا إلى موضع كذا فإن به ظعينة عندها كتاب من حاطب إلى مشركي قريش فانطلقوا ففتشوا فلم يجدوا عندها شيئا فقالوا لها لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فأخرجته من عقاصها

وإخباره لبعض زوجاته أنها ستنبحها كلاب من الحوب وأنها تقتل حولها قتلى كثير فكان ذلك كله كما ذكر

وقوله لعمار تقتلك الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية وقوله يكون في ثقيف كذاب ومبير فرأوهما الحجاج والمختار

وإخباره بأن مسيلمة يعقره الله فكان ذلك

ومن ذلك أن ناقته ضلت فلم يدر أين هي فقالت قريش يزعم محمدا أنه يعرف خبر السماء وهو لا يعرف ناقته فنزل الوحي على رسول الله فقال أما أنا فلا أعلم إلا ما أعلمني الله به وأن الله قد أخبرني أنها بموضع كذا فانطلقوا فوجدت حيث ذكر قد حبستها هناك شجرة

وقوله لفاطمة الزهراء رضي الله عنها ابنته أنك أول أهل بيتي لحوقا بي فكانت أول من مات من أهل بيته

وأخبر بأهل الردة والخوارج وعرف بعلاماتهم فوجد ذلك كما أخبر

والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى يضطر الواقف عليها إلى العلم بنبوته

الفصل الثاني عشر عدل

الفصل الثاني عشر في عصمة الله له ممن أراد كيده

وذلك من أبلغ آياته صحت الروايات وثبتت الطرق أن رسول الله كان يحرس ممن يريد ضره لكثرة أعدائه ولطلبهم غرته حتى نزل والله يعصمك من الناس فأخرج رسول الله رأسه من القبة وقال لحارسيه يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني ربي فلم يقدر أحد أن يصيب منه مقتلا مع حرصهم على ذلك

ومن ذلك ما صح أن النبي نزل منزلا في بعض غزواته فقال تحت شجرة فأتاه أعرابي فاخترط سيفه فقال من يمنعك مني فقال الله فرعدت يد الأعرابي وسقط سيفه من يده وضرب برأسه الشجرة حتى سال دماغه وقد اتفق مثل هذه القصة لعذرة بن الحارث فأسلم ورجع إلى قومه وقال جئتكم من عند خير الناس

وقد روى أن هذه القصة كانت يوم بدر وكذلك وقع مثل هذه القصة بذي أمر لدغشور بن الحرث وكان ذا نجدة وجرأة فأسلم فلما رجع إلى قومه قالوا أين ما كنت تقول وقد أمكنك فقال إني نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري وسقط السيف من يدي فعرفت أنه ملك وفيه أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم الآية

وكانت امرأة أبي لهب وهي حمالة الحطب تضع الشوك في طريق رسول الله فكأنما يطأ كثيبا أهيل يريد سهلا ولما أنزل الله تعالى فيها وفي زوجها تبت يدا أبي لهب وتب إلى آخر السورة أتت رسول الله وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر وأخذ الله ببصرها عن نبيه عليه السلام فقالت يا أبا بكر أين صاحبك فقد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه

ومن ذلك ما حدث به الحكم بن أبي العاصي قال تواعدنا على أن نقتل محمدا حتى جئناه فلما رأيناه سمعنا صوتا خلفنا ما ظننا أنه بقى بتهامة أحدا فوقعنا مغشيا علينا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله ثم تواعدنا ليلة أخرى فجئنا حتى إذا رأيناه جاءت الصفا والمروة فحالت بيننا وبينه

ومن ذلك القصة المشهورة التي تؤذن بالكفاية التامة وذلك أن قريشا اجتمعت على قتله وبيتوا ليدخلوا عليه بيته فعلم بهم فقال لعلي تحول على فراشي ففعل ثم خرج عليهم ودر التراب على رؤوسهم فلم يروه حتى دخلوا البيت فوجدوا عليا على فراشه فقالوا له أين صاحبك فقال لهم قد خرج عليكم وقد جعل التراب على رؤوسكم فمد كل واحد منهم يده على رأسه فوجد التراب على رأسه

وقد قيل أن في هذه القصة نزل قوله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين

ومن ذلك ما اتفق لأبي جهل وذلك أنه أخذ ابل رجل من العرب وتعدى عليه فيها فشكى ذلك لرسول الله فمشى رسول الله لمنزل أبي جهل وصاح به فخرج منتقعا لونه فقال له رسول الله رد على هذا إبله فقال نعم ثم دخل مرة أخرى خائفا فصاح به فخرج فزعا متغيرا ذليلا ففعل ذلك ثلاثا ثم خرج فزعا ممتقعا لونه فانصرف الأعرابي وألان القول للنبي فلامته قريش على ذلك فقال لهم إنه عرض لي دونه فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه لفحل قط وأنه هم بي ليأكني فبلغ ذلك النبي فقال ذلك جبريل ولو دنا منه لأخذه

وكذلك أخذ أبو جهل صخرة ليطرحها على النبي وهو ساجد وقريش ينظرون فلزقت بيده ويبست يداه إلى عنقه فرجع القهقري ورآه ثم سأل أن يدعو له ففعل فانطلقت يداه وكذلك تواعد مرة أخرى مع قريش لئن رأى محمدا يصلي ليطأن رقبته فلما دخل النبي في الصلاة أعلموه فأقبل نحوه فلما قرب منه ولى هاربا ناكصا على عقبيه متقيا بيديه فسئل عن ذلك فقال لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوء نارا كدت أهوي فيه وأبصرت هولا عظيما وخفق أجنحة قد ملأت الأرض فقال عليه السلام تلك الملائكة لو دنى لاختطفته عضوا عضوا فأنزل الله تعالى على النبي كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إلى أخر السورة

ومن ذلك حديث شيبة أنه أدرك النبي يوم حنين فقال اليوم أدرك ثأري من محمد وكان حمزة قد قتل أباه وعمه فأتاه من خلفه قال فلما دنوت منه ارتفع إلى شواظ من نار أسرع من البرق فوليت هاربا وأحس بي النبي فدعاني فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إلى فما رفعها ألا وهو أحب الخلق إلي

ومن ذلك حديث فضالة بن عبيد قال أردت قتل النبي وهو يطوف بالبيت فلما دنوت منه قال أفضالة قلت نعم قال ما كنت تحدث به نفسك قلت لا شيء فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري فسكن قلبي فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه

ومن ذلك خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وذلك أنهما وفدا على رسول الله ليقتلاه فقال عامر لأربد أنا أشغل عنك وجه محمد فاضرب أنت فلم يفعل أربد من ذلك شيئا فلما كلمه عامر في ذلك قال له والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني وبينه أفأضربك

ومن ذلك الخبر المشهور خبر سراقة وذلك أن رسول الله لما خرج من مكة مهاجرا للمدينة لم يعلموا بخروجه فبعثت قريش في طلبه في كل وجه حتى جعلت لمن يأتي به جعلا مائة ناقة

قال سراقة فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا على آنفا إني لأراه محمدا وأصحابه قال فأومأت له يعني أن أسكت ثم قلت إنهم بنو فلان يبتغون ضالة لهم قال لعله قلت فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وأمرت بسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي وكنت أرجو أن أرده على قريش وآخذ المائة ناقة قال فركبت في أثره فلما بدا لي القوم فرأيتهم عثر بي فرسي وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه قال ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار قال فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد امتنع مني وأنه ظاهر قال فناديت القوم أنا سراقة انظروني حتى أكلمكم

فقال له أبو بكر وما تبتغي منا قال قلت كتابا يكون آية بيني وبينكم فكتب له أبو بكر بأمر رسول الله فأمسكه عنده حتى كان يوم الطائف

والأخبار في هذا كثيرة والحكايات صحاح شهيرة لا يمكن جحدها ولا ينكر حصول العلم عندها بل كلها تدل على صحة نبوته وتصديق شريعته وأنه كما قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل

ومعجزاته أكثر من أن يحيط بها هذا الكتاب أو تدخل تحت عد وحساب وعند الوقوف على ما تضمنته الفصول المتقدمة والأبواب السابقة يحصل العلم الضروري بصدقه في رسالته وبوجوب اتباع شريعته ومنكر ذلك معاند متواقح جاحد

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وقد نجز غرضنا من هذا الباب

فإن قال قائل من النصارى والمخالفين لنا: ما ذكرتموه من معجزات نبيكم إنما يثبت عندكم من أخبار الآحاد وهي وإن كانت صحاحا فلا يحصل بها العلم كما كنتم قدمتم حيث تكلمتم مع النصارى حين استدلوا على إثبات نبوة مسيحهم فإنكم قلتم لا نقبل في مثل هذا الموضع خبر من تجوز العادة عليه الكذب والغلط وإنما نقبل فيها خبر من لا تجوز عليهم العادة الكذب والغلط وهو الخبر المتواتر ثم إنكم قبلتم هنا أخبار من تجوز العادة عليهم الغلط والكذب وهي أخبار الآحاد فقد خالفتم ما أصلتم وقبلتم عين ما أنكرتم

قلنا في الجواب عن ذلك: اعلم أيها المعترض أنا لم نقبل في هذا الباب ألا الأخبار المتواترة التي يحصل العلم بها لكن ينبغي أن تعلم أن المتواتر ضربان ضرب يتواتر لفظه ومعناه وذلك مثل قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين فإن هذا اللفظ نعلم قطعا ويقينا أن نبينا محمدا قاله كما تلوناه من غير زيادة ولا نقصان إذ قد نقله عنه الجم الغفير عن الجم الغفير فلا يتطرق إليه وجه من وجوه الشك فلا يقدر أحد أن يتشكك في لفظه ولا في معناه وكثير من معجزات النبي المتقدمة الذكر من هذا القبيل فهذا هو الضرب الأول

وأما الضرب الآخر وهو متواتر معناه دون لفظه فيحصل العلم أيضا بذلك المعنى وذلك مثل أن تتوارد روايات كثيرة من أخبار الآحاد الصحاح على معنى واحد بألفاظ متغايرة وحكايات مختلفة مثال ذلك أنا نجد من أنفسنا علما قطعيا بشجاعة على بن أبي طالب رضي الله عنه فإذا نظرنا في الخبر الذي حصل لنا العلم بشجاعته لم نجده خبرا واحدا متواترا وإنما وجدناه جملة أخبار آحاد تواردت على معنى واحد وهو الشجاعة فتسمع عنه يوما أنه فعل يوم خيبر كذا وفعل يوم حنين كذا ويوم صفين كذا ويوم الجمل كذا فلا تزال أخبار الآحاد تكثر حتى يضطر السامع إلى العلم بمخبرها ولا يقدر على تشكيك نفسه في شيء منها وهذا مسلك في تحصيل العلم إذا تفقده العاقل المنصف من نفسه وجده مفيدا للعلم ومحصلا له ضرورة ومن أنكر حصول العلم منه كان منكرا لما هو ضروري

فإذا ثبت هذا قلنا بعده إن ما نقلناه من معجزات نبينا عليه السلام منها ما تواتر لفظه ومعناه كانشقاق القمر وغيره ومنها ما تواتر معناه وهو أكثر ما احتوت عليه الفصول المتقدمة وذلك أن كل فصل منها اشتمل على معنى واحد وكثرت الأخبار عن ذلك المعنى حتى أضطر الواقف عليها إلى العلم بمعناها وذلك مثل نبع الماء من بين أصابعه وتكثير الماء القليل والطعام القليل إلى غير ذلك من الفصول فكل فصل منها قد تواتر معناه وإن لم تتواتر آحاد ألفاظه

ثم هذه الفصول بجملتها يحصل منها العلم القطعي واليقين الضروري بأن محمدا كانت العادات تنخرق على يديه معجزة له إذ قد تواردت جميع أخبار هذه الفصول على هذا المعنى

فحصل من هذا أنا لم نستدل على إثبات نبوة نبينا محمد بأخبار الآحاد وإنما استدللنا على ذلك بالأخبار المتواترة المحصلة للعلم والحمد لله

والنصارى فيما أوردوا لم يستدلوا هكذا ولا عندهم علم من هذا وكفى أنهم في ضلالتهم يعمهون وفي شكهم يترددون

عصمنا الله من الخطأ والزلل في القول والعمل بكرمه وجوده

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام