الإعلام بما في دين النصارى/الباب الثالث/الفصل الثالث عشر


الفصل الثالث عشر عدل

الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات

اعلم أن غرضنا في إثبات هذا الفصل شيئان

أحدهما أن نبين أن ما ظهر على أصحابه وعلى أهل دينه من الكرامات هو آية لرسول الله من أعظم الآيات وذلك أن الله تعالى إذا أكرم واحدا منهم بأن خرق له عادة فإن ذلك يدل على أنه على الحق وأن دينه حق إذ لو كان مبطلا في دينه متبعا لمبطل في دعواه كاذب في قوله على الله لما أكرمه الله ولا أكرم من اتبع دينه

فعلى هذا نقول إن كل كرامة لولى إنما هي آية للنبي الذي يتبعه ذلك الولي فهذا أحد الغرضين وهو أهمهما

والغرض الثاني

أن أصحاب رسول الله وإن كانوا قد أكرمهم الله بكرامات خارقة للعادات فلا يعتقد فيهم أنهم أنبياء كما فعلت النصارى بالحواريين بل يعتقد فيهم أنهم أولياء الله وأصحاب رسول الله تلقوا عن رسول الله شرعه وبلغوا عنه قوله وفعله فبذلوا في إظهار دين الله أنفسهم وأموالهم حتى أظهر الله على كل الأديان دينهم وإيمانهم

كما قال الله تعالى فيهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود

ونحن الآن نذكر بعض ما أكرمه الله تعالى به

من ذلك ما علمنا من أحوالهم على القطع

وذلك أنهم بعد موت رسول الله تعرضوا لقتال كل من خالفهم من أهل الأرض يهوديهم ونصرانيهم مجوسيهم ووثنيهم عربيهم وعجميهم على قلة عددهم ونزارة عددهم فقارعوا الأبطال وسبوا الذراري والأموال وأسروا العتاة وقتلوا الرجال وعلى هذا انقرض عصرهم

ومع ذلك فلم يرو قط عنهم أنهم ولوا مدبرين ولا رجعوا منهزمين بل كانوا يرجعون غالبين وبعدوهم ظافرين وعليهم ظاهرين هذا مع كثرة من كان يجتمع عليهم من عدوهم ومن وقف على فتوحات الشام علم أن دين الحق هو دين الإسلام فلقد اجتمع عليهم من عدوهم بالشام ثلاث مائة ألف ونحوها بل قد قال الواقدي ثمان مائة ألف من النصارى المستعربة وغيرهم وهم زهاء ثلاثين ألف خيلهم ورجلهم فقارعوهم مقارعة الكرام وصبروا صبر من صدق ما وعده به نبيه محمد فأظفرهم الله عليهم ومنحهم رقابهم وأورثهم أموالهم وديارهم

وهكذا فعل الله معهم غير ما مرة ولا يشك في أن هذا كرامة من الله لهم وأمر خارق للعادة في حقهم فإن العادة أن من أكثر من مقارعة الشجعان فلا بد له من أن يصاب ولو في وقت من الزمان وما اتفق لهم وإن كان كرامة لهم فهو آية لرسول الله وأنه قد كان بشرهم بذلك وأخبرهم بكل ما طرأ لهم هنالك

فقد ثبت أنه عليه السلام قال تغزو قيام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ثم تغزو قيام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من رأى رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ثم تغزو قيام فيقال لهم هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله فيقال نعم فيفتح لهم

وهذا منه إخبار بنصر أصحابه ونصر تابعيهم وتابعي تابعيهم ثلاثة قرون وهذه الأعصار هكذا انقرضت لم يزل نصر الله لهم وعونه معهم تصديقا لنبيه وإكراما لأصحابه رضي الله عنهم وجازاهم عنا بأفضل ما جازى أحدا عن أحد

ومن ذلك ما ظهر على أحد منهم مما قدمنا ذكره حيث ذكرنا أن طائفة منهم أكلت السم مع رسول الله فلم يضرها وقد ذكرنا حديث المرأة المهاجرة التي مات ابنها فقالت اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك فلا تحملني هذه المصيبة فحيى وأكل معهم وكذلك ذكرنا مقالة ثابت بن قيس بن شماس بعد موته وكلام زيد بن خارجة بعد موته فيما تقدم فلا معنى لاعادته فلتنظر فيما تقدم

ومن ذلك خبر ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في بضع أسفاره فلقى جماعة وقفوا على الطريق خوفا من السبع فطرد السبع عن طريقهم ثم قال إنما يسلط الله على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لم يسلط عليه شيء

ومن ذلك حديث العلاء بن الحضرمي بعثه رسول الله في غزاة فحال بينهم وين الموضع الذي يريدونه قطة من البحر فدعا الله باسمه الأعظم ومشوا على الماء

ومن ذلك أن عباد بن بشيرأوأسد بن خضير خرجا من عند رسول الله فأضاء لهما رأس عصا أحدهما كالسراج وقد قدمنا مثل هذا ومن ذلك أن سلمان أو أبا الدرداء كانت بينهما قصعة فسبحت حتى سمعا تسبيحها وقد تظاهرت الأخبار بأن جماعة منهم رأوا الملائكة وكانت تسلم عليهم مثل عمران بن حصين واسيد ابن حضير والأخبار في هذا كثيرة

وأما التابعون فقد ظهرت لهم من الكرامات والخيرات ما لا يمكن استيفاء ذكره في هذا الكتاب

فقد كان كثير منهم يمشي على الماء ويطير في الهواء وينظر إلى الحصى فيصير جواهر وينظر الآخر إلى الأرض بين يديه فيصير ذهبا وتطوى له الأرض ويتوضأ فيسيل الماء من بين يديه قضبان ذهب ويدعو الله تعالى فيبرئ المرضى والمجانين والزمناء إلى ما لا يحصى كثرة

وقد دون من هذا كثير يقضى منه العجب في كتب كرامات الأولياء ولو لم يكن من هذا إلا قبر معروف الكرخي الكائن ببغداد لكان فيه كفاية وأعظم آية وذلك أن قبره يستشفى به ويدعى الله عنده فيشفى المريض وتقضى الحاجة حتى أن أهل بغداد يقولون قبر معروف الكرخي ترياق مجرب

وبعد هذا أقول للنصارى وليست هذه الأمور العجيبة والأفعال الغريبة من قبيل الحيل والنيرجات التي تعظمون بها أديانكم وتموهون بها على عوامكم وتضيفونها إلى هذيانكم

فلقد حكى لنا أنكم تمخرقون على ضعفاء العقول منكم بخرافات وترهات مثل ما وصف عن بعض مشاهدكم المعظمة عندكم وذلك أنكم تزعمون أن يد الله المسيح تظهر بها في يوم واحد من السنة من وراء ستر وهذا مشهور عندكم

ولقد حكى لنا من يوثق بحديثه أن رجلا من اليهود كان قد حظى عند أحد رؤسائكم بالأندلس بوصلة كانت بينهما فرام الرئيس أن يخرج اليهودي عن دينه ويدخله في دين النصرانية وقال له ألا ترى هذه الأعجوبة ظهور يد الله المسيح لنا في يوم معلوم من السنة فقال له اليهودي يا مولاي أنا قد رضيت من هذا الأمر بشهادتك وصدقتك عليه فابحث عنه فإن كان ما يزعم هؤلاء القسيسون حقا دخلت في دينك فخالط الرئيس الشك فلما دنا ذلك اليوم مشى ذلك الرئيس إلى ذلك المشهد وقرب مالا يهديه هنالك فبرز إليه الأساقفة وقربوه لتقبيل اليد فلما ظهر له من وراء الستر وضع يده فيه فصاحوا به وأغلظوا له القول يقولون له أتق الله الآن تخسف بك الأرض الآن تقع عليك السماء الآن ترسل عليك الصواعق فقال لهم دعوا عنكم هذا كله فإن هذه اليد لا أخل يدى عنها حتى أعلم حقا ما تصفون عنها أم باطلا

فلما رأوا الحجة فروا عنه ولم يبق معه إلا اثنان أسرا إليه وقالا له ما تبغى في ذلك أصبوت عن دين آبائك أتريد أن تحل ربطا ربط منذ ألف سنة أو نحوها قال لا ولكني أحب الوقوف على سر هذه اليد فقالا هي يد الأسقف واقف خلف هذا الستر فقل أحب أن أراه فقالا أنت وذاك فكشفا له عن قس مجدود الخدين واقف خلف هذا الستر فلما عاينه الرئيس أرسل يده وخرج إلى عسكره فقال له اليهودي يا مولاي ما تأمرني به أدخل في دينك وأخرج عن ديني فقال له رأيك خرجت منه أو فلا خرجت

وكذلك وصف لنا عن صليب في بعض مشاهدكم المعظمة عندكم يمشي إليه الناس ليتعجبوا منه وهو واقف بين السماء والأرض وإن بعض رؤسائكم سأل عن ذلك كاتبا له يهوديا فتفطن اليهودي إلى أن ذلك الصليب حديد تمسكه أحجار المغناطيس فبحث عنه فوجد كذلك

وكذلك وصف عن الثريا التي في كنيسة الغراب وحيلتها حيلة الصليب وكذلك كنتم تذكرون أن هذا الكنيسة ينزل فيها نور يوقد ذبال الثريا المذكورة في ذلك اليوم المشهود فذكر ذلك لأحد ملوك بني أمية بالأندلس فتعجب من ذلك وسأل عن ذلك فأخبره رجل من أهل إفريقية بحيلتها وذكر أنهم مدوا مع الحائط قصبة حديد ضيق جوفها وأبرزوا لها أنبوبا كسم الخياط موضعه موزون مع طرف الثريا

ثم أنهم ذلك اليوم يرسلون نار النفط في القصبة متراكما حتى يخرج في غاية القوة إلى ذبال الثريا الذي هو في زنة واحدة معه

ووصف ذلك الإفريقي مع ذلك حيلا فاحتال ذلك الأمير على الكنيسة في أحد غزواته وقد دنا يومها ذلك فدعى الإفريقي وكان معه فسأله كشف ذلك فعمد الإفريقي فاستخرج منه قناة من الصفر على نحو ما كان ذكر وعمد إلى سماء الثريا فاستخرج منه حجرا من المغناطيس فسقطت فأمر الأمير عند ذلك بمعاقبة القسيس

وكذلك كنتم تزعمون أن مريم نزلت من السماء على دون إذ فنتش المطران بجامع طليطله وكست رأسه بقجيلة وجسمه بثياب مزينة وذلك في ليلة النصف من شهر أغشت فتعظمون تلك الليلة تعظيما شنيعا

وذلك كله إنما يصح عليكم لجهلكم بالأمور كلها حقها وباطلها حتى أنكم تصدقون بالباطل والترهات وتكذبون بالحق كله وباليقينيات فردكم لغير معنى وقبولكم لغير معنى فلذلك لم تعدوا من العقلاء ولم تضربوا بسهم النبلاء

ولقد أورد بعض حذاقنا المجترئين على الكلام على النصارى في كذبهم نزول مريم على دون إذ فنش إلزامات نبهت النصارى ولا محيص لهم عنها

فقال لهم أخبرونا عن نزول مريم الذي تزعمون هل كان بإذن سيدها أو بغير إذنه فإن قلتم كان بإذنه فكيف يجوز عليه أن يمتهن أم ولده بزعمكم في حق عبده وهلا كان يرسل عبدا من عبيده ويصون أم ولده

هذا يدل على عدم الغيرة ولو فعل ذلك الواحد منا لعرض نفسه وزوجته للتهم ولتضاف إليه النقائص وينسب إلى همته الخسة

وإن قلتم كان ذلك بغير إذن منه فكيف ينبغي أن تخونه مع أن الله قد اصطفاها على نساء العالم واتخذها أم ولد بزعمكم فتنزل بغير إذنه إلى رجل من جنسها بكسوة وثياب مزينة في كنيسة خالية وهذا محل خيانة

تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وسبحانه عما ينسب إليه الجاهلون بكرة وأصيلا وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله التوبة من حكاية هذه القبائح ومن رواية هذه الفضائح

فالحمد لله الذي أعاذ الإسلام من هذه الرذائل وخصه بكل الفضائل التي يستحسنها كل عاقل ويتدين بها كل فاضل ويتميز عندها الحق من الباطل

الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد
مقدمة | صدر الكتاب | الباب الأول: في بيان مذاهبهم في الأقانيم وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: أقانيم القدرة والعلم والحياة | الفصل الثالث: تعليل التثليث | الفصل الرابع: دليل التثليث | الفصل الخامس: في بيان اختلافهم في الأقانيم | الباب الثاني: في بيان مذاهبهم في الاتحاد والحلول وإبطال قولهم فيها | الفصل الثاني: معنى الاتحاد | الفصل الثالث: الواسطة بين الله وبين موسى | الفصل الرابع: تجسد الواسطة | الفصل الخامس: في حكاية كلام المتقدمين | الفصل السادس: في حكاية مذهب أغشتين إذ هو زعيم القسيسين | الباب الثالث: في النبوات وذكر كلامهم | الفصل الأول: احتجاج أصحاب الملل | الفصل الثاني: المسيح المنتظر | الفصل الثالث: المسيح عيسى ابن مريم | فصل: في بيان بعض ما طرأ في التوراة من الخلل وأنها لم تنقل نقلا متواترا فتسلم لأجله من الخطأ والزلل | فصل في بيان أن الإنجيل ليس بمتواتر وبيان بعض ما وقع فيه من الخلل | الفصل السابع: هاجر أم إسماعيل الذبيح | القسم الثاني: في النبوات وإثبات نبوة محمد | القسم الثاني: في إثبات نبوة نبينا محمد | النوع الأول من الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: إخبار الأنبياء به قبله | النوع الثاني: الاستدلال على نبوته بقرائن أحواله | خاتمة جامعة في صفاته وشواهد صدقه وعلاماته | النوع الثالث: الاستدلال على نبوته صلى الله عليه وسلم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد | الوجه الأول من وجوه إعجاز القرآن | الوجه الثاني | الوجه الثالث | الوجه الرابع | النوع الرابع | الفصل الثالث عشر في ما ظهر على أصحابه والتابعين لهم من الكرامات الخارقة للعادات | الباب الرابع: في بيان أن النصارى متحكمون في أديانهم وأنهم لا مستند لهم في أحكامهم إلا محض أغراضهم وأهوائهم | الفصل الأول: ليست النصارى على شيء | الفصل الثاني: خروج النصارى على تعاليم التوراة والإنجيل | الفن الأول: شعائر الدين النصراني وطقوسه | مسألة في المعمودية | مسألة في غفران الأساقفة والقسيسين ذنوب المذنبين واختراعهم الكفارة للعاصين | مسألة في الصلوبية وقولهم فيها | مسألة في تركهم الختان | مسألة في أعيادهم المصانة | مسألة في قربانهم | مسألة في تقديسهم دورهم وبيوتهم بالملح | مسألة في تصليبهم على وجوههم في صلاتهم | مسألة في قولهم في النعيم والعذاب الأخراوين | الفن الثاني: محاسن دين الإسلام