البداية والنهاية/الجزء التاسع/علي بن الحسين



علي بن الحسين


ابن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المشهور بزين العابدبن، وأمه أم ولد أسمها سلامة، وكان له أخ أكبر منه يقال له علي أيضا، قتل مع أبيه، روى على هذا الحديث عن أبيه وعمه الحسن بن علي، وجابر وابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي هريرة وصفية وعائشة وأم سلمة، أمهات المؤمنين. وعنه جماعة منهم بنوه زيد وعبد الله وعمر، وأبو جعفر محمد بن علي بن قر، وزيد بن أسلم، وطاووس وهو من أقرانه، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو سلمة وهو من أقرانه، وخلق.

قال ابن خلكان: كانت أم سلمة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار أن يزدجرد كان له ثلاث بنات سبين في زمن عمر بن الخطاب، فحصلت واحدة لعبد الله بن عمر فأولدها سالما، والأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولدها القاسم، والأخرى للحسين بن علي فأولدها عليا زين العابدين، هذا فكلهم بنو خالة، قال ابن خلكان: ولما قتل قتيبة بن مسلم فيروز ابن يزدجرد بعث يا بنتيه إلى الحجاج فأخذ إحداهما وبعث بالأخرى إلى الوليد، فأولدها الوليد يزيد الناقص. وذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف أن زين العابدين هذا كانت أمه سندية، يقال لها، سلامة ويقال عزالة، وكان مع أبيه بكربلاء، فاستبقى لصغره، وقيل لمرضه فإنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة، وقيل أكثر من ذلك، وقد هم بقتله عبيد الله بن زياد، ثم صرفه الله عنه، وأشار بعض الفجرة على يزيد بن معاوية بقتله أيضا فمنعه الله منه، ثم كان يزيد بعد ذلك يكرمه ويعظمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا وهو عنده، ثم بعثهم إلى المدينة، وكان على بالمدينة محترما معظما، قال ابن عساكر: ومسجده بدمشق المنسوب إليه معروف. قلت: وهو مشهد علي بالناحية الشرقية من جامع دمشق، وقد استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة وطراز القراطيس، قال الزهري: ما رأيت قرشيا أورع منه ولا أفضل. وكان مع أبيه يوم قتل ابن ثلاث وعشرين سنة وهو مريض، فقال عمر ابن سعد: لا تعرضوا لهذا المريض. وقال الواقدي: كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل، وكان إذا مشى لا يخطر بيده، وكان يعتم بعمامة بيضاء يرخيها من ورائه، وكان كنيته أبا الحسن، وقيل أبا محمد، وقيل أبا عبد الله. وقال محمد بن سعد: كان ثقةً مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا، وأمه عزالة خلف عليها بعد الحسين مولاه زبيد فولدت له عبد الله بن زبيد، وهو عليِّ الأصغر، فأما الأكبر فقتل مع أبيه. وكذا قال غير واحد، وقال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم ومالك وأبو حازم: لم يكن في أهل البيت مثله، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: سمعت علي ابن الحسين وهو أفضل هاشمي أدركته يقول: يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا. وفي رواية حتى بغضتمونا إلى الناس. وقال الأصمعي: لم يكن للحسين عقب إلا من علي بن الحسين، ولم يكن لعلي بن الحسين نسل إلا من ابن عمه الحسن، فقال له مروان بن الحكم: لو اتخدت الساراري يكثر أولادك، فقال: ليس لي ما أتسرى به، فأقرضه مائة ألف فاشترى له الساراري فولدت له وكثر نسله، ثم لما مرض مروان أوصى أن لا يؤخذ من علي بن الحسين شيء مما كان أقرضه، فجميع الحسينيين من نسله رحمه الله. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أصح الأسانيد كلها الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، وذكروا أنه احترق البيت الذي هو فيه وهو قائم يصلي، فلما انصرف قالوا له: مالك لم تنصرف؟ فقال: إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى، وكان إذا توضأ يصفر لونه، فإذا قام إلى الصلاة ارتعد من الفرق، فقيل له في ذلك، فقال: ألا تدرون بين يدي من أقوم ولمن أناجي؟

ولما حج أراد أن يلبي فارتعد وقال: أخشى أن أقول لبيك اللهم لبيك، فيقال لي: لا لبيك، فشجعوه على التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن الراحلة.

وكان يصلي في كل يوم و ليلة ألف ركعة.

وقال طاووس: سمعته وهو ساجد عند الحجر يقول: عبيدك بفنائك. سائلك بفنائك. فقيرك بفنائك، قال طاووس: فوالله ما دعوت بها في كرب قط إلا كشف عني.

وذكروا أنه كان كثير الصدقة بالليل، وكان يقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنور القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة، وقاسم الله تعالى ماله مرتين.

وقال محمد بن إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به.

ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل.

وقيل: إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات.

ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده فبكى ابن أسامة فقال له: ما يبكيك؟ قال: عليَّ دين، قال: وكم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار - وفي رواية سبعة عشر ألف دينار - فقال: هي عليَّ.

وقال علي بن الحسين: كان أبو بكر وعمر من رسول الله في حياته بمنزلتهما منه بعد وفاته.

ونال منه رجل يوما فجعل يتغافل عنه - يريه أنه لم يسمعه - فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له علي: وعنك أغضي.

وخرج يوما من المسجد فسبه رجل، فانتدب الناس إليه، فقال: دعوه، ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: إنك من أولاد الأنبياء.

قالوا: واختصم علي بن الحسين وحسن بن حسن - وكان بينهما منافسة - فنال منه حسن بن حسن وهو ساكت، فلما كان الليل ذهب علي بن الحسين إلى منزله، فقال: يا ابن عم إن كنت صادقا يغفر الله لي، وإن كنت كاذبا يغفر الله لك والسلام عليك، ثم رجع، فلحقه فصالحه.

وقيل له: من أعظم الناس خطرا؟ فقال: من لم ير الدنيا لنفسه قدرا.

وقال أيضا: الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته، وقال: فقد الأحبة غربة.

وكان يقول: إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرون عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وآخرون عبدوه محبة وشكرا، فتلك عبادة الأحرار الأخيار.

وقال لابنه: يا بني لا تصحب فاسقا فإنه يبيعك بأكلة وأقل منها يطمع فيها ثم لا ينالها، ولا بخيلا فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، ولا كذابا فإنه كالسراب يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب، ولا أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا قاطع رحم فإنه ملعون في كتاب الله، قال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 22-23]

وكان علي بن الحسين إذا دخل المسجد تخطى الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، فقال له نافع بن جبير بن مطعم: غفر الله لك، أنت سيد الناس تأتي تخطي حلق أهل العلم وقريش حتى تجلس مع هذا العبد الأسود؟ فقال له علي بن الحسين: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع، وإن العلم يطلب حيث كان.

وقال الأعمش، عن مسعود بن مالك، قال: قال لي علي بن الحسين: أتستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جبير؟ فقلت: ما تصنع به؟ قال: أريد أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها ولا منقصة، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء - وأشار بيده إلى العراق -.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زر بن عبيد، قال: كنت عند ابن عباس، فأتى علي بن الحسين فقال ابن عباس: مرحبا بالحبيب ابن الحبيب.

وقال أبو بكر بن محمد بن يحيى الصولي: ثنا العلاء، ثنا إبراهيم بن بشار، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، قال: كنا عند جابر بن عبد الله، فدخل عليه علي بن الحسين فقال: كنت عند رسول الله ، فدخل عليه الحسين بن علي فضمه إليه وقبله وأقعده إلى جنبه، ثم قال: «يولد لابني هذا ابنُ يقال له: علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش ليقم سيد العابدين فيقوم هو هذا». حديث غريب جدا أورده ابن عساكر.

وقال الزهري: كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين، وما رأيت أفقه منه، وكان قليل الحديث، وكان من أفضل أهل بيته، وأحسنهم طاعة، وأحبهم إلى مروان وابنه عبد الملك، وكان يسمى زين العابدين.

وقال جويرية بن أسماء: ما أكل علي بن الحسين بقرابته من رسول الله درهما قط. رحمه الله ورضي عنه.

وقال محمد بن سعد: أنبأ علي بن محمد، عن سعيد بن خالد، عن المقبري، قال: بعث المختار إلى علي بن الحسين بمائة ألف فكره أن يقبلها وخاف أن يردها، فاحتبسها عنده، فلما قتل المختار كتب إلى عبد الملك بن مروان: إن المختار بعث إلى بمائة ألف فكرهت أن أقبلها وكرهت أن أردها، فابعث من يقبضها. فكتب إليه عبد الملك: يا ابن عم ! خذها فقد طيبتها لك، فقبلها.

وقال علي بن الحسين: سادة الناس في الدنيا الأسخياء الأتقياء، وفي الآخرة أهل الدين وأهل الفضل والعلم الأتقياء، لأن العلماء ورثة الأنبياء.

وقال أيضا: إني لأستحي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله له الجنة، وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: فإذا كانت الجنة بيدك كنت بها أبخل، وأبخل وأبخل.

وذكروا أنه كان كثير البكاء فقيل له: في ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يعلم أنه مات، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة، فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا؟

وقال عبد الرزاق: سكبت جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله يقول: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } [آل عمران: 134] .

فقال: و قد كظمت غيظي.

قالت: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }.

فقال: عفا الله عنك.

فقالت: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }.

قال: أنت حرة لوجه الله تعالى.

وقال الزبير بن بكار: ثنا عبد الله بن إبراهيم بن قدامة اللخمي، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن علي، عن أبيه، قال: جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين الذين { أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الحشر: 8] .

قالوا: لا، قال: فأنتم من الذين { تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } [الحشر: 9] .

قالوا: لا ! فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل فيهم: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا لِلَّذِينَ آمَنُوا } [الحشر: 10] الآية، فقوموا عني لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام ولستم من أهله.

وجاء رجل فسأله متى يبعث علي؟ فقال: يبعث والله يوم القيامة و تهمُّه نفسه.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثت عن سعيد بن سليمان، عن علي بن هاشم، عن أبي حمزة الثمالي: أن علي بن الحسين كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني أتصدق اليوم - أو أهب عرضي اليوم - من استحله.

وروى ابن أبي الدنيا: أن غلاما سقط من يده سفود وهو يشوي شيئا في التنور على رأس صبي لعلي بن الحسين فقتله، فنهض علي بن الحسين مسرعا، فلما نظر إليه قال للغلام: إنك لم تتعمد، أنت حر، ثم شرع في جهاز ابنه.

وقال المدائني: سمعت سفيان، يقول: كان علي بن الحسين يقول: ما يسرني أن لي بنصيبي من الذل حمر النعم. ورواه الزبير بن بكار من غير وجه عنه.

ومات لرجل ولد مسرف على نفسه، فجزع عليه من أجل إسرافه، فقال له علي بن الحسين: إن من وراء ابنك خلالا ثلاثا: شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله عز وجل.

وقال المدائني: قارف الزهري ذنبا فاستوحش منه وهام على وجهه وترك أهله وماله. فلما اجتمع بعلي بن الحسين قال له: يا زهري قنوطك من رحمه الله التي وسعت كل شيء أعظم من ذنبك، فقال الزهري: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124] .

وفي رواية: أنه كان أصاب دما حراما خطأ، فأمره علي بالتوبة والاستغفار، وأن يبعث الدية إلى أهله، ففعل ذلك.

وكان الزهري يقول: علي بن الحسين أعظم الناس علي منَّة.

وقال سفيان بن عيينة: كان علي بن الحسين يقول: لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم، وما أصطحب اثنان على معصية إلا أوشك أن يفترقا على غير طاعة.

وذكروا أنه زوج أمه من مولى له، وأعتق أمة فتزوجها، فأرسل إليه عبد الملك يلومه في ذلك، فكتب إليه: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا } [الأحزاب: 21] وقد أعتق صفية فتزوجها، وزوج مولاه زيد بن حارثة من بنت عمه زينب بنت جحش.

قالوا: وكان يلبس في الشتاء خميصة من خز بخمسين دينارا، فإذا جاء الصيف تصدق بها، ويلبس في الصيف الثياب المرقعة ودونها، ويتلو قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } [الأعراف: 32] .

وقد روي من طرق ذكرها الصولي والجريري وغير واحد أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه وأخيه الوليد، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبةً واحتراما، وهو في بزة حسنة، وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه - استنقاصا به واحتقارا لئلا يرغب فيه أهل الشام -فقال الفرزدق: - وكان حاضرا - أنا أعرفه، فقالوا: ومن هو؟ فأشار الفرزدق يقول:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت * عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياءً ويغضى من مهابته * فما يكلَّم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحها عبق * من كف أروع في عرنينه شمم

مشتقة من رسول الله نبعته * طابت عناصرها والخيم الشيم

ينجاب نور الهدى من نور غرته * كالشمس ينجاب عن إشراقها الغيم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا * حلو الشمائل تحلو عنده نعم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا

من جده دان فضل الأنبياء له * وفضل أمته دانت لها الأمم

عم البرية بالإحسان فانقشعت * عنها الغواية والإملاق والظلم

كلتا يديه غياث عم نفعهما * يستوكفان ولا يعروهما العدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره * يزينه اثنتان الحلم والكرم

لا يخلف الوعد ميمون بغيبته * رحب الفناء أريب حين يعتزم

من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر و قربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبهم * ويستزاد به الإحسان والنعم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم * في كل حكم ومختوم به الكلم

إن عدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت * والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

يأبى لهم أن يحلّ الذم ساحتهم * خيم كرام وأيد بالندى هضم

لا ينقص العدم بسطا من أكفهم * سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

أي الخلائق ليست في رقابهم * لأولية هذا أوله نعم

فليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم

من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الأمم

قال: فغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: إنما قلت ما قلت لله عز وجل ونصرة للحق، وقياما بحق رسول الله في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء. فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك، وأقسمت عليك بالله لتقبلنها فتقبلها منه، ثم جعل يهجو هشاما وكان مما قال فيه:

تحبسني بين المدينة و التي إليها * قلوب الناس تهوي منيبها

يقلِّب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينين حولاوين باد عيوبها

وقد روينا عن علي بن الحسين أنه كان إذا مرت به الجنازة يقول هذين البيتين:

نراع إذا الجنائز قابلتنا * ونلهو حين تمضي ذاهبات

كروعة ثلة لمغار سبع * فلما غاب عادت راتعات

وروى الحافظ ابن عساكر، من طريق محمد بن عبد الله المقري: حدثني سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربه:

يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، ما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من ألَّافك؟ ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى الثرى من أقرانك؟ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها، محاسنهم فيها بوال دواثر.

خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادر

وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها * وضمهم تحت التراب الحفائر

كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون، وكم غيرت الأرض ببلائها، وغيبت في ترابها، ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأمارس، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الإفلاس:

وأنت على الدنيا مكب منافس * لخطابها فيها حريص مكاثر

على خطر تمشي وتصبح لاهيا * أتدري بماذا لو عقلت تخاطر

وإن امرءا يسعى لدنياه دائبا * ويذهل عن أخراه لاشك خاسر

فحتام على الدنيا إقبالك؟ وبشهواتك اشتغالك؟ وقد وخطك القتير، وأتاك النذير، وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات:

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى * عن اللهو واللذات للمرء زاجر

أبعد اقتراب الأربعين تربص * وشيب قذال منذر للكابر

كأنك معنى بما هو ضائر * لنفسك عمدا وعن الرشد حائر

انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية، كيف اختطفتهم عقبان الأيام، ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم، وأضحوا رمما في التراب، إلى يوم الحشر والمآب:

أمسحوا رميما في التراب وعطلت * مجالسهم منهم وأخلى مقاصر

وحلوا بدار لا تزاور بينهم * وأنىَّ لسكان القبور التزاور

فما أن ترى إلا قبورا قد ثووا بها * مسطحة تسفى عليها الأعاصر

كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان، تمكن من دنياه، ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر.

فما صرفت كف المنية إذ أتت * مبادرة تهوي إليه الذخائر

ولا دفعت عنه الحصون التي بنى * وحف بها أنهاره والدساكر

ولا قارعت عنه المنية حيلة * ولا طمعت في الذب عنه العساكر

أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضائه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار، المتكبر العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزه كل سلطان.

وأباد بقوته كل ديان.

مليك عزيز لا يرد قضاؤه * حكيم عليم نافذ الأمر قاهر

عنى كل عز لعزة وجهه * فكم من عزيز للمهيمن صاغر

لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت * لعزة ذي العرش الملوك الجبابر

فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكايدها، وما نصبت لك من مصايدها، وتحلت لك من زينتها، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها:

وفي دون ما عاينت من فجعاتها * إلى دفعها داع وبالزهد آمر

فجد ولا تغفل وكن متيقظا * فعما قليل يترك الدار عامر

فشمر ولا تفتر فعمرك زائل * وأنت إلى دار الإقامة صائر

ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها * وإن نلت منها غبهُ لك ضائر

فهل يحرص عليها لبيب، أو يسر بها أريب؟ وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات:

ألا لا ولكنا نغرُّ نفوسنا * وتشغلنا اللذات عمَّا نحاذر

وكيف يلذ العيش من هو موقفٌ * بموقف عدل يوم تبلى السرائر

كأنا نرى أن لا نشور وأننا * سدىً مالنا بعد الممات مصادر

وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وفي طلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها.

أما قد نرى في كل يوم وليلة * يروح علينا صرفها ويباكر

تعاورنا آفاتها وهمومها * وكم قد ترى يبقى لها المتعاوِرُ

فلا هو مغبوط بدنياه آمن * ولا هو عن تَطلابها النفس قاصر

كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمه.

بل أوردته بعد عز ومنعة * موارد سوء مالهنَّ مصادر

فلما رأى أن لا نجاة وأنه * هو الموت لا ينجيه منه التحاذر

تندم إذ لم تغن عنه ندامة * عليه وأبكته الذنوب الكبائر

إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزل البلية.

أحاطت به أحزانه وهمومه * وأبلس لما أعجزته المقادر

فليس له من كربة الموت فارج * وليس له مما يحاذر ناصر

وقد جشأت خوف المنية نفسه * ترددها منه اللها والحناجر

هنالك خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بالعويل، وقد أيسوا من العليل، فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه، وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشفيق.

فكم موجع يبكي عليه مفجعٌ * ومستنجد صبرا وما هو صابر

ومسترجع داع له الله مخلصا * يعدد منه كل ما هو ذاكر

وكم شامتٍ مستبشر بوفاته * وعما قليل للذي صار صائر

فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لإبرازه. كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى، ولا الحبيب المبدى.

وحل أحبَّ القوم كان بقربه * يحثُّ على تجهيزه ويبادر

وشمرَّ من قد أحضروه لغسله * ووجه لما فاض للقبر حافر

وكفن في ثوبين واجتمعت له * مشيعة إخوانه والعشائر

فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه واحرباه:

لعاينت من قبح المنية منظرا * يهال لمرآه ويرتاع ناظر

أكابر أولاد يهيج اكتئابهم * إذا ما تناساه البنون الأصاغر

وربَّة نسوان عليه جوازع * مدامعهم فوق الخدود غوازر

ثم أخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما استقر في اللحد وهيئ عليه اللبن، احتوشته أعماله وأحطت به خطاياه، وضاق ذرعا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه، وأيسوا من النظر إليه، وتركوه هنا بما كسب وطلب.

فولوا عليه معولين وكلهم * لمثل الذي لاقى أخوه محاذر

كشاءِ رتاع آمنين بدا لها * بمديته بادي الذراعين حاسر

فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت * فلما نأى عنها الذي هو جازر

عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفبأفعال الأنعام اقتدينا؟ أم على عادتها جرينا؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى.

ثوى مفردا في لحده وتوزعت * مواريثه أولاده والأصاهر

وأحنوا على أمواله يقسمونها * فلا حامد منهم عليها وشاكر

فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها * ويا آمنا من أن تدور الدوائر

كيف أمنت هذه الحالة وأنت صائر إليها لا محالة؟ أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك إلى مماتك؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك؟ أم كيف تهنأ بالشهوات، وهي مطية الآفات.

ولم تتزود للرحيل وقد دنا * وأنت على حال وشيك مسافر

فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي * وعمري فانٍ والردى لي ناظر

وكل الذي أسلفت في الصحف مثبتٌ * يجازي عليه عادل الحكم قادر

فكم ترقع بآخرتك دنياك، وتركب غيك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا نزل القرآن؟ أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب، وشر المآب؟ أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورا، ومساكنهم قبورا:

تخرب ما يبقى وتعمر فانيا * فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر

وهل لك إن وافاك حتفك بغتة * ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر

أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي * ودينك منقوص ومالك وافر

وقد اختلف أهل التاريخ في السنة التي توفي فيها علي بن الحسين، زين العابدين، فالمشهور عن الجمهور أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة أربع وتسعين - في أولها عن ثمان وخمسين سنة، وصلى عليه بالبقيع، ودفن به، قال الفلاس: مات علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، سنة أربع وتسعين.

وقال بعضهم: توفي سنة ثنتين أو ثلاث وتسعين.

وأغرب المدائني في قوله: إنه توفي سنة تسع وتسعين، والله أعلم. انتهى ما ذكره المؤلف من ترجمة علي بن الحسين

وقد رأيت له كلاما متفرقا وهو من جيد الحكمة، فأحببت أن أذكره لعل الله أن ينفع به من وقف عليه:

قال حفص بن غياث: عن حجاج، عن أبي جعفر، عن علي بن الحسين، قال: إن الجسد إذا لم يمرض أشر وبطر، ولا خير في جسد يأشر ويبطر.

وقال أبو بكر بن الأنباري: حدثنا أحمد بن الصلت، حدثنا قاسم بن إبراهيم العلوي، حدثنا أبي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قال علي بن الحسين: فقد الأحبة غربة.

وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات الغيوب سريرتي، اللهم كما أسأت وأحسنت إليَّ، فإذا عدت فعد إليَّ. اللهم ارزقني مواساة من قترت عليه رزقك بما وسعت علي من فضلك.

وقال لابنه: يا بني اتخذ ثوبا للغائط، فإني رأيت الذباب يقع على الشيء ثم يقع على الثوب. ثم انتبه فقال: وما كان لرسول الله () وأصحابه إلا ثوب واحد، فرفضه.

وعن حمزة الثمالي قال: أتيت باب علي بن الحسين فكرهت أن أصوت فقعدت على الباب حتى خرج فسلمت عليه ودعوت له فرد علي السلام ودعا لي، ثم انتهى إلى حائط فقال: يا حمزة ترى هذا الحائط؟ قلت: نعم ! قال: فإني اتكأت عليه يوما وأنا حزين فإذا رجل حسن الوجه حسن الثياب ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين ! مالي أراك كئيبا حزينا على الدنيا ! فهي رزق حاضر يأخذ منها البر الفاجر. فقلت: ما عليها أحزن لأنها كما تقول، فقال: على الآخرة؟ فهي وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، فقلت: ما على هذا أحزن لأنه كما تقول. فقال: فعلام حزنك؟ فقلت: ما أتخوف من الفتنة - يعني فتنة ابن الزبير - فقال لي: يا علي ! هل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا ! قال: ويخاف الله فلم يكفه؟ قلت: لا ! ثم غاب عني فقيل لي: يا علي إن هذا الخضر الذي جاءك، لفظ الخضر مزاد فيه من بعض الرواة.

وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الخضري، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن عمر بن حارث. قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره. فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جُرُب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة. وقال ابن عائشة: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين.

وروى عبد الله بن حنبل، عن ابن اشكاب، عن محمد بن بشر، عن أبي المنهال الطائي، أن علي بن الحسين كان إذا ناول المسكين الصدقة قبله ثم ناوله.

وقال الطبري: حدثنا يحيى بن زكريا الغلابي، حدثنا العتبي، حدثني أبي، قال: قال علي بن الحسين - وكان من أفضل بني هاشم الأربعة -: يا بني اصبر على النوائب ولا تتعرض للحقوق، ولا تخيب أخاك إلا في الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته لك.

وروى الطبراني بإسناده عنه: أنه كان جالسا في جماعة فسمع داعية في بيته، فنهض فدخل منزله، ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمن حدث كانت الداعية؟ قال: نعم ! فعزوه وتعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيع الله عز وجل فيما نحبه، ونحمده على ما نكره.

وروى الطبراني، عنه، قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة. فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: من أنتم؟ قالوا: نحن أهل الفضل، قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا، قالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي مناد ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: فما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله، وصبرناها على البلاء. فقالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ثم ينادي المنادي: ليقم جيران الله في داره ! فيقوم ناس من الناس و هم قليل، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم مثل ذلك، فيقولون: بم استحققتم مجاورة الله عز وجل في داره؟ فيقولون: كنا نتزاور في الله، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله عز وجل. فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.

وقال علي بن الحسين: إن الله يحب المؤمن المذنب التواب.

وقال: التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي منهم تقاة. قالوا: وما تقاه؟ قال: يخاف جبارا عنيدا أن يسطو عليه، وأن يطغى.

وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحدا أورع من فلان. فقال له سعيد: هل رأيت علي بن الحسين؟ قال: لا ! قال: ما رأيت أورع منه.

وروى سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: دخلت على علي بن الحسين، فقال: يا زهري فيم كنتم؟ قلت: كنا نتذاكر الصوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شيء واجب، إلا شهر رمضان، فقال: يا زهري ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجها، عشرة منها واجب كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربع عشرة منها صاحبها بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب، قال الزهري: قلت: فسرهن يا ابن رسول الله ()، قال: أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصوم شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، وصيام ثلاثة أيام كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، وصيام حلق الرأس، وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، وصوم جزاء الصيد، يقوم الصيد قيمته ثم يقسم ذلك الثمن على الحنطة. وأما الذي صاحبه بالخيار: فصوم الاثنين والخميس، وستة أيام من شوال بعد رمضان، وصوم عرفة، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار. فأما صوم الأذن: فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة، وأما صوم الحرام: فصوم يوم الفطر، والأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك، نهينا أن نصومه لرمضان. وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر، وصوم الضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن صاحبه، قال رسول الله (): «من نزل على قوم فلا يصومنَّ تطوعا إلا بإذنهم». وأما صوم الإباحة: فمن أكل أو شرب ناسيا أجزأه صومه، وأما صوم المريض والمسافر، فقال قوم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شار أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء.

البداية والنهاية - الجزء التاسع
ثم دخلت سنة أربع وسبعين | رافع بن خديج بن رافع الأنصاري | أبو سعيد الخدري | عبد الله بن عمر | عبيد بن عمير | أبو جحيفة | سلمة بن الأكوع | مالك بن أبي عامر | أبو عبد الرحمن السلمي | أبو معرض الأسدي | بشر بن مروان | ثم دخلت سنة خمس وسبعين | وفيها خرج داود بن النعمان المازني بنواحي البصرة فوجه إليه الحجاج أميرا على سرية فقتله | وكان ممن توفي فيها في قول أبي مسهر وأبي عبيد | أبو ثعلبة الخشني | الأسود بن يزيد | حمران بن أبان | ثم دخلت سنة ست وسبعين | قال ابن جرير وفي هذه السنة نقش عبد الملك بن مروان على الدراهم والدنانير وهو أول من نقشها | وممن توفي فيها من الأعيان أبو عثمان النهدي القضاعي | صلة بن أشيم العدوي | زهير بن قيس البلوي | ثم دخلت سنة سبع وسبعين | مقتل شبيب عند ابن الكلبي | كثير بن الصلت | محمد بن موسى | عياض بن غنم الأشعري | مطرف بن عبد الله | ثم دخلت سنة ثمان وسبعين | جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام | شريح بن الحارث | عبد الله بن غنم الأشعري | جنادة بن أمية الأزدي | العلاء بن زياد البصري | سراقة بن مرداء الأزدي كان شاعرا مطبقا هجا الحجاج فنفاه إلى الشام فتوفي بها | ثم دخلت سنة تسع وسبعين | عبيد الله بن أبي بكرة رحمه الله | ثم دخلت سنة ثمانين من الهجرة النبوية | أسلم مولى عمر بن الخطاب | جبير بن نفير | عبد الله بن جعفر بن أبي طالب | أبو إدريس الخولاني | معبد الجهني القدري | ثم دخلت سنة إحدى وثمانين | فتنة بن الأشعث | بجير بن ورقاء الصريمي | أبو أمية الجعفي الكوفي | عبد الله بن شداد بن الهاد | محمد بن علي بن أبي طالب | ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين | وقعة دير الجماجم | وفي هذه السنة كانت وفاة المهلب بن أبي صفرة | توفي المهلب غازيا بمرو الروذ وعمره ستة وسبعون سنة رحمه الله | أسماء بن خارجة الفزاري الكوفي | المغيرة بن المهلب | الحارث بن عبد الله | محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة | عبد الله بن أبي طلحة بن أبي الأسود | عبد الله بن كعب بن مالك | عفان بن وهب | جميل بن عبد الله | عمر بن عبيد الله | كمَيل بن زياد | زاذان أبو عمرو الكندي | أم الدرداء الصغرى | ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين | بناء واسط | عبد الرحمن بن جحيرة | طارق بن شهاب | عبيد الله بن عدي | ثم دخلت سنة أربع وثمانين | أيوب بن القرية | أبو زرعة الجذامي الفلسطيني | عمران بن حطان الخارجي | روح بن زنباع الجذامي | روح بن زنباع | ثم دخلت سنة خمس وثمانين | عبد العزيز بن مروان | بيعة عبد الملك لولده الوليد ثم من بعده لولده سليمان | أبان بن عثمان بن عفان | واثلة بن الأسقع | خالد بن يزيد | ثم دخلت سنة ست وثمانين | وممن يذكر أنه توفي في هذه السنة تقريبا أرطأة بن زفر | مطرف بن عبد الله بن الشخير | خلافة الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق | ثم دخلت سنة سبع وثمانين | وفيها غزا قتيبة بن مسلم بلاد الترك | عتبة بن عبد السلمي | المقدام بن معدي كرب | أبو أمامة الباهلي | قبيصة بن ذؤيب | عروة بن المغيرة بن شعبة | شريح بن الحارث بن قيس القاضي | ثم دخلت سنة ثمان وثمانين | عبد الله بن بسر بن أبي بسر المازني | عبد الله بن أبي أوفى | وفيها توفي هشام بن إسماعيل | عمير بن حكيم | ثم دخلت سنة تسع وثمانين | عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير | ثم دخلت سنة تسعين من الهجرة | يتاذوق الطبيب | وتوفي في هذه السنة محمد بن يوسف الثقفي | خالد بن يزيد بن معاوية | عبد الله بن الزبير | ثم دخلت سنة إحدى وتسعين | السائب بن يزيد بن سعد بن تمامة | سهل بن سعد الساعدي | ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين | مالك بن أوس | طويس المغني | الأخطل | ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين | فتح سمرقند | أنس بن مالك ابن النضر بن ضمضم | عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة | بلال بن أبي الدرداء | بشر بن سعيد المزني | زرارة بن أوفى | خبيب بن عبد الله | حفص بن عاصم | سعيد بن عبد الرحمن | فروة بن مجاهد | أبو الشعثاء جابر بن زيد | ثم دخلت سنة أربع وتسعين | مقتل سعيد بن جبير رحمه الله | سعيد بن جبير الأسدي | سعيد بن المسيب | طلق بن حبيب العنزي | عروة بن الزبير بن العوام | علي بن الحسين | أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث | أبو سلمة بن عبد الرحمن | عبد الرحمن بن عائذ | عبد الرحمن بن معاوية بن خزيمة | ثم دخلت سنة خمس وتسعين | وهذه ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وذكر وفاته | فصل خطبة الحجاج لأهل العراق | فصل فيما روي عنه من الكلمات النافعة والجراءة البالغة | إبراهيم بن يزيد النخعي | الحسن بن محمد بن الحنفية | حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري | ثم دخلت سنة ست وتسعين | فصل فيما روي في جامع دمشق من الآثار | الكلام على ما يتعلق برأس يحيى بن زكريا عليهما السلام | ذكر الساعات التي على بابه | ذكر ابتداء أمر السبع بالجامع الأموي | فصل بناء الجامع الأموي | ترجمة الوليد بن عبد الملك | عبد الله بن عمر بن عثمان | خلافة سليمان بن عبد الملك | مقتل قتيبة بن مسلم رحمه الله | ثم دخلت سنة سبع وتسعين | الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب | موسى بن نصير أبو عبد الرحمن اللخمي | ثم دخلت سنة ثمان وتسعين | وفيها فتحت مدينة الصقالبة | وممن توفي فيها من الأعيان سنة ثمانية وتسعين | ثم دخلت سنة تسع وتسعين | خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه | عبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد | محمود بن لبيد بن عقبة | نافع بن جبير بن مطعم | كريب بن مسلم | محمد بن جبير بن مطعم | مسلم بن يسار | حنش بن عمرو الصنعاني | خارجة بن زيد | سنة مائة من الهجرة النبوية | وفيها كان بدوّ دعوة بني العباس | سالم بن أبي الجعد الأشجعي | أبو أمامة سهل بن حنيف | أبو الزاهرية حدير بن كريب الحمصي | أبو الطفيل عامر بن واثلة | أبو عثمان النهدي | ثم دخلت سنة إحدى ومائة | وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز الإمام المشهور رحمه الله | فصل وقد كان منتظرا فيما يؤثر من الأخبار | فصل حديث إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة | فصل صفات عمر بن عبد العزيز ووصاياه | ذكر سبب وفاته رحمه الله | فصل خلافة عمر بن عبد العزيز | خلافة يزيد بن عبد الملك | وفيها توفي سنة إحدى ومائة | ثم دخلت سنة ثنتين ومائة | ولاية مسلمة على بلاد العراق وخراسان | ذكر وقعة جرت بين الترك والمسلمين | وممن توفي فيها من الأعيان والسادة | أبو المتوكل الناجي | ثم دخلت سنة ثلاث ومائة | أبو محمد القاص المدني | مجاهد بن جبير المكي | فصل قول ابن عباس: لا تنامن إلا على وضوء | مصعب بن سعد بن أبي وقاص | موسى بن طلحة بن عبيد الله التميمي | ثم دخلت سنة أربع ومائة | خالد بن سعدان الكلاعي | عامر بن سعد بن أبي وقاص الليثي | عامر بن شراحبيل الشعبي | أبو بردة بن أبو موسى الأشعري | أبو قلابة الجرمي | ثم دخلت سنة خمس ومائة | هو يزيد بن عبد الملك بن مروان | خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان | ثم دخلت سنة ست ومائة | سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب | وطاوس بن كيسان اليماني | ثم دخلت سنة سبع ومائة | سليمان بن يسار أحد التابعين | عكرمة مولى ابن عباس | القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق | وفيها توفي كثير عزة الشاعر المشهور | ثم دخلت سنة ثمان ومائة | بكر بن عبد الله المزني البصري | راشد بن سعد المقراني الحمصي | محمد بن كعب القرظي | ثم دخلت سنة تسع ومائة | سنة عشر ومائة من الهجرة النبوية | جرير الشاعر | فأما الحسن بن أبي الحسن | وأما ابن سيرين | أما الحسن أبو سعيد البصري | محمد بن سيرين | وهيب بن منبه اليماني | فصل أدرك وهب بن منبه عدة من الصحابة، وأسند عن: ابن عباس، وجابر، والنعمان بن بشير | سليمان بن سعد | أم الهذيل | عائشة بنت طلحة بن عبد الله التميمي | عبد الله بن سعيد بن جبير | عبد الرحمن بن أبان | ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة | ثم دخلت سنة ثنتي عشرة ومائة | رجاء بن حيوة الكندي | شهر بن حوشب الأشعري الحمصي | ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة | قال ابن جرير فيها كان مهلك الأمير عبد الوهاب بن بخت | مكحول الشامي | ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة | عطاء بن أبي رباح | فصل من أقوال عطاء بن أبي رباح | ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة | أبو جعفر الباقر | فصل ترجمة أبو جعفر رضي الله عنه | ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة | ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة | قتادة بن دعامة السدوسي | نافع مولى ابن عمر | ذو الرمة الشاعر | ثم دخلت سنة ثماني عشرة ومائة | علي بن عبد الله بن عباس | ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة | سنة عشرين ومائة من الهجرة | ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة | زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب | مسلمة بن عبد الملك | نمير بن قيس | ثم دخلت سنة ثنين وعشرين ومائة | إياس الذكي | ثم دخلت سنة ثلاث عشرين ومائة | ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة | القاسم بن أبي بزة | الزهري | بلال بن سعد | ترجمة الجعد بن درهم | ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة | ذكر وفاته وترجمته رحمه الله