البداية والنهاية/الجزء التاسع/فصل صفات عمر بن عبد العزيز ووصاياه
وقد رد جميع المظالم كما قدمنا، حتى أنه رد فص خاتم كان في يده، قال: أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى أنه ترك التمتع بزوجته الحسناء، فاطمة بنت عبد الملك، يقال: كانت من أحسن النساء، ويقال: أنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم.
وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في خلافته ثلاثمائة درهم.
وكان له من الأولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال: إنه كان خيرا من أبيه، فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه.
وكان قبل الخلافة يؤتى بالقميص الرفيع اللين جدا فيقول: ما أحسنه لولا خشونة فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع، و لا يغسله حتى يتسخ جدا، ويقول: ما أحسنه لولا لينه. وكان يلبس الفروة الغليظة.
وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يبن شيئا في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال: ما تركت شيئا من الدنيا إلا عوضني الله ما هو خير منه.
وكان يأكل الغليظ، ولا يبالي بشيء من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده، حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني، لأن عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون؟ ليس من جرب كمن لم يجرب.
وتقدم قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز.
وقال عبد الله بن دينار: لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئا.
وذكروا أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ المروحة من يدها وجعل يروحها، ويقول: أصابك من الحر ما أصابني.
وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرا. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرا.
ويقال: إنه كان يلبس تحت ثيابه مسحا غليظا من شعر، ويضع في رقبته غلا إذا قام يصلي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنونه مالا أو جوهرا من حرصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غل و مسح.
وكان يبكي حتى يبكي الدم من الدموع، ويقال: إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعه من الميزاب، وكان يأكل من العدس ليرق قلبه وتغزر دمعته، وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وقرأ رجل عنده { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانا ضَيِّقا مُقَرَّنِينَ } الآية [الفرقان: 13] ، فبكى بكاءً شديدا، ثم قام فدخل منزله، وتفرق الناس عنه.
وكان يكثر أن يقول: اللهم سلِّم سلِّم.
وكان يقول: اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح لأمة محمد ﷺ، وأهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد ﷺ.
وقال: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم.
وقال: لو أن المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة.
وقال: الدنيا عدوة أولياء الله، وولية أعداء الله، أما الأولياء فغمتهم و أحزنتهم، وأما الأعداء فغرتهم وشتتهم وأبعدتهم عن الله.
وقال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع.
وقال لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقله.
وقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أعطى أو منع.
وقال: قيدوا العلم بالكتاب، وقال لرجل: علم ولدك الفقه الأكبر: القناعة وكف الأذى.
وتكلم رجل عنده فأحسن فقال: هذا هو السحر الحلال.
وقصته مع أبي حازم مطولة حين رآه خليفة وقد شحب وجهه من التقشف، وتغير حاله، فقال له: ألم يكن ثوبك نقيا؟ ووجهك وضيا؟ وطعامك شهيا؟ ومركبك وطيا؟ فقال له: ألم تخبرني عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: «إن من ورائكم عقبة كؤودا لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول»؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أن القيامة قد قامت، وقد استدعى بكل من الخلفاء الأربعة، فأمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر من بينه وبينهم فلم يدر ما صنع بهم، ثم دعي هو فأمر به إلى الجنة، فلما انفصل لقيه سائل فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل: فمن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف قتلني ربي كل قتلة قتلة، ثم ها أنا انتظر ما ينتظره الموحدون.
وفضائله ومآثره كثيرةً جدا، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا به.