البداية والنهاية/الجزء التاسع/وفيها توفي كثير عزة الشاعر المشهور
وهو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر، أبو صخر الخزاعي الحجازي، المعروف بابن أبي جمعة، وعزة هذه المشهور بها المنسوب إليها، لتغزله فيها، هي أم عمرو عزة بالعين المهملة، بنت جميل بن حفص، من بني حاجب بن غفار، وإنما صغر اسمه فقيل كثير، لأنه كان دميم الخلق قصيرا، طوله ثلاثة أشبار.
قال ابن خلكان: كان يقال له رب الدبان، وكان إذا مشى يظن أنه صغير من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك بن مروان يقول له: طأطأ رأسك لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك، ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز.
وكان يقال: إنه أشعر الإسلاميين، على أنه كان فيه تشيع، وربما نسبه بعضهم إلى مذهب التناسخية، وكان يحتج على ذلك من جهله وقلة عقله إن صح النقل عنه، في قوله تعالى: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار: 8] .
وقد استأذن يوما على عبد الملك، فلما دخل عليه قال عبد الملك: لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال حَيَّهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول:
وجربت الأمور وجربتني * وقد أبدت عريكتي الأمور
وما تخفى الرجال علي أني* بهم لأخو مثاقفةٍ خبير
ترى الرجل النحيف فتزدريه * وفي أثوابه أسد زئير
ويعجبك الطرير فتختبره * فيخلف ظنك الرجل الطرير
وما هام لها بزين ولكن زينها * دين وخير بغاث الطير
أطولها جسوما ولم تطل * البزاة ولا الصقور
وقد عظم البعير بغير لبٍ * فلم يستغن بالعظم البعير
فيركب ثم يضرب بالهراوي * ولا عرف لديه ولا نكير
وعود النبع ينبت مستمرا * وليس يطول والعضباء حور
وقد تكلم أبو الفرج بن طرار على غريب هذه الحكاية وشعرها بكلام طويل، قالوا: ودخل كثير عزة يوما على عبد الملك بن مروان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:
على ابن أبي العاصي دروع حصينةٌ * أجاد المدى سردها وأدالها
قال له عبد الملك: أفلا قلت كما قال الأعشى لقيس بن معد يكرب:
وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة شهبا * يخشى الذائدون صيالها
كنت المقدم غير لابس جبةً * بالسيف يضرب معلما أبطالها
فقال: يا أمير المؤمنين وصفه بالخرق و وصفتك بالحزم.
ودخل يوما على عبد الملك وهو يتجهز للخروج إلى مصعب بن الزبير فقال: ويحك يا كثير، ذكرتك الآن بشعرك فإن أصبته أعطيتك حكمك، فقال: يا أمير المؤمنين كأنك لما ودعت عاتكة بنت يزيد بكت لفراقك فبكى لبكائها حشمها، فذكرت قولي:
إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه * حصان عليها نظم دريزينها
نهته فلما لم تر النهي عافه * بكت فبكى مما عراها قطينها
قال: أصبت فاحتكم.
قال: مائة ناقة من نوقك المختارة.
قال: هي لك، فلما سار عبد الملك إلى العراق نظر يوما إلى كثير عزة وهو مفكر في أمره، فقال: عليَّ به، فلما جيء به قال له: أرأيت إن أخبرتك بما كنت تفكر به تعطيني حكمي؟
قال: نعم !
قال: والله؟
قال: والله، قال له عبد الملك: إنك تقول في نفسك: هذا رجل ليس هو على مذهبي، وهو ذاهب إلى قتال رجل ليس هو على مذهبي، فإن أصابني سهم غرب من بينهما خسرت الدنيا والآخرة.
فقال: أي والله يا أمير المؤمنين فاحتكم.
قال: أحتكم حكمي أن أدرك إلى أهلك وأحسن جائزتك، فأعطاه مالا وأذن له بالانصراف.
وقال حماد الراوية، عن كثير عزة: وفدت أنا والأحوص، ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، ونحن نمت بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، لما كان بالمدينة، وكل منا يظن أنه سيشركه في الخلافة، فنحن نسير ونختال في رحالنا.
فلما انتهينا إلى خناصرة ولاحت لنا أعلامها تلقانا مسلمة بن عبد الملك فقال: ما أقدمكم؟ أو ما علمتم أن صاحبكم لا يحب الشعر ولا والشعراء؟
قال: فوجمنا لذلك، فأنزلنا مسلمة عنده وأجرى علينا النفقات وعلف دوابنا، وأقمنا عنده أربعة أشهر لا يمكنه أن يستأذن لنا على عمر.
فلما كان في بعض الجمع دنوت منه لأسمع خطبته فأسلم عليه بعد الصلاة، فسمعته، يقول في خطبته: لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه وثوابه فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلما إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يطمئن.
أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتحسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق، ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه.
وارتج المسجد وما حوله بالبكاء والعويل قال: فانصرفت إلى صاحبي فقلت: خذ سرحا من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإنه رجل أخرى ليس برجل دنيا.
قال: ثم استأذن لنا مسلمة عليه يوم الجمعة فلما دخلنا عليه سلمت عليه، ثم قلت: يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلت الفائدة، وتحدث بجفائك إيانا وفود العرب.
فقال: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [التوبة: 61] وقرأ الآية، فإن كنتم من هؤلاء أعطيتم، وإلا فلاحق لكم فيها، فقلت: يا أمير المؤمنين إني مسكين وعابر سبيل ومنقطع به.
فقال: ألستم عند أبي سعيد؟ - يعني: مسلمة بن عبد الملك - فقلنا بلى !
فقال: إنه لا ثواب على من هو عند أبي سعيد.
فقلت: ائذن لي يا أمير المؤمنين بالإنشاد
قال: نعم، ولا تقل إلا حقا، فأنشدته قصيدة فيه:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريئا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي * آتيت فأمسى راضيا كل مسلم
إلا إنما يكفي الفتى بعد ريعه * من الأود النادي ثقاف المقوم
وقد لبست تسعى إليك ثيابها * تراءى لك الدنيا بكف ومعصم
وتمض أحيانا بعين مريضة * وتبسم عن مثل الحمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما * سقتك مذوقا من سمام وعلقم
وقد كنت من أحبالها في ممنع * ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
ومازلت تواقا إلى كل غاية * بلغت بها أعلى البناء المقدم
فلما أتاك الملك عفوا ولم تكن * لطالب دنيا بعدة في تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا * و آثرت ما يبقى برأي مصمم
وأضررت بالفاني وشمرت للذي * أمامك في يوم من الشر مظلم
ومالك إذ كنت الخليفة مانع * سوى الله من مال رعيت و لا دم
سما لك همٌ في الفؤاد مؤرق * بلغت به أعلى المعالي بسلم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها * مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني * بأخذك ديناري وأخذك درهمي
ولا بسط كف لامرئ غير مجرم * ولا السفك منه ظالما ملء محجم
ولو يستطيع المسلمون لقسموا * لك الشطر من أعمارهم غير ندَّم
فعشت بها ما حج لله راكب * ملبٍ مطيف بالمقام و زمزم
فاربخ بها من صفقة لمبايع * وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
قال: فأقبل علي عمر بن عبد العزيز وقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة، ثم استأذنه الأحوص فانشده قصيدة أخرى فقال: إنك تسأل عن هذا يوم القيامة.
ثم استأذنه نصيب فلم يأذن له، وأمر لكل واحد منهم بمائة وخمسين درهما، وأغزى نصيبا إلى مرج دابق.
وقد وفد كثير عزة بعد ذلك على يزيد بن عبد الملك فامتدحه بقصائد فأعطاه سبعمائة دينار.
وقال الزبير بن بكار: كان كثير عزة شيعيا خبيثا يرى الرجعة، وكان يرى التناسخ ويحتج بقوله تعالى: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار: 8] .
وقال موسى بن عقبة: هوَّل كثير عزة ليلة في منامه فأصبح يمتدح آل الزبير، ويرثي عبد الله بن الزبير، وكان يسيء الرأي فيه:
بمفتضح البطحا تأول أنه * أقام بها ما لم ترمها الأخاشب
سرحنا سروبا آمنين ومن يخف * بوائق ما يخشى تنبه النوائب
تبرأت من عيب ابن أسماء إنني * إلى الله من عيب ابن أسماء تائب
هو المرء لا ترزى به أمهاته * وآباؤه فينا الكرام الأطايب
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: قالت عائشة بنت طلحة لكثير عزة: ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على نصف من الحسن والجمال؟ فلو قلت ذلك فيَّ وفي أمثالي فأنا أشرف وأفضل وأحسن منها - وكانت عائشة بنت طلحة قد فاقت النساء حسنا وجمالا وأصالةً - وإنما قالت له ذلك لتختبره وتبلوه فقال:
ضحى قلبه يا عز أو كاد يذهل * وأضحى يريد الصوم أو يتبدل
وكيف يريد الصوم من هو وامق * لعزة لا قال ولا متبذل
إذا واصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول
سنوليك عرفا إن أردت وصالنا * ونحن لتيك الحاجبية أوصل
وحدثها الواشون أني هجرتها * فحملها غيظا على المحمل
فقالت له عائشة: قد جعلتني خلة ولست لك بخلة، وهلا قلت كما قال جميل فهو والله أشعر منك حيث يقول:
يا رب عارضة علينا وصلها * بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها بالقول بعد تستر * حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي بقدر قلامة * فضل وصلتك أو أتتك رسائلي
فقال: والله ما أنكر فضل جميل، وما أنا إلا حسنة من حسناته، واستحيا.
ومما أنشده ابن الأنباري لكثير عزة:
بأبي وأمي أنت من معشوقة * طبن العدو لها فغير حالها
ومشى إلي بعيب عزة نسوة * جعل الإله خدودهن نعالها
الله يعلم لو جمعن ومثلت * لأخذت قبل تأمل تمثالها
ولو أن عزة خاصمت شمس الضحى * في الحسن عند موفق لقضى لها
وأنشد غيره لكثير عزة:
فما أحدث النأي الذي كان بيننا * سلوا ولا طول اجتماع تقاليا
وما زادني الواشون إلا صبابة * ولا كثرة الناهين إلا تماديا
غيره له:
فقلت لها يا عز كل مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة * من أعراضنا ما استحلت
وقال كثير عزة أيضا وفيه حكمة أيضا:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة * يجدها ولا يبقى له الدهر صاحب
وذكروا أن عزة بنت جميل بن حفص أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار أم عمرو الضمرية وفدت على عبد الملك بن مروان تشكو إليه ظلامة فقال: لا أقضيها لك حتى تنشديني شيئا من شعره، فقالت: لا أحفظ لكثير شعرا، لكني سمعتهم يحكون عنه أنه قال فيّ هذه الأبيات:
قضى كل ذي دين علمت غريمه * وعزة ممطول معنى غريمها
فقال: ليس عن هذا أسألك ولكن أنشديني قوله:
وقد زعمت إني تغيرت بعدها * ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
تغير جسمي والمحبة كالذي * عهدت ولم يخبر بذاك مخبر
قال: فاستحيت وقالت: أما هذا فلا أحفظه ولكن سمعتهم يحكونه عنه ولكن أحفظ له قوله:
كأني أنادي صخرة حين أعرضت * من الظلم لو تمشى بها العصم زلت
صفوح فما تلقاك إلا بخيلة * ومن مل منها ذلك الوصل ملت
قال: فقضى لها حاجتها وردها ورد عليها ظلامتها وقال: أدخلوها الحرم ليتعلموا من أدبها.
وروي عن بعض نساء العرب قالت: اجتازت بنا عزة فاجتمع نساء الحاضر إليها لينظرن حسنها، فإذا هي حميراء حلوة لطيفة، فلم تقع من النساء بذلك الموقع حتى تكلمت فإذا هي أبرع النساء وأحلاهن حديثا، فما بقي في أعيننا امرأة تفوقها حسنا وجمالا وحلاوةً.
وذكر الأصمعي: عن سفيان بن عيينة، قال: دخلت عزة على سكينة بنت الحسين فقالت لها: إني أسألك عن شيء فاصدقيني، ما الذي أراد كثير في قوله لك:
قضى كل ذي دين فوفى غريمة * وعزة ممطول معنى غريمها
فقالت: كنت وعدته قبلة فمطلته بها، فقالت: أنجزيها له و إثمها عليَّ، وقد كانت سكينة بنت الحسين من أحسن النساء حتى كان يضرب بحسنها المثل.
وروي أن عبد الملك بن مروان أراد أن يزوج كثيرا من عزة فأبت عليه وقالت: يا أمير المؤمنين أبعد ما فضحني بين الناس وشهرني في العرب ! وامتنعت من ذلك كل الامتناع، ذكره ابن عساكر.
وروي إنها اجتازت مرة بكثير وهو لا يعرفها فتنكرت عليه وأرادت أن تختبر ما عنده، فتعرض لها فقالت: فأين حبك عزة؟ فقال: أنا لك الفداء لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك، فقالت: ويحك لا تفعل ألست القائل:
إذا وصلتنا خلة كي تزيلنا * أبينا وقلنا الحاجبية أول
فقال: بأبي أنت وأمي، أقصري عن ذكرها وأسمعي ما أتقول:
هل وصل عزة إلا وصل غانية * في وصل غانية من وصلها بدل
قالت: فهل لك في المجالسة؟ قال: ومن لي بذلك؟ قالت: فكيف بما قلت في عزة؟ قال: أقلبه فيتحول لك، قال: فسفرت عن وجهها وقالت:
أغدرا وتناكثا يا فاسق، وإنك لها هنا يا عدو الله، فبهت وأبلس ولم ينطق وتحير وخجل، ثم قالت: قاتل الله جميلا حيث يقول:
محا الله من لا ينفع الود عنده * ومن حبله إن صد غير متين
ومن هو ذو وجهين ليس بدائم * على العهد حلافا بكل يمين
ثم شرع كثير يعتذر ويتنصل مما وقع منه ويقول في ذلك الأشعار ذاكرا وآثرا.
وقد ماتت عزة بمصر في أيام عبد العزيز بن مروان، وزار كثير قبرها ورثاها وتغير شعره بعدها، فقال له قائل: ما بال شعرك تغير وقد قصرت فيه؟ فقال: ماتت عزة ولا أطرب، وذهب الشباب فلا أعجب، ومات عبد العزيز بن مروان فلا أرغب، وإنما ينشأ الشعر عن هذه الخلال.
وكانت وفاته ووفاة عكرمة في يوم واحد، ولكن في سنة خمس ومائة على المشهور. وإنما ذكره شيخنا الذهبي في هذه السنة - أعني سنة سبع ومائة - والله سبحانه أعلم.