القانون الكلي للتوفيق عند المبتدعة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا

قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات فإما أن يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين وإما أن يردا جميعا وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض

وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانونا كليا فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام وما لا يستدل به ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها وظن هؤلاء أن العقل يعارضها وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين وقد بسطنا الكلام على قولهم هذا في الأدلة السمعية في غير هذا الموضع

وأما هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة منهم أبو حامد وجعله قانونا في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل كالمسائل التي سأله عنها القاضي أبو بكر بن العربي وخالفه القاضي أبو بكر العربي في كثير من تلك الأجوبة وكان يقول: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر وحكي هو عن أبي حامد نفيه أنه كان يقول: أنا مزجي البضاعة في الحديث. ووضع أبو بكر بن العربي هذا قانون آخر مبنيا على طريقة أبي المعالي ومن قبله كالقاضي أبي بكر الباقلاني

ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه

وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل

فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء ولكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء وأنه صحيح عندهم

طريقتا المبتدعة في نصوص الأنبياء أولا ـ طريقة التبديل: أهل التبديل نوعان أهل الوهم والتخييل

ولهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان: طريقة التبديل وطريقة التجهيل أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل وأهل التحريف والتأويل

فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه ولكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله جسم عظيم وأن الأبدان تعاد وأن لهم نعيما محسوسا وعقابا محسوسا وإن كان الأمر ليس كذلك في نفس الأمر لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا وإن كان هذا كذبا فهو كذب لمصلحة الجمهور إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق

وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم علي هذا الأصل كالقانون الذي ذكره في رسالته الأضحوية وهؤلاء يقولون: الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبا وباطلا ومخالفة للحق فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة

ثم من هؤلاء من يقول: النبي كان يعلم الحق ولكن أظهر خلافه للمصلحة

ومنهم من يقول: ما كان يعلم الحق كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم وهؤلاء يفضلون الفيلسوف الكامل علي النبي ويفضلون الولي الكامل الذي له هذا المشهد علي النبي كما يفضل ابن عربي الطائي خاتم الأولياء ـ في زعمه ـ علي الأنبياء وكما يفضل الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما الفيلسوف علي النبي

وأما الذين يقولون: إن النبي كان يعلم ذلك فقد يقولون: إن النبي أفضل من الفيلسوف لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف وابن سينا وأمثاله من هؤلاء

وهذا في الجملة قول المتفلسفة والباطنية كالملاحدة الإسماعيلية وأصحاب رسائل إخوان الصفاء والفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة ابن عربي وابن سبعين وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وخلق كثير غير هؤلاء

ومن الناس من يوافق هؤلاء فيما أخبرت به الأنبياء عن الله: أنهم قصدوا به التخييل دون التحقيق وبيان الأمر على ما هو عليه دون اليوم الآخر

ومنهم من يقول: بل قصدوا هذا في بعض ما أخبروا به عن الله كالصفات الخبرية من الاستواء والنزول وغير ذلك ومثل هذه الأقوال يوجد في كلام كثير من النظار ممن ينفي هذه الصفات في نفس الأمر كما يوجد في كلام طائفة أهل التحريف والتأويل

أهل التحريف والتأويل

وأما أهل التحريف والتأويل فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو الحق في نفس الأمر وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلي ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلي إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة وإلي الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات

وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علما يقينا أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه وهؤلاء كثيرا ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض فيقصدون حمل اللفظ علي ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه لا يقصدون طلب مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده وعلي الوجه الذي به يعرف مراده فصاحبه كاذب علي من تأول كلامه ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل بل يقولون: يجوز أن يراد كذا وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ

وأما كون النبي المعين يجوز أن يريد ذلك المعني بذلك اللفظ فغالبه يكون الأمر فيه بالعكس ويعلم من سياق الكلام وحال المتكلم امتناع إرادته لذلك المعني بذلك الخطاب المعين

وفي الجملة فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين وغيرهم وعليها بني سائر المتكلمين المخالفين لبعض النصوص مذاهبهم من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرها

لفظ التأويل

وقد ذكرنا في غير موضع أن لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه وإن كان موافقا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه وإن كان موافقا له وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلي المرجوح لدليل يقترن بذلك

وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعني إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعني بل يريدون المعني الأول أو الثاني

ولهذا لما ظن طائفة من المتأخرين أن لفظ التأويل في القرآن والحديث في مثل قوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } آل عمران: 7 أريد به هذا المعني الاصطلاحي الخاص واعتقدوا أن الوقف في الآية عند قوله: { وما يعلم تأويله إلا الله } لزم من ذلك أن يعتقدوا أن لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالف مدلولها المفهوم منها وأن ذلك المعني المراد بها لا يعلمه إلا الله لا يعلمه الملك الذي نزل بالقرآن وهو جبريل ولا يعلمه محمدا ولا غيره من الأنبياء ولا تعلمه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأن محمدا كان يقرأ قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } طه: 5 قوله { إليه يصعد الكلم الطيب } فاطر: 10 وقوله { بل يداه مبسوطتان } المائدة: 64 وغير ذلك من آيات الصفات بل ويقول ينزل ربنا كل ليلة إلي السماء الدنيا ونحو ذلك وهو لا يعرف معاني هذه الأقوال بل معناها الذي دلت عليه لا يعلمه إلا الله ويظنون أن هذه طريقة السلف

ثانيا طريقة التجهيل

وهؤلاء أهل التضليل والتجهيل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء جاهلون ضالون لا يعرفون ما أراد الله نما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء

ثم هؤلاء منهم من يقول: المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم ولا يعرف أحد من الأنبياء والملائكة والصحابة والعلماء ما أراد الله بها كما لا يعلمون وقت الساعة

ومنهم من يقول: بل تجري علي ظاهرها وتحمل علي ظاهرها ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها وقالوا ـ مع هذا ـ إنها تحمل علي ظاهرها وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخة القاضي أبي يعلى في كتاب ذم التأويل

وهؤلاء الفرق مشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر مشكلا فمنكر الصفات الخبرية الذي يقول: إنها لا تعلم بالعقل يقول: نصوصها مشكلة متشابهة بخلاف الصفات المعلومة بالعقل عنده بعقله فإنها ـ عنده ـ محكمة بينة وكذلك يقول من ينكر العلو والرؤية: نصوص هذه مشكلة

ومنكر الصفات مطلقا يجعل ما يثبتها مشكلا دون ما يثبت أسماءه الحسنى ومنكر معاني الأسماء يجعل نصوصها مشكلة ومنكر معاد الأبدان وما وصفت به الجنة والنار يجعل ذلك مشكلا أيضا ومنكر القدر يجعل ما يثبت أن الله خالق كل شيء نوما يجعل نصوص الوعيد بل ونصوص الأمر والنهي مشكلة فقد يستشكل كل فريق ما لا يستشكله غيره ثم يقول فيما يستشكله إن معاني نصوصه لم يبينها الرسول

ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضا ومنهم من يقول: بل علمها ولم يبنيها بل أحال في بيانها علي الأدلة العقلية وعلي من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص فهم مشتركون في أن الرسول لم يعلم أو لم يعلم بل جهل معناها أو جهلها الأمة من غير أن يقصد أن يعتقدوا الجهل الركب

وأما أولئك فيقولون: بل قصد أن يعلمهم الجهل المركب والاعتقادات الفاسد وهؤلاء مشهورون عند الأمة بالإلحاد والزندقة بخلاف أولئك فإنهم يقولون: الرسول لم يقصد أن يجعل أحدا جاهلا معتقدا للباطل ولكن أقوالهم تتضمن أن الرسول لم يبين الحق فيما خاطب به الأمة من الآيات والأحاديث إما مع كونه لم يعلمه أو مع كونه علمه ولم يبينه

ولهذا قال الإمام أحمد في خطبته فيما صنفه من الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته علي غير تأويله قال: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقابا من أهل العلم يدعون من ضل إلي الهدى ويصبرون منهم علي الأذي يحيون بكتاب الله الموتي ويبصرون بنور الله أهل العمي فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم علي الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علي مفارقة الكتاب يقولون علي الله وفي الله وقي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين

ويروي نحو هذه الخطبة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما ذكر ذلك محمد بن وضاح في كتاب الحوادث والبدع

فقد وصفوا في هذا الكلام بأنهم مع اختلافهم في الكتاب ـ فهم كلهم مخالفون له وهم مشتركون في مفارقته يتكلمون بالكلام المتشابه ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم حيث لبسوا الحق بالباطل

خلاصة ما سبق

وجماع الأمر أن الأدلة نوعان: شرعية وعقليه فالمدعون لمعرفة الإلهيات بعقولهم من المنتسبين إلى الحكمة والكلام والعقليات يقول من يخالف نصوص الأنبياء منهم: إن الأنبياء لم يعرفوا الحق الذي عرفناه أو يقولون: عرفوه ولم يبينوه للخلق كما بيناه بل تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم والمدعون للسنة والشريعة واتباع السلف من الجهال بمعاني نصوص الأنبياء يقولون: إن الأنبياء ـ والسلف الذين اتبعوا الأنبياء ـ لم يعرفوا معنى هذه النصوص التي قالوها والتي بلغوها عن الله أو إن الأنبياء عرفوا معانيها ولم يبينوا مرادهم للناس فهؤلاء الطوائف قد يقولون: نحن عرفنا الحق بعقولنا ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء علي ما يوافق مدلول العقل وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في تأويل كلام الأنبياء الذي لم يبينوا به مرادهم أو أنا عرفنا الحق بعقولنا وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها كما لم يعرفوا وقت الساعة ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها ولا فهم لمعانيها أو يقولون: بل هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا نقل بل نحن منهيون عن معرفة العقليات وعن فهم السمعيات وإن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات ولا يفهمون السمعيات

فصل هدف الكتاب بيان فساد قانونهم الفاسد

ولما كان بيان مراد الرسول في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي وامتناع تقديم ذلك علي نصوص الأنبياء بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر إذ كان أي دليل أقيم علي بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه بل يصير ذلك قدحا في الرسول وقدحا فيمن استدل بكلامه وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع علي نفي الصفات أو بعضها أو نفي عموم خلقه لكل شيء أو نفي أمره ونهيه أو امتناع المعاد أو غير ذلك لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة إلا مع بيان فساد ذلك المعارض

وفساد ذلك المعارض قد يعلم جملة وتفصيلا

أما الجملة فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية كما قال تعالى { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } الشورى: 16

وأما التفصيل فبعلم فساد تلك الحجة المعارضة وهذا الأصل نقيض الأصل الذي ذكره طائفة من الملحدين كما ذكره الرازي في أول كتابه نهاية العقول حيث ذكر أن الاستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال لأن الاستدلال بها موقوف علي مقدمات ظنية وعلي دفع المعارض العقلي وإن العلم بانتقاء المعارض لا يمكن إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع

وقد بسطنا الكلام علي مازعمه هؤلاء من أن الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف علي مقدمات ظنية مثل نقل اللغة والنحو والتصريف ونفي المجاز والإضمار والتخصيص قديما من نحو ثلاثين سنة وذكرنا طرفا من بيان فساده في الكلام على المحصل وفي فذاك كلام في تقرير الأدلة السمعية وبيان أنها قد تفيد اليقين والقطع وفي هذا الكتاب كلام في بيان انتقاء المعارض العقلي وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقا

وقد بينا في موضع آخر أن الرسول بلغ البلاغ المبين وبين مراده وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلي التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صوف اللفظ عن ظاهره فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لإمكان معرفة ذلك بعقولهم وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلي النور وفرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدي والضلال وبين الرشاد والغي وبين أولياء الله وأعدائه وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك حتى أوضح الله به السبيل وأنار به الدليل وهدى به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم

فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا علي الباطل لا علي الحق ولم يبين مراده وأنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل وأحال الناس في معرفة المراد علي ما يعلم من غير جهته بآبائهم فقد قدح في الرسول كما نبهنا علي ذلك في مواضع كيف والرسول أعلم الخلق بالحق وأقدر الناس علي بيان الحق وأنصح الخلق للخلق؟ وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد

فإن ما يقوله القائل ويفعله الفاعل لا بد فيه من قدرة وعلم وإرادة فالعاجز عن القول أو الفعل يمتنع صدور ذلك عنه والجاهل بما يقوله ويفعله لا يأتي بالقول المحكم والفعل المحكم وصاحب الإرادة الفاسدة لا يقصد الهدي والنصح والصلاح فإذا كان المتكلم عالما بالحق قاصدا لهدى الخلق قصدا تاما قادرا علي ذلك وجب وجود مقدوره ومحمد أعلم الخلق بالحق وهو أفصح الخلق لسانا وأصحهم بيانا وهو أحرص الخلق علي هدي العباد كما قال تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } التوبة 128 وقال { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } النحل: 37 وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم فلا بد أن يكون بيانه وخطابه وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق بل بينه من قامت الأدلة الكثيرة علي جهله ونقص علمه وعقله؟ ! وهذا مبسوط في غير هذا الموضع

ولما كان ما يقوله كثير من الناس في باب أصول الدين والكلام والعلوم العقلية والحكمة يعلم كل من تدبره أنه مخالف لما جاء به الرسول أو أن الرسول لم يقل مثل هذا واعتقد من اعتقد أن ذلك من أصول الدين وأنه يشتمل علي العلوم الكلية والمعارف الإلهية والحكمة الحقيقية أو الفلسفة الأولية ـ صار كثير منهم يقول: إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين أو لم يبين أصول الدين ومنهم من هاب النبي ولكن يقول: الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك ومن عظم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقي حائرا كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم؟ ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلي غيرها؟

استطراد في الرد على سؤال وجه إلى ابن تيمية وهو في مصر نص السؤال

ولما كنت بالديار المصرية، سألني من سألني من فضلائها عن هذه المسألة فقالوا في سؤالهم:

إن قال قائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبي فيها كلام أم لا؟

فإن قيل بالجواز فما وجهه؟ وقد فهمنا منه عليه الصلاة والسلام النهي عن الكلام في بعض المسائل؟ وإذا قيل بالجواز، فهل يجب ذلك؟

وهل نقل عنه عليه الصلاة والسلام ما يقتضي وجوبه؟ وهل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن، أو لا بد من الوصول إلى القطع؟

وإذا تعذر عليه الوصول إلى القطع فهل يعذر في ذلك أو يكون مكلفا به؟

وهل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحالة هذه أم لا؟

وإذا قيل بالوجوب فما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على هدي أمته؟

[ الجواب ]

فأجبت: الحمد لله رب العالمين

أما المسألة الأولى :

فقول السائل: هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبي فيها كلام أم لا؟

سؤال ورد بحسب ما عهد من الأوضاع المبتدعة الباطلة فإن المسائل التي هن من أصول الدين التي تستحق أن تسمى أصول الدين ـ أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه ـ لا يجوز أن يقال: لم ينقل عن النبي فيها كلام بل هذا كلام متناقض في نفسه إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين وأنها مما يحتاج إليه الدين ثم نفي نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين: إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج إليها الدين فلم يبينها أو أنه بينها فلم تنقلها الأمة وكلا هذين باطل قطعا وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم أو جاهل بهما جميعا فإن جهله بالأول يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه وجهله بالثاني يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات وإنما هي جهليات وجهله بالأمرين يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة وإن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس حذاقهم فضلا عن عامتهم

أصول الدين: مسائل ودلائل هذه المسائل

وذلك أن أصول الدين إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولا أو تعمل عملا كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد أو دلائل هذه أما القسم الأول فكل ما يحتاج الناس إلي معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبينه للناس وهو من أعظم ما أقام الله الحجة علي عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه والحكمة التي هي سنة رسول الله التي نقلوها أيضا عن الرسول مشتملة من ذلك علي غاية المراد وتمام الواجب والمستحب والحمد لله الذي بعث فينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب تفصيلا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين: { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } يوسف: 111

وإنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة علي بيان من كان ناقصا في عقله وسمعه ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } الملك: 10 وإن كان ذلك كثيرا في كثير من المتفلسفة والمتكلمة وجهال أهل الحديث والمتفقهة والصوفية

دلائل المسائل

وأم القسم الثاني ـ وهو دلائل هذه المسائل الأصولية ـ فإنه وإن كان يظن طوائف من المتكلمين أن المتفلسفة أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق فدلالته موقوفة علي العلم بصدق المخبر ويجعلون ما يبني عليه صدق المخبر معقولات محضة ـ فقد غلطوا في ذلك غلطا عظيما بل ضلوا ضلالا مبينا في ظنهم أن دلالة الكتاب والسنة إنما هي بطريق الخبر المجرد بل الأمر ما عليه سلف الأمة أهل العلم والإيمان من أن الله سبحانه وتعالى بين من الأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر أحد من هؤلاء قدره ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخلاصته علي أحسن وجه

وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } الزمر: 27 فإن الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقلية سواء كانت قياس شمول أو قياس تمثيل ويدخل في ذلك ما يسمونه براهين وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك كما سمي الله آيتي موسى برهانين: { فذانك برهانان من ربك } [ القصص: 32 ] ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع ولا بقياس شمولي تستوي فيه أفراده فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره ولا يجوز أن يدخل تحت قضية كلية تستوي أفرادها

ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلي اليقين بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم ـ بعد التناهي ـ الحيرة والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولي سواء كان تمثيلا أو شمولا كما قال تعالى: { ولله المثل الأعلى } [ النحل: 60 ] مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو المحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالا للموجود غير مستلزم للعدم ـ فالواجب القديم أولى به وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المر بوب المعلول المدبر فإنما استفادة من خالقه وربه ومدبره فهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه ـ وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولي وأنه أحق بالأمور الوجودية من كل موجود وأما العدمية بالممكن المحدث بها أحق ونحو ذلك

ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب كما استعمل نحوها الإمام أحمد ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير أصول الدين في مسائل التوحيد والصفات والمعاد ونحو ذلك

ومثال ذلك أنه سبحانه لما أخبر بالمعاد ـ والعلم به تابع للعلم بإمكانه فإن الممتنع لا يجوز أن يكون ـ بين سبحانه إمكانه أتم بيان ولم يسلك في ذلك ما يسلكه طوائف من أهل الكلام حيث يثبتون الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني فيقولون: هذا ممكن لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال فإن الشأن في هذه المقدمة فمن أين يعلم أنه لا يلزم من تقدير وجوده محال؟ فإن هذه قضية كلية سالبة فلا بد من العلم بعموم هذا النفي

وما يحتج به بعضهم علي أن هذا ممكن بأنا لا نعلم امتناعه كما نعلم امتناع الأمور الظاهر امتناعها مثل كون الجسم متحركا ساكنا فهذا كاحتجاج بعضهم علي أنها ليست بديهية بأن غيرها من البديهيات أجلى منها وهذه حجة ضعيفة لأن البديهي هو ما إذا تصور طرفاه جزم العقل به والمتصوران قد يكونان خفيين فالقضايا تتفاوت في الجلاء والخفاء لتفاوت تصورها كما تتفاوت لتفاوت الأذهان وذلك لا يقدح في كونها ضرورية ولا يوجب أن ما لم يظهر امتناعه يكون ممكنا بل قول هؤلاء أضعف لأن الشيء قد يكون ممتنعا لأمور خفية لازمة له فما لم يعلم انتفاء تلك اللوازم أو عدم لزومها لا يمكن الجزم بإمكانه والمحال هنا أعلم من المحال لذاته أو لغيره والإمكان الذهني حقيقته عدم العلم بالامتناع وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بالإمكان الخارجي بل يبقى الشيء في الذهن غير معلوم الامتناع ولا معلوم الإمكان الخارجي وهذا هو الإمكان الذهني فإن الله سبحانه وتعالى لم يكتف في بيان إمكان المعاد بهذا إذ يمكن أن يكون الشيء ممتنعا ولو لغيره ن وإن لم يعلم الذهن امتناعه بخلاف الإمكان الخارجي فإنه إذا علم بطل أن يكون ممتنعا

والإنسان يعلم الإمكان الخارجي: تارة بعلمه بوجود الشيء وتارة بعلمه بوجود نظيره وتارة تعلمه بوجود ما الشيء أولي بالوجود منه فإن وجود الشيء دليل علي أن ما هو دونه أولي بالإمكان منه ثم إنه إذا تبين كون الشيء ممكنا فلا بد من بيان قدرة الرب عليه وإلا فمجرد العلم بإمكانه لا يكفي في إمكان وقوعه إن لم يعلم قدرة الرب علي ذلك

الأدلة علي المعاد في كتاب لله

فبين سبحانه هذا كله بمثل قوله { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا } الإسراء: [ 99 ] وقوله: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم } يس: [ 81 ] قوله { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير } الأحقاف: [ 33 ] وقوله: { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } غافر: [ 57 ] فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك

وكذلك استدلاله على ذلك بالنشأة الأولي في مثل قوله { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } الروم: [ 27 ] ولهذا قال بعد ذلك { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض } الروم: [ 27 ] وقال { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم } الحج: [ 5 ]

وكذلك ما ذكر في قوله { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } الآيات يس: [ 7882 ] فإن قول الله تعالى { من يحيي العظام وهي رميم } قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها وهو المثل المضروب الذي ذكره بقوله { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } وهذا استفهام إنكار متضمن للنفي إي لا أحد يحيي العظام وهي رميم فإن كونها رميما يمنع عنده إحياءها لمصيرها إلي حال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها علي الحرارة والرطوبة ولتفرق أجزائها واختلاطها بغيرها ولنحو ذلك من الشبهات

والتقدير: هذه العظام رميم ولا أحد يحيي العظام وهي رميم فلا أحد يحييها ولكن هذه السالبة كاذبة ومضمونها امتناع الإحياء فبين سبحانه إمكانه من وجوه بيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال { يحييها الذي أنشأها أول مرة } وقد أنشأها من التراب ثم قال { وهو بكل خلق عليم } [ يس: 79 ] ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال ثم قال { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا } [ يس: 80 ] فبين أنه أخرج النار الحارة اليابسة من البارد الرطب وذلك أبلغ في المنافاة لأن اجتماع الحرارة والرطوبة أيسر من اجتماع الحرارة واليبوسة إذ الرطوبة تقبل من ما لا تقبله اليبوسة ولهذا كان تسخين الهواء والماء أيسر من تسخين التراب وإن كانت النار نفسها حارة يابسة فإنها جسم بسيط واليبس ضد الرطوبة يعني بها البلة كرطوبة الماء ويعني بها سرعة الانفعال فيدخل في ذلك الهواء ن فكذلك يعني باليبس عدم البلة فتكون النار يابسة ويراد باليبس بطء الشكل والانفعال فيكون التراب يابسا دون النار فالتراب فيه اليبس بالمعنيين بخلاف النار لكن الحيوان الذي فيه حرارة ورطوبة يكون من العناصر الثلاثة: التراب والماء والهواء

وأما الجزء الناري فللناس فيه قولان قيل: فيه حرارة نارية وإن يكن فيه جزء من النار وقيل: بل فيه جزء من النار

وعلي كل تقدير فتكون الحيوان من العناصر أولي بالإمكان من تكون النار من الشجر الأخضر فالقادر علي أن يخلق من الشجر الأخضر نارا أولي بالقدرة أن يخلق من التراب حيوانا فإن هذا معتاد وإن كان ذلك بما يضم إليه من الأجزاء الهوائية والمائية والمقصود الجمع في المولدات ثم قال { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } يس: [ 81 ] وهذه مقدمة معلومة بالبداهة ولهذا جاء فيها باستفهام التقرير الدال علي أن ذلك مستقر معلوم عن المخاطب كما قال سبحانه { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } [ الفرقان: 33 ] ثم بين قدرته العامة بقوله: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } [ يس: 82 ]

وفي هذا الموضع وغيره من القرآن من الأسرار وبيان الأدلة القطعية علي المطالب الدينية ما ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه

تنزيه القرآن لله تعالى عن الشركاء

وكذلك ما استعمله سبحانه في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة سواء سموها حسية أو عقلية كما تزعمه النصارى من تولد الكلمة التي جعلوها جوهر الابن منه كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها: هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوس بمنزلة الإناث ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة وعملهم بالنفوس أظهر لوجود الحركة الدورية الدالة علي الحركة الإرادية الدالة علي النفس المحركة لكم أكثرهم يجعلون النفوس الفلكية عرضا لا جوهرا قائما بنفسه وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات قال تعالى { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } [ الأنعام: 100 ] وقال تعالى { ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون } [ الصافات: 151 ـ 152 ]

وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله كما يزعم هؤلاء أن العقول أو العقول والنفوس هي الملائكة وهي متولدة عن الله قال تعالى { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } إلي قوله { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون } [ النحل: 57ـ 62 ] وقال تعالى: { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } [ الزخرف: 16 ـ 19 ] وقال تعالى { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } [ النجم: 19ـ 22 ] أي جائرة وغير ذلك في القرآن

فبين سبحانه: أن الرب الخالق أولي بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم؟

وكذلك قوله في التوحيد { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } [ الروم: 28 ] أي كخيفة بعضكم بعضا كما في قوله { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة: 85 ] وفي قوله { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } [ النور: 12 ] وفي قوله { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات: 11 ] وفي قوله { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة: 54 ] وفي قوله: { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } إلى قوله { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة: 84 ـ 85 ] فإن المراد في هذا كله من نوع واحد

فبين سبحانه أن المخلوق لا يكون مملوكه شريكه في ماله حتى يخاف مملوكه كما يخاف نظيره بل تمتنعون أن يكون المملوك لكم نظيرا فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوقي ومملوكي شريكا لي يدعي كما أدعى وأعبد؟ كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وهذا باب واسع عظيم جدا ليس هذا موضعه

وإنما الغرض التنبيه علي أن في القرآن والحكمة النبوية عامة أصول الدين من المسائل والدلائل التي تستحق أن تكون أصول الدين

أصول المتكلمين ليس هي أصول الدين

وأما ما يدخله بعض الناس في هذا المسمي من الباطل فليس ذلك من أصول الدين وإن أدخله فيه مثل المسائل والدلائل الفاسدة مثل: نفي الصفات والقدر ونحو ذلك من المسائل ومثل الاستدلال علي حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها: إما الأكوان وإما غيرها

وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل: من إثبات الأعراض ـ التي هي الصفات ـ أولا أو إثبات بعضها كالأكوان ـ التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ـ وإثبات حدوثها ثانيا بإبطال ظهورها بعد الكمون وإبطال انتقالها من محل إلي محل ثم إثبات امتناع خلو الجسم ثالثا: إما عن كل جنس من أجناس الأعراض بإثبات أن الجسم قابل لها وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وإما عن الأكوان وإثبات امتناع حوادث لا أول لها رابعا

وهو مبني علي مقدمتين: إحداهما: أن الحسم لا يخلو عن الأعراض التي هي الصفات والثانية: أن ما لا يخلو عن الصفات التي هي الأعراض فهو محدث لأن الصفات ـ التي هي الأعراض ـ لا تكون إلا محدثه وقد يفرضون ذلك في بعض الصفات التي هي الأعراض كالأكوان ومالا يخلو عن جنس الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا تتناهى

فهذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمدا لم يدع الناس بها إلي الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام ـ ك الأشعري وغيره ـ بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها وذكروا أنها محرمة عندهم بل المحققون علي أنها طريقة باطلة وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقا ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له: إما أن يطلع علي ضعفها ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم فتتكافأ عنده الأدلة أو يرجح هذا تارة وهذا تارة كما هو حال طوائف منهم وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار والتزم لأجلها أبو الهذيل انقطاع حركات أهل الجنة والتزم قوم لأجلها ك الأشعري وغيره أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض ـ كالطعم واللون وغيرها ـ لا يجوز بقاؤها بحال لأنهم احتاجوا إلي جواب النقض الوارد عليهم لما أثبتوا الصفات لله مع الاستدلال علي حدوث الأجسام بصفاتها فقالوا: صفات الأجسام أعراض أي أنها تعرض فتزول فلا تبقي بحال بخلاف صفات الله فإنها باقية

وأما ما اعتمد عليه طائفة منهم من أن العرض لو بقي لم يمكن عدمه لأن عدمه إما أن يكون بإحداث ضد أو بفوات شرط أو اختيار الفاعل وكل ذلك ممتنع فهذه العمدة لا يختارها آخرون منهم منهم بل يجوزون أن الفاعل المختار يعدم الموجود كما يحدث المعدوم ولا يقولون: إن عدم الأجسام لا يكون إلا بقطع الأعراض عنها كما قاله أولئك ولا بخلق ضد هو الفناء لا في محل كما قاله من قاله من المعتزلة

وأما جمهور عقلاء بني آدم فقالوا: هذه مخالفة للمعلوم بالحس والتزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم لأجلها نفي صفات الرب مطلقا أو نفي بعضها لأن الدال عندهم علي حدوث هذه الأشياء هو قيام الصفات بها والدليل يجب طرده فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به وهو أيضا في غاية الفساد والضلال ولهذه التزموا القول بخلق القرآن وإنكار رؤية الله في الآخرة وعلوه علي عرشه إلي أمثال ذلك من اللوازم التي التزمها من طرد مقدمات هذه الحجة التي جعلها المعتزلة ومن اتبعهم أصل دينهم

فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء أصول الدين ولكن ليست في الحقيقة من أصول الدين الذي شرعه الله لعباده وأما الدين الذي قال الله فيه: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } الشوري: 21 فذاك له أصول وفروع بحسبه وإذا عرف أن مسمي أصول الدين في عرف الناطقين بهذا الاسم فيه أجمال وإبهام لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات تبين أن الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول الدين فهو موروث عن الرسول

وأما من شرع دينا لم يأذن به الله فمعلوم أن أصول المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي إذ هو باطل وملزوم الباطل باطل كما أن لازم الحق حق والدليل ملزوم لمدلوله والباطل شيء وإذا انتفي لازم الشيء علم أنه منتف فيستدل علي بطلان الشيء ببطلان لازمه ويستدل علي ثبوته بثبوت ملزومه فإذا كان الازم باطلا فالملزوم مثله باطل فإن ملزوم الباطل هو اللازم وإذا كان اللازم باطلا كان الملزوم باطلا لأنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء ولم يقل إن الباطل لازمه باطل

وهذا كالمخلوقات فإنها مستلزمة لثبوت الخالق ولا يلزم من عدمها عدم الخالق والدليل أبدا يستلزم المدلول عليه: يجب طرده ولا يجب عكسه بخلاف الحد فإنه يجب طرده وعكسه وأما العلة: فالعلة التامة يجب طردها بخلاف المقتضية وفي العكس تفصيل مبسوط في موضعه

وهذا التقسيم ينبه أيضا علي مراد السلف والأئمة بذم الكلام وأهله وإذ ذاك متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة أو استدل علي المقالات الباطلة فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكما ودليلا فهو من أهل العلم والإيمان: { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } الأحزاب: 4

جواز مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم

وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلي ذلك وكانت المعاني صحيحة كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم فإن هذا جائز حسن للحاجة وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه

ولهذا [ قال النبي لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ـ وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة لأن أباها كان من المهاجرين إليها ـ فقال لها يا أم خالد هذا سنا ] والسنا بلسان الحبشة الحسن لأنها كانت من أهل هذه اللغة

ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلي تفهمه إياه بالترجمة وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم ويترجمها بالعربية كما [ أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك ] حيث لم يأتمن اليهود عليه

فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من باطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ علي معان مجملة في النفي والإثبات كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع فقال: هم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علي مفارقة الكتاب يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم

فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ووزنت بالكتاب والسنة ـ بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة ـ كان ذلك هو الحق بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من المتكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا في الوسائل والمسائل: من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم وهذا من مثارات الشبه

فإنه لا يوجد في كلام النبي ولا أحد من الصحابة والتابعين ولا أحد من الأئمة المتبوعين: أنه علق بما سمي لفظ الجوهر والجسم والتحيز والعرض ونحو ذلك شيئا من أصول الدين لا الدلائل ولا المسائل

والمتكلمون بهذه العبارات يختلف مرادهم بها تارة لاختلاف الوضع وتارة لاختلافهم في المعني الذي هو مدلول اللفظ كمن يقول: الجسم هو المؤلف ثم يتنازعون: هل هو الجوهر الواحد بشرط تأليفه أو الجوهر فصاعدا أو الستة أو الثمانية أو غير ذلك؟ ومن يقول: هو الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه وإنه مركب من المادة والصورة ومن يقول: هو الموجود أو يقول: هو الموجود القائم بنفسه أ يقول: هو الذي يمكن الإشارة إليه وأن الموجود القائم بنفسه لا يكون إلا كذلك

والسلف والأئمة الذي ذموا وبدعوا الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في أصول الدين في دلائلة وفي مسائله نفيا وإثباتا فأما إذا عرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة وعبر عنها لم بفهم بهذه الألفاظ ليتبين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } البقرة: 213 وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم وذلك يحتاج إلي معرفة معاني الكتاب والسنة ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف

وأما قول السائل: فإن قيل بالجواز فما وجهه وقد فهمنا منه عليه الصلة والسلام النهي عن الكلام في بعض المسائل؟

الرد علي المسألة الثانية

فيقال: قد تقدم الاستفسار والتفصيل في جواب السؤال وأن ما هو في الحقيقة أصول الدين الذي بعث الله به رسوله فلا يجوز أن ينهي عنه بحال بخلاف ما سمي أصول الدين وليس هو أصولا في الحقيقة لا دلائل ولا مسائل أو هو أصول لدين لم يشرعه الله بل شرعه من شرع من الدين ما لم يأذن به الله وأما ما ذكره السائل من نهيه فالذي جاء به الكتاب والسنة النهي عن أمور :

المسائل التي نهي عنها الكتاب والسنة

منها: القول علي الله بلا علم كقوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } [ الأعراف: 33 ] وقوله { ولا تقف ما ليس لك به علم } [ الإسراء: 36 ]

ومنها: أن يقال علي الله غير الحق كقول { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } [ الأعراف: 169 ] وقوله { لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } [ النساء: 171 ]

ومنها: الجدل بغير علم كقوله تعالى { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران: 66 ] ومنها: الجدل في الحق بعد ظهوره كقوله تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } [ الأنفال: 6 ] ومنها: الجدل بالباطل كقوله: { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } [ غافر: 5 ] ومنها: الجدل في آياته كقوله تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر: 4 ] وقوله { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } [ غافر: 35 ] وقال تعالى { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } [ غافر: 56 ] وقوله { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص } [ الشورى: 35 ] ونحو ذلك قوله { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم } [ الشورى: 16 ] وقوله { وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال } [ الرعد: 13 ] وقوله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } [ الحج: 8 ]

ومن الأمور التي نهي الله عنها في كتابه التفرق والاختلاف كقوله { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ـ إلي قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } [ آل عمران: 103ـ 106 ] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة وقال تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله } ـ إلي قوله { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } [ الروم: 30 - 32 ]

وقد ذم أهل التفرق والاختلاف في مثل قوله تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } [ آل عمران: 19 ] وفي مثل قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } [ هود: 119 ] وفي مثل قوله { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } [ البقرة: 176 ]

وكذلك سنة رسول الله توافق كتاب الله كالحديث المشهور عنه الذي وري مسلم بعضه عن عبد الله بن عمرو وسائره معروف في مسند أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله خرج على أصحابه وهم يتناظرون في القدر ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: أبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه ] هذا الحديث أو نحوه وكذلك قوله: [ المراء في القرآن كفر ] وكذلك ما أخرجاه في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قرأ قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فقال النبي : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ]

وأما أن يكون الكتاب والسنة نهيا عن معرفة المسائل التي تدخل فيما يستحق أن يكون من أصول الدين فهذا لا يجوز اللهم إلا أن ينهيا عن بعض ذلك في بعض الأحوال مثل مخاطبة شخص بما يعجز عن فهمه فيضل كقول عبد الله بن مسعود: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وكقول علي: حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ أو مثل قول حق يستلزم فسادا أعظم من تركه فيدخل في قوله [ من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] رواه مسلم

وأما قول السائل: إذا قيل بالجواز فهل يجب؟ وهل نقل عنه عليه السلام ما يقتضي وجوبه؟

الرد علي المسألة الثالثة

فيقال: لا ريب أنه يجب علي كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانا عاما مجملا ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول علي التفصيل فرض علي الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله وداخل في تدبير القرآن وعقله وفهمه وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الذكر والدعاء إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلي سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله عليه المؤمنين فهذا واجب علي الكفاية منهم

وأما ما وجب علي أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم وما أمر به أعيانهم فلا يجب علي العاجز عن سماع بعض النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب علي من لم يسمعها ويجب علي المفتي والمحدث والمجادل ما لا يجب علي من ليس كذلك وأما قوله: هل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد من الوصول إلي القطع؟

الرد على المسألة الرابعة

فيقال: الصواب في ذلك التفصيل فإنه وإن كان طوائف من أهل الكلام يزعمون أن المسائل الخبرية - التي قد يسمونها مسائل الأصول - يجب القطع فيها جميعها ولا يجوز الاستدلال فيها بغير دليل يفيد اليقين وقد يوجبون القطع فيها كلها علي كل أحد فهذا الذي قالوه علي إطلاقه وعمومه خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ثم هم مع ذلك من أبعد الناس عما أوجبوه فإنهم كثيرا ما يحتجون فيها بالأدلة التي يزعمونها قطعيات وتكون في الحقيقة مت الأغلوطات فضلا عن أن تكون من الظنيات حتى إن الشخص الواحد منهم كثيرا ما يقطع بصحة حجة في موضع ويقطع ببطلانها في موضع آخر بل منهم من عامة كلامه كذلك وحتى قد يدعي كل من المتناظرين العلم الضروري بنقيض ما ادعاه الآخر

وأما التفصيل: فما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك كقوله: { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } [ المائدة: 98 ] وقوله { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } [ محمد: 19 ] وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد كقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } بالتغابن: 16 ] وقوله عليه السلام [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين

فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة من هذه المسائل الدقيقة قد يكون عند كثير من الناس مشتبها لا يقدر فيه علي دليل يفيد اليقين لا شرعي ولا غيره: لم يجب علي مثل هذا في ذلك مالا يقدر عليه وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب علي ظنه لعجزه عن تمام اليقين بل ذلك هو الذي يقدر عليه لا سيما إذا كان مطابقا للحق فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه ويسقط به الفرض إذا لم يقدر علي أكثر منه

لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال الموصول إلي معرفته فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا كما قال تعالى { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ الأعراف: 35 ] وقوله { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } [ طه: 123 - 124 ] قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة ثم قرأ هذه الآية

وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره [ عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : إنها ستكون فتن قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء ] وفي رواية [ ولا تختلف به الآراء هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد } من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ]

وقال تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ الأنعام: 153 ] وقال تعالى { المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف: 1 - 3 ] وقال { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } [ الأنعام: 155 - 157 ] فذكر سبحانه انه يجزي الصادف عن آياته مطلقا ـ سواء كان مكذبا أو لم يكن ـ سوء العذاب بما كانوا يصدفون يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر سوء العذاب بما كانوا يصدفون يبين ذلك أن لك من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الأيمان به أو أعرض عن اتباعا لما يهواه أو ارتاب فيما جاء به فكل مكذب بما جاء به فهو كافر وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به

ولهذا أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين

وقال تعالى { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [ الأحقاف: 26 ] وقال تعالى { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } [ غافر: 83 - 85 ] وقال { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } [ غافر: 35 ] وفي الآية الأخرى { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } [ غافر: 56 ]

والسلطان: هو الحجة المنزلة من عند الله كما قال تعالى { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم: 35 ] وقال تعالى { أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } [ الصافات: 165 - 157 ] وقال { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [ النجم: 23 ]

وقد طالب الله تعالى من اتخذ دينا بقوله { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } [ الأحقاف: 4 ] فالكتاب هو الكتاب والإثارة كما قال من قال من السلف: هي الرواية والإسناد وقالوا: هي الخط أيضا إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط وذلك لأن الإثارة من الأثر فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد ويقيد ذلك بالخط فيكون ذلك كله من آثاره

وقد قال تعالى في نعت المنافقين { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } [ النساء: 60 - 63 ]

وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة علي ضلال من تحاكم إلي غير الكتاب والسنة وعلي نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الاعتبار فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلا أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نهي عنها أو لاتباع هواه بغير هدي من الله فهو الظالم لنفسه وهو من أهل الوعيد بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنا وظاهرا ن الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه كما قال تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } إلي قوله { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة: 285 - 286 ] وقد ثبت في صحيح مسلم [ عن النبي أن الله قال: قد فعلت ] وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس [ أن النبي لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك ]

فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا وأما قول السائل: هل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحال هذه؟

الرد علي المسألة الخامسة

فيقال: هذه العبارة وإن كثر تنازع الناس فيها نفيا وإثباتا فينبغي أن يعرف أن الخلاف المحقق فيها نوعان: أحدهما: ما اتفق الناس علي جوازه ووقوعه وإنما تنازعوا في إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق والثاني: ما اتفقوا علي أنه لا يطاق لكن تنازعوا في جواز الأمر به ولم يتنازعوا في عدم وقوعه فأما أن يكون أمر اتفق أهل العلم والأيمان علي أنه لا يطاق وتنازعوا في وقوع الأمر به فليس كذلك

تنازع النظار في الاستطاعة

فالنوع الأول: كتنازع المتكلمين من مثبتة القدر ونفاته في استطاعة العبد وهي قدرته وطاقته: هل يجب أن تكون مع الفعل لا قبله أو يجب أن تكون متقدمة علي الفعل: أو يجب أن تكون معه وإن كانت متقدمة عليه؟

فمن قال بالأول لزمه أن يكون كل عبد لم يفعل ما أمر به قد كلف مالا يطيقه إذا لم تكن عنه قدرة إلا مع الفعل ولهذا كان الصواب الذي عليه محققو المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم مادل عليه القرآن وهو أن الاستطاعة - التي هي مناط الأمر والنهي وهي المصححة للفعل - لا يجب أن تقارن الفعل وأما الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل فهي مقارنة له

فالأولي: كقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [ آل عمران: 97 ] وقول النبي لعمران بن حصين [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ]

ومعلوم أن الحج والصلاة يجبان علي المستطيع سواء فعل أو لم يفعل فعلم أن هذه الاستطاعة لا يجب أن تكون مع الفعل والثانية: كقوله تعالى { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } [ هود: 20 ] وقوله { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا } [ الكهف: 101 - 102 ] علي قول من يفسر الاستطاعة بهذه

وأما علي تفسير السلف والجمهور فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته علي نفوسهم فنفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين علي فعله لو أرادوه وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك وهذه الاستطاعة هي المقارنة للفعل الموجبة له وأما الأولي فلولا وجودها لم يثبت التكليف كقوله { فاتقوا الله ما استطعتم } [ سورة التغابن: 16 ] وقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها } [ الأعراف: 42 ] وأمثال ذلك فهؤلاء المفرطون والمعتدون في أصول الدين إذا لم يستطيعوا سمع ما أنز إلي الرسول فهم من هذا القسم

تنازعهم في المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون

وكذلك أيضا تنازعهم في المأمور به الذي علم الله أنه لا يكون أو أخبر مع ذلك أنه لا يكون فمن الناس من يقول: إن هذا غير مقدور عليه كما أن غالية القدرية يمنعون أن يتقدم علم الله وخبره وكتابه بأنه لا يكون وذلك لاتفاق الفريقين علي أن خلاف المعلوم لا يكون ممكنا ولا مقدورا عليه

وقد خالفهم في ذلك جمهور الناس وقالوا: هذا منقوص عليهم بقدرة الله تعالى فإنه أخبر بقدرته علي أشياء مع أنه لا يفعلها كقوله { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } [ القيامة: 4 ] وقوله { وإنا على ذهاب به لقادرون } [ المؤمنون: 18 ] وقوله { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } [ الأنعام: 65 ] وقد قال { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } [ هود: 18 ] ونحو ذلك مما يخبر أنه لو شاء لفعله وإذا فعله فإنما يفعله إذا كان قادرا عليه فقد دل القرآن علي أنه قادر عليه يفعله إذا شاءه مع أنه لا يشاؤه

وقالوا أيضا: إن الله يعلمه علي ما هو عليه فيعلمه ممكنا مقدورا للعبد غير واقع ولا كائن لعدم إرادة العبد له أو لبغضه إياه ونحو ذلك لا لعجزه عنه

وهذا النزاع يزول بتنوع القدرة عليه كما تقدم فإنه غير مقدور القدرة المقارنة للفعل وإن كان مقدورا القدرة المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي

وأما النوع الثاني: فكاتفاقهم علي أن العاجز عن الفعل لا يطيقه كما لا يطيق الأعمي والأقطع والزمن نقط المصحف وكتابته والطيران فمثل هذا النوع قد اتفقوا علي أنه غير واقع في الشريعة وإنما نازع في ذلك طائفة من الغلاة المائلين إلي الجبر من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وإنما تنازعوا في جواز الأمر به عقلا حتى نازع بعضهم في الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين والنقيضين: هل يجوز الأمر به من جهة العقل مع أن ذلك لم يرد في الشريعة؟ ومن غلا فزعم وقوع هذا الضرب في الشريعة ـ كمن يزعم أن أبا لهب كلف بان يؤمن بأنه لا يؤمن ـ فهو مبطل في ذلك عند عامة أهل القبلة من جميع الطوائف فإنه لم يقل أحد: إن أبا لهب أسمع هذا الخطاب المتضمن أنه لا يؤمن وإنه أمر مع ذلك بالإيمان كما أن قوم نوح لما أخبر نوح عليه السلام: أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن لم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته علي الكفر وأنه سمع هذا الخطاب ففي هذا الحال انقطع تكليفه ولم ينفعه إيمانه حينئذ كإيمان من يؤمن بعد معينة العذاب قال تعالى { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } [ غافر: 85 ] وقال تعالى { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } [ يونس: 91 ]

والمقصود هنا التنبيه علي أن النزاع في هذا الأصل يتنوع: تارة إلي الفعل المأمور به وتارة إلي جواز الأمر ومن هنا شبهة من شبه من المتكلمين علي الناس حيث جعل القسمين قسما واحدا وادعي تكليف ما لا يطاق مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي لا يجعلها عامة الناس من باب ما لا يطاق والنزاع فيها لا يتعلق بمسائل الأمر والنهي وإنما يتعلق بمسائل القضاء والقدر ثم إنه جعل جواز هذا القسم مستلزما لجواز القسم الذي اتفق المسلمون علي أنه غير مقدور عليه وقال أحد النوعين بالآخر وذلك من الأقيسة التي اتفق المسلمون بل وسائر أهل الملل بل وسائر العقلاء علي بطلانها فإن من قاس الصحيح المأمور بالأفعال كقوله: إن القدرة مع الفعل أو أن الله علم أنه لا يفعل علي العاجز الذي لو أراد الفعل لم بقدر عليه ـ فقد جمع بين ما يعلم الفرق بينهما بالاضطرار عقلا ودينا وذلك من مثارات الأهواء بين القدرية وإخوانهم الجبرية

وإذا عرف هذا فإطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام كإطلاق القول بأن العباد مجبورون علي أفعالهم وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها علي إنكار ذلك ولا بأنه شاء الكائنات وقالوا رد بدعة ببدعة وقابل الفاسد بالفاسد واباطل بالبطال ولولا أن هذا الجواب لا يحتمل البسط لذكرت من نصوص أقوالهم في ذلك ما ببن ردهم لذلك

وأما إذا فصل مقصود القائل وبين بالعبارة التي لا يشبه الحق فيها بالباطل ما هو الحق وميز بين الحق والباطل ـ كان هذا من الفرقان وخرج المبين حينئذ مما ذم به أمثال هؤلاء الذين وصفهم الأئمة بأنهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون علي ترك الكتاب وأنهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويحرفون الكلم عن مواضعة ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم ولهذا كان يدخل المجبرة في مسمي القدرية المذمومين لخوضهم في القدر بالباطل إذ هذا جماع المعني الذي ذمت به القدرية

ولهذا ترجم الإمام أبو بكر الخلال في كتاب السنة فقال: الرد علي القدرية وقولهم: إن الله أجبر العباد علي المعاصي ثم روي عن عمر بن عثمان عن بقية بن الوليد قال: سالت الزبيدي والأوزاعي عن الجبر فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده علي ما أحب وقال الأوزعي: ما أعرف للجبر أصلا في القرآن ولا السنة فأهاب أن أقول ذلك ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله وإنما وضعت هذا مخالفة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق

فهذان الجوابان اللذان ذكرهما هذان الإمامان في عصر تابعي التابعين من أحسن الأجوبة أما الزبيدي ـ محمد بن الوليد صاحب الزهري ـ فأنه قال: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يعضل فنفي الجبر وذلك لأن الجبر المعروف في اللغة: هو إلزام الإنسان بخلاف رضاه كما يقول الفقهاء في باب النكاح: هل تجبر المرأة علي النكاح أو لا تجبر؟ وإذا عضلها الولي ماذا تصنع؟ فيعنون بجبرها إنكاحها بدون رضاها واختيارها ويعنون بعضلها منعها مما ترضاه وتختاره فقال: الله أعظم من أن يجبر أو يعضل لأن الله سبحانه قادر علي أن يجعل العبد مختارا راضيا لما يفعله ومبغضا وكارها لما يتركه كما هو الواقع فلا يكون العبد مجبورا علي ما يحبه ويرضاه ويريده وهي أفعاله ولاختيارية ولا يكون معضولا عما يتركه فيبغضه ويكرهه أو لا يريده وهي تروكه الاختيار

وأما الأوزاعي فإنه منع من إطلاق هذا اللفظ وإن عني به هذا المعني حيث لم يكن له أصل في الكتاب والسنة فيفضي إلي إطلاق لفظ مبتدع ظاهر في إرادة الباطل وذلك لا يسوغ وإن قيل: إنه يراد به معني صحيح

قال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: سمعت بعض المشيخة يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أنكر سفيان الثوري جبر وقال: الله جبل العباد قال المروزي: أظنه أراد قول النبي لأشج عبد القيس يعني قوله الذي في صحيح مسلم: [ إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة فقال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقين جبلت عليهما فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ]

ولهذا احتج البخاري وغيره علي خلق أفعال العباد بقوله تعالى { إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا } [ المعراج: 19 - 21 ] فأخبر تعالى أنه خلق الإنسان علي هذه الصفة

واحتج غيره بقول الخليل عليه السلام { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } [ إبراهيم: 40 ] وبقوله { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة: 128 ]

وجواب الأوزاعي أقوم من جواب الزبيدي لأن الزبيدي نفي الجبر والأوزاعي منع إطلاقه إذ هذا اللفظ قد يحتمل معني صحيحا فنفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل

كما ذكر الخلال ما ذكره عبد الله بن أحمد في كتابه السنة فقال: حدثنا محمد ابن بكار حدثنا أبو معشر حدثنا يعلى عن محمد بن كعب قال: إنما سمي الجبار لأنه يجبر الخلق علي ما أراد فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه زال المحذور وكان أحسن من نفيه وإن كان ظاهرا في المحتمل المعني الفاسد خشيه أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعا

وهكذا يقال في نفي الطاقة عن المأمور فإن إثبات الجبر في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور: وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة

قال الخلال: أنبأنا المروزي: قلت لأبي عبد الله: رجل يقول: إن الله يجبر العباد فقال: هكذا لا نقول وأنكر هذا وقال: { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } [ النحل: 93 ]

وقال: أنبأنا المروزي قال: كتب إلي عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري وقال: إنه يتنزه عن ميراث أبيه فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد علي المعاصي فرد عليه أحمد بن رجاء فقال: إن الله جبر العباد علي ما أراد أراد بذلك إثبات القدر فوضع أحمد بن علي كتابا يحتج فيه فأدخلته على أبي عبد الله فأخبرته بالقصة فقال: ويضع كتابا وأنكر عليهما جميعا: على ابن رجاء حين قال: جبر العباد وعلي القدري حين قال: لم يجبر وأنكر على أحمد بن علي وضعه الكتاب واحتجاجه وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب ن وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال: جبر العباد فقلت لأبي عبد الله: فما الجواب في هذه المسألة؟ قال { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } [ النحل: 93 ] قال المروزي في هذه المسألة: إنه سمع أبا عبد الله لما أنكر علي الذي قال: لم يجبر وعلي من رد عليه: جبر فقال أبو عبد الله: كلما ابتدع رجل بدعة اتسع الناس في جوابها وقال: يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة وأنكر علي من رد بشيء من جنس الكلام وإذا لم يكن له فيه أمام تقدم قال المروزي: فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبرا ومعه مشيخة وكتاب من أهل عكبرا فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبد الله فقال: يا أبا عبد الله هو ذا الكتاب ادفعه إلي أبي بكر حتى يقطعه وأنا أقوم علي منبر عكبرا وأستغفر الله عز وجل فقال أبو عبد الله لي: ينبغي أن يقبلوا منه فرجعوا له

وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في غير هذا الموضع وتكلمنا علي الأصل الفاسد الذي ظنه المتفرقون من أن إثبات المعني الحق الذي يسمونه جبرا ينافي الأمر والنهي حتى جعله القدرية منافيا للأمر والنهي مطلقا وجعله طائفة من الجبرية منافيا لحسن الفعل وقبحه وجعلوا ذلك مما اعتمدوه في نفي حسن الفعل وقبحه القائم به المعلوم بالعقل

ومن المعلوم أنه لا ينافي ذلك إلا كما ينافيه بمعني كون الفعل ملائما للفاعل ونافعا له وكونه منافيا للفاعل وضارا له ومن المعلوم أن هذا المعني ـ الذي سموه جبرا ـ لا ينافي أن يكون الفعل نافعا وضارا ومصلحة ومفسدة وجالبا للذة وجالبا للألم فعلم أنه لا ينافي حسن الفعل وقبحه كما لا ينافي ذلك سواء كان ذلك الحسن معلوما بالعقل أو معلوما بالشرع أو كان الشرع مثبتا له لا كاشفا عنه وأما قول السائل :

الرد علي المسألة السادسة

ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان حريصا علي هدي أمته؟

فنقول: هذا السؤال مبني علي الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة وطلب الهدي في مقالات المختلفين المتقابلين في النفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات الذين قال الله فيهم { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } [ البقرة: 19 ] وقال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } [ آل عمران: 19 ] وقال تعالى { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } [ المؤمنون: 53 ]

وقد تقدم التنبيه علي منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعني كلفظ أصول الدين حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما ذكرنا وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل

وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام نص علي كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } [ التوبة: 115 ] وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ المائدة: 3 ] وقال تعالى { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [ النساء: 165 ] وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } [ النور: 54 ] وقال { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء: 9 ] وقال تعالى { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما } [ النساء: 66 - 68 ] وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [ المائدة: 15 - 16 ]

و[ قال أبو ذر لقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما ] وفي صحيح مسلم: [ أن بعض المشركين قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال: أجل ] و[ قال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ] وقال [ ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم عنه ] وقال [ ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرا لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه شرا لهم ]

وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدي والبيان والشفاء

وذلك يكون بشيئين: أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة: 213 ] وقال تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } [ الشورى: 10 ] وقال { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } [ النساء: 59 - 61 ]

ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات وليس ذلك وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ولا قصور أو تقصير في بيان الحق ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة علي حق وباطل ففي إثباتها إثبات حق وباطل وفي نفيها نفي حق وباطل فيمنع من كلا الإطلاقين بخلف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه فيثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا إثباتا لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل فإذا تبين المعني أثبت حقه ونفي باطله بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه

وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون علي مفارقته فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز اتباعها بل يتعين حملها علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه أو الإعراض عنها وترك التدبر لها

وهذان الصفتان يشبهان ما ذكره الله في قوله { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } [ البقرة: 75 - 79 ]

فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة علي ما أصله هو من البدع الباطلة وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله لينال به دينا وقال: إنه من عند الله مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين وهذا معني الكتاب والسنة وهذا قول السلف والأئمة وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده علي الأعيان أو الكفاية ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة كالرافضة والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام وفي أهل الأهواء تفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلي الفقهاء مع شعبة من حال الأهواء وهذه الأمور المذكورة في الجواب مبسوطة في موضع آخر

نهاية الإجابة علي السؤال والله أعلم

عودة إلي مناقشة قانون التأويل

والمقصود هنا الكلام علي قول القائل: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية الخ كما تقدم

جواب إجمالي

والكلام علي هذه الجملة بني علي بيان ما في مقدمتها من التلبيس فإنها مبنية علي مقدمات أولها: ثبوت تعارضها

والثانية: انحصار التقسيم فيما ذكره م الأقسام الأربعة

والثالثة: بطلان الأقسام الثلاثة

والمقدمات الثلاثة باطلة وبيان ذلك بتقديم أصل وهو أن يقال: إذا قيل: تعارض دليلان سواء كانا سمعيين أو عقليين أو أحدهما سمعيا والآخر عقليا فالواجب أن يقال: لا يخلو إما أن يكونا قطعيين أو يكونا ظنيين وإما أن يكونا أحدهما قطعيا ولآخر ظنيا

فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما: سواء كانا عقليين أو سمعيين أو أحدهما عقليا والآخر سمعيا وهذا متفق عليه بين العقلاء لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله: ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة

وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر للزم الجمع بين النقيضين وهو محال بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي أو أن يكون مدلولاهما متناقضين فأما مع تناقض المدلولين المعلومين فيمتنع تعارض الدليلين

وإن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيا دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظن لا يرفع اليقين

وأما إن كانا جميعا ظنيين: فإنه يصار إلي طلي ترجيح أحدهما فأيهما ترجح كان هو المقدم سواء كان سميعا أو عقليا

ولا جواب عن هذا إلا أن يقال: الدليل السمعي لا يكون قطعا وحينئذ فقال: هذا ـ مع كونه باطلا ـ فإنه لا ينفع فإنه علي هذا التقدير يجب تقديم القطعي لكونه قطعيا لا لكونه أصلا للسمع وهؤلاء جعلوا عمدتهم في التقديم كون العقل هو الأصل للسمع وهذا باطل كما سيأتي بيانه إن شاء الله

وإذا قدر أن يتعارض قطعي وظني لم ينازع عاقل في تقديم القطعي لكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد

وأيضا فإن الناس متفقون علي أن كثيرا مما جاء به الرسول معلوم بالاضطرار من دينه كإيجاب العبادات وتحريم الفواحش والظلم وتوحيد الصانع وإثبات المعاد وغير ذلك

وحينئذ فلو قال قائل: إذا قام الدليل العقلي القطعي علي مناقضة هذا فلا بد من تقديم أحدهما: فلو قدم هذا السمعي قدح في أصله وإن قدم العقلي لزم تكذيب الرسول فيما علم بالاضطرار أنه جاء به وهذا هو الكفر الصريح فلا بد لهم من جواب عن هذا والجواب عنه أنه يمتنع أن يقوم عقلي قطعي يناقض هذا

فتبين أن كل ما قام عليه دليل قطعي سمعي يمتنع أن يعارضه قطعي عقلي ومثل هذا الغلط يقع فيه كثير من الناس يقدرون تقديرا يلزم منه لوازم فيثبتون تلك اللوازم ولا يهتدون لكون ذلك التقدير ممتنعا والتقدير الممتنع قد يلزمه لوازم ممتنعة كما في قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء: 22 ] ولهذا أمثلة :

منها: ما يذكره القدرية والجبرية في أن أفعال العباد: هل هي مقدورة للرب والعبد أم لا؟ فقال جمهور المعتزلة: إن الرب لا يقدر علي عين مقدور العبد واختلفوا هل يقدر علي مثل مقدوره؟

فأثبته البصريون كأبي هاشم ونفاه الكعبي وأتباعه البغداديون وقال جهم وأتباعه الجبرية: إن ذلك الفعل مقدور للرب لا للعبد

وكذلك قال الأشعري وأتباعه: إن المؤثر فيه قدرة الرب دون قدرة العبد

واحتج المعتزلة بأنه لو كان مقدورا لهما للزوم إذا أراده أحدهما وكرهه الآخر مثل أن يريد الرب تحريكه ويكرهه العبد: أن يكون موجودا معدوما لأن المقدور من شأنه أن يوجد عند توفر دواعي القادر وأن يبقي علي العدم عند توفر صارفه فلو كان مقدور العبد وقدورا لله لكان إذا أراد الله وقوعه وكره العبد وقوعه لزم أن يوجد لتحقق الدواعي ولا يوجد لتحقق الصارف وهو محال

وقد أجاب الجبرية عن هذا بما ذكره الرازي وهو: أن البقاء علي العدم عند تحقق الصارف ممنوع مطلقا بل يجب إذا لم يقم مقامه سبب آخر مستقل وهذا أول المسألة وهو جواب ضعيف فإن الكلام في فعل العبد القائم به إذا قام بقلبه الصارف عنه دون الداعي إليه وهذا يمتنع وجوده من العبد في هذه الحال وما قدر وجوده بدون إرادته لا يكون فعلا اختياريا بل يكون بمنزلة حركة المرتعش والكلام إنما هو في الاختياري ولكن الجواب منع هذا التقدير فإن ما لم يرده العبد من أفعاله يمتنع أن يكون الله مريدا لوقوعه إذ لو شاء وقوعه لجعل العبد مريدا له فإذا لم يجعله مريدا له علم أنه لم يشأه ولهذا اتفق علماء المسلمين علي أن الإنسان لو قال: والله لأفعلن كذا وكذا إن شاء الله ثم لم يفعله أنه لا يحنث لأنه لم يفعله علم أن الله لم يشأه إذ لو شاءه لفعله العبد فلما لم يفعله علم أن الله لم يشأه

واحتج الجبرية بما ذكره الرازي وغيره بقولهم: إذا أراد الله تحريك جسم وأراد العبد تسكينه: فإما أن يمتنعا معا وهو محال لأن المانع من وقوع مراد كل واحد منهما هو وجود مراد الآخر فلو امتنعا معا لوجدا معا وهو محال أو لوقعا معا وهو محال أو يقع أحدهما وهو باطل لأن القدرتين متساويتان في الاستقلال بالتأثير في ذلك المقدور الواحد والشيء الواحد حقيقة لا تقبل التفاوت فإذن القدرتان بالنسبة إلي اقتضاء وجود ذلك المقدور علي السوية وإنما التفاوت في أمور خارجية عن هذا المعني وإذا كان كذلك امتنع الترجيح

فيقال: هذه الحجة باطلة علي المذهبين وأما أهل السنة فعندهم يمتنع أن يريد الله تحريك جسم ويجعل العبد مريدا لأن يجعله ساكنا مع قدرته علي ذلك فإن الإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المقدور فلو جعله الرب مريدا مع قدرته لزم وجود مقدوره فيكون العبد يشاء مالا يشاء الله وجوده وهذا ممتنع بل ما شاء الله وجوده يجعل القادر عليه مريدا لوجوده لا يجعله مريدا لما يناقض مراد الرب

أما أهل السنة فعندهم يمتنع أن يريد الله تحريك جسم ويجعل العبد مريدا لأن يجعله ساكنا مع قدرته علي ذلك فإن الإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المقدور فلو جعله الرب مريدا مع قدرته لزم وجود مقدوره فيكون العبد يشاء مالا يشاء الله وجوده وهذا ممتنع بل ما شاء الله وجوده يجعل القادر عليه ميدا لوجوده لا يجعله مريدا لما يناقض مراد الرب

وأما علي قول المعتزلة عندهم تمتنع قدرة الرب علي عين مقدور العبد ن فيمتنع اختلاف الإرادتين في شيء واحد وكلتا الحجتين باطلة فأنهما مبيتان علي تناقض الإرادتين وهذا ممتنع فإن العبد إذا شاء أن يكون شيء لم يشاء حتى يشاء الله مشيئته كما قال تعالى: { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } [ التكوير: 28 - 29 ] وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإذا شاءه الله جعل العبد شائيا له وإذا جعل العبد كارها له غير مريد له لم يكن هو في هذه الحال شائيا له

فهم بنوا الدليل علي تقدير مشيئة الله له وكراهة العبد له وهذا تقدير ممتنع وهذا نقلوه من تقدير ربين وإلهين وهو قياس باطل لأن العبد مخلوق لله هو وجميع مفعولاته ليس هو مثلا لله ولا ندا ولهذا إذا قيل ما قاله أبو إسحاق الإسفراييني: من أن فعل العبد مقدور بين قادرين لم يرد به بين قادرين مستقلين بل قدرة العبد مخلوقة لله وإرادته مخلوقه لله فالله قادر مستقل والعبد قادر بجعل الله له قادرا وهو خالقه وخالق قدرته وإرادته وفعله فلم يكن هذا نظير ذاك

وكذلك ما يقدره الرازي وغيره في مسألة إمكان دوام الفاعلية وأن إمكان الحوادث لا بداية له من أنا إذا قدرنا إمكان حادث معين وقدرنا أنه لم يزل ممكنا كان هذا لم يزل ممكنا مع أنه لا بداية لإمكانه فإن هذا تقدير ممتنع وهو تقدير ما له بداية مع أنه لا بداية له وهو جمع بين النقيضين ولهذا منع الرازي في محصله إمكان هذا

وهذا الذي ذكرناه بين واضح متفق عليه بين العقلاء من حيث الجملة ن وبه يتبين أن إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي معلوم الفساد بالضرورة وهو خلاف ما اتفق عليه العقلاء وحينئذ فنقول: الجواب من وجوه :

الجواب التفصيلي من وجوه

الوجه الأول

أن قوله: إذا تعارض النقل والعقل إما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض حينئذ

وإما أن يريد به الظنيين فالمقدم هو الراجح مطلقا

وأما أن يريد به ما أحدهما قطعي فالقطعي هو المقدم مطلقا وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعيا لا لكونه عقليا

فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقليا خطأ

الوجه الثاني

أن يقال: لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكرته من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال: يقدم العقلي تارة والسمعي أخري فأيهما كان قطعيا قدم وإن كانا جميعا قطعيين فيمتنع التعارض وإن كانا ظنيين فالراجح هو المقدم

فدعوى المدعي: أنه لا بد من تقديم العقلي مطلقا أو السمعي مطلقا أو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين دعوى باطلة بل هنا قسم ليس من هذه الأقسام كما ذكرناه بل هو الحق الذي لا ريب فيه

الوجه الثالث نفي قاعدة أن العقل أصل النقل

قوله: إن قدمنا النقل كان ذلك طعنا في أصله الذي هو العقل فيكون طعنا فيه غير مسلم وذلك لأن قوله: إن العقل أصل للنقل إما أن يريد به: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر أو أصل في عملنا بصحته

والأول لا يقوله عاقل فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت سواء علمنا بالعقل او بغير العقل ثبوته أو لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره إذ عدم العلم ليس علما بالعدم وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسنا فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفس الأمر سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه

ومن أرسله الله تعالى إلي الناس فهو رسوله سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا وما أخبر به فهو حق وإن لم يصدقه الناس وما أمر به عن الله فالله أمر به وإن لم يطعه الناس فثبوت الرسالة في نفسها وثبوت صدق الرسول وثبوت ما اخبر به في نفس الأمر: ليس موقوفا علي وجودنا فضلا عن أن يكون موقوفا علي عقولنا أو علي الأدلة التي نعلمها بعقولنا وهذا كما أن وجود الرب تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات ثابت في نفس الأمر سواء علمناه أو لم نعلمه

فتبين بذلك أن العقل ليس أصلا لثبوت الشرع في نفسه ولا معطيا له صفة لم تكن له ولا مفيدا له صفة كمال إذ العلم مطابق للمعلوم المستغني عن العلم تابع له ليس مؤثرا فيه

فإن العلم نوعان: أحدهما العملي وهو ما كان شرطا في حصول المعلوم كتصور أحدنا لما يريد أن يفعله فالمعلوم هنا متوقف علي العلم به محتاج إليه

والثاني: العلم الخبري النظري وهو ما كان المعلوم غير مفتقر في وجوده إلي العلم به كعلمنا بوحدانية الله تعالى وأسمائه وصفاته وصدق رسله وبملائكته وكتبه وغير ذلك فإن هذه المعلومات ثابتة سواء علمناها أو لم نعلمها فهي مستغنية عن علمنا بها والشرع مع العقل هو من هذا الباب فإن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا ولكن نحن محتاجون إليه وإلي أن نعلمه بعقولنا فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالما به وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته وانتفع بعلمه به وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك ولو لم يعلمه لكن جاهلا ناقصا

وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل لنا علي صحته ـ وهذا هو الذي أراده ـ فيقال له: أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا أم العلوم التي استفدنا بتلك الغريزة؟

وأما الأول فلم ترده ويمتنع أن تريده لأن تلك الغريزة ليست علما يتصور أن يعارض النقل وهو شرط في كل علم عقلي أو سمعي كالحياة وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له فالحياة والغريزة شرط في كل العوم سمعيها وعقليها فامتنع أن تكون منافية لها وهى أيضا شرط في الاعتقاد الحاصل بالاستدلال وإن لم تكن علما فيمتنع أن تكن منافية له ومعارضة له

وإن أردت بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفة الحاصلة بالعقل فيقال لك: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا علي صحته فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف علي ما به يعلم صدق الرسول

وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله مثل إثبات الصانع وتصديقه للرسول بالآيات وأمثال ذلك

وإذا كان كذلك لم تكن جميع المعقولات أصلا للنقل لا بمعني توقف العلم بالسمع عليها ولا بمعني الدلالة علي صحته ولا بغير ذلك لاسيما عند كثير من متكلمة الإثبات أو أكثرهم كالأشعري في أحد قوليه وكثير من أصحابه أو أكثرهم كالأستاذأبي المعالي الجويني ومن بعده من وافقهم ـ الذين يقولون: العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تجري مجري تصديق الرسول علم ضروري فحينئذ ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير مع أن العلم بصدق الرسول له طرق كثيرة متنوعة كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضوع

وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع وهذا بين واضح وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها ولا يلزم من صحة بعض العقليات صحة جميعها كما لا يلزم من صحة بعض السمعيات صحة جميعها

وحينئذ فلا يلزم من صحة المعقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ولا من فساد هذه فساد تلك فضلا عن صحة العقليات المناقضة للسمع

فكيف يقال: إنه يلزم من صحة المعقولات التي هي ملازمة للسمع صحة المعقولات المناقضة للسمع؟ فإن ما به يعلم السمع ولا يعلم السمع إلا به لازم للعلم بالسمع لا يوجد العلم بالسمع بدونه وهو ملزوم له والعلم به يستلزم العلم بالسمع والمعارض للسمع مناقض له مناف له فهل يقول عاقل: إنه يلزم من ثبوت ملازم الشيء ثبوت مناقضه ومعارضه !؟

ولكن صاحب هذا القول جعل العقليات كلها نوعا واحدا متماثلا في الصحة أو الفساد ومعلوم أن السمع إنما يستلزم صحة بعضها الملازم له لا صحة البعض المنافي له والناس متفقون علي أن ما يسمى عقليات منه حق ومنه باطل وما كان شرطا في العلم بالسمع وموجبا فهو لازم للعلم به بخلاف المنافي المناقض له فإنه يمتنع أن يكون هو بعينه شرطا في صحته ملازما لثبوته فإن الملازم لا يكون مناقضا فثبت أنه لا يلزم من تقديم السمع علي ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله

فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة فساد المقدمات الثلاث التي بنوا عليها تقديم آرائهم علي كلام الله ورسوله

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55