فصل: اعتراض الأبهري على حجة قطع التسلسل في العلل عدل

وقد أورد الأبهري ومن اتبعه على هذه الحجة المذكورة لقطع التسلسل في العلل اعتراضا زعم انه يبين ضعفها فقال في كلامه على ملخص الرازي وغيره قول القائل: مجموع تلك العلل الممكنة يحتاج إلى كل واحد منها الخ 0 قلنا: لم لا يجوز أن يكون المؤثر في ذلك المجموع واحدا منها أما قوله بأن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله فلا يكون علة للمجموع قلنا لا نسلم وإنما يلزم أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك وهذا لن الشيء جاز ان يكون علة للمجموع من حيث هو مجموع فلا يكون علة لكل واحد من أجزائه فإن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه لا يقال بأن مجموع تلك العلل المتسلسلة ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجية فذلك المجموع افتقر إلى علة خارجية عنه لنا نقول لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجية عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس مفتقرا إلى علة خارجية عنه لا يقال بأن المجموع المركب من ىحاد كل واحد منها محتاج إلى علة خارجية لأنا نقول لا نسلم وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن كل واحد منها معولا لآخر إلى غير النهاية لا يقال إن جملة ما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون نفس المجموع أو داخلا فيه أو خارجا عنه والأول محال وإلا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال وإلا لكان بعض الأجزاء كافيا في المجموع والثالث حق قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه أن جملة المور التي يفتقر إليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم إنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع وإذا كان المجموع ممكنا في نفسه فهو مفتقر إلى غيره فما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون هو المجموع أو داخلا فيه أو خارجا منه والأول محال وإلا لكان الشيء علة لنفسه والثاني محال وإلا لكان بعض الأجزاء كافيا في المجموع لأن المجموع إذا كان ممكنا وإنما يفتقر إلى البعض لزم أن يكون البعض هو المقتضي للمجموع فيلزم أن يكون مقتضيا لنفسه ولعلته وإن كان ما يفتقر إليه المجموع خارجا عن المجموع فهو المطلوب وهذا التحرير يوجب أن يكون البعض علة فاعلة للمجموع والعلة الفاعلة كافية للمجموع

وقوله إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة المور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع

الرد على الأبهري من وجوه عدل

فيقال له: لأن المجموع إن لم يكن زائدا على تلك الأمور التي كل منها معلول فليس هنا مجموع غير المعلولات والمعلولات التي لا يوجد شيء منها بنفسه بل لا بد له من موجد موجود إذا لم يكن فيها موجد موجود وامتنع ان يكون مجموعها حتصلا بمجموعها وإن كان المجموع معلولا لها فهو اولى بالافتقار وهذا امر معلوم بالضرورة وما قدح فيه كان قدحا في الضروريات فلا يسمع

الوجه الثالث عدل

الجواب عن معارضته وهو قوله إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع وملخص هذا الكلام أن مجموع الموجودات ليس متوقفا على بعض الأجزاء لتوقفه على الجميع ولا متوقفا على ما خرج عن المجموع فالمجموع متوقف على المجموع

فيقال له هذا يناقض ما ذكرته أولا من ان المؤثر في مجموع الموجودات واحد منها وزعمت أن هذا معارضة لقولهم مجموع الممكنات لا يجوز أن يكون المؤثر فيها واحدا وإذا كان هذا يناقض ذاك فإما ان تقول المؤثر في المجموع جزؤه او المؤثر فيه هو المجموع فإن قلت إنه جزؤه بطل هذا الاعتراض وسلم هذا الدليل الدال على امتناع معلولات ممكنة ليس لها علة واجبة وبذلك يحصل المقصود من إثبات واجب الوجود 0 وغن قلت إن المؤثر هو المجموع بطل اعتراضك على ذلك الدليل وسلم ذلك الدليل عن المعارضة فحصل به المقصود

الوجه الرابع عدل

أن يقال قولك جملة الأمور او مجموع المور الذي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع يتضمن أن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر من المور وانت لم تذكر على ذلك دليلا فلم قلت إن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر وأولئك إنما ادعوا ان مجموع الممكنات يفتقر إلى امر من المور وهذا معلوم بادلة متعددة بل بلضرورة وما ذكرته ليس بمعلوم

الوجه الخامس عدل

أن يقال مجموع الموجود المتضمن للواجب لا يقبل العدم وما لا يقبل العدم فليس بممكن وما ليس بممكن فهو واجب فالمجموع حينئذ واجب وما كان واجبا لم يفتقر إلى أمر من الأمور وقولك إن المجموع مفتقر إلى المجموع هو معنى قول القائل إنه واجب بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه بل لا بد له من نفسه وإذا كنت قد أقررت انه واجب بنفسه بطل قولك إنه يفتقر إلى أمر وهذا بخلاف مجموع العلل الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون واجبا بنفسه لأنه ليس فيها ما هو موجود بنفسه وإذا لم يكن في المجموع ما هو موجود بنفسه كان امتناع المجموع أن يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى

وهذا السؤال الذي أورده هذا من جنس السؤال الذي أورده الآمدي بل هو هو ولعل احدهما اخذه من الآخر وهو أن تكون الجملة مترجحة بالآحاد وكل منها مترجح بالآخر إلى غير نهاية واجاب عنه الآمدي في أحد كتابيه وقال في الآخر إنه لا يعرف عنه جوابا وذكر عن قوم أنهم قالوا المجموع واجب بنفسه بهذا الاعتبار واستفسط هذا الاعتراض

ومقصود الجميع أن مجموع المعلولات التي لا تتناهي لا تفتقر إلى شيء غير آحادها المتعاقبة وفساد هذا معلوم بالاضطرار بعد جودة التصور وإنما أشكل على من أشكل لعدم التصور التام فإنه إذا قال القائل علل لا تتناهى أو ممكنات لا تتناهى كل منها مترجح أو معلول بالآخر توهم الذهن أن هذا يتضمن تقدير موجودات في الخارج كل منها معلول الموجود الآخر وان الأمر هكذا إلى غير نهاية

ولهذا أراد طائفة أن يبطلوا هذا التسلسل بجنس ما يبطلون به الآثار التي لا تنتهي كالحركات التي لا تتناهى وهذا غلط فإن المقدر هو أمور ليس فيها ما يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بعلة مباينة له موجودة وكلها بهذه المثابة إلى غير نهاية

وهذا في الحقيقة تقدير معدومات بعضها علة لبعض في وجوده إلى غير نهاية من غير أن يوجد شيء منها وكما أن المعدوم إذا كان باطلا وإن قدر وجوده مع ذلك كان جمعا بين النقيضين وإذا كان تقدير معلول معدوم بعلة معدومة تقتضي وجوده ولم يوجد ممتنع في بديهة العقل من جهة انه لم يوجد ومن جهة أن علته ليست موجودة فكثرة هذه العلل اولى بالامتناع وتسلسلها إلى غير نهاية اعظم في الامتناع فكذلك إذا قدر ما هو معلول ممكن لا يوجد إلا بموجد يوجده وقدر انه ليس هناك موجود يوجده فإن وجوده يكون ممتنعا فإن قدر موجودا كان جمعا بين النقيضين 0 وتسلسل هذه المعلولات من غير أن تنتهي إلى موجودا بنفسه أعظم في الامتناع لكن من توهم أنها موجودات متسلسلة التبس عليه المر وتقدير كونها موجودات متسلسلة ممتنع في نفسه بل هو جمع بين النقيضين لأن التقدير انه ليس فيها ما يوجد بنفسه ولا يوجد إلا بموجد موجود وإذا لم يكن فيها موجود بنفسه ولا موجد موجود امتنع أن يكون فيها إلا معدوم فتقدير وجودها جمع بين النقيضين

وبيان ذلك أن كلا منها هو مفتقر إلى موجد يوجده فلا يوجد بنفسه وعلته لم توجد بنفسها فليس فيها موجود بنفسه وليس هنا علة موجودة بنفسها 0 فإذا قدر في كل منها أنه موجود بغيره فذلك الغير هو بمنزلته أيضا لا وجود له من نفسه فليس هناك موجود يوجدها إلا ما يقدر منها وكل منها إذا لم يكن له من نفسه وجود فأن لا يكون موجدا لغيره بطريق الأولى والأحرى فلا له من نفسه وجود ولا إيجاد وغيره من جنسه ليس له من نفسه وجود ولا إيجاد فمن أين يكون لشيء منها وجود بلا وجود لنفسه ولا إيجاد؟ إذ الإيجاد فرع الوجود

اعتراض الأبهري فاسد من وجوه عدل

قلت وهذا الاعتراض فاسد جدا وبيان فساده من وجوه :

الوجه الأول: أن يقال: هو اعتراض على قولهم مجموع العلل الممكنة ممكن لافتقار المجموع إلى الآحاد الممكنة ولا يجوز أن يكون المؤثر في المجموع واحدا من العل الممكنة لن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل فامتنع أن يكون مؤثرا في المجموع فقال المعترض: إنما يلزم هذا أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك؟

فيقال له أولا: نحن لا نعني بالمجموع مجرد الهيئة الاجتماعية بل نعني به كل واحد من الأفراد والهيئة الاجتماعية وحينئذ فتكون علة المجموع علة كل واحد من أجزائه وهذا معلوم بالضرورة فإن المؤثر إذا كان مؤثرا في مجموع الآحاد مع الهيئة الاجتماعية فقد أثر في كل جزء من أجزائه فإنه لو لم يؤثر في كل جزء من الجزاء لجاز انتفاء ذلك الجزء وإذا انتفى المجموع والتقدير أنه في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا والمجموع هو الأفراد والهيئة الاجتماعية فلو قدر انه غير موجود لزم الجمع بين النقيضين وهو الممتنع وهذا الممتنع لزم من تقدير كونه مؤثرا في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا مع تقدير عدم بعض أجزاء المجموع فعلم أنه يستلزم من كونه أثر في المجموع وجود المجموع ويلزم من وجود المجموع انه لا ينتفى شيء من أجزائه فعلم أن ما استلزم ثبوت المجوع استلزم ثبوت كل من أجزائه وإن لم يكن المستلزم علة فاعلة فكيف إذا كان المستلزم على فاعلة؟ فتبين أن ثبوت العلة الفاعلة للمجوع يتضمن أن يكون علة لكل من أجزائه ولو تخيل متخيل أن الواحد من الجملة علة لسائر الأجزاء والأجزاء علة للمجموع أو أنه علة للمجموع والمجموع علة للآحاد فيكون ذلك الواحد علة العلة قلنا هذا لا يضر لأن العلة علة وكما يمتنع في الواحد أن يكون علة علة نفسه فيمتنع أن يكون علة نفسه بطريق الأولى فلو كان بعض الأجزاء علة للمجموع والمجموع علة لكل من الأجزاء أو بالعكس لزم أن يكون ذلك الجزء علة علة نفسه وعلة علل نفسه وهو ما قبل ذلك الجزء من العلل التي قدر أنه لا نهاية لها وهذا بين لا يتصوره أحد إلا يعلم امتناعه بالبديهة ومن نازع فيه كان إما لعدم تصوره له وإما لعنادة وحينئذ فيكفي أن يقال: هذا معلوم بالبديهة فالشبهة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية فلا يستحق جوابا

الوجه الثاني عدل

أن يحل ما ذكره من المعارضة وهي قوله: وهذا لأن الشيء جاز أن يكون علة للمجموع من حيث هو علة للمجموع من حيث هو مجموع ولا يكون علة لكل واحد من أجزائه فغن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه

قلنا: لا نسلم أن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وإنما هو علة لبعض الموجودات وهي الممكنات وأما الموجود الواجب بنفسه فلا علة له وهو من الموجودات وإذا كانت الموجودات وإذا كانت الموجودات منقسمة إلى واجب وممكن والواجب علة للمكن لم يكن الواجب علة لمجموع الموجودات بل علة لبعضها وبعضها لا علة له

فإن قيل: إنما قلنا الواجب للمجموع من حيث هو مجموع لا لكل واحد فهو علة للهيئة الاجتماعية

قيل: أولا: لا نسلم أن المجموع له وجود يزيد على الآحاد ويقال: ثانيا إذا قدر أن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية أمر مغاير للأفراد فالواحد من تلك الأفراد إذا كان علة للهيئة الاجتماعية فالعلة مغايرة للمعلول ليست العلة بعض المعلول

وهذا بين إذا تصوره المتصور معلوم بالبديهة ولكن لفظ المجموع فيه إجمال قد يعنى به الأفراد المجتمعة وقد يعنى به اجتماعها وقد يعنى به الأمران ومعلوم انه يمتنع أن يكون بعض الأفراد المجتمعة علة لكل من الأفراد المجتمعة وهذا هو المطلوب

وأما الاجتماع إذا قدر انه مغاير للأفراد فالواحد منها يكون علة لذلك الاجتماع المغاير لذلك المفرد وغيره وإن أريد الأفراد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع فيكون الواحد من ذلك المجموع علة لسائر الأجزاء وهذا ممكن فالواجب سبحانه وتعالى هو المبدع لسائر الموجودات ومبدع للاجتماع الحاصل منها ومنه إذا قدر ذلك الاجتماع مغايرا للأفراد لكن ذلك الاجتماع هو من جملة سائر الموجودات

فإذا قيل: إنه مبدع لسائر الموجودات دخل في ذلك كل ما سواه من الموجودات أعيانها وأعراضها ودخل في ذلك الاجتماع الحاصل منه ومنها وهو الهيئة الاجتماعية إذا قدر أنها موجودة فإن ذلك الاجتماع أمر مغاير للواجب بنفسه فهو داخل في سائر الموجودات سواه فهو من جملة مصنوعاته

ومما يوضح ذلك أن الاجتماع إذا قدر أمرا مغايرا للأفراد: أمرا يحدث بحدوث ما يحدث من الممكنات فكلما حدث ممكن كان له مع سائر الممكنات اجتماع وذلك الاجتماع حادث بحدوثه فإذا قدر أن ما سوى الله حادث فاجتماع وجود الحوادث مع وجود الله وهو أيضا حادث وهو كمعية المخلوقات مع خالقها وهذه المعية ونحوها هو مما يجوز حدوثه باتفاق العقلاء بل هو متفقون على جواز حدوث النسب والإضافات بين الخالق والمخلوق سواء قيل: إنها وجودية أو عدمية ولو قدر أن من الممكنات ما هو قديم أزلي كما يقوله من يقول بقدم شيء من العالم فاجتماع ذلك الممكن مع ذلك الواجب معلول للواجب والواجب ليس هو بعض ذلك الاجتماع بل هو بعض الأمور المجتمعة وبعض الأمور المجتمعة إذا كان علة لسائر الأبعاض كان هذا ممكنا وذلك الاجتماع هو بعض آخر فالواجب الذي هو بعض الأمور المجتمعة التي منها الاجتماع علة لسائر الأبعاض والاجتماع واحد منها فليس في ذلك امتناع كون بعض الجملة علة لجميع أبعاض الجملة وهذا هو المطلوب انتقاؤه فتبين أن امتناع كون بعض الممكنات فإن الأول يقتضى كونه علة لنفسه وكون الممكن المفعول المصنوع مبدع نفسه ويخلقها أظهر امتناعا من كونه يخلق غيره بعد وجوده ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الطور 35 فإنه من المعلوم في بدائه الفطر امتناع كونهم حدثوا من غير محدث وامتناع كونهم أحدثوا أنفسهم فعلم أن لهم محدثا أحدثهم

الوجه الثالث عدل

لا نسلم أن المجموع المركب من الواجب والممكن يكون الواجب وحجه علة له بل علته الأجزاء جميعها وذلك لأن المجموع متوقف على كل من الأجزاء: الواجب والممكنات فالمجموع من حيث هو مجموع توقفه على كل جزء كتوقفه على الجزء الآخر إذ كان لا يوجد إلا بوجود كل من الأجزاء ثم إذا كان بعض الأجزاء علة لبعض كان المجموع مفتقرا إلى الجزء الواجب وإلى الجزء المفتقر إلى الجزء الواجب ولا يلزم من ذلك أن يكون مجرد الواجب مقتضيا للمجموع بلا واسطة بل لولا الجزء الآخر الممكن لما حصل المجموع ن فتبين أن الواجب لا يكون وحده علة للمجموع من حيث هو مجموع وإنما يكون علة لسائر الأجزاء وهو وسائر الأجزاء علة للمجموع

نعم يلزم أن يكون علة بنفسه للممكنات وهو بتوسط الممكنات أو مع الممكنات علة للمجموع من حيث هو مجموع ومثل هذا منتف في الأجزاء الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط غيره

أما الأول فلأن الجزء الواجب إذا لم يكن وحده علة للمجموع فالجزء الممكن أولى ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء فلا يستقل به واحد منها

وأما الثاني فلأن الممكن لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء بالضرورة فإن المعلول لا يكون علة علته وإذا امتنع كونه علة لنفسه ولسائر الأجزاء المتقدمة عليه لم يحصل به وحده هذه الأجزاء والمجموع متوقف على هذه الأجزاء فلا يكون شيء من الأجزاء الممكنة علة للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط معلولاته بخلاف الجزء الواجب فإنه إذا قيل عنه إنه علة لمجموع بنفسه وبتوسط معلولاته كان هذا المعنى ممتنعا في الممكن فالمعنى الذي يمكن أن يجعل فيه الواجب علة للمجموع الذي هو واحد منه يمتنع مثله في الممكنات فلا يتصور أن يكون علة للمجموع الذي هو واحد منه وهذا يكشف ما في الاعتراض من التلبيس والغلط :

الوجه الرابع عدل

أن يقال: لا نسلم أن الواجب علة للمجموع من حيث هو مجموع بل الواجب علة للمكنات من الأجزاء والآحاد علة للمجموع ومثل هذا لا يمكن أن يقال في مجموع العلل الممكنة ولا في مجموع الممكنات فإنه لا يمكن أن يكون شيء منها علة لسائر الأجزاء إذ كل منها معلول لا يكون علة لنفسه ولا لعلله وإذا كان كل من الأجزاء معلولا والمجموع معلول الآحاد كان المجموع أولى بأن يكون معلولا

الوجه الخامس عدل

أن يقال في إبطال هذا الاعتراض: نحن ذكرنا الحجة لإثبات أن يكون في الوجود واجب بنفسه فإما أن يكون في الموجودات واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يكن فيها واجب بنفسه بطل الاعتراض

الوجه السادس عدل

أن يقال: الاعتراض مبناه على أن مجموع الموجودات له علة هو بعضهوهو الواجب فإن لم يكن في المجموع بعض واجب بطل الاعتراض وهذا الاعتراض مذكور على سبيل المعارضة لأنا قد ذكرنا انا نعلم بالضرورة أن مجموع العلل الممكنة إذا كان له علة كان علة لكل منها وأن العلم بذلك ضروري وبيناه بيانا لا ريب فيه وإذا تبين أن صحة الاعتراض مستلزمة لثبوت واجب الوجود كان واجب الوجود ثابتا على تقدير صحة الاعتراض وعلى تقدير فساده وإذا كان ثابتا على التقديرين تقدير النفي وتقدير الإثبات ثبت أنه ثابت فينفس الأمر وهو المطلوب وهذا بين لمن تأمله ولله الحمد

يمكن إيراد الجواب على وجوه

الوجه الأول: أن يقال: أما أن يقدر ثبوت الواجب في نفسه وإما أن يقدر انتفاؤه فغن قدر ثبوته في نفس الأمر حصل المقصود وامتنع أن يكون في نفس الأمر ما ينفي وجوده وإن قدر انتقاؤه لزم بطلان الاعتراض المذكور على دليل ثبوته وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على ثبوتهه سليما عما يعارضه فيجب ثبوته مدلوله وهو الواجب الوجود فلزم ثبوت وجود سواء قدر المعترض ثبوته أو قدر انتفاءه وما لزم ثبوته على تقدير ثبوته وتقدير انتفائه كان ثابتا في نفس الأمر قطعا وهو المطلوب

فإن قيل: كيف يمكن تقدير ثبوته مع تقدير انتفائه وفي ذلك جمع بين النقيضين

قيل: نعم هذا لأن تقدير انتفائه لما كان ممتنعا في نفس الأمر جاز أن يلزمه ما هو ممتنع في نفس الأمر وهذا مما يقرر ثبوته

وأيضا فإذا كان تقدير انتفائه يستلزم الجمع بين النقيضين كان تقديرا ممتنعا في نفس الأمر ويكون تقدير انتفائه ممتنعا في نفس الأمر وإذا كان انتفاؤه ممتنعا كان ثبوته واجبا وهو المطلوب

فإن قيل: إذا كان انتفاؤه ف ينفس الأمر ممتنعا قطعا وكان بطلان الاعرتاض معلقا بانتفائه لم يلزمه بطلان الاعتراض وإذا صح الاعتراض بطل الدليل المذكور

قلنا تقدير انتفائه هو جزء الدليل على بطلان الاعتراض ليس هو بطلان الاعتراض ومن المعلوم أن انتفاء الدليل لا يوجب انتفاء يدل عليه في نفس الأمر فغن الدليل لا يجب عكسه فلو كان انتفاؤه بس الأمر وحده دليل على بطلان الاعتراض لم يلزم صحة الاعتراض بتقدير نقيض هذا الدليل فكيف إذا كان جزء دليل

فإن قيل بطلان جزء الدليل يوجب بطلان الدليل فيبطل ما ذكر من الدليل على فساد الاعتراض

قيل لفظ جزء الدليل مجمل فإن أريد بالجزء قسم من القسام المقدرة كان هذا باطلا فإنه لا يلزم من بطلان قسم في الأقسام المقدرة بطلان الدليل إذا كان غيره من الأقسام صحيحا وإن أريد بجزء الدليل مقدمة من مدماته فهذا صحيح فإنه إذا بطلت مقدمة الدليل بطل لكن مقدمة الدليل هنا صحيحة فإنها تقسيم دائر بين النفي والإثبات ومن المعلوم أن التقسيم الدائر بين النقيضين يستلزم بطلان أحد القسمين في نفس الأمر ومقدمة الدليل ليست اجتماع النقيضين فإن هذا ممتنع وإنما هي صحة التقسيم إلى النفي والإثبات

والمقدمة الثانية حصول المطلوب على كل من التقديرين فإذا كان التقسيم دائرا بين النفي والإثبات والمطلوب حاصل على كل منهما ثبت حصوله في نفس الأمر وغن كان احد القسمين منتفيا في نفس الأمر فغن المطلوب حاصل على التقدير الآخر فلا يضر انتفاء هذا التقدير وإنما ذكرت هذه التقديرات ليتبين أن ما ذكره المعترض لا يقدح في صحة الدليل المذكور على واجب الوجود بل الدليل صحيح على تقدير النقيضين وهذا من أحسن الدورات في النظر والمناظر لإبطال الاعتراضات الفاسدة بمنزلة عدو قدم يريد محاربة الحجيج وهناك عدة طرق يمكن أن ياتي من كل منها فإذا وكل بكل طريق طائفة ياخذونه كان من المعلوم أن الذي يصادفه طائفة ولكن إرسال تلك الطوائف ليعلم انه منع المحذور على كل تقدير إذ كان من الناس من هو خائف ان ياتي من طريقة فيرسل من يزيل خوفه ويوجب أمنه

الوجه الثاني عدل

ويمكن إيراد الجواب على وجه آخر وهو ان يقال: إما أن يقدر فساد هذا الاعتراض في نفس الأمر وإما أن يقدر صحته فإنه لا يخلو من أحدهما وذلك أنه إما أن يكون مفسدا للدليل المذكور على بطلان تسلسل المؤثرات وإما أن لا يكون مبطلا مفسدا فغن لم يكن مفسدا للدليل لفساده في نفسه ثبت صحة الدليل وهو المطلوب وإن كان مفسدا للدليل فلا يفسده إلا إذا كان متوجها صحيحا وإلا فالاعتراض الفاسد لا يفسد الدليل وإذا كان متوجها صحيحا لزم ثبوت واجب الوجود فإنه لا يصح إن لم يكن مجموع الموجودات فيها واجب وإذا صح أن فيها واجبا حصل المقصود فيلزم ثبوت الموجود الواجب على تقدير صحته وفساده

الوجه الثالث عدل

ويمكن إيراد الجواب على صورة ثالثة وهو أن يقال: إما أن يقدر أن في الموجودات ما هو واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يقدر أن فيها ما هو واجب لم يكن لها مجموع يكون جزء علة له فبطل الاعتراض

وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على واجب الوجود مستلزما لمدلوله وهو الموجود الواجب فيلزم ثبوت واجب الوجود

وأصل الغلط في هذا الاعتراض الذي يظهر به الفرق أن التقدير المستدل به قدر فيه أمور ليس فيها موجود بنفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره واجتماعها أيضا مفتقر فليس هناك إلا فقير محتاج والتقدير المعترض به قدر أن موجودا واجبا بنفسه معه ممكنات موجودة به ولكن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية يفتقر إلى بعض الجملة وذلك البعض هو واجب بنفسه فهنا في الجملة واحد واجب بنفسه هو علة لسائر الأجزاء وللمجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية وتلك ليس فيها واجب بنفسه بل كل من الأجزاء والمجموع ممكن بنفسه فكيف يجعل افتقار هذا إلى خارج عنه كافتقار ذاك إلى خارج عنه والهندي لم يجب عنه

فإن قيل: فقد قدرتم عدم وجوب الوجود فكيف يكون موجودا بتقدير عدمه لما ذكرتم من الدليل؟

قلنا: لأن التقدير الممتنع قد يستلزم أمرا موجودا واجبا وجائزا كما قد يستلزم أمرا ممتنعا لأن التقدير هو شرط مستلزم للجزاء والملزوم يلزم من تحققه تحقق اللازم ولا يلزم من انتقائه انتفاء اللازم

وهذا كما لو قيل: لو جاز أن يحث اجتماع الضدين لافتقر إلى محدث بل قد يكون اللازم ثابتا على تقدير النقيضين كوجود الخالق مع كل واحد من الملخوقات فإنه موجود سواء كان موجودا أو لم يكن

وحينئذ فيجوز أن يكون التقدير الممتنع وهو تقدير عدم الواجب يستلزم وجوده كما يكون التقدير الممكن فإذا قدر عدمه لزم بطلان الاعتراض المذكور وذلك يستلزم سلامة الدليل عن المعارض والدليل يستلزم وجوده

وأيضا فإن تقدير عدمه تقدير ممتنع في نفس الأمر والتقدير الممتنع قد يستلزم أمرا ممتنعا فاستلزم تقدير عدمه الجمع بين النقيضين وهو ثبوت وجوده مع ثبوت عدمه ن وهذا ممتنع فعلم أن تقدير عدمه ممتنع وه المطلوب وعلم أنه لا بد من وجوده وإن قدر في الأذهان عدم وجوده فتقدير عدمه في الأذهان لا يناقض وجوده في الخارج وقد ثبت وجوده فلا بد من وجوده على كل تقدير وبهذا وغيره يظهر الجواب عن اعتراضه على سائر ما ذكروه من التقديرات في احتياج مجموع الممكنات إلى واجب خارج عنها

ونحن نبين ذلك :

قوله: لا يقال بان مجموع تلك السلسة ممكن ن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه وذلك المجموع مفتقر إلى علة خارجة عنه لأنا نقول: لا تسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه

والجواب عن هذا أن يقال: هو القائل: كل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه قضية بديهية ضرورية بعد تصورها فإن المعنى بالممكن مالا يوجد بنفسه بل لا بد له من موجد مقتض سواء سمي فاعلا أو علة فاعلة أو مؤثرا وإذا كان كذلك فإذا كان المجموع ممكنا لا يوجد بنفسه لم يكن له بد من موجد يوجده وقد علم أن المجموع لا يوجد بنفسه بنفسه إذ لو كان كذلك لكان واجبا بنفسه

ومن المعلوم بالضرورة أن المجموع الذي هو الأفراد واجتماعها إذا لم يكن موجدا مقتضيا فبعض المجموع أولى أن لا يكون مقتضيا موجدا فإنه من المعلوم ببدائه العقول أن المجموع إذا لم يجز أن يكون موجدا ولا مقتضيا ولا فاعلا ولا علة فاعلة فبعضه إولى أن لا يكون كذلك فإن المجموع يدخل فيه بعضه فإذا كان بجميع أبعاضه لا يكفي في الاقتضاء والفعل والإيجاد فكيف يكفي بعضه في ذلك؟

وهذا دليل مستقل في هذا المقام وهو أن المجموع إذا لم يكن علة فاعلة بل هو معلول مفتقر فيعضه إولى أن لا يكون علة فاعلة بل معلول مفتقر فعلم أن مجموع الممكنات إذا كان مفتقرا إلى المؤثر فكل من أبعاض المجموع إولى بالافتقار إلى المؤثر فتبين أن كل ممكن ومجموع الممكنات مفتقر إلى المؤثر وهو المطلوب ولله الحمد والمنة

الرد على باقي الاعتراض عدل

وأما قول المعترض: لانسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه إن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه

الوجه الأول عدل

فيقال له: اولا: منشأ هذه الشبهة أنلفظ المجموع فيه إجمال يراد به نفس الهيئة الاجتماعية ن ويراد به جميع الأفراد ويراد به المجموع والمجموع المركب الذي هو كل واحد واحد من الأفراد لا يفتقر إلى الممكن فإن منها الواجب وهو لا يفتقر إلى الممكن ولكن الهيئة الاجتماعية إذا قدر أن لها تحققا في الخارج فهي التي يقال: أنها متوقفة على الممكن وحينئذ فيظهر الفرق بين مجموع الممكنات ومجموع الموجودات فإن مجموع الممكنات هو نفس الهيئة الممكنة وكل من الأفراد ممكن والمجموع المتوقف على الممكن أولى بالإمكان وأما مجموع الموجودات فليس كل منها ممكنا بل منه الواجب فليس المجموع ممكنا بمعنى ان كل واحد منها ممكن فظهر الفرق وحينئذ فيقال له: هذا باطل من وجوه :

أحدها: أن يقال: أنت قد قلت في الاعتراض على الدليل الأول: إن الواجب بذاته علة لمجموع الموجودات وقلت هنا إن المجموع مفتقر إلى الممكن فإن كان معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات بطل اعتراضك الأول وصح الدليل الأول لأنه حينئذ لا يكون المجموع مستغنيا بالواجب بل هو محتاج إلى الممكنات فلا يكون الواجب علة للمجموع إلا مع اقتضائه لجميع الممكنات ثم هو مع الممكنات إما المجموع وإما علة المجموع ومثل هذا منتف في مجموع الممكنات فإن الواحد منها لا يجوز أن يكون علة لسائرها إذ ليس علة لنفسه ولا لعلته وعلة علته وإذا لم يكن في الممكنات إلا ما هو معلول لم يكن فيها ما يوجب سائرها فلم يكن فيها ما يصلح أن يكون علة للمجموع بوجه من الوجوه

وإن قلت: إن معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات سواء اقتضاه بوسط أو بغير وسط وإنه لما كان الواجب مقتضيا للوسط كانت الحاجة في الحقيقة إلى الواجب والغنى به إذ كان هو مبدع الممكنات التي هي لغيرها شروط أو وسائط أو علل أو ما قيل من الأمور

فيقال لك: على هذا التقدير فمجموع الموجودات التي فيها الواجب بنفسه ليس مفتقرا إلى شيء من الممكنات بل افتقاره إلى الواجب وحده فبطل اعتراضك على هذا الدليل الثاني وأي الدليلين صح حصل المقصود

وتلخيص هذا الجواب: أن مجموع الموجودات من حيث هو مجموع إن قال هو معلول الواجب وحده او بوسط بحيث لا يقال مفتقر إلى غيره بطل هذا الاعتراض وهو كونه مفتقرا إلى الممكن

وإن قال: هو معلول الواجب لكون الممكن من معلول الواجب وهو معلول الممكن والواجب كان هذا مفسدا لاعتراضه على الدليل الأول لكون مجموع الممكنات لا يكون معلولا لواحد منها بوجه من الوجوه

الوجه الثاني عدل

الوجه الثاني: أن يقال: قولك: لا نسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة لأن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة غلط

وذلك أن لفظ الممكن فيه إجمال

قد يراد بالممكن ما ليس بممتنع فيكون الواجب بنفسه ممكنا

ويراد بالممكن ما ليس بموجود مع إمكان وجوده فيكون ما وجد ليس بممكن بل واجب بغيره ثم ما يقبل الوجود والعدم هو المحدث عند جمهور العقلاء بل جميعهم وبعضهم تناقض فجعله يعم المحدث والقديم الذي زعم أنه واجب بغيره

ويراد بالممكن ما ليس له من نفسه وجود بل يكون قابلا للعدم هو وكل جزء من أجزائه

وأنت قد سميت مجموع الموجود ممكنا ومرادك أن المجموع يقبل العدم ولا يقبله كل جزء من أجزائه

وهؤلاء الذين قالوا: إن مجموع الممكنات أو مجموع العلل الممكنة ممكن مرادهم أن كل ما كان لا يقبل الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم بنفسه وكل جزء من أجزائه قابل للعدم يفتقر إلى علة خارجة عنه وهذا هو المفهوم عند إطلاقهم من الممكن بنفسه المفتقر إلى علة خارجة فإن الممكن بنفسه مالا يوجد بنفسه أي نفسه قابلة للعدم

وهذا لا يكون عند وجوب بعضها فإن القابل للعدم حينئذ إنما هو بعض نفسه جملة نفسه فغلطك أو تغليطك حصل مما في لفظ الممكن بنفسه من الإجمال

والأدلة العقلية إنما يعترض على معانيها فإن كنت أوردت هذا سؤالا لفظيا كان قليل الفائدة وإن كان سؤالا معنويا كان باطلا في نفسه والقوم لما قالوا: الموجود إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه جعلوا الوجود منحصرا في هذين القسمين أي جعلوا كل واحد واحد من الموجودات منحصرا في هذين القسمين

وأما الجملة الجامعة لهذا وهذا فهي جامعة للقسمين ومرادهم بالممكن في أحد القسمين: ما يكون كل شيء منه لا يوجد إلا بشيء منفصل عنه ومرادهم بالواجب بنفسه مالا يفتقر إلى مباين له بوجه من الوجوه

ومن المعلوم أن الأول مفتقر إلى مقتض خارج عنه وأن مجموع تلك الممكنات ممكن مفتقر إلى ما هو مفتقر إلى مقتض مباين له والمفتقر إلى المفتقر المباين له اولى أن يكون مفتقرا إلى البماين وأما الثاني فلا يجوز أن يكون مفتقرا إلى مباين له وأما افتقاره إلى نفسه أو جزئه فهذا لا ينافي كونه غنيا عما يباينه

وحينئذ فمجموع الموجودات التي بعضها واجب وبعضها ممكن ليس هو من الممكن بهذا التفسير بل هو من الواجب لعدم افتقاره إلى مباين له

وإذا قيل: إن المجموع واجب بنفسه لكونه واجبا بما هو واجب بنفسه أو قيل: هو واجب بنفسه وأريد بذلك أن فيه ما هو واجب بنفسه وسائره مستغن بذلك الواجب بنفسه فالمجموع واجب ببعضه والواجب ببعضه يدخل بهذا الاعتبار في الواجب بنفسه تبين مغلطة المعترض وقيل له: قولك: المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن أتعني به انه مفتقر إلى أمر مباين أم تعني به أنه مفتقر إلى بعضه

أما الأول فباطل وأما الثاني فحق ولكن إذا قيل: إن مجموع الممكنات التي كل منها مفتقر إلى مباين للمجموع هو أيضا ممكن مفتقر إلى مباين لهذا المجموع لم يعارض هذا المجموع الموجودات فإن مجموع الموجودات لا يصح أن يكون ممكنا بمعنى أنه مفتقر إلى مباين له إذ ليس في أجزائه ما هو مفتقر إلى مباين للمجموع فإذا كان هو متوقفا على آحاده وليس في آحاده ما هو متوقف على أمر مباين له لم يجب أن يكون هو متوقفا على أمر مباين له

وأيضا فمن المعلوم بالضرورة أن مجموع الموجودات لا يتوقف على أمر مباين له إذ المباين لمجموع الموجودات ليس بموجود ومجموع الموجودات لا يكون معلولا لأمر غير موجود بخلاف مجموع الممكنات فإنه يكون معلولا لأمر غير ممكن فكيف يقاس أحدهما بالآخر؟ أم كيف يعارض هذا بهذا؟ إذا كان مجموع الموجودات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بموجود فكذلك يجوز أن يكون مجموع الممكنات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بممكن؟

وهل هذا الإ بمنزلة من قال: إذا كان الموجودات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بموجود فمجموع المعدومات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بمعدوم وهل هذا إلا مجرد مقايسة لفظية مع فرط التباين في المعنى؟

وهل يقول عاقل: إن الموجود الواجب بنفسه والموجود الذي وجب بغيره إذا لم يحتج إلى معدوم فالمعدوم الذي لم يجب بنفسه ولا بغيره يكون موجودا بأمر معدوم والممكن ليس به من نفسه وجود بل لا وجود له إلا من غيره سواء قيل: إن عدمه لا يفتقر إلى علة أو قيل: إن عدمه لعدم مقتضيه فمجموع الممكنات التي ليس فيها ما وجوده بنفسه لا تكون إلا معدومة وكل منها لا يكون موجودا إلا إذا كان وجوده بغيره سواء سمي هو معلولا لغيره أو مفعولا لغيره كيف تكون موجودة بغيرها؟

ونكتة هذا الجواب أن لفظ الممكن يراد به الممكن بالإمكان الذي توصف به الممكنات المفتقرة إلى مقتض مباين فيلزم أن لا يكون لها ولا لشيء منها وجود بوجه من الوجوه إلا من المباين وأما الإمكان الذي وصف به مجموع الموجودات فمعناه أن ذلك المجموع لم يجب إلا بوجوب ما هو داخل فيه فبعض ذلك المجموع واجب بنفسه فلا يكون ذلك المجموع مفتقرا إلى مباين له

الوجه الثالث عدل

ويتضح هذا بالوجه الثالث: وهو أنا نقول ابتداء: كل موجود فإما أن يكون وجوده بامر مباين له وإما أن لا يكون وجوده بأمر مباين له وكل ما كان وجوده بامر مباين له لا يكون موجودا إلا بوجود ما يباينه ومجموع الممكنات لا توجد إلا بمباين لها فلا يوجد شيء منها إلا بمباين لها وبعضها ليس بمباين لها فلا يوجد ببعضها بخلاف مجموع الموجودات فإنها لا تفتقر إلى مباين لها وإنما تفتقر إلى بعضها

وحينئذ فإذا صيغت الحجة هذه على هذا الوجه تبين أنه لا بد من موجود مباين للممكنات خارج عنها وهو المطلوب وأن مجموع الموجودات لا بد لها من موجود هو بعهضا فوجد به مجموعها وحينئذ فيلزم ثبوت واجب الوجود على التقديرين فكان ما ذكروه من الاعتراض دليلا على إثبات واجب الوجود لا على نفيه

فصل غلط المبتدعة في الله سبحانه على طرفي نقيض عدل

واعلم أن هؤلاء غلطوا في مسمى واجب الوجود وفيما يقتضيه الدليل من ذلك حتى صاروا في طرفي نقيض فتارة يثبتونه ويجزدونه عن الصفات حتى يجعلوه وجودا مطلقا ثم يقولون: هو الوجود الذي في الموجودات فيجعلون وجود كل ممكن وحادث هو الوجود الواجب بنفسه كما يفعل ذلك محققة صوفيتهم كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأمثالهم

وتارة يشككون في نفس الوجود الواجب ويقدرون أن يكون كل موجود ممكنا بنفسه لا فاعل له وأن مجموع الوجود ليس فيه واجب بنفسه بل هذا معلول مفعول وهذا معلول مفعلول وليس في الوجود إلا ما هو معلول مفعول فلا يكون في الوجود ما هو فاعل مستغن عن غيره فتارة يجعلون كل موجود واجبا بنفسه وتارة يجعلون كل موجوزد ممكنا بنفسه

ومعلوم بضرورة العقل بطلان كل من القسمين وأن من الموجودات ما هو حادث كان تارة موجودا وتارة معدوما وهذا لا يكون واجبا بنفسه وهذا لا بد له من موجود واجب بنفسه

ومن غلطهم في مسمى واجب الوجود أنهم لم يعرفوا ما هو الذي قام عليه الدليل وجوده مستفادا من أمر مباين له بل وجوده بنفسه وكون وجوده بنفسه لا ينفي أن يكون موجودا بنفسه وأن يكون ما دخل في مسمى نفسه من صفاته لازما له فالدليل دل على أنه لا بد للممكنات من أمر خارج عنها يكون موجودا بنفسه فلا يكون وجوده بامر خارج عنه وحينئذ فاتصافه بصفاته سواء سمي ذلك تركيبا او لم يسم لا يمنعه ان يكون واجبا بنفسه ر يفتقر إلى أمر خارج عنه ولهذا كانت صفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار وإن لزم من ذلك تعدد مسمى واجب الوجود بهذا المعنى بخلاف ما إذا عنى به أنه الموجود الفاعل للممكنات فإن هذا واحد سبحانه لا شريك له

وأما إذا عني به الموجود بنفسه القائم بنفسه فالصفات اللازمة تكون ممكنة لكن هذا يقتضي أن يكون في الممكنات ما هو قديم أزلي وهذا باطل كما قد بسطناه في موضع آخر

الوجه الثالث عدل

أن يقال: قولك: المجموع المركب من لاواجب والممكن ممكن ممنوع بان يقال ليس المجموع إلا الأفراد الموجودة في الخارج والمجموع هو جميع تلك الأفراد وتلك الأفراد بعضها واجب وبعضها ممكن والجميع ليس هوصفة ثبوته قائمة بالأفراد وإنما هو امر نسبي إضافي كالعدد والموجود في الخارج فليست جملته غير آحاد المعنية ومعلوم أن الجملة ليست هي كل واحد من الآحاد بعينه لكن هي الآحاد جميعها فالآحاد جميعها هي الجملة والمجموع وهذا لا حقيقة له غير الآحاد والآحاد بعهضا واجب وبعضها ممكن

يبين ذلك أنه قد قال بعد هذا: إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منها ولا خارجا عنه فهي نفس المجموع

فإن قال: بل المجموع هو الهيئة الاجتماعية الحاصلة باجتماع الواجب والممكن وتلك ممكنة لتوقفها على غيرها

قيل: تلك النسبة ليست أعيانا قائمة بانفسها ولا صفات ثبوتية بالأعيان بل أمر نسبي إضافي سواء كانت نسبة عدمية أو ثبوتيه إذا قيل: هي ممكنة لم يضر فإن الواجب الذي هو واحد من المجموع موجب لسائر الممكنات وتلك النسبة من الممكنات ولا يكون جزء المجموع موجبا للمجموع بمعنى انه موجب لكل واحد من الأفراد فإن هذا يقتضي أن يكون موجبا لنفسه وهو ممتنع بل بمعنى انه موجب لما سواه وللهيئة الاجتماعية وهذا صحيح أو يقال: هو موجب لماسواه والهيئة الاجتماعية إن كانت ثبوتية فهي ممكنة من جملة الممكنات التي هي سواه وإن كانت عدمية فالأمر ظاهر

الوجه الرابع عدل

أن يقال: مجموع الموجودات إما أن يكون فيها واجب بنفسه وإما أن لا يكون أي إما أن يقدر ذلك وإما أن لا يقدر فإن قدر فيها واجب بنفسه وجوب الواجب بنفسه وهو المطلوب وإن لم يقدر ذلك هذه الحجة وقد تقدم تقرير هذا الكلام

الدليل الثالث على إبطال التسلسل

وأما الدليل الثالث على إبطال التسلسل وهو قولهم: إن جملة ما يفتقر إليه المجموع: إما أن يكون نفس المجموع أو داخلا فيه أو خارجا عنه

والأول محال وإلا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال وإلا لكان بعض أجزائه كافيا في المجموع والثالث حق

اعتراض الأبهري عليه عدل

فقد اعترض عليه بقوله: قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه أن جملة الأمور التي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع

وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم أنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع؟

الجواب عن هذا الاعتراض من وجوه عدل

الوجه الأول عدل

أن نقول: العلم بكون مجموع المعلولات الممكنة معلولا ممكنا أمر معلوم بالأضطرار فإن المجموع مفتقر إلى المعلولات الممكنة والمفتقر إلى المعلول أولى أن يكون معلولا وحينئذ فما أورده من القدح في تلك الحجة لا يضر إذ كان قدحا في الضروريات فهو من جنس شبه السوفسطائية

الوجه الثاني عدل

أن مجموع المعلولات الممكنة إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فالمقتضى له غما نفسه أو جزؤه أو أمر خارج عنه

أما كون مجموع المعلولات الممكنات واجبا بنفسه فهو معلوم الفساد بالضرورة لأن المجموع غما كل واحد واحد من الأفراد وغما الهيئة الاجتماعية وإما مجموعهما وكل من ذلك ممكن

فإذا ليس الأفراد ممكنة وكل منها معلولولو قدر مالا غاية له والمعلول من حيث هو معلول لا بد له من علة فكل منها لا بد له من علة وتعاقب معلولات لا تتناهى لا يمنع ان يكون كل منها محتاجا إلى العلة فإذا لم يكن ثم مجموع إلا هذه الآحاد التي كل منها معلول محتاج لزم أن لا يكون في الوجود إلا ما هو معلول محتاج ومن المعلول بالضرورة أن المعلول المحتاج لا يوجد بنفسه

فعلى هذا التقدير لا يكون في الوجود ما يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بموحد والموجد إذا لم يكن موجودا بنفسه كان مما لا يوجد بنفسه فلا يوجد فيلزم أن لا يوجد شيء وقد وجدت الموجودات فيلزم الجمع بين النقيضين: وهو أن لا يكون شيء من الموجودات موجودا إذا قدر انه ليس فيها شيء موجود بنفسه وهي كلها موجودة فلا بد من غير موجود بنفسه فيكون الموجود موجودا بنفسه غير موجود بنفسه وهو جمع بين النقيضين

الوجه الثالث عدل

أن يقال: أردنا بجملة ما يفتقر إليه المجموع العلة الفاعلة فغن الكلام إنما هو في إثبات الفاعل لمجموع الممكنات ليس هو فيما هو أعم من ذلك قوله: إن أردتم العلة الفاعلة التامة فلم قلتم: إنه يستلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع؟

فيقال: قلنا ذلك لأنه إذا وجدت العلة الفاعلة التامة لزم وجود المعلول فإنه إنما نعني بالعلة مجموع ما يلزم من وجوده وجود المعلول فغن الممكن لا يوجد حتى يحصل المرجح التام المستلزم لوجوده فإذا كان الفاعل فاعلا باختياره فلا بد من القدرة التامة والإرادة الجازمة فلا يحصل الممكن بدون ذلك ومتى وجد ذلك وجب حصول المفعول الممكن فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ الله امتنع وجوده فإن حصل للمكن المؤثر التام وجب وجوده بغيره وإن لم يحصل امتنع وجوده لانتفاء المؤثر التام فوجوده لا يحصل إلا بغيره وأما عدمه فقد قيل: إنه أيضا لا بد له من علة وهو قول ابن سينا وأتباعه المتأخرين الذين يقولون: إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وقيل: لا يحتاج عدمه إلى علة وهو قول نظار السنة المشهورين كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وهو آخر قول الرازي فإنه يقول بقول هؤلاء تارة وهؤلاء تارة لكن هذا آخر قوليه فإن العدم عندهم لا يفتقر إلى علة وإذا قيل: عدم لعدم علته فمعناه أن عدم علته مستلزم لعدمه لا أنه هو الذي أوجب عدمه بل إذا عدمت علته علمنا أنه معدوم فكان ذلك دليلا على عدمه لا أن أحد العدمين أوجب الآخر فإن العدم لا تأثير له في شيء أصلا بل عدمه يستلزم عدمه علته وعدم علته يستلزم عدمه من غير أن يكون أحد العدمين مؤثرا في الآخر

وأما وجوده فلا بد له من المؤثر التام وإذا حصل المؤثر التام وجب وجوده وإلا امتنع وجوده

ولهذا تنازع الناس في الممكن: هل من شرطه أن يكون معدوما؟ فالذي عليه قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين كأبن رشد وغيره حتى الفارابي معلمهم الثاني فإن أرسطو معلمهم الأول وحتى ابن سينا وأتباعه وافقوا هؤلاء أيضا لكن تناقضوا وعليه جمهور نظار أهل الملل من المسلمين وغيرهم: أن من شرطه أن يكون معدوما وأنه لا يعقل إلامكان فيما لم يكن معدوما

وذهب ابن سينا وأتباعه إلى أن القديم الموجود بغيره يوصف بالإمكان وإن كان قديما أزليا لم يزل واجبا بغيره لكنه قد صرح هو وأصحابه في غير موضع بنقيض ذلك كما قاله الجمهور وقد ذكرت بعض ألفاظه في كتابه المسمى بالشفاء في غير هذا الموضع وأصحابه الفلاسفة المتبعين لأرسطو وأصحابه مع الجمهور أنكروا ذلك عليه وقالوا إنه خالف به سلفهم كما خالف به جمهور النظار وخالف به ما ذكره هو مصرحا به في غير موضع

وذلك لأن الممكن بنفسه هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وذلك أنما يعقل فيما يكون معدوما ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد بل يستمر عدمه فأما ما لم يزل موجودا بغيره فكيف يقال فيه إنه يمكن وجوده وعدمه؟ أو يقال فيه إنه يقبل الوجود والعدم؟

ومما يوضح ذلك أن القابل للموجود والعدم غما أن يكون هو الموجود في الخارج أو الماهية الموجودة في الخارج عند من يقول: الوجود زائد على الماهية أو ما ليس موجودا في الخارج

فإن قيل بالأول فهو ممتنع لأن ما كان موجودا في الخارج أزلا وأبدا: واجبا بغيره فإنه لا يقبل العدم أصلا فكيف يقال: إنه يقبل الوجود والعدم؟

وإن قيل أمر آخر فذلك لا حقيقة له حتى يقبل وجودا أو عدما لأن وجود كل شيء عين ماهيته في الخارج ولكن الذهن قد يتصور ماهية غير الوجود الخارجي فإذا اعتبرت الماهية في الذهن والوجود في الخارج أو بالعكس فاحدهما غير الآخر وأما إذا اعتبر ما في الخارج فقط أو ما في الذهن فقط فليس هناك وجود وماهية زائدة ومن تصور هذا تصورا تاما لم ينازع فيه وإنما ينازع من لم يميز بين الذهني والخارجي واشتبه عليه أحدهما بالآخر وأيضا فلو قدر أن في الخارج ماهية ووجودا لواجب قديم أزلي فهذه كما يقوله كثير من المتكلمين: إن لواجب الوجود ماهية غير زائدة على وجوده وحينئذ فمثل وجود هذه الماهية لا يقبل العدم كما أن وجود الماهية الواجبة بنفسها لا تقبل العدم

وإن قيل: نحن نريد بذلك أن ماهية الممكن الزائدة على وجوده القديم الأزلي كماهية الفلك هي من حيث هي هي مع قطع النظر عن وجودها وعدمها تقبل الوجود والعدم

قيل: إثبات هذه الماهية زائدة على الوجود باطل كما قد بين في موضع آخر وبتقدير التسليم فهذا كما يقدر أن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته ومعلوم أنه لا يستلزم ذلك كون ماهيته قابلة للعدم

ثم يقال: قول القائل: الماهية من حيث هي هي تقدير للماهية مجردة عن الوجو \ د والعدم وهذا تقدير ممتنع في نفسه فإن الماهية لو قدر تحققها فإما أن تكون موجودة أو معدومة فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال: إن تلك الماهية تقبل الوجود معدومة فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال: إن تلك الماهية تقبل الوجود والعدم

وأيضا فلو قيل: إنه يمكن تقديرها مجردة فهذا إنما يمكن في الماهية إذا كانت يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة وأما ما كان الوجود لازما لها قديما ازليا يمتنع عدمه فكيف يتصور ان يقال: إن هذه الماهية تقبل العدم وهي لم تزل واجبة الوجود فليس لها وقت من الأوقات تقبل فيه العدم وإذا قدرت مجردة في الذهن فليست هذه المقدرة في الذهن هي الموجودة في الخارج المستلزمة للوجود القديم الأزلي

فإن قيل: هذا كما نقول في ماهية المحدث أنه يقبل الوجود والعدم

قيل: إن سلم لكم أن ماهية المحدث زائدة على وجودهما موافقتكم لسائر العقلاء على أنه يمتنع تحققها في الخارج إلا إذا كانت موجودة وحين وجودها لا تكون معدومة بمعنى كونها تقبل الوجود والعدم قيل أحد إمرين: إما ان يقال: الماهية المقدرة في الذهن يمكن أن تكون موجودة في الخارج ويمكن أن تكون معدومة وإما أن يقال: هذه الحقيقة يمكن أن تكون في الخارج معدومة فإذا اخترنا من ذلك حال عدمها قيل: يمكن وجودها بعد العدم وإن كان حين وجودها: قيل: يمكن عدمها بعد الوجود ومثل هذا ممتنع في الماهية القديمة الازلية التي يجب وجودها ويمتنع عدمها سواء قدر ان وجوبها بنفسها أو بغيرها كما أن صفات الرب عند من قال: ممكنة مع كونها قديمة أزلية واجبة بالذات فإنها عندهم لا يمكن عدمها ولا تقبله فإن ما وجب قدمه من الأمور الوجودية امتنع عدمه باتفاق العقلاء فإن ما يجب قدمه لا يكون إلا واجبا بنفسه ولا بغيره ليس قديما باتفاق العقلاء

فإنه إذا قدر أنه ليس واجبا بنفسه فلا بد أن يكون من لوازم الواجب بنفسه فإنه إذا لم يكن من لوازمه بل جاز وجوده تارة وعدمه أخرى

لم يكن هناك موجب لذاته ولا ذاته واجبة بنفسها فامتنع قدمه وإذا كان من لوازم الواجب بنفسه امتنع عدمه إلا إذا عدم الملزوم فإن اللازم لا ينتفي إلا إذا انتفى الملزوم والملزوم الواجب بنفسه يمتنع عدمه فيمتنع عدم لازمه وما امتنع عدمه لا يكون ممكن العدم

فإن قيل: فالممكنات التي هي محدثة هي واجبة بغيرها إذا وجدت تجب بوجوب سببها فما شاء الله كان وجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وهي ممتنعة حال عدمها ومع هذا فهي تقبل الوجود والعدم ولا يلزم من عدمها عدم الواجب

قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما أن تلك كانت معدومة تارة وموجودة أخرى فثبت قبولها للوجود والعدم فلا يمكن أن يقال: إنها لا تقبل العدم بخلاف ما هو لم يعدم قط ولم يكن عدمه في وقت من الأوقات

الثاني: أن هذه لا يوجبها نفس الواجب إذا لو كان كذلك لكانت لازمة لذاته قديمة أزلية بل إنما توجبها الذات مع ما يحدث من الشروط التي بها تم حصول المقتضى التام فحينئذ ليست من لوازم الواجب بنفسه بل من لوازم مؤثرها التام ومن جملة ذلك الأمور الحادثة التي هي شرط في حدوثها وإذا عدمت فأنها تعدم لانتفاء بعض هذه الشروط الشروط الحادثة أو لحدوث مانع ضاد وجودها ومنع تمام علتها التامة فعدمت لعدم بعض الحوادث أو وجود بعض الحوادث كما وجدت لحدوث بعض الحوادث وفدم بعضها أيضا فلهذا لم تكن من لوازم ذاته المجدة في الأزل بخلاف ما كان من لوازم ذاته في الأزلية الواجبة الوجود وعدمها ممتنع تحقق ذاته في الأزل بدونها فمتى قدر عدمه لزم عدم الذات الأزلية الواجبة الوجود ن وعدمها ممتنع فعدم لازمها الأزلي ممتنع فلا يكون لازمه الأزلي ممكنا البتة بل لا يكون إلا واجبا قديما أزليا لا تقبل ذاته العدم وهذا هو المطلوب فقد تبين أن ما كان أزليا فإنه واجب الوجود يمتنع عدمه لا يكون ممكنا البتة وهذا مما اتفق عليه العقلاء أولوهم وأخرون حتى أرسطو وجميع أتباعه الفلاسفة إلى الفارابي وغيره وكذلك ابن سينا وأتباعه

لكن هؤلاء تناقضوا فوافقوا سلفهم والجمهور في موضع وخالفوا العقلاء قاطبة مع مخالفتهم لأنفسهم في هذا الموضع حيث قضوا بوجود موجود ممكن يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما أزليا وأجبا وإن قيل: هو واجب بغيره

ولهذا لا يوجد هذا القول عن أحد من عقلاء قبل هؤلاء ولا نقله أهل المقالات عن احد من الطوائف وإنما يوجد في كلام هؤلاء وأتباعهم وإذا عرف هذا فإن قال هؤلاء: نحن نريد به العدم الاستقبالي أي يقبل ان يعدم في المستقبل قيل فهذا يبطل قولكم لأن ما كان واجبا بغيره أزليا لم يقبل العدم لا في الماضي ولا في المستقبل وكذلك هو عندكم أزليا كان أبديا يمتنع عندكم عدمه

وإن قيل: نريد به أن ما تصور في الذهن يمكن وجوده في الخارج ويمكن أن لا يوجد

قيل: إذا كان أزليا واجبا بغيره لم يمكن أن يقبل العدم بحال فلا يكون ممكنا فالممكن لا يكون ممكنا إن لم يكن معدوما في الماضي أو المستقبل

وإذا قيل: إن من الممكن يقبل الوجود والعدم لم نرد به انه يقبلهما على سبيل الجمع فإن هذا جمع بين النقيضين بل المراد به أنه يقبل الوجود بدلا عن العدم والعدم بدلا عن الوجود فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود وإذا كان موجودا قبل دوام الوجود فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود وإذا كان موجودا قبل دوام الوجود وقبل حدوث العدم هذا إذا اعتبر حاله في الخارج وإن اعتبر حاله في الذهن فالمراد أن ما يتصوره في الذهن يمكن أن يوجد في الخارج ويمكن ان لا يوجد فبكل حال إذا اعتبر الممكن ذهنيا أو خارجيا لا يتحقق فيه الإمكان إلا مع إمكان العدم تارة ووجود أخرى فما كان ضروري العدم كالجمع بين النقيضين لا يكون ممكنا ن وما كان ضروري الوجود وهو القديم الأزلي لا يكون ممكنا وقد وافق على هذا جميع الفلاسفة: ارسطو وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين والعقلاء أما مع وجوب وجوده بنفسه أو بغيره دايما فليس هناك ممكن يحكم عليه بقبول الوجود والعدم

ولما سلك الرازي ونحوه مسلك ابن سينا في إثبات إمكان مثل هذا اضطربوا في الممكن وورد عليهم فيه إشكالات كثيرة كما هو موجود في كتبهم كما أوردوه الرازي في محصله من الحجج الدالة على نفي هذا الممكن ولم يكن عنها جواب إلا دعواه أن ما كان متغيرا فإنه يعلم إمكانة بالضرورة

وهذه الدعوى يخالفه فيها جمهور العقلاء حتى ارسطو واصحابه ن وهذا الذي نبهنا عليه هو أحد ما يستدل به على أن كل ممكن فهو مسبوق بالعدم ن وكل ما سوى الله ممكن فكل ما سوى الله حادث عن عدم ن كما قد بسط في موضعه

والمقصود هنا ان الدين بهذه الأدلة على افتقار الممكنات إلى واجب خارج عنها فإن مرادهم بقولهم: جملة ما يفتقر إليه مجموع الممكنات هو المؤثر التام وهو المرجح التام الذي يلزم من وجوده بتأثيره التام وجودها كما ذكرناه من أن الفاعل باختياره إذا وجدت قدرته التامة وإرادته التامة وجب وجود المقدور وهي الممكنات

وأما قوله: فلم قلتم: إنه يلزم أن يكون بعض الجزاء كافيا في المجموع فلما ذكرناه من أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره فإذا قدر أن المؤثر التام في المجموع هو بعض المجموع لزم أن يكون بعض أجزاء المجموع هو المؤثر في المجموع فيكون مؤثرا في نفسه وفي غيره

وهذا ظاهر فإنه إذا قدر مجموع الممكنات وقدرنا أن واحدا منها مؤثر في نفسه وفي غيره فيكون بعض أجزاء المجموع موجبا لحصول المجموع المذكور ومن المجموع نفسه وهذا ممتنع وأما المجموع المركب من الواجب والممكن فهناك ليس بعضه مؤثرا في كل واحد واحد وفي الهيئة الإجتماعية 0 فإن من المجموع الواجب بنفسه لم يؤثر فيه شيء فظهر الفرق

وأيضا فالواجب مؤثر في الممكن وفي الهيئة الاجتماعية ليس مؤثرا في نفسه بخلاف مجموع الممكنات فإن كل واحد منها لا بد من مؤثر والاجتماع لا بد له من مؤثر فالمجموع مفتقر إلى المؤثر بأي تفسير فسر فإن فسر بالهيئة الاجتماعية فهي متوقفة على الأفراد الممكنة والمتوقف على الممكن أولى أن يكون ممكنا مع أن الهيئة الاجتماعية نسبة وإضافة متوقفة على غيرها فهي ادخل في الإمكان والافتقار من غيرها وهي من أضعف الأعراض المفتقرة إلى الأعيان إن قدر لها ثبوتا وجوديا وإلا فلا وجود لها وإن فسر المجموع بكل واحد واحد أو فسر بالأمرين بكل واحد بالاجتماع أو بغير ذلك بأي شيء فسر لم يكن إلا ممكنا مفتقرا إلى غيره وكلما كثرت الإمكانات كثر الافتقار والحاجة

فإذا قيل: المؤثر في ذلك واحد منها وهو ممكن لزم أن يكون الممكن الذي لم يوجد بعد فاعلا لجميع الممكنات ونفسه من الممكنات فإن نفسه لا بد له من فاعل أيضا

وهذا المعترض اخذ المجموع المركب من الواجب والممكن فعارض به المجموع من الممكنات 0 ولفظ المجموع فيه إجمال يراد به الاجتماع ويراد به جميع الأفراد ويراد به الأمران فكانت معارضته في غاية الفساد 0 فإن ذلك المجموع فيه واجب بنفسه لا يحتاج إلى غيره وما سواه من الأفراد والهيئة الإجتماعية مفعول له فهذا معقول

فالله تعالى هو الموجود الواجب بنفسه خالق لكل ما سواه وأما الهيئة الاجتماعية إن قدر لها وجود في الخارج فهي حاصلة به أيضا سبحانه وتعالى 0 وأما المجموع الذي كل منه مفتقر إلى من يبدعه وليس فيه موجود بنفسه فيمتنع أن يكون فاعلهم واحدا منهم لأنه لا بد له من فاعل فلو كان فاعلهم ما كان فاعل نفسه وغيره من الممكنات ولزم أن يكون بعض أجزاء الممكنات كافيا في مجموع الممكنات وإذا كان مجموع الممكنات يمتنع أن يكون فاعلها فلأن يمتنع أن يكون بعضها فاعلا لها بطريق الأولى فإن ما يتعذر على المجموع يتعذر على بعضه بطريق الأولى وما يفتقر إليه المجموع يفتقر إليه بعضه بطريق الأولى0 وهذا المعترض أخذ ما يفتقر إليه المجموع لفظا مجملا فالافتقار قد يكون افتقار المشروط إلى شرطه وقد يكون افتقار المفعول إلى فاعله0 ثم أخذ يورد على هذا وعلى هذا ونحن نجيب على كل تقدير

الوجه الرابع عدل

أن يقال أتعني بجملة ما يفتقر إليه المجموع ما إذا وجد وجد المجموع وما لا يوجد المجموع إلا بوجوده كله مع قطع النظر عن كونه شرطا أو فاعلا فإن جملة ما يفتقر إليه الشيء هو الجملة التي تشتمل على كل ما يفتقر إليه الشيء فكل ما كان الشيء مفتقرا إليه فهو داخل في هذه الجملة وإذا حصل كل ما يحتاج إليه الشيء لم يبق الشيء محتجا إلى شيء أصلا فيلزم وجوده حينئذ فإنه ما دام مفتقرا إلى شيء لم يوجد وإذا حصل كل ما يتوقف وجوده عليه ولم يبق وجوده موقوفا على شيء أصلا لزم وجوده فينبغي بجملة ما يتوقف وجود الشيء عليه الأمور التي إذا وجدت وجد المجموع وإن لم توجد جميعها لم يوجد المجموع

ومعلوم أنه إذا عنى به ذلك لم يمكن أن يكون ذلك بعضها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع فإنه قد فسر الجملة بما إذا حصل وجب حصول المجموع وإن لم يحصل لم يجز حصوله فلو كان بعض الأجزاء هو تلك الجملة لوجب أن يكون ذلك البعض كافيا في حصول المجموع سواء قدر فاعلا لنفسه ولباقي الجملة أو قدر أن حصوله هو حصول المجموع أو قدر غير ذلك من التقديرات الممتنعة فأي تقدير قدر كان ممتنعا فإن جملة ما يفتقر إليه المجموع لا يكون بعض المجموع بأي تفسير فسر وهو المطلوب

ولكن لفظ المجموع فيه إجمال فإنه قد يعني به مجرد الهيئة الاجتماعية وقد يعنى به كل من الأفراد أو كل من الأفراد مع الهيئة الاجتماعية فإن عني به الأول فلا ريب أن هذا قد يكون بعض الأفراد موجبا له كما في المجموع المركب من الواجب والممكن فإن الواجب هو الموجب للممكنات وهو الموجب أيضا للهيئة الاجتماعية والهيئة الاجتماعية أمر ممكن خارج عن الواجب ليس هو بعض الهيئة الاجتماعية لكنه بعض الأفراد والهيئة نسبة وإضافة وليس هو بعض النسبة والإضافة ولكن هو بعض الأفراد المنسوب بعضها إلى بعض والنسبة وسائر الأفراد غير له وهو الموجب لكل ما هو غير له

وأما المجموع الذي هو الأفراد فلا يكون بعضه هو الموجب لكل من الأفراد فإن هذا يقتضي أن يكون ذلك البعض موجبا لنفسه فاعلا لذاته وهذا ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء بل هو من أبلغ الأمور امتناعا والعلم بذلك من أوضح المعارف وأجلاها ولهذا لم يقل هذا أحد من العقلاء

وإذا المجموع كلا من الأفراد مع الهيئة فهو أبعد عن أن يكون واحد من الأفراد موجبا لنفسه ولسائر الأفراد ومع الهيئة الاجتماعية وهذا بين ولله الحمد والمنة

واعلم أن مثل هذه الاعتراضات مع صحة الفطرة وحسن النظر يعلم فسادها ومثل هذه الخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات لا نهاية لها ولا يمكن استقصاء ما يرد علي النفوس من وساوس الشيطان ولولا أن هذين الرجلين اللذين كان يقال إنهما من أفضل أهل زمانهما في المباحث العقلية: كلاميها وفلسفيها أورد كل منها ما ذكرت وصار ذلك عنده مانعا من صحة الطريق المذكور في إثبات واجب الوجود لما ذكرت ذلك لظهور فساده عند من له تصور صحيح لما ذكروه فضلا عمن نور الله قلبه

ثم إن هؤلاء الفلاسفة يقولون كما زعم الآمدي إن كمال النفس الإنسانية هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وهم مع هذا لم يعرفوا الموجود الواجب فأي شيء عرفوه؟

جهل المبتدعتة وحيرتهم عدل

وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب كشف الأسرار في المنطق وهو عند كثير منهم غاية ف يهذا الفن أنه قال عند الموت أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف عدمي أموت وما علمت شيئا

وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام أو كلاما هذا معناه

وذلك أن هذا الآمدي لم يقرر في كتبه لا التوحيد ولا حدوث العالم ولا إثبات واجب الوجود بل ذكر في التوحيد طرقا زيفها وذكر طريقة زعم انه ابتكرها وهي أضعف من غيرها

وكان ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات وغيرهما يعظم طريقته ويقول: إن الطريقة التي ابتكرها في التوحيد طريقة عظيمة أو ما هو نحو هذا حتى أفضى الأمر ببعض أعيان القضاة الذين نظروا في كلامه إلى أن قال التوحيد لا يقوم عليه دليل عقلي وإنما يعلم بالسمع فقام عليه أهل بلده وسعوا في عقوبته وجرت له قصة

وكذلك الأصبهاني اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما فقال له بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته

وكذلك حدثني من قرا على ابن واصل الحموي أنه قال أبيت باليليل واستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس وأصبح وما ترجح عندي شيء كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة

وقد بسطنا في التوحيد وأدلته في غير هذا الموضع وذكرنا أن الناس قبلنا قد ذكروا له من الأدلة العقلية اليقينية ما شاء الله ولكن الإنسان يريد ان يرعف ما قاله الناس وما سبقوا إليه وبينا أن القرآن ذكر من ذلك ما هو خلاصة ما ذكروه الناس وفيه من بيان توحيد الإلهية ما لم يهتد إليه كثير من النظار ولا العباد بل هو الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه

الطرق المختلفة لإثبات الخالق تعالى عدل

وهؤلاء كما ذكرت انقسموا إلى أصحاب نظر وفكر وبحث واستدلال وأصحاب إرادة وعبادة وتأله وزهد فكان منتهى أولئك الشك ومنتهى هؤلاء الشطح فأولئك يشكون في ثبوت واجب الوجود او يعجزون عن إقامة الدلالة عليه

وإذا لم يكن في الوجود واجب لم يوجد شيء فتكون الموجودات كلها معدومات فيفضى بهم سوء النظر إلى جعل الموجودات معدومات أو تجويز كونها معدومات وجعل الموجود الواجب ممكنا وجعل الواجب ممكنا غاية التعطيل

والآخرون يجعلون كل موجود واجب الوجود ويجعلون وجود كل موجود هو نفس وجود واجب الوجود فلا يكون في الوجود وجود هو عندهم مخلوق ولا مصنوع ولا مفتقر إلى غيره ولا محتاج إلى سواه ن فلا يكون في الوجود ما وجد بعد عدمه ولا ما عدم بعد وجوده وهذا فيه من جعل المعدوم موجودا ومن جعل الممكن واجبا وجعل العبد ربا وجعل المحدث قديما ما هو غاية الكفر والشرك والضلال

الطريقة الصحيحة الموافقة للفطرة في إثبات وجود الله تعالى عدل

هذا مع أن إثبات الموجود الواجب الغني الخالق وإثبات الموجود الممكن المحدث الفقير المخلوق هو من أظهر المعارف وأبين العلوم

أما ثبوت الموجود المفتقر المحدث الفقير فيما نشاهده من كون بعض الموجودات يوجد بعد عدمه ويعدم بعد وجوده من الحيوانات والنباتات والمعدن وما بين السماء والأرض من السحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك وما نشاهده من حركات الكواكب وحدوث الليل بعد النهار والنهار بعد الليل فهذا كله فيه من حدوث موجود بعد عدمه ومعدوم بعد وجوده وما هو مشهود لبني أدم يرونه بأبصارهم

ثم إذا شهدوا ذلك فنقول: معلوم أن المحدثات لا بد لها من محدث والعلم بذلك ضروري كما قد بين ولا بد من محدث لا يكون محدثا وكل محدث ممكن والممكنات لا بد لها من واجب وكل محدث وممكن فقير مربوب مصنوع والمفتقرات لا بد لها من غني والمربوبات لا بد لها من رب والمخلوقات لا بد لها من خالق

وأيضا فإنه يقال: هذا الموجود إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن لا يكون واجبا بنفسه بل ممكنا بنفسه فهو واجبا بغيره والممكن بنفسه الواجب بغيره لا بد له من واجب بنفسه فلزم ثبوت الواجب بنفسه على التقديرين

وأيضا فالموجود: إما أن يكون محدثا وإما أن يكون قديما والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود القديم على التقديرين

وأيضا فالموجود إما أن يكون محدثا وإما أن يكون والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود على التقديرين

وأيضا فإما إن يكون خالقا وإما أن لا يكون وقد علم فيما ليس بخالق كالموجودات التي علم حدوثها أنها مخلوقة والمخلوق لا بد له من خالق فعلم ثبوت الخالق على التقديرين

وأيضا فالموجود إما غني عن كل ما سواه وغما مفتقر إلى غيره والفقير إلى غيره لا بد له من غنى بنفسه فعلم ثبوت الغني بنفسه على التقديرين

فهذه البراهين وأمثالها كل منها يوجب العلم بوجود الرب سبحانه وتعالى الغني القديم الواجب بنفسه

طريقة ابن سينا وأتباعه في إثبات وجود الله تعالى عدل

وابن سينا وأتباعه كالرازي والآمدي والسهروردي المقتول وأتباعهم سلكوا في إثبات واجب الوجود طريقة الاستدلال بالوجود وعظموها وظن من ظن منهم انها أشرف الطرق وأنه لا طريق إلا وهو يفتقر إليها حتى ظنوا أن طريقة الحدوث مفتقرة إليها

وكل ذلك غلط بل هي طريقة توجب إثبات واجب الوجود بلا ريب لو كانوا يفسرون الممكن بالممكن الذي هو ممكن عند العقلاء سلفهم وغير سلفهم وهو الذي يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى

فأما إذا فسر الممكن بالممكن الذي ينقسم إلى قديم واجب بغيره وإلى محدث مسبوق بالعدم كما هو قول ابن سينا وأتباعه فلا يصح لهم على هذا الأصل الفاسد لاإثبات واجب بنفسه ولا إثبات ممكن يدل على الواجب بنفسه

وهذه الطريقة هي في الحقيقة مأخوذة من طريقة الحدوث وطريقة الحدوث أكمل وأبين فغن الممكن الذي يعلم انه ممن هو ما علم أنه وجد بعد عدمه أو عدم بعد وجوده

هذا الذي اتفق العقلاء على أنه ممكن وهو الذي يستحق أن يسمى ممكنا بلا ريب وهذا محدث فإذا كل ممكن محدث

وأما تقدير ممكن لم يزل واجبا بغيره فأكثر العقلاء دفعوا ذلك حتى القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه المتقدمين وحتى هؤلاء الذين قالوا ذلك ابن سينا وأتباعه لا يجعلون هذا من الممكن بل الممكن عندهم ما أمكن وجوده وعدمه فكان موجودا تارة ومعدوما أخرى

وإنما جعل هذا من الممكن ابن سينا وأتباعه مع تناقضه وتصريحه بخلاف ذلك لما سلكوا في إثبات واجب الوجود الاستدلال بالموجود على الواجب فقالوا كل ما سواه يكون ممكنا بنفسه واجبا بغيره وجعلوا العلم قديما أزليا مع كونه ممكنا بنفسه

وهذا خلاف قول سلفهم وقول أئمة الطوائف سواهم وخلاف ما صرحوا أيضا به وهذا مما أنكره ابن رشد وغيره على ابن سينا وبسط الكلام فيه له موضع آخر

والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعونان كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات هذا اظطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة تورطوا معهم في محاراتهم وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا

والفلسفة هي باطن الباطنية ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء ف ينوع من الإلحاد في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه

بطلان قول الفلاسفة حول كمال النفس عدل

ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو أن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات مقدمة باطلة قد بسطنا الكلام عليها في الكلام على معجزات الأنبياء لم تكلمنا عن قولهم انها قوى نفسانية وذكرنا قطعة من كلامهم على ذلك وبينا أن قولهم إن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات خطأ وضلال ومن هنا جعلوا الشرائع مقصودها إما إصلاح الدنيا وإما تهذيب النفس لتستعد للعلم أو لتكون الشريعة أمثالا لتفهيم المعاد في العقليات كما يقوله الملاحدة الباطنية مثل أبي يعقوب السجستاني وأمثاله ولهذا لا يوجبون العمل بالشرائع على من وصل إلى حقيقة العلم ويقولون إنه لم يجب على الأنبياء ذلك وإنما كانوا يفعلونه لأنه من تمام تبليغهم الأمم ليقتدوا بهم في ذلك لا لأنه واجب على الأنبياء وكذلك لا يجب عندهم على الواصلين البالغين من الأمة والعلماء

ودخل في ذلك طائفة من ضلال المتصوفة ظنوا أن غاية العبادات هو حصول المعرفة فإذا حصلت سقطت العبادات وقد يحتج بعضهم بقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر 99 ويزعمون أن اليقين هو المعرفة وهذا خطأ بإجماع المسلمين أهل التفسير وغيرهم فإن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات كالصلوات الخمس ونحوها وتحريم المرحمات كالفواحش والمظالم لا يزال واجبا على كل أحد ما دام عقله حاضرا ولو بلغ وأن الصلوات لا تسقط عن أحد قط إلا عن الحائض والنفساء أو من زال عقله مع أن من زال عقله بالنوم فانه يقضيها بالسنة المستفيضة المتلقاه واتفاق العلماء وأما من زال عقله بالإغماء ونحوه مما يعذر فيه ففيه نزاع مشهور: منهم من يوجب قضاءها مطلقا كأحمد ومنهم من لا يوجبه كالشافعي ومنهم من يوجب قضاء ما قل وهو ما دون اليوم والليلة أو صلوات اليوم والليلية كما مذهب أبي حنيفة ومالك والمجنون لا يقضي عند عامتهم وفيه نزاع شاذ

فالمقصود من هذا أن الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل سواء كان كبيرا أو صالحا أو عالما وما يظنه طوائف من جهال العباد وأتباعهم وجهال النظار وأتباعهم وجهال الإسماعيلية والنصيرية وإن كانوا كلهم جهالا من سقوطها عن العارفين أو الواصلين او أهل الحضرة أو عمن خرقت لهم العادات أو عن الأئمة الإسماعيلية أو بعض أتباعهم أو عمن عرف العلوم العقلية أو عن المتكلم الماهر في النظر أو الفيلسوف الكامل في الفلسفة فكل ذلك باطل باتفاق المسلمين وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام

واتفق علماء المسلمين على أن الواحد من هؤلاء يستتاب فإن تاب وأقر بوجوبها وإلا قتل فإنه لا نزاع بينهم في قتل الجاحد لوجوبها وإنما تنازعوا في قتل من أقر بوجوبها وامتنع من فعلها مع أن أكثرهم يوجب قتله

ثم الواحد من هؤلاء إذا عاد واعتراف بالوجوب فهل عليه قضاء ما تركه فهذا على ثلاثة أنواع أحدها أن يكون قد صار مرتدا ممتنعا عن الإقرار بما فرضه الرسول فهذا حكمه حكم المرتدين وفيه للعلماء ثلاثة أقوال: إحدهما: أنه لا يقضي ما تركه في الردة ولا قبلها لا من صلاة ولا صيام ولا زكاة بناء على أن الردة أحبطت عمله وأنه إذا عاد عاد بإسلام جديد فيستأنف العمل كما هو معروف في مذهب أبي حنيفة ومالك وقول في مذهب أحمد والثاني: أنه يقضي ما تركه في الردة وقبلها وهذا قول الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد والثالث: أنه لا يقضي ما تركه في الردة ويقضي ما تركه قبلها كالرواية المشهورة عن أحمد

وإن كان الواحد من هؤلاء جاهلا وهو مصدق للرسول لكن ظن أن من دينه سقوط هذه الواجبات عن بعض البالغين كما يضن ذلك طوائف ممن صحب الشيوخ الجهال وكما يظنه طائفة من الشيوخ الجهال ولهم مع ذلك أحوال نفسانية وشيطانية

فهؤلاء مبني أمرهم على أن من ترك الصلاة قبل العلم بوجوبها فهل يقضي؟ وفيه ثلاثة أقوال: منها وجهان في مذهب أحمد: أحدهما: أنه لا قضاء عليه بحال بناء على أن حكم الخطاب لا يثبت في حق العبد إلا من بعد بلوغ الخطاب إليه والثاني: عليه القضاء بكل حال كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وغيره والثالث: يفرق بين من أسلم في دار الحرب ومن أسلم في غيرها كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة والأول أظهر الأقوال

وأيضا فقد تنازع الناس فيمن فوت الصلاة عمدا بغير عذر والصوم هل يصح منه القضاء أم قد استقر عليه الذنب فلا يقبل منه القضاء؟ على قولين معروفين وليس هذا موضع هذا

وإنما المقصود هنا أنه ليس في علماء المسلمين من يقول بسقوط الصلاة عمن هو عاقل على أي حال كان

فمن تأول قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر: 99 على سقوط العبادة بحصول المعرفة فإنه يستتاب ن فإن تاب وإلا قتل والمراد بالآية: اعبد ربك حتى تموت كما قال الحسن البصري: لم يجعل الله لعبادة المؤمن أجلا دون الموت وقرأ الآية واليقين هو ما يعانيه الميت فيوقن به كما قال الله تعالى عن أهل النار { وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين } المدثر: 46 47 وفي الصحيح أن النبي لما مات عثمان بن مظعون قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه

والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة ومن شركهم في نوع من إلحادهم لما ظنوا أن كمال النفس في مجرد العلم وظنوا أن ذلك إذا حصل فلا حاجة إلى العمل ن وظنوا أن ذلك حصل لهم ظنوا سقوط الواجبات العامة عنهم وحل المحرمات العامة لهم

بطلان هذا القول من وجوه والرد عليهم في ذلك عدل

وضلالهم من وجوه

منها: ظنهم أن الكمال في مجرد العلم

والثاني: ظنهم أن ما حصل لهم علم

والثالث: ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس

الوجه الأول عدل

وكل من هذه المقدمات كاذبة فليس كمال النفس في مجرد العلم ولا في أن تصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل لا بد لها من العمل وهو حب الله وعبادته فإن النفس لها قوتان: علمية وعملية فلا تصلح إلا بصلاح الأمرين ن وهو أن تعرف الله وتعبده

والجهمية هم خير من هؤلاء بكثير ومع هذا فلما قال جهم ومن واقفه: إن الإيمان مجرد المعرفة أنكر ذلك أئمة الإسلام ن حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما

وهذا القول: وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من واكثر أصحابه فهو من أفسد الاقوال وابعدها عن الصحة كما قد بيناه في غير هذا الموضع لما بينا الكلام في مسمى الأيمان وقبوله للزيادة والنقصان وما للناس في ذلك من النزاع

الوجه الثاني عدل

وأما المقدمة الثانية: فلو كان كمال النفس في مجرد العلم فليس هو أي علم كان بأي معلوم كان بل هو الذي لا بد منه: العلم بالله وهؤلاء ظنوا أنه العلم بالوجود بما هوموجود وظنوا أن العالم أبدي ازلي فإذا حصل له العلم بالوجود الازلي الأبدي كملت نفسه

وعلى هذا بنى أبو يعقوب السجستاني وغيره من شيوخ الفلسفة والباطنية أقوالهم وكذلك أمثالهم من الفلاسفة كالفارابي وغيره وابن سينا وإن كان أقرب إلى الإسلام منهم ففيه من الإلحاد بحسبه وأبو حامد وإن سلك أحيانا مسلكهم لكنه لا يجعل العلم بمجرد الوجود موجبا للسعادة بل يجعل ذلك في العلم بالله وقد يقول في بعض كتبه: إنه العلم بالأمور الباقية وهذا كلامهم

فمن قال: إن العالم أزلي أبدي قال بقولهم ومن قال: إن كل ما سوى الله كان معدوما ثم وجد لم يلزمه ذلك وابن عربي وابن سبعين ونحوهما جمعوا بين المسلكين فصاروا يجعلون كمال النفس هو العلم بالوجود المطلق إن الله هو الوجود المطلق فأخذوا من طريقة الصوفية: أنه العلم بالله واخذوا من كلام هؤلاء: أنه العلم بالوجود المطلق وجمعوا بينهما فقالوا: إن الله هو الوجود المطلق

الوجه الثالث عدل

وأما المقدمة الثالثة: فزعمهم أنهم حصل لهم العلم بالوجود وهذا باطل فغن كلامهم في الإلهيات مع قلته فالضلال أغلب عليه من الهدى ن والجهل أكثر فيه من العلم وهي العلوم التي تبقى معلوماتها وتكمل النفوس بها عندهم

وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع ولكن نبهنا عليه هنا لأن مثل هذا الآمدي وأمثاله الذين عضموا طريقهم وصدروا كتبهم التي صنفوها في أصول دين الإسلام بزعمهم بما هو أصل هؤلاء الجهال: من أن كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وسلكوا طرقهم وقعوا في الجهل والحيرة والشك بما لا تحصل النجاة إلا به ولا تنال السعادة إلا بمعرفته فضلا عن نيل الكمال الذي هو فوق ذلك فإن النبي قال: [ كمل من الرجال كثير ] فالكاملون من الرجال كثير ولكن الذين سلكوا طريق هؤلاء من أبعد الناس عن الكمال

تقرير الآمدي لطريقة المتأخرين في إثبات واجب الوجود عدل

والمقصود هنا الكلام على مسلكه هؤلاء المتأخرين في تقرير واجب الوجود والآمدي قد قررها في أبكار الأفكار وأورد سؤالا على بعض مقدماتها في رموز الكنوز قد ذكرنا سؤاله وجوابه

وأما تقريره لها فقال في تقرير هذه الحجة: النظر إلى الجملة غير إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة فإما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة كما تقدم وإن كانت ممكنه فلا بد لها من مرجح والمرجح إما داخل فيها وإما خارج عنها فإن كان داخلا فيها فالمرجح للجملة مرجح لآحادها فيلزم أن يكون مرجحا لنفسه لكونه من الآحاد فيلزم أن يكون علة لنفسه معلولا لها وإن كان خارجا عنها لم يكن ممكنا لأنه من الجملة فيكون واجبا

ثم أورد على ذلك قول السائل لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع إشعاره بالحصر صحته في غير المتناهي سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهي وانه ممكن لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وحينئذ فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا انه زائد على الآحاد ولكن ما المانع أن يكون مترجحا بآحاده الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجيحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا أن يكون المرجح للجملة مرجحا لنفسه ولا لعلته

ثم قال في الجواب قولهم لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي قلنا مسمى الجملة هو ما وصفتموه بكونه غير متناه ولا شك أنه غير كل واحد من الآحاد إذ كل واحد من الآحاد متناه الموصوف بما لا يتناهي هو الأعداد المفروضة بحيث لا يخرج عنها واحد قولهم لا نسلم ان مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية

قلنا إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب

ولقائل أن يقول يريدون بالجملة كل الآحاد لا كل واحد منها زلا يسلمون أن كل الآحاد أمر مغاير للآحاد المتعاقبة

قولهم ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه

قلنا إما ان يقال تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها أو بواحد منها فإن كان يوجد منها فالمحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال

تعليق ابن تيمية عدل

قلت ولقائل أن يقول الحجة المذكورة لا تحتاج إلى إثبات كون الجملة غير الآحاد وإن كان ذلك حقا فإنه يقال لمن قال لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناه لا يخلو إما أن يكون هنا جملة غير الآحاد وإما أن لا يكون 0 فإن كان بطل سؤال وإن لم يكن كان ذلك أبلغ في الحجة فإن كل واحد من الآحاد ممكن وليس هنا جملة يمكن أن تكون واجبة فكل من الممكنات يمتنع أن يوجد بنفسه أو بممكن آخر كامتناع وجود الجملة الممكنة بكل من الممكنات

وقد أورد هو هذا السؤال فكان فيه كفاية من ان يقرر أمورا إذا حذفها كان أبلغ في الحجة وأقوى لها

وكذلك السؤال الثاني وهو قوله سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وانه ممكن لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة فلا يكون معللا بغير علة الآحاد فإن هذا السؤال هو نظير الأول بل هو هو مع تغير العبارة فإن من نفي وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي لم ينازع في وجود كل واحد واحد من الآحاد المتعاقبة فإذا سلم مفهوم الجملة فيما لا يتناهي وفسر ذلك بالآحاد المتعاقبة كان باقيا على منعه الأول 0 لكن من الناس من يقول الجملة لا تعقل إلا في المتناهي ومنهم من قد ينازع في الجملة هل لها حقيقة غير كل واحد من الآحاد فلهذا جعلهما سؤالين

وبكل حال فالسؤال إن كان متوجها كان ذلك أقوى في الحجة وغن لم يكن متوجها لم يرد بحال وذلك انه لم يكن للجملة حقيقة غير كل واحد واحد لم يكن هنا مجموع نحتاج أن نصفه بوجوب أو إمكان غير كل واحد واحد وتلك كلها ممكنة فتكون الحجة على هذا التقدير أقل مقدمات فإنه إذا كانت الجملة غير الآحاد احتيج إلى نفي وجوبها بنفسها أو بالآحاد أما إذا قدر انتفاء ذلك لم يحتج إلى ذلك فلا يحتاج إلى نفي الوجوب عنها لا بنفسها ولا بالآحاد

ولهذا قال في الاعتراض إذا لم تكن الجملة غير الآحاد لم يلزم ان تكون معللة بغير علة الآحاد

وهذا مما يقوي الحجة فإنها إذا لم تكن معللة بغير علة الآحاد ومعلوم أنه لا بد من إثبات علة الآحاد فذلك وحده كاف بخلاف ما إذا كانت غير الآحاد فإنه يحتاج إلى نفي وجوبها بنفسها أو الآحاد

وهذا هو السؤال الثالث وهو قوله ما المانع أن يكون المجموع وهو الجملة مترجحا بآحاده الداخلة فيه لا بواحد منها بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه بترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير نهاية

وقد أجاب عن هذا بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال

وهذا السؤال هو الذي ذكره في كتابه الآخر وذكر أنه لا يعرف له جوابا حيث قال ما المانع من ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير نهاية

قال وهذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله

والجواب الذي ذكر عنه إنما يستقيم إذا أرادوا بالجملة كل واحد واحد من الأجزاء ولم يجعلوا للاجتماع قدرا زائدا وجعلوا الاجتماع جزءا فإنه حينئذ يقال الجملة هي الآحاد فأما إذا أريد بالجملة الاجتماع وهو الهيئة الاجتماعية وأن ترجحها بالآحاد المتعاقبة لم يكن الجواب صحيحا

وهذا هو الذي استشكله في كتابه الآخر وحينئذ يكون السؤال لم لا يجوز ترجح الاجتماع بالآحاد المجتمعة وترجح كل واحد بالآخر وليس الجملة هو الآحاد المتعاقبة كما تقدم بل هو الهيئة الاجتماعية ولكن يمكن تقرير هذا الجواب إذا جعلت الهيئة الاجتماعية جزءا من أجزاء الجملة وهذا أمر اصطلاحي فإن المجموع المركب من أجزاء قد يجعل نفس الاجتماع ليس جزءا من المجموع وقد يجعل جزءا من المجموع فإذا جعل الاجتماع جزءا من المجموع كان تقرير السؤال أن هذا الجزء معلل بسائر الأجزاء وترجح كل جزء بالآخر وترجح جزء ممكن بجزء ممكن كترجح جزء ممكن بأجزاء ممكنة وحينئذ فإجابته بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه ليس بجواب مطابق فإنهم لم يدعوا ترجح المجموع بالمجموع بل ترجح الاجتماع بكل واحد واحد من الأجزاء المتعاقبة والاجتماع وإن كان جزءا فليس هو من الأجزاء المتعاقبة لكن هذا فيه ترجيح بعض الأجزاء ببعض فهو كتعليل بعض الممكنات ببعض فيعود الأمر ويقال فالجموع هو واجب بنفسه أو ممكن معلول لنفسه أو معلول ببعضه أو بخارج عنه كما تقدم تقرير ابن سينا لحجته

وقد تقدم أن المجموع إما أن لا يكون له علة بل هو واجب بنفسه وهذا باطل كما تقدم وإما أن يكون له علة وهو المجموع أو بعضه أو ما هو خارج عنه كما يقال نظير ذلك في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام

فلهذا قال في القسم الثاني وأما أن يقتضي المجموع علة هي الآحاد باسرها فتكون معلولة لذاتها فإن تلك الجملة والكل شيء واحد واما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجملة

يقول إن كان المقتضي للمجموع هي الآحاد بأسرها بحيث تدخل فيها الهيئة الاجتماعية لزم أن تكون الجملة الممكنة معلولة لذاتها فإن الجملة والكل والمجموع شيء واحد بخلاف ما إذا أريد باكل كل واحد واحد فإن الجملة لا تجب بكل واحد واحد إنما تجب بمجموع الآحاد كالعشرة لا تحصل بكل فرد فرد من أفرادها وكذلك سائر المركبات وإنما يحصل المركب بمجموع اجزائه التي من جملتها الهيئة الاجتماعية إن جعلت الهيئة الاجتماعية امرا وجوديا وإن لم تجعل كذلك لم يحتج إلى هذا بل يقال المجموع هو الآحاد بأسرها وليس هنا غير الآحاد

ولعل ابن سينا أراد هذا ولهذا أوردوا عليه تلك الأسولة وهو أن المجموع مغاير للآحاد وأنه يجوز أن يجب المجموع بالآحاد المتعاقبة ونحو ذلك مما تقدم

وأما القسم الثالث وهو أن يكون للمجموع علة هي بعضه فهذا قد أبطله بقول ليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض إن كان كل واحد منها معلولا ولأن علته اولى بذلك

وهذان وجهان في تقرير ذلك أحدهما أن كل جزء من الأجزاء إذا كان ممكنا ومن ذلك الهيئة الاجتماعية فليس وجوب المجموع بهذا الجزء بأولى من هذا لأنه متوقف على كل جزء جزء منها

والثاني أن كل واحد من تلك الأجزاء معلول لغيره فعلته أولى أن تكون هي الموجبة للجميع منه سواء قيل: إن علة المجموع واحد معين أو واحد منها غير معين واما إذا قيل: كل واحد واحد فذلك أبعد لأنه يقتضي اجتماع مؤثرين مستقلين على أثر واحد وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء

فإن قيل: إذا كان المجموع هو الأجزاء ونفس الاجتماع فهذا لا يفتقر إلى شيء منفصل

قيل: هذا هو القول بوجوب ذلك بنفسه وقد تقدم إبطاله فإنه يكون كل جزء ممكنا بنفسه والاجتماع ممكن بنفسه ولم يكن هنا ما يغاير ذلك حتى يقال: هو واجب بنفسه فلا يمكن أن يكون هنا ما هو واجب بنفسه

وقد أبطل غيره هذا القسم بوجهين: أحدهما ذكره الرازي والآمدي: أن ما كان سبب المجموع كان سبب كل واحد من أجزاء ذلك المجموع فلو قدر جزء من أجزاء المجموع سببا لزم كزن الجزء سببا لنفسه فيلزم كون الممكن علة معلولا وأيضا فذلك الجزء معلول فإذا كان هو مرجحا للمجموع كان مرجحا لعلته فيكون علة لعلته

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55