وأما تمثيل ذلك بنور الشمس فعنه جوابان

أحدهما: أن الشمس علة تامة فاعلة للنور بل هي شرط في فيضانه وفيضانه مشروط بوجود جسم ينعكس عليه شعاعها والأول سبحانه هو وحدة مبدع لكل ما سواه

الثاني: أن الشمس إن قيل: إنها عالمة بنفسها وقيل مع ذلك: إنها مبدعة للشعاع لم نسلم أنها لا تعلم الشعاع لكن الشأن في تينك المقدمتين

وأما قوله: مهما وافقهم لازم له

فيقال: بل الصواب أن يقال: إثباتك العلم مع نفي الإرادة تناقض يلزمه منه خطؤك: إما في إثبات العلم وإما في نفي الإرادة

وحينئذ فيقال: هؤلاء نفوا العلم والإرادة وأنت أثبت العلم دون الإرادة وهما متلازمان فيلزم خطؤك: إما في إثبات العلم وإما في نفي الإرادة

وحينئذ فيقول: أدلتي المذكورة على ثبوت العلم صحيحة توجب ثبوت العلم وإذا كان ذلك مستلزما للإرادة كان خطئي في نفي الإرادة فهذا هو الصواب دون أن يقال: كما وافقتهم على الخطأ في نفي الإرادة فوافقهم على الخطأ في نفي العلم

وأما قوله في الوجه الثاني: إن فعل الله واحد وهو المعلول الأول فينبغي أن لا يكون عالما إلا به

فيقال: إذا ثبت أن علمه بنفسه يستلزم علمه بمفعولاته وجميع الممكنات مفعولة لزم أن يعلمها كلها

وأما قولهم: إنه أول ما أبدع العقل الأول فكلامهم في هذا خطأ في بيان فعله لا خطأ في إثبات وجوب كونه عالما بمفعولاته ولا ريب أن قولهم في صدور الأفعال منه خطأ لكن لا يلزم من الخطأ في ذلك الخطأ فيما به قررت كونه عالما بمفعولاته

ثم يقال: ولا يلزم أيضا على أصلهم أنه لا يعلم إلا العقل الأول بل يلزم علمه بكل شيء وذلك لأنهم تارة يقولون: صدر عنه عقل وبتوسطه عقل ونفس وفلك وتارة يجعلون الثاني صادرا عن الأول وتارة يجعلون الأول شرطا وتارة يجعلونه مبدعا للثاني ومنهم من يقول بلزوم جملة الفلك له

وعلى كل تقدير فلا ريب أن علمه بالملزوم علما تاما يستلزم علمه باللازم وكذلك العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول كما تقدم

فأقصى ما يقدر أن الأول كان علة للثاني فإذا كان عالما بالأول علما تاما لزم أن يعلم لوازمه التي منها علمه بفعله للثاني كما تقدم

فعلى كل تقدير لا يكون قول من سلبه العلم خيرا من قول من أثبته

وبهذا أجابه ابن رشد فقال: الجواب عن هذا أن الفاعل الذي هو في غاية العلم يعلم ما صدر عما صدر منه وما صدر من ذلك الصادر إلى آخر ما صدر فإن كان الأول في غاية العلم فيجب أن يكون عالما بكل ما صدر عنه بوساطة أو بغير وساطة وليس يلزم منه أن يكون علمه من جنس علمنا لأن علمنا ناقص ومتأخر عن المعلوم ومن فر من شناعة القول بأنه لا يعلم إلا نفسك فهو معذور في هذا الفرار

وقوله: إن هذه الشناعة لازمة في مقال الفلاسفة في نفي الإرادة ونفي حدث العالم فيجب ارتكابهما كما ارتكب سائر الفلاسفة ولا بد من ترك الفلسفة والاعتراف بأن العالم حادث بالإرادة

فيقال: إذا كان هذا لازما لمن نفي الإرادة والحدوث فيجب إثبات الإرادة والحدوث فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل لا يجب إذا ترك بعض الحق أن يترك سائره بل يجب الاعتراف به كله وإلا فالاعتراف ببعضه خير من جحده كله

وقد تقدم تحقيق الأمر في تلازم العلم والإرادة

قال أبو حامد: ثم يقال: بم تنكر على من قال من الفلاسفة: إن ذلك يعني العلم ليس بزيادة شرف فإن العلم إنما احتاج إليه غيره ليستفيد كمالا فإنه في ذاته قاصر فشرف بالمعقولات إما ليطلع على مصالحه في العواقب في الدنيا والآخرة وإما لتكمل ذاته المظلمة الناقضة وكذلك سائر المخلوقات وأما ذات الله فمستغنيه عن التكميل بل لو قدر له علم يكمل به لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة وهذا كما قلت في السمع والبصر وفي العلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه وأن المتغيرات الداخلة في الزمان المنقسمة إلى ما كان ويكون لا يعرفها الأول لأن ذلك يوجب تغيرا في ذاته وتأثيرا

ولم يكن في سلب ذلك عنه نقصان بل هو كمال وإنما النقصان من الحواس والحاجة إليها ولولا نقصان الآدمي لما احتاج إلى حواس لتحرسه عما يتعرض للتغير به

وكذلك العلم بالحوادث الجزئية: زعمتم أنه نقصان فإذا كنا نعرف الحوادث كلها وندرك المحسوسات كلها والأول لا يعرف شيئا من الجزئيات ولا يدرك شيئا من المحسوسات ولا يكون ذلك نقصانا فالعلم بالكليات العقلية أيضا يجوز أن يثبت لغيره ولا يثبت له ولا يكون فيه نقصان وهذا لا مخرج عنه

فيقال: هذا الكلام متوجه على سبيل الإلزام والمعارضة يظهر به تناقض من أثبت له علما بمعلوم دون آخر كابن سينا وأمثاله فإنه يلزمه فيما أثبته نظير ما فر منه فيما نفاه فإن كان ذلك حقا فيلزم أن لا يعلم شيئا ولا نفسه وإن لم يكن حقا فيلزم أن يعلم كل شيء

ولا ريب أن هذا هو الصواب فهو يقول لهم: إن العلم: إن كان صفة كمال وشرف فمعلوم أن علمه بكل شيء أكمل من علمه ببعض الأشياء وإن لم يكن صفة كمال فلا يثبت شيء منه

واستشهد على ذلك بأنكم نفيتم عنه السمع والبصر والعلم بالمتغيرات فإن كان نفي ذلك نقصا فقد وصفتموه بالنقص وإن لم يكن نقصا لم يكن نفي غيره نقصا

وابن سينا يفرق بين علمه بالثابتات وبين علمه بالمتغيرات لئلا يلزم تغيره بتغير العلم

وقد بين أبو حامد بعد هذا أنه لا محذور في علمه بالمتغيرات بل يلزمه إثبات العلم بذلك فإثبات العلم مطلقا هو الواجب دون نفيه وكل ما لزم من إثبات العلم فلا محذور فيه أصلا بل غايته ترجع إلى مسألة نفي الصفات والأفعال والاختيارات فليس لهم في نفي العلم إلا ما ينشأ عن هذين السلبين

وقد بين فساد قول النفاة للصفات والأمور القائمة بذاته الاختياريات وإذا كان علمه سبحانه بكل شيء مستلزما لثبوت هذين الأصلين كان ذلك مما يدل على صحتهما كما دل على ذلك سائر الأدلة الشرعية والعقلية فإن ثبوت العلم بكل شيء مما هو معلوم بالاضطرار من دين المرسلين ومما هو ثابت بقواطع البراهين

فإذا كان مستلزما لإبطال هذين الأصلين اللذين هما من البدع التي أحدثها الجهمية كان هذا من الأدلة الدالة على اتفاق الحق وتناسبه وتصديق ما جاء به الرسول وموافقته لصريح العقل وأنه لا اختلاف فيما جاء من عند الله بخلاف الأقوال المخالفة لذلك فإنها كلها متناقضة

وتدبر حجج النفاة فإنها كلها من أسقط الحجج كالقول الذي يقوله بعض الفلاسفة: إن العلم ليس بزيادة شرف فلا يكون من يعلم أشرف ممن لا يعلم ويقول: إنه إذا كان عالما فقد جعل ناقصا بذاته مستكملا بغيره

أما الأول فمن القضايا البديهية المستقرة في الفطر: أن الذي يعلم أكمل من الذي لا يعلم كما أن الذي يقدر أكمل من الذي لا يقدر

ولهذا يذكر سبحانه هذه القضية بخطاب استفهام الإنكار الذي يبين أنها مستقرة في الفطر وأن النافي لها قال قولا منكرا في الفطرة

كقوله تعالى: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر: 9 ] فإنه يدل على أنه لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم ويدل على أن التسوية منكرة في الفطر تنكر على من سوى بينهما

كقوله تعالى: { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } [ الأنعام: 143 ]

وقوله: { قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } [ يونس: 59 ]

وقوله: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف: 32 ]

وقوله: { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } [ الأنعام: 148 ]

وكذلك قوله: { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } [ النحل: 75 - 76 ]

وقوله: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل: 17 ]

وقوله: { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } [ يونس: 35 ]

وكما أنه سبحانه في القرآن يبين أن العالم القادر الذي يخلق ويأمر بالعدل أكمل من غيره وأن هذا التفضيل مستقر في الفطر والتسوية من منكرات العقول التي تنكرها القلوب بفطرتها وهي من المقدمات البديهية المستقرة فيها فكذلك يبين أن العادم لصفات الكمال ناقص لا يمكن أن يكون ربا ولا معبودا ويبين أن العلم بذلك فطري مستقر في القلوب

كقوله تعالى عن الخليل: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } [ مريم: 42 ]

وقوله تعالى: { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } [ الأعراف: 148 ]

وقوله: { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } [ طه: 89 ]

وقوله: { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } [ النحل: 20 - 21 ]

وقوله: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس: 18 ]

وقوله عن الخليل: { أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات: 95 - 96 ]

وقوله أيضا: { هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون } [ الشعراء: 72 - 73 ]

وقوله: { أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } [ الأنبياء: 66 - 67 ] وأمثال ذلك كثير

والمقصود هنا أن كون العلم صفة كمال وكون العالم أكمل من الذي لا يعلم كون عدم العلم نقصا - هو من أبين القضايا البديهية المستقرة في فطر بني آدم

وأما قول القائل: إن العلم إنما احتاج إليه غير الله ليستفيد كمالا: إما ليطلع على مصالحه وإما لتكميل ذاته المظلمة

فيقال له: هذا بعينه دليل على أن الذوات لا تكمل إلا بالعلم من جهة أنها لا تقدر أن تفعل ما تصلح إلا به ومن جهة أنها بدونه مظلمة

والرب فاعل لكل شيء وفاعل لكل فاعل فهو أحق بأن يكون عالما من كل فاعل وذاته أكمل الذوات فهي أحق بأن يكون لها غاية الكمال وأن تكون برية من كل نص

وقول القائل: ذات الله مستغنية عن التكميل كلمة حق فإنه مستغنية عن أن يكملها أحد سواها لكن ما هي ذات الله المستغنية عن التكميل: أهي ذات مسلوبة العلم وغيره من صفات الكمال فلا تعلم ولا تسمع ولا تبصر؟ أم هي الذات المتصفة بهذه الصفات؟

أما الأول فلا حقيقة لتلك الذات ولا وجود لها فضلا عن أن يقال: ذات الله فإن ذاتا لا تتصف بشيء من الصفات إنما تعقل في الأذهان لا في الأعيان وذاتا لا تتصف بصفات الكمال ليست خالق المخلوقات ولا وجود لها ولو قدر وجودها فهي من أنقص الذوات بل كل حيوان أكمل منها فإنا نعلم بصريح المعقول أن الحي أكمل مما ليس بحي والعالم أكمل مما ليس بعالم والقادر أكمل مما ليس بقادر

وقول القائل: لو قدر له ما يكمل به لكانت ذاته من حيث ذاته ناقصة قول باطل من وجوه

أحدها: أن ذاته المجردة عن الصفات لا حقيقة لها أو نقول: لا نعلم ثبوتها أو نعلم أن الذات المجردة عن الكمال معدومة

ولفظ ذات لفظ مولد وهو تأنيث ذو ومعنى ذات: أي ذات علم وذات قدرة وذات حياة

فتقدير ذات بلا صفات تقدير المضاف المستلزم للإضافة بدون الإضافة

ولهذا أنكر طائفة من أهل العربية كابن برهان والجوليقي النطق بهذا اللفظ وقالوا: هذا مؤنث والرب لا يجري عليه إسم مؤنث ولكن الذين أطلقوه عنوا به نفسا ذات علم أو حقيقة ذات علم

وفي الجملة فتقدير الذات ذاتا مجردة عن الصفات هو الذي أوقعه في هذه الخيالات الفاسدة

وقوله: الذات من حيث ذاته: إن أراد به أن الذات من حيث هي لا صفة لها فهذه لا وجود لها فصلا عن أن تكون كاملة

وإن أراد من حيث حقيقتها الموجودة فهي من تلك الجهة لا تكون إلا متصفة بصفات الكمال

قوله: وهذا كما قلت في السمع والبصر والعلم بالجزئيات الداخلة تحت الزمان فإنك وافقت سائر الفلاسفة على أن الله منزه عنه إلى قوله: وهذا لا مخرج منه

فيقال: لا ريب أنه لا مخرج لابن سينا من هذا الإلزام فإنه إذا لم يكن عنده عدم العلم بالجزئيات نقصا كذلك عدم العلم بالكليات وإن قال: عدم علمه بها كمال أمكن منازعوه أن يقولوا: نفي علمه بالثابتات كمال

وإذا قال: أنا نفيت عنه لأن إثباته يفضي إلى التغير

قالوا له: ونحن نفينا ذاك لأنه يفضي إلى التكثر

فإذا قال: ذاك التكثر ليس بممتنع

قيل له: وهذا التغير ليس بممتنع وذاك أنه جعل التكثر في الإضافات فإن كان هذا حقا أمكن أن يقال بالتغير في نفس الإضافات وذلك أنه إن قال: إن نفس العلم إضافة فالتكثر والتجدد في العلم إضافة

وإن قال: بل هو صفة مضافة والتكثر في المعلوم لا في العلم بل يعلم بعلم واحد جميع المعلومات كما يقوله ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما

قيل له: والتغير في المعلوم لا في العلم لأن العلم واحد لا يتعدد فضلا عن أن يتغير

وإن قال: هذا باطل فإن العلم بأن سيكون الشيء ليس هو العلم بأن قال قد كان

قيل له: وكذلك العلم بالسماء ليس هو العلم بالأرض وأنت تقول أبلغ من ذلك تقول: ليس العلم إلا العالم بل تقول: العلم والعالم شيء واحد

ومعلوم أن هذا القول أبعد عن المعقول من قول من قال: العلم بالمعلومات شيء واحد فإن هذا يقول: إن العلم ليس هو العالم ولا هو المعلوم بل هو صفة للعالم

ولا ريب أن ابن سينا يتناقض في هذه المواضع فتارة يجعل العلم زائدا على الذات العالمة وتارة لا يقول بذلك أبت

كلام ابن سينا في الإشارات ورد ابن تيمية عليه عدل

فإنه قال: لما رد على من قال باتحاد العاقل بالمعقول: فيظهر لك من هذا أن كل ما يعقل فإنه ذات موجود تتقرر فيها الجلايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر

فصرح بأنه يتقرر في ذات العاقل الجلايا العقلية تقرير شيء في شيء آخر وهذا خلاف قول: العاقل والمعقول والعقل شيء واحد

والمقصود قبول ما يقوله من الحق وهو ما أثبته من كون الرب عالما بالأعيان الثابتة وبيان صحة حجته على ذلك

وأما ما نفاه من علمه بالجزئيات فحجته على نفيه ضعيفة

وقد بين أبو حامد وأبو البركات وغيرهما أنه يلزمهم القول بعلمه بالجزئيات وبينوا فساد ما نفوا به ذلك

قال ابن سينا: إشارة: الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكليات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه يتخصص به كالكسوف الجزئي فإنه قد يعقل وقوعه بسبب توافق أسبابه الجزئية وإحاطة العقل بها ويعقلها كما يعقل الجزئيات وذلك غير الإدراك الجزئي الزماني لها الذي يحكم أنه وقع الآن وهو قبله أو يقع بعده بل مثل أن نعقل أن كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئي ما وقت كذا وهو جزئي ما في مقابلة كذا ثم ربما وقع ذلك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأول لأن هذا إدراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله

وذلك الأول يكون ثابتا الدهر كله وإن كان علما بجزئي وهو أن العاقل يعقل أن بين كون القمر في موضع كذا وبين كونه في موضع كذا يكون كسوف معين في وقت من زمان أول الحالين محدود عقله ذلك أمر ثابت قبل الكسوف ومعه وبعده هذا لفظه

قلت: وهذا الذي ذكره إنما يتأتى في الأمور الدائمة عنده كالشمس والقمر والكواكب والأفلاك فإنه يعلمها بأعيانه فإنها دائمة

وأما الأمور المتجددة مثل حركاتها ومثل الكسوف والخسوف والإهلال والإبدار ومثل أشخاص الناس والحيوان فهذه لا يتصور أن يعقلها إلا على وجه كلي مثل أن يعلم أنه في كل شهر يحصل إهلال وإبدار وفي كل سنة يحصل صيف وشتاء فأما العلم بإهلال معين وإبدار معين وكسوف معين فهذا جزئي حادث كائن بعد أن لم يكن زائل بعد ما كان فإن علمه بعينه لزم ما حذروه من التغير في علمه فإنه إذا علمه قبل وجوده علمه معدوما سيوجد ثم إذا وجد علمه موجودا ثم إذا زال علمه معدوما قد كان وهذا الذي فروا منه

ولو علم الجزئيات بأعيانها بعلم ثابت لزم وجود ما لا نهاية له من المعقولات دائما في ذاته

وأما قوله: مثل أن يعقل أن كسوفا جزئيا يعرض عند حصول القمر وهو جزئي وقت كذا وهو جزئي في مقابلة كذا ثم ربما وقع ذاك الكسوف ولم يكن عند العاقل الأول إحاطة بأنه وقع أو لم يقع وإن كان معقولا له على النحو الأول لأن هذا إدراك آخر جزئي يحدث مع حدوث المدرك ويزول مع زواله وذلك الأول يكون ثابتا الدهر كله وإن كان عالما بجزئي

فيقال: هذا الكسوف المعلوم أهو كسوف واحد بالعين أم بالنوع؟ فالأول أن يعلم أن الشمس تكسف في برج الحمل في السنة الفلانية سنة الطوفان

والثاني أن يعقل أنها كلها إن حصلت في برج كذا على وجه كذا كسفت

فإن قيل: إنه كسوف معين فهذا إذا كان عقله ثابتا أبدا يكون قد عقل قبل وجوده وحينئذ يكون معدوما لا موجودا والعلم بأنه موجود جهل والعلم بأن سيوجد هو الذي فروا منه

وإن قالوا: نعلم أنه إذا حصل الشيء المعين الجزئي حصل الكسوف وإن لم نعلم متى يحصل ذاك

قيل: فمثل هذا لا يكون إلا إذا كان المعلوم كليا وهو أن نعلم أنه إذا حصل ذلك الأمر المعين على الوجه المعين حصل الكسوف وهذا العلم كلي لا جزئي

ففي الجملة الجزئي لا يكون جزئيا إلا إذا انحصر شخصه ومنع تصوره من وقوع الشركة فيه وهذا إذا لم يكن أمرا ثابتا بل أمرا حادثا فلا يعلم على وجهه إن لم يعلم وقته المعين

وحينئذ فيكون العلم به قبل وقته وإلا فإذا علم أنه متى حصل كذا على وجه كذا حصل الكسوف فهذا كلي وإن علم أنه لا بد أن يحصل فإنه كلي من حيث الزمان فإن تصوره لا يمنع اشتراك الأزمنة فيه فلم يعلم إلا على وجه كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه

وقولهم مع هذا: إنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض مغالطة بل لم يعلم شيئا من الأمور المعينة الحادثة البتة بل هو عازب عنه لا يدري أكان أم لم يكن فإن نفس تصور الكلي من حيث هو كلي لا يفيد تصور المعينات والوجود ليس فيه إلا المعينات فلا يكون تصور شيئا من المعينات الحادثة lأمر أمر

كلام الطوسي في شرح الإشارات ورد ابن تيمية عليه عدل

وقد بين ذلك شارحو كلامه فقال الطوسي: يريد التفرقة بين إدراك الجزئيات على وجه كلي لا يمكن أن يتغير وبين إدراكها على وجه جزئي يتغير بتغيرها ليبين أن الأول تعالى بل كل عاقل فهو إنما يدرك الجزئيات من حيث هو عاقل على الوجه الأول دون الثاني وإدراكها على الوجه الثاني لا يحصل إلا بالإحسان أو التخيل أو ما يجري مجراهما من الآلات الجسمانية

قال: وقبل تقرير ذلك نقول: كلية الإدراك وجزئيته تتعلقان بكلية التصورات الواقعة فيه وجزئيتها فلا تدخل التصديقات في ذلك يعني بذلك أن التصديق إنما يكون كليا أو جزئيا باعتبار ما فيه من التصور: هل هو جزئي أو كلي؟

قال: فإن قولنا: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت جزئي وقولنا: الإنسان يقول القول في وقت كلي ولم يتغير فيهما إلا حال الإنسان والقول والوقت والجزئية بالكلية

ولقائل أن يقول: بل نفس النسبة لا تكون جزئية وكلية فإنه إذا قيل: هذا الإنسان يقول هذا القول في هذا الوقت كان الجميع جزئيا وإذا قيل: يقول أقوالا حسنة أو يقول هذا القول دائما كان الثاني كليا فإن تصوره لا يمنع من وقوع الشركة فيه

فإن قلت: المحمول الذي هو خير المبتدأ عن أحدهما قول معين وفي الآخر قول مطلق فالجزئية والكلية إنما وقعا في التصورين

قيل إن أريد ذلك لم يكن لنا تصديق غير التصورات فلا حاجة إلى نفي الكلية عنه

ولكن المعروف أن هذا القول هو الخبر المحمول على المبتدأ المخبر به عنه وهو قول معين جزئي ونسبته إليه هو التصديق المغاير للتصورين فإن التصديق يراد به الجملة كلها فيكون التصور بعضه بعينه ويراد به النسبة الحكمية فيكون التصور شرطا فيه وإذا أريد به هذا فنسبة القول المعين إلى المعين تصديق فإن عنيت النسبة من جميع الوجوه بحيث يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها فهي جزئية وإن لم يمنع ذلك فهي كلية

مثل كونه يقوله دائما أو الإخبار عنه بأنه يقوله في وقت ما فإن هذا لا يمنع كونه يقوله في هذا الوقت وفي غيره بل لا يمنع أن يقوله بالعربية وبالعجمية فهو كلي بالنسبة إلى العربية والعجمية

وبالجملة فما لم يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فهو كلي سواء كان احتمال الشركة لدخوله أشخاصا أو أزمنة أو أمكنة أو لغات أو غير ذلك من الأمور وهذا مما يبين أنه من لم يقل أن الرب يعلم الجزئيات فإنه يلزمه أن لا يعلم شيئا من الموجودات فإنه ما من موجود إلا وهو متميز عن غيره بحيث يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه

ولهذا لم يمنع ابن سينا كونه يعلم الجزيئات الثابتة الدائمة على أصله كالسموات والنجوم وإنما منع علمه بالمتغيرات فرارا من قيام الحوادث به مع أن أساطين من أساطين الفلاسفة ومن وافقهم من المتأخرين يقولون: إنه تقوم به الحوادث ولا حجة له على نفي ذلك أصلا إلا ما ينفي به قيام الصفات وإثباته للعلم يستلزم إثبات الصفات كما تقدم بيانه فعلم أن إثباته للعلم بالكليات دون الجزئيات في غاية التناقض

قال الطوسي: وكل جزئي يتعلق به حكم فله طبيعة توجد في شخصه وما تصير تلك الطبيعة جزئية لا يدركها العقل ولا يتناولها البرهان والحد بسبب انضياف معنى الإشارة الحسية إليها وما يجري مجراها من المخصصات التي لا سبيل إلى إدراكها إلا بالحس وما يجري مجراه فإن أخذت تلك الطبيعة مجردة عن تلك المخصصات صارت كلية يدركها العقل ويتناولها البرهان والحد وكان الحكم المتعلق بها - حين كونها جزئية - باقيا بحاله اللهم إلا أن يكون الحكم متعلقا بالأمور المخصصة من حيث هي مخصصة

قال: وإذا ثبت هذا فنقول: كل من أدرك علل الكائنات من حيث إنها طبائع يعني طبائع كلية وأدراك أحوالها الجزئية وأحكامها كتلاقيها وتباينها وتماسها وتباعدها وتركبها وتحللها من حيث هي متعلقة بتلك الطبائع وأدرك الأمور التي تحدث: معها وبعدها وقبلها من حيث يكون الجميع واقعا في أوقات يتحدد بعضها ببعض على وجه لا يفوقه شيء أصلا فقد حصل عنده صورة العالم منطبقة على جميع كلياته وجزئياته الثابتة والمتجددة المنصرفة الخاصة بوقت دون وقت كما عليه الوجود غير مغادر إياها بشيء وتكون تلك الصورة بعينها منطبقة على عوالم أخر لو حصلت في الوجود مثل هذا العالم بعينه فتكون صورة كلية منطبقة على الجزئيات الحادثة في أزمنتها غير متغيرة بتغيرها

هكذا يكون إدراك الجزئيات على الوجه الكلي

فيقال: فعلى هذا التقدير لا يكون الرب عالما بشيء من هذه الأمور الموجودة ولا فاعلا لها إذا كان علمه بها هو إبداعه لها فإن العلم بالجزئيات على هذا الوجه الكلي لا يتضمن العلم بشيء من المعينات ولا يكفي هذا العلم في وجودها فضلا عن أن يكون هو إيجادها

فإنا إذا علمنا أن بني آدم لا بد أن تحصل لهم شهوة الأكل فيأكلون وإذا أكلوا فلا بد أن تحصل لهم فضلة فيتغوطون ولا بد أن تحصل لهم شهوة النكاح فيجامعون ولا بد أن يحصل إنزال وحبل فتحبل النساء ويلدن ولا بد أن يموتوا - كان هذا علما كليا يتضمن أنه لا بد من وجود أكل وتخل ونكاح وإنزال وحبل وولادة وموت بحيث لو قيل: إن في الآدميين من لا يموت أو من لا يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك - كان ذلك العلم الكلي مناقضا لهذا القول

ولو قيل: إنه لم يبق من ينكح ويحبل ويلد ويموت كان ذلك العلم الكلي دافعا لهذا القول كما إذا علمنا أن نبيا لا يخبر إلا بالصدق وعلمنا أنه أخبر بأخبار لا نعرف أعيانها - علمنا أنها كلها صادقة ولم يكن في مجرد هذا العلم الكلي علم شيء منها

وإذا علمنا أن كل دليل شرعي دل على الإيجاب أو التحريم وجب إثبات موجبه من الإيجاب أو التحريم كان هذا علما كليا ولم يكن فيه علم بشيء من أعيان الأدلة الشرعية ولا بالأحكام المعينة الشرعية

وإذا علمنا أن الإهلال لا يكون إلا في أول الشهر والإبدار لا يكون إلا في وسطه وأن كسوف الشمس لا يكون إلا عند الإجتماع قبل الإهلال وخسوف القمر لا يكون إلا في الليالي البيض في الإبدار - لم يكن في مجرد هذا العلم ما يوجب أن يعلم: هل الهلال طالع في هذا الوقت أم لا؟ وهل هو مبدر أم لا؟ وهل هو خسوف أم كسوف أم لا؟

وكذلك إذا علمنا أن الشمس تدور ما بين رأس السرطان والجدي لا يصعد هذا غاية صعودها وهذا غاية هبوطها وفي صعودها يكون الصيف وفي هبوطها يكون الشتاء ونحن لا نعلم هل هذا الوقت صيف أو شتاء وهل هي صاعدة أو هابطة - لم يكن في هذا العلم الكلي ما يفيد معرفة ما وجد في الخارج من أحوالها لكن فيه أنها لا تخرج عن هذا القانون الكلي وهكذا سائر العلوم الكلية

لكن العلم بجميع حوادث الوجود على الوجه الكلي أعم من العلم ببعض حوادثه ومع ذلك فليس في ذلك علم بشيء من الموجودات الحادثة

وأيضا فمجرد هذا العلم الكلي لا يكفي في وجود المعينات فالمعين لا يوجد إلا بتصور معين وإرادة معينة وإلا فمن أراد أن يكرم الأبرار ويعاقب الفجار ويقبل شهادة العدول ويرد شهادة أهل الزور وهو لا يعرف أعيان هؤلاء وهؤلاء - لم يمكنه فعل شيء من ذلك الأمر الكلي الذي عزم

ومن أراد أن يأكل طعاما ويلبس ثوبا وليس له قصد من طعام بعينه وثوب بعينه إن لم يحصل له طعام معين وثوب معين بحيث تكون له إرادة معينة وتصور معين - امتنع أن يأكل ويلبس لكن قد يكون قصده للمعين هو لكونه هو الميسور المقدرور عليه ولو حصل غيره لقام مقامه ليس له إرادة في أحدهما دون الآخر إلا لكونه هو الذي تيسر وقدر عليه فهنا يكون سبب تعين الإرادة هي القدرة

وكذلك من قصده أن يعطي الزكاة للأنواع الكلية التي ذكرها الله في كتابه وليس له غرض في شخص بعينه فهو يعطي من علم أنه منهم ومن أمكنه أعطاه ومن أراد شخصا معينا فلا يتعين حتى يحصل له تصور معين وإرادة معينة لكن التعين يكون لأجل علمه المعين وقدرته المعينة لا لكون إرادته الأولى دعته إلى أداء الزكاة وصرفها في الأنواع المذكورة في القرآن - فكانت إرادته لمعين

وكذلك من قصده أن يتطهر كما أمره الله فهو يقصد الطهارة بماء أي ماء كان وهذه إرادة كلية ثم لا يمكنه أن يتطهر إلا بماء معين يتصور تصورا معينا ويريد التطهر به إرادة معينة

وكذلك من قصده أن يعتق رقبة وجبت عليه في كفارة وكذلك من غرضه أن يزوج وليته من كفو ومن قصده أن يشتري طعاما من شخص وكذلك من غرضه أن يستفتي من يفتيه بحكم الله ومن غرضه أن يحاكم خصمه إلى من يحكم بينهما بالحق وأمثال ذلك

فهؤلاء قصدهم ابتدأ أمرا مطلقا كليا ليس غرضهم شخصا بعينه لكن لا يحصل مقصودهم إلا إذا قصدوا شيئا معينا وإلا فما دامت ليس معهم إلا الإرادة المطلقة لا يفعلون شيئا إذ المطلق لا وجود له في الأعيان فلا يمكن وجود كلي في الخارج مع كونه كليا قط فمن لم يعلم إلا الكليات لم يمكنه أن يفعل شيئا قط ولا يكون عالما بشيء من الموجودات فإن الموجودات في الخارج ليس فيها كلي

فعلى قول هؤلاء لم يعلم الله شيئا من الموجودات بل ولا فعل شيئا من الموجودات وهذا أمر قطعي لا حيلة فيه كلما تدبره العاقل تبين له فساد هذا القول

وما استثناه ابن سينا من كونه يعلم الموجودات الثابتة بأعيانها لا يصح استثناؤها فإن تلك أيضا حادثة على القول الحق ويلحقها التغير كما يلحق غيرها فيجب أذا لم يعلم إلا الكليات أن لا يعلمها وعلى قول أولهم إنها أزلية أبدية فهي مستلزمة للتغيرات أما الأجسام فإنها لا تزال متحركة وأما المعقول فلا حقيقة لها وبتقدير ثبوتها فإنها علل الأجسام المتغيرة عندهم

وقد تقدم أصله: أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فالعلم بالعلل إنما يوجب العلم بمعلولها والعلة أوجبت معلولات جزئية متغيرة فيجب أن يعلم عليتها على هذا الوجه وحينئذ فيلزم أن يعلم المتغيرات متغيرة لا يكون علمها على وجه كلي كما ذكروه

ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية مثل إيجاب الزكوات وتحريم البنات والأخوات ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به ونهيه عما نهاه الله عنه إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية وإلا فمجرد العلم بها لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور إلا بعلم معين بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به وهذا المحظور داخل فيما نهى الله عنه وهذا الذي يسمى تحقيق المناط

إذا تبين هذا فقول القائل: كل من أدرك علل الكائنات من حيث إنها طبائع إلى آخره

يقال له: أتريد أنه أدركها كلية مثل أن يدرك أن في العالم حارا وباردا وأنهما يلتقيان على وجه كذا؟ أو تريد أنها إدراك الطبائع الموجودة المعينة؟

فإن أردت الأول لم يكن في العلم بذلك علم بشيء من الموجودات

وإن أردت الثاني فإنه يلزم من العلم بها العلم بلوازمها كما تقدم من أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها فيلزم من ذلك أن يعلم جميع معلولاتها ولوازمها وليس في المعينات إلا ما هو معلولها ولوازمها فيلزم العلم بكل شيء جزئي على سبيل التعيين ويلزم العلم بطوله وعرضه وعمقه وقدره سواء كان من الكل المتصل أو المنفصل

ولهذا كان قول المرسلين: إن الله أحصى كل شيء عددا فهو يعلم أوزان الجبال ودورات الزمان وأمواج البحار وقطرات المطر وأنفاس بني آدم: { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام: 59 ]

يبين هذا أنه قد تقدم أن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها وهي الموجب والرب سبحانه هو موجب بمشيئته وقدرته لكل ما يشاؤه

وهم يسمونه علة وهو إنما يوجد شيئا معينا لا يوجد شيئا كليا إذ الخارج ليس فيه شيء كلي فيجب أن يكون عالما بكل شيء جزئي كما انه خالق لكل شيء جزئي وإن كان له علم عام كلي بالأمور الكلية فلا منافاة بين هذا وهذا بل مخلوقه له بالكلي والجزئيات فالخالق أولى بذلك

وقوله: إن إدراكها على هذا الوجه إنما يحصل بالإحساس أو التخيل

فيقال لهم: لا ريب أن الله سميع بصير يسمع ويرى سبحانه وتعالى

وقد روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { إلا لنعلم من يتبع الرسول } [ البقرة: 143 ] ونحو ذلك قال: إلا لنرى ففسر العلم المقرون بالوجود بالرؤية فإن المعدوم لا يرى بخلاف الموجود وإن كانت الرؤية تتضمن علما آخر

وقال الطوسي في شرح كلام ابن سينا: قوله: الأشياء الجزئية قد تعقل كما تعقل الكليات إشارة إلى إدراكها من حيث هي طبائع مجردة عن المخصصات المذكورة وقيدها بقوله: من حيث تجب بأسبابها ليكون الإدراك لتلك الأشياء مع كونه كليا يقينيا غير ظني

ثم قال: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه: أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه ذلك لا أنها غير موجودة في غير ذلك الشخص بل مع تجويز أنها موجودة في غيره والمراد أن تلك الأشياء إنما تجب بأسبابها من حيث هي طبائع أيضا

ثم قال: تتخصص به أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك المبدأ وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك لأن الجزئي من حيث هو جزئي لا يكون معلولا لطبيعة غير جزئية ولا الطبيعة علة له من حيث هو كذلك

قال: وقوله: إن العاقل لأن بين كون القمر في موضع كذا إلى آخره معناه: أن من يعقل أن بين كون القمر في أول الحمل مثلا وبين كونه في أول الثور يكون كسوف معين في وقت محدود من زمانه كونه في أول الحمل كالوقت الذي سار فيه القمر من أول الحمل عشر درجات فإنما يكون تعقل ذلك العاقل لهذه الأمور أمرا ثابتا قبل وقت الكسوف ومعه وبعده

فيقال له: هذا الذي تصور هذا الكسوف تصور أنه يكون في عام معين أو تصوره مطلقا كتصوره أنه إذا كان في عشر درجات من الحمل مع أمور أخرى يكون كسوف فإن كان الأول فذاك كسوف جزئي معين وتصوره يكون قبله ومعه وبعده وإن كان الثاني فهذا يكون محققا تارة ومقدرا أخرى أما المقدور فأن يعلم أنه كلما حصل القمر في موضع كذا والشمس في موضع كذا حال القمر بين نور الشمس وبين الناس فانكسفت ولكن هذا ليس فيه علم بوقوعه لا مطلقا ولا معينا

والثاني أن يعلم أنه لا بد أن تقع هذه المحاذاة بين الأرض والقمر والشمس وإنما تقع إذا كان كذا فهذا علم كلي لا يعلم به شيء من الكسوف الموجود

ثم يقال: والعلم بهذا ممتنع إن لم يعلم الكسوفات الجزئية وذلك أن أسباب الكسوفات حركات أجسام معينة في أوقات محدودة والعلم بمجموع ذلك يوجب العلم بكل كسوف جزئي والعلم به قبل وقوعه ومع وقوعه وبعد وقوعه فلا يتصور مع العلم بأسباب الحوادث أن يعلم علم كلي إلا وتعلم الجزيئات الواقعة وإلا فلا يكون العلم بجميع الأسباب حاصلا

ولهذا لما كنا لا نعلم عامة الأسباب لم نعلم ما يكون وإذا علمنا أسباب شيء علمنا وقوعه قبل وقوعه ومعه وبعده كمن علم أنه سيبعث محمد وأنه يبعث إذا كانت أمور فإذا علم أنها لم تكن علم أنه لم يبعث وإن علم أنها كانت علم أنه بعث

وكثير مما يتكلم فيه الناس من مقدمة المعرفة يكونون قد علموا جزء السبب ولم يعلموا تمام السبب ولا علموا مانعه فيصيبون أحيانا ويكون خطأهم أكثر من صوابهم لأن ما فاتهم من العلم بتمام السبب والموانع أكثر مما علموه

وقد تقدم قول ابن سينا: قد تعقل الكليات من حيث تجب بأسبابها منسوبة إلى مبدأ نوعه من يخصه يتخصص به

وقد قال في شرحه: أي تتخصص تلك الجزيئات بطبيعة ذلك المبدأ وإنما نسبها إلى مبدأ كذلك لأن الجزئي من حيث هو جزئي لا يكون معلولا لطبيعة غير جزئية

فيقال: هذا الكلام بين في أنها لا تعقل على هذا الوجه إلا جزئية لا كلية لأنها إذا عقلت من حيث يجب بسببها المعين الجزئي لزم أن تعقل جزئية وأما إذا عقلت من حيث تجب بسبب كلي عقلت كلية لكن رب العالمين هو واحد معين ليس أمرا مطلقا كليا فهو يعلم نفسه علما معينا يمنع من وقوع الشركة فيه لا يعلمها علما كليا لا يمنع من وقوع الشركة فيه وحينئذ فيعلم كل ما صدر عنه على هذا الوجه وقوله: انحصر نوعه في شخصه دليل على ذلك

وقول الطوسي: قوله: منسوبة إلى مبدأ نوعه في شخصه أي منسوبة إلى مبدأ طبيعته النوعية موجودة في شخصه ذلك لأنها غير موجودة في غير ذلك الشخص بل مع تجويز أنها موجودة في غيره إنما تستقيم في طبائع المخلوقات وأما الخالق تعالى فلا يجوز أن تكون صفته ثابتة لغيره

والكلام إنما هو في أن علمه بنفسه يوجب العلم بالمخلوقات وبه تجب الممكنات وليس في الأسباب ما يوجب شيئا من الممكنات إلا وهو سبحانه وتعالى وكل ما سواه فإنما يوجب بشركة من غيره وهو سبحانه لا شريك له ثم كيف يتخصص بالمبدأ إن لم يكن مختصا كما تقدم؟

ففي الجملة كل حجة يذكرونها هم أو غيرهم - على علمه بشيء من الأشياء يدل على علمه بالجزئيات

وقول القائل: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات كلام متناقض يستلزم أنه لم يخلق شيئا ولا يعلم شيئا من الموجودات

وقوله مع ذلك إنه: لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء تلبيس منه كقولهم: العالم محدث يريدون به أنه معلول مع قدمه وإلا فكل ذرة من ذرات المحدثات عازبة عنه عندهم وكونها تجب وصف كلي باق أزلا وأبدا لا يوجب العلم بها كما ذكروه

ومضمون كلامه أنه يعلم ولا يعلم فهو كلام متناقض ثم الأدلة الدالة على علمه تستلزم علمه بالجزئيات وليس لابن سينا ما يبطل ذلك إلا كون ذلك يفضي إلى تغير العلم لكونه يعلم أن سيكون الشيء ثم يعلم أنه قد كان وهذا إن أبطله من جهة أنه نقص في العلم فهو باطل فإن هذا هو علم للشيء على ما هو عليه فإنه علمه معدوما لما كان موجودا وعلم أنه سيوجد ثم لما وجد علمه موجودا ثم إذا عدم بعد ذلك علم أن قد كان ثم عدم

فهذا هو العلم المطابق للمعلوم وما سوى ذلك فهو جهل لا علم وإن أنكره من جهة أنه يحدث تحول العلم بتحول المعلوم وأن ذلك تغير - فقد عرف قول المانعين من هذا الأصل وأنه في غاية الضعف والفساد مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول لا سيما ومن منع ذلك من الجهمية ومن اتبعهم إنما منعوه لاعتقادهم أن ذلك ينافي القدم

وابن سينا وإخوانه يجوزون قيام الحوادث بالقديم فلا حجة لابن سينا وأتباعه في منعه إلا حجتهم في نفي الصفات وإثبات العلم بالمعلومات المفصلة الثابتة بأعيانها مستلزم لثبوت الصفات كما تقدم بيانه وإقرار أصحابه بذلك وحينئذ فلا حجة لهم في نفي ذلك أصلا

والله تعالى قد أخبر في كتابه بعلمه بما سيكون كالأمور التي أخبر بها قبل كونها فعلم أنه يعلم الأشياء قبل وجودها وأخبر أنه إذا وجدت علمها أيضا

كقوله: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } [ البقرة: 143 ]

وفي القرآن من هذا بضعة عشر موضعا وقد روي عن ابن عباس وغيره: إلا لنرى وقال طائفة من المفسرين: إلا لنعلمه موجودا

رد الغزالي على الفلاسفة في تهافت الفلاسفة وتعليق ابن تيمية عدل

ونحن نذكر كلام أبي حامد عليهم قال: مسألة في إبطال قولهم: إن الله - تعالى عن قولهم - لا يعلم الجزيئات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون قال: وقد اتفقوا على ذلك

قلت: يعني اتفاق من عرف قوله منهم وهم الذين ذكرهم ابن سينا وإلا فأبوا البركات قد حكى عنهم قولين واختار هو أنه يعلم الجزئيات

قال أبو حامد: فإن من ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه فلا يخفى هذا من مذهبه ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره وهو الذي اختاره ابن سينا فقد زعم أنه يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي

فلا بد أولا من فهم مذهبهم ثم الاشتغال بالاعتراض ونبين هذا بمثال وهو أن الشمس مثلا تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ثم تنجلي فتحصل له ثلاثة أحوال: أعني للكسوف حال هو فيها معدوم منتظر الوجود أي سيكون وحال هو فيها موجود أي هو كائن وحال ثالثة هو فيها معدوم ولكنه كان من قبل

ولنا بإزاء هذه الأحوال ثلاثة علوم مختلفة فإنا نعلم أولا: أن الكسوف معدوم وسيكون وثانيا: أنه كائن وثالثا: أنه كان وليس كائنا الآن

وهذه العلوم الثلاثة متعددة ومختلفة وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة فإنه لو علم بعد الانجلاء أن الكسوف موجود الآن كما كان قبل كان جهلا لا علما ولو علم عند وجوده أنه معدوم كان جاهلا فبعض هذه لا يقوم مقام بعض

فزعموا أن الله تعالى لا يختلف حاله في هذه الأحوال الثلاثة فإنه يؤدي إلى التغير وما لم يختلف حاله لم يتصور أن يعلم هذه الأمور الثلاثة فإن العلم يتبع المعلوم فإذا تغير المعلوم تغير العلم وإذا تغير العلم فقد تغير العالم لا محالة والتغير على الله محال

ومع هذا زعم أنه يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه ولكن علما يتصف به في الأزل والأبد لا يختلف مثل أن يعلم مثلا أن الشمس موجودة وأن القمر موجود وأنهما حصلا منه بوساطة الملائكة التي سموها باصطلاحهم عقولا مجردة ويعلم أنها تتحرك حركات دورية ويعلم أن بين فلكيهما تقاطعا على نقطتين: هما الرأس والذنب وأنهما يجتمعان في بعض الأحوال في العقدتين فتنكسف الشمس إذ يحول جرم القمر بينها وبين أعين الناظرين وتستتر الشمس عن الأعين وأنه إذا جاوز العقدة مثلا بمقدار كذا وهو سنة مثلا فإنه تنكسف مثلا وأن ذلك الانكساف يكون في جميعها أو ثلثها أو نصفها وإنه يمكث ساعة أو ساعتين وهكذا إلى جميع أحوال الكسوف وعوارضه فلا يعزب عن علمه شيء

ولكن علمه بهذا قبل الكسوف وحال الكسوف وبعد الانجلاء على وتيرة واحدة لا يختلف ولا يوجب تغيرا في ذاته وكذا علمه بجميع الحوادث فإنها إنما تحدث بأسباب وتلك الأسباب لها أسباب أخرى إلى أن تنتهي إلى الحركة الدورية السماوية وسبب الحركة الدورية نفس السماوات

وسبب تحريك النفس الشوق إلى التشبه بالله والملائكة المقربين والكل معلوم له أي ينكشف له انكشافا واحدا متناسبا لا يؤثر فيه الزمان ومع هذا فحال الكسوف لا يقال: إنه يعلم أن الكسوف موجود الآن ولا يعلم بعده أنه انجلى الآن وكل ما يجب في معرفته الإضافة إلى الزمان فلا يتصور أن يعلمه لأنه يوجب التغير

وهذا فيما ينقسم بالزمان وكذا مذهبهم فيما ينقسم بالمادة والمكان كأشخاص الناس والحيوانات فإنهم يقولون: لا يعلم عوارض زيد وعمرو وخالد وإنما يعلم الإنسان المطلق بعلم كلي ويعلم عوارضه وخواصه وأنه ينبغي أن يكون بدنه مركبا من أعضاء: بعضها للبطش وبعضها للمشي وبعضها للإدراك وبعضها زوج وبعضها فرد وأن قواه ينبغي أن تكون مبثوثة في أجزائه وهلم جرا إلى كل صفة في داخل الآدمي وباطنه وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه حتى لا يعزب عن علمه شيء ويعلمه كليا

فأما شخص زيد فإنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلي

فأما قولنا: هذا وهذا فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة وذلك يستحيل في حقه

قال الغزالي: وهذه قاعدة اعتقدوها واستأصلوا بها الشرائع بالكلية إذ مضمونها أن زيدا مثلا لو أطاع الله أو عصاه لم يكن الله عالما بما يتجدد من أحواله لأنه لا يعرف زيدا بعينه فإنه شخص وأفعاله حادثة بعد أن لم تكن وإذا لم يعرف الشخص لم يعرف أحواله وأفعاله بل لا يعلم كفر زيد ولا إسلامه وإنما يعلم كفر الإنسان وإسلامه مطلقا كليا لا مخصوصا بالأشخاص بل يلزم أن يقال: تحدى محمد بالنبوة وهو لم يعرف في تلك الحال أنه تحدى بها وكذلك الحال مع كل نبي معين وإنه إنما يعلم أن من الناس من يتحدى بالنبوة وأن صفة أولئك كذا وكذا فأما النبي المعين بشخصه فلا يعرفه فإن ذلك يعرف بالحس والأحوال الصادرة منه لا يعرفها لأنها أحوال تنقسم بانقسام الزمان من شخص معين ويوجب إدراكها على اختلافها تغيرا

قال: فهذا ما أردنا أن نذكر من نقل مذهبهم أولا ومن تفهمه ثانيا ثم نبين ما فيه من القبائح اللازمة عليه ثالثا

قلت: قبائح مذهبهم أعظم وأكثر مما ذكره أبو حامد من وجوه كثيرة ومضمون حجتهم أن علم الرب بأحوال عباده يستلزم تنوع علمه بهم لتنوع المعلوم وأن ذلك تغير يمتنع على الله ولم يقيموا على امتناع مثل هذا المعنى حجة صحيحة: لا شرعية ولا عقلية

ولفظ التغير فيه إجمال كما ذكرناه في غير هذا الموضع والتغير الممتنع ما يكون فيه استحالة تتضمن نقصا

وأما ما ذكره من كون العلم يطابق المعلوم فيتنوع بتنوع حاله فهو صفة كمال وإلا كان العلم جهلا

وأما إذا سموا هذا تغيرا وادعوا أن ما دخل في هذا الاسم وجب نفيه فهو كتسميتهم إثبات الصفات تركيبا ودعواهم أن ما يدخل في ذلك يجب نفيه

والحجج العقلية إنما تعتبر فيها المعاني لا الألفاظ والحجج السمعية يعتبر فيها كلام المعصوم وليس في كلام الله ورسوله ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان ما ينفي هذا المعنى الذي سموه تركيبا وتغيرا بل النصوص المتواترة التي جاءت بها الأنبياء عن الله كلها تدل على إثبات ما نفوه من هذه المعاني ولو لم يكن إلا إثبات علمه بكل شيء علما مفصلا

وهذا القرآن فيه من إخبار الله بالأمور المفصلة عن الشخص المعين وكلامه المعين وفعله المعين وثوابه وعقابه المعين مثل قصة آدم ونوح وهود وصالح وموسى وغيرهم ما يبين أنهم من أعظم الناس تكذيبا لرسل الله تعالى

وكذلك أخباره عن أحوال محمد وما جرى ببدر وأحد والأحزاب والخندق والحديبية وغير ذلك من الأمور الجزئية أقوالا وأفعالا

وأخباره أنه يعلم السر وأخفى وأنه عليم بذات الصدور وأنه يعلم ما تنقص الأرض من الموتى وعنده كتاب حفيظ وأنه يعلم ما في السموات والأرض وأن ذلك في كتاب

وأنه ما: { تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام: 59 ]

وأنه يعلم ما: { تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة } [ الرعد: 8 - 9 ]

وأنه: { عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } [ لقمان: 34 ]

وأنه: { قضى أجلا وأجل مسمى عنده } [ الأنعام: 2 ]

وأنه: { يعلم ما يسرون وما يعلنون } [ النحل: 23 ]

وأنه: { أعلم بما يقولون } [ طه: 104 ]

إلى أمثال ذلك مما يطول ذكره في كتاب الله تعالى

ثم من أعظم الضلال والجهل أن ينفي النافي علم رب العالمين بمخلوقه لكون ذلك يستلزم ما يسمونه تغيرا وحلول حوادث

ثم نفي هذا المعنى لم يذهب إليه أحد من سلف الأمة ولا أئمتها وإنما يوافقهم عليه الجهمية

ومن تلقاه عن الجهمية من الكلابية ونحوهم فلا يقر بنفي ذلك إلا من هو من أهل الكلام المبتدع المذموم المحدث في الإسلام ومن تلقاه عنهم جهلا بحقيقته ولوازمه

وإذا كان علم الرب مستلزما لهذا كان هذا من أعظم البراهين على ثبوته وخطأ من نفاه شرعا وعقلا فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول إثبات العلم بكل شيء من الأعيان

فإذا تبين بصريح العقل أن ذلك يستلزم قيام هذه المعاني بالرب لزم القول بذلك كيف والقرآن قد دل على أنه يعلم الشيء بعد كونه مع علمه بأن سيكون في بعض عشرة آية وقد ثبت بالدلائل اليقينية أنه يعلم كل ما فعله وأنه بكل شيء عليم وهو مقتضى حجتهم

وأما زعمهم مع هذا أنه يعلم الكسوف وجميع صفاته وعوارضه

فيقال لهم: إن كان لا يعلم إلا كسوفا كليا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فهو لم يعلم شيئا من الكسوفات الموجودة وإن علم الكسوف الموجود فكل منها جزئي فلا يتصور أن يعلم الكسوف إلا مع علمه بالكسوفات الجزئية

كلام ابن سينا باطل من وجوه عدل

الوجه الأول عدل

وهذا الذي قاله باطل من وجوه: من جهة دعواه أنه مع علمه بالعلة التامة لوجود كل موجود لا يعلم شيئا من المعلولات الحادثة وإنما يعلم أمرا كليا لم يحدث ولا علة لوجوده فإن الكليات لا يوجد شيء منها إلا معينا فالعلة الموجبة له لا توجب إلا معينا جزئيا فمن لم يعلمه معينا جزئيا لم يعلم معلول العلة التامة

الوجه الثاني عدل

من جهة دعواه أنه إذا علم الكسوف على الوجه الكلي علم جميع صفاته وعوارضه وعلى هذا فيعلم وجود الإنسان علما كليا مع علمه بجميع صفاته وعوارضه وهذا باطل فإن الصفات والعوارض التي يتصف بها الإنسان وتعرض له لا يشترك فيها الإنسان بل ما من إنسان إلا وله صفات وعوارض لا يشركه فيها غيره كالسحنة والنغمة فلا يشرك اثنان في سحنة ولا نغمة

وهذا من دلائل ربوبيته وأنه بكل شيء عليم فيمتنع أن يعلم جميع ما يتصف به الإنسان ويعرض له علما كليا وكثير من ذلك بل أكثره علم يختص بالواحد من الناس جزئي لا يشركه فيه غيره وإن كان الناس يشتركون في أن لهذا رأسا ولهذا رأسا ولهذا قلبا وكبدا ولهذا قلبا وكبدا ولهذا وجها ولهذا وجها فما من شيئين من ذلك يستويان من كل وجه بل لكل من ذلك صفة تخصه فكيف يتصور أن يعلم تلك الخصائص من لا يعلم إلا الكليات المشتركة التي لا اختصاص فيها؟

الوجه الثالث عدل

أن هذه الجهات الحادثة من لوازم العلل التي يعلمها علما تاما فكيف يتصور مع علمه بالعلة التامة علما تاما أن لا يعلم لوازمها؟ ! وكل حادث بعينه هو من لوازمها فأحد الأمرين لازم: إما أن العلم بالعلة التامة لا يستلزم العلم بالمعلول وإلا فلا يكون عالما علما تاما بالعلة التامة

وكلا المقدمتين يسلمون صحتها فكيف يجوز أن يسلم هاتين المقدمتين اللتين يقوم عليهما البرهان اليقيني من ينازع في نتيجتهما اللازمة عنهما بالضرورة؟ ! وهل هذا إلا جهل بموجب البرهان القياسي في ذلك الذي هم دائما يقررونه مادة وصورة؟ !

الوجه الرابع عدل

أنهم يقولون: إن جميع الحوادث مستندة إلى حركة النفس الفلكية ويقولون: إن النفس الفلكية تعلم جزيئات حركات الفلك بل ادعى ابن سينا ومن اتبعه أنها تعلم جميع الحوادث لعلمها بأسبابها لأن سببها هو الحركة الفلكية والنفس الفلكية تعلم ذلك فتعلم المعلولات المسببة عنها وزعموا أن هذه النفس هي اللوح المحفوظ التي أخبرت به الأنبياء وأن المكاشفات التي تحصل في النوم واليقظة للأنبياء وغيرهم هي لاتصال نفوسهم بهذه النفس الفلكية

وأبو حامد ذكر هذا المعنى موافقة لهم في طائفة من كتبه واتبعه على ذلك طائفة من المتصوفة وصاروا يدعون الأخذ من اللوح المحفوظ ومنهم من يعرف مرادهم باللوح المحفوظ ومنهم من لا يعرف ذلك كما وقع ذلك في كلام غير واحد من متأخري الصوفية أتباع أبي حامد والمتفلسفة

هذا مع أن حركة الفلك ليست هي العلة التامة في حدوث الحوادث بل يفيض من العقل الفعال ما يفيض من الصور عند استعداد القوابل بحسب الحركة الفلكية فهل ما يقوله هؤلاء في علم الرب وعلم النفس الفلكية التي ادعوا أنها اللوح المحفوظ إلا من أعظم الأقوال تناقضا؟ ! حيث جعلوا ما هو بزعمهم جزءا لسبب للحوادث فادعوا أن العلم به يوجب العلم بجميع الحوادث الجزئية ثم العلة التامة عندهم لكل شيء من حادث وغيره قالوا: إن العلم التام به لا يوجب العلم بكل حادث وهم في النفس الفلكية محتاجون بعد إثباتها إلى كون حركة الفلك سببا لحدوث شيء

وهذا إذا سلم أو قامت عليه حجة لا يمكن أن يدعى أنه علة تامة باتفاقهم مع اتفاق أهل الملل فكيف يجعلون العلم بما ليس بعلة تامة للحوادث موجبا للعلم بجزئياتها؟ ويقولون: العلم التام بما هو علة لها لا يوجب العلم بها؟

ثم إذا كانت حركة الفلك صادرة عن الرب بوسط أو بغير وسط وهو يعلم نفسه ويعلم مفعولاته ولوازمها ولوزام لوازمها وذلك كله من مفعولاته بوسط أو بغير وسط فإما أن يعلمها مفصلة معينة أو لا يعلمها مفصلة فإن علمها مفصلة علم لوازمها فعلم جميع الحوادث مفصلة معينة وإن لم يعلمها مفصلة فلا ريب أن علمه بحركات الفلك أولى من علم النفس الفلكية بكل ما يحدث في الأرض فإن هذه أكثر اختلافا من حركات الفلك فالعلم بتلك أقرب إلى العلم الكلي وهو سبحانه أكمل في خلقه لها ولو بواسطة من إحداث النفس الفلكية لحوادث الأرض

ثم علم النفس الفلكية بالحركات: إما كمال وإما نقص فإن كان نقصا فينبغي تنزيه العالم العلوي منه وإن كان كمالا فخالقها أحق بذلك منها ثم تلك الحركات وتصورات النفس وإرادتها جميعها مفعولة للرب ومعلولة له على اصطلاحهم وهو الخالق لها والعلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول فيجب علمه بها وإذا علمها وهي سبب الحوادث - وجب علمه بالحوادث

ودعواهم مع عدم علمه بالجزئيات أنه يعلم كل صفة في داخل الآدمي وباطنه وكل ما هو من لواحقه وصفاته ولوازمه حتى لا يعزب عن علمه شيء ويعلمه كليا - دعوى اثنان في أمر موجود في الخارج بل ولا يتماثل شيئان من كل وجه وإن كانا يتشابهان من بعض الوجوه

فالعلم بما يتشابه فيه الناس علم ببعض صفاتهم الكلية ليس ذلك علما بجميع صفات كل واحد منهم ولا صفة كل واحد وعوارضه تماثل الآخر من كل وجه حتى يكون العلم بالقدر المشترك علما كليا يتناولهما بل لكل واحد خصائص لا يشاركه فيها غيره والعلم بالقدر المشترك لا يتناول شيئا من تلك الخصائص

والإنسان الموجود إنما كان هو الإنسان الموجود بخصائصه لا بالقدر المشترك بينه وبين غيره بل ذلك القدر المشترك إنما يكون في العلم لا يكون في الوجود فمن لم يعلم إلا الكلي - وهو القدر المشترك - لم يعلم شيئا من الموجودات البتة وإنما ننتفع نحن بالعلم الكلي في الأمور الموجودة إذا أدرجنا الموجودات في الأمر الكلي كما في علم الشرع والطب وغير ذلك فعلم الطبيب بأن السقمونيا تستخرج الصفراء وأن الدم يستخرج بالفصد والحجامة لا يوجب علما بما ينتفع به الناس إن لم يعلم أن هذا به صفراء وهذا قد زاد به الدم فإذا علم المعينات مع الكليات انتفع بعلمه وأمكن أن يكون له تأثير في الوجود ويصير علما فعليا أي هو شرط في الفعل

فأما العلم الكلي بدون العلم بالجزيئات التي يفعلها الفاعل فلا يكون علما فعليا ولا يؤثر في وجود شيء ولا في فعله

وبهذا يتبين أن قولهم: إن علم الرب تعالى فعلي مع إخراج الجزئيات الموجودة عنه تناقض يعرفه من تصور القولين

وعامة أقوال القوم متناقضة لكن ضلالهم في مسألة العلم عظيم جدا وهو من أقبح الكفر وأعظمه منافاة لصريح المعقول وما فطر الله عليه عباده

وقوله: إن شخص زيد إنما يتميز عن شخص عمرو للحس لا للعقل فإن عماد التمييز الإشارة إلى جهة معينة والعقل يعقل الجهة المطلقة الكلية والمكان الكلي فأما قولنا: هذا وهذا فهو إشارة إلى نسبة حاصلة لذلك المحسوس إلى الحاس بكونه منه على قرب أو بعد أو جهة معينة

فيقال لهم: من الذي فرق في حق الخالق تعالى بين الحس والعقل حتى وصفه بالعقل دون الحس؟ فإن كنتم تحتجون بالمعقولات التي تعرفونها فهي تبطل هذا الفرق وإن كنتم تعتصمون بالشرع فهو لم يطلق عليه اسم العقل ولا الحس لكن قال: لفظ العلم والسمع والبصر وبين أنه بكل شيء عليم وأنه سميع بصير والسمع والبصر هو مما يريدونه بلفظ الحس

فإن قلتم: أن علمه بالجزئيات المشخصة لا يمكن إلا مع رؤيته لها فلا محذور في إثبات رؤيته لكل مخلوق

وإذا قلتم: هذه المحسوسات في جهة والإحساس بها يقتضي كونها بجهة من الحاس على قرب أو بعد فهذا يناسب قولكم: إن ماليس في مكان ليس له نسبة إلى المكان

وحينئذ فيقال: أنتم تعلمون أن النفس لها تعلق للشعور والتدبير بالبدن الجزئي فإن ذلك يستلزم أن يكون الذي يحس البدن جسما فالنفس جسم وتدبير رب العالمين لمخلوقاته أعظم من تدبير النفس للبدن فإن النفس ليست مستقلة بتدبيره بل لها شركاء في قوى طبيعة وأسباب خارجية

وأما رب العالمين فلا شريك له في تدبير مخلوقاته فيكون علمه بهم ورؤيته لهم أعظم من علم النفس ببدنها وإدراكها له سواء سمي هذا وهذا حسا أو لم يسم

وما شاركتم فيه الجهمية من النفي لا ينفعكم وإنما تنفعكم الأدلة الصحيحة أو الشرعية وقد قدمنا غير مرة أنه ليس لكم دليل ينفي ما سميتموه تركيبا عن واجب الوجود ولا ما ينفي الصفات حتى أن الغزالي مع نفيه لكون الرب جسما بين أنه لا دليل لكم على ذلك وأنتم تقولون: لا دليل لنفاة المتكلمين على نفي ذلك كما قد حكي ذلك عن الفريقين في موضعه وبين ما ذكر في حجج الفريقين من الفساد العقلي والابتداع الشرعي

وأيضا فإذا كان لا يعلم إلا الأمور الكلية الأزلية الأبدية التي لا تقبل التغير فيجب أن لا يعلم أحدا من الأنبياء والرسل ولا شيئا مما أمروا به الناس فإنه ليس شيء من ذلك أزليا أبديا بل يجب أن لا يعرف وجود بني آدم ولا غيرهم من الحيوانات إلا إذا ثبت أن وجود لك لازم لوجود الأفلاك

ومعلوم أنهم ليس لهم دليل على قدم نوع من المركبات لا الإنسان ولا غيره من الحيوانات وإن اعتقدوا قدم الأفلاك فإن حدوث الحوادث السفلية هو عن حركات الأفلاك والحركات متنوعة وتحدث فيها أشكال غريبة فيجوز أن يكون حدوث ما حدث من الأنواع بسبب بعض الأشكال التي حدثت ولهذا يجوز عندهم تحول المعمور من الربع الشمالي إلى الجنوبي وغير ذلك من التغيرات العظيمة ويجب أن لا يكون له علم بالطوفانات العامة كطوفان نوح وغيره لأنه من هذا الباب بل يجب أن لا يكون عالما بشيء من أحوال الأفلاك وغيرها ما لم يثبت أن ذلك بعينه قديم أزلي

وهم لا دليل لهم على قدم شيء من العالم وإنما حججهم تدل على قدم نوع فعله لا على قدم شيء بعينه من المفعولات وقد قامت الأدلة على أن كل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن وإن قيل: إنه لم يزل متكلما فاعلا

وعلى هذا التقدير فلا يكون عالما بشيء من مخلوقاته إذ كلها حادثة وهم لا يعلمون شيئا من المحدثات ويجب أن لا يكون عالما بما يتكلم به وما يفعله مع قيام الدليل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته بل ولازم هذا القول أنه لم يفعل شيئا فإنه لا يفعل إلا بمشيئته ولا يشاء إلا مع علمه بما يشاؤه فإذا قدر أنه لم يعلم الفعل المعين والمفعول المعين لزم أنه لم يفعل شيئا ولزم أن كل من فعل بقدرته ومشيئته كان أكمل منه لأنه فعل بعلم وقدرة ومشيئة وهذا في صريح العقل أكمل ممن لا يفعل شيئا أو ممن يفعل بلا قدرة ولا مشيئة ولا علم

وأيضا فإنما يجوز أن يعلم المفعولات على وجه كلي أزلي أبدي لا يتغير أن لو كانت المخلوقات مخلوقة على هذا الوجه ولو كان كذلك لزم أن لا يكون في العالم شيء من الحوادث لأن حدوث الحادث بعد أن لم يكن إنما يكون عن حدوث تمام علته وحدوث تمام العلة لا بد له من سبب حادث وهو تمام علته التامة حتى ينتهي الأمر إليه تعالى فلا بد أن يحدث ما يكون تمام العلة التامة لحدوث الحوادث فإن قدر أنه لم يعلم إلا الأمر القديم الأزلي الأبدي امتنع أن يحدث شيئا لوجهين: أحدهما: أن الحادث لا يحدث عن قديم أزلي أبدي بدون حادث وهذا أصلهم الذي يقولون به

ثم نقول: إن جاز حدوث الحادث عن القديم جاز أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا ولزم حينئذ علمه بالمحدثات وإن لم يجز ذلك امتنع أن يحدث عن العلة القديمة التامة شيء من الحوادث فلا يحدث في العالم شيء وإذا بطل كون العالم مخلوقا عن علة أزلية لم يحدث عنها لزم أن الحوادث حدثت عند كمال الموجب لحدوثها وذلك بحدوث تمام الموجب لحدوثه وذلك يرجع إلى أمور قائمة به متعلقة بمشيئته وقدرته وحينئذ فيجب علمه بها لأنه من لوازم نفسه ولامتناع وجودها بدون العلم بها

وأيضا فلأن الحوادث إنما هي صادرة عنه سواء صدرت بوسط أو بغير وسط فإن لم يكن عالما بها على الوجه الذي حدثت عليه لم يكن عالما بعلتها التامة المستلزمة لحدوثها لأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بالمعلول فإذا قدر عدم العلم بالمعلول لزم عدم العلم بالعلة التامة وإذا امتنع العلم بالعلة التامة لزم أن ينتفي العلم بعلة العلة حتى يلزم عدم علمه التام بنفسه

وإذا قدر عالما بنفسه لزم علمه بكل حادث على الوجه الذي حدث عليه ولزم علمه بكل جزئي لأنه هو الفاعل له على هذا الوجه وإن كان بطريق اللزوم فإن علمه بالملزوم كفعله للملزوم والعلم التام بالملزوم يوجب العلم بلوازمه كما تقدم بيانه

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن صفة الإرادة ورد ابن تيمية عليه عدل

قال ابن رشد: وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها إذ كان من شرط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرا فأما أن يقال: إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة وشيء لا يعقله العلماء ولا يقنع الجمهور الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال: إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه كما قال تعالى: { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل: 40 ] فإنه ليس عند الجمهور شيء يضطرهم إلى أن يقولوا: إنه مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث

وقد تبين من قولنا: إن الحوادث التي توجب الحدوث للمحل الذي تقوم به هي الحوادث التي تغير جوهر الشيء وأما تحقيق إرادة الإله فمن علم الخواص الخاص بهم فهؤلاء أرادوا أن يفهموا الناس من الإرادة معنى غير المفهوم من معنى الإرادة المعروفة المفهومة التي صرح بها الشرع وهو معنى لا يفهمه الجمهور ولا تكيفه العقول وجعلوا ذلك أصلا من أصول الشريعة وكفروا من لم يقل به وإنما طور العلماء في هذا المقام أن يقوم البرهان عندهم أن هناك إرادة غير مكيفة لا يقال عنها: إنها إرادة قديمة يلزم عنها حادث ولا إرادة حادثة مثل التي في الشاهد بل هي إرادة العقول الإنسانية مقصرة عن تكييفها كما هي مقصرة عن تكييف سائر الصفات التي وصف بها نفسه لأنها متى كيفت أشبهت الصفات المكيفة المحدثة فوجب أن يصدق بجميعها بالدلائل البرهانية بلا كيف

قلت: أما كونها إرادة ليست مثل إرادة الخلق فهذا لا بد منه فيها وفي سائر الصفات هذا لا يختص بالإرادة كما أن الرب نفسه ليس كمثله شيء فصفاته كذاته

لكن مجرد نفي هذا لا ينازعه فيه أحد ومضمون كلامه الوقف عن الكلام في قدمها وحدوثها لا بيان حل الشبهة كما فعل في مسألة العلم

والفلاسفة الدهرية حائرون في هذا الموضع ومن يتكلم فيها تناقض كلامه لفساد الأصل الذي يبنون عليه وهو صدور الحوادث عن علة موجبة لمعلولها بوسط أو بغير وسط فإن هذا ممتنع بل هو جمع بين النقيضين لأن العلة التامة لا يتخلف عنها شيء من موجبها ولا موجب موجبها والحوادث متأخرة فلا يكون من موجبها ولا موجب موجبها فجعلها من موجبها أو موجب موجبها تناقض فإذا كانوا حائرين في أصل صدور الحوادث عنه فكيف في إرادته لها وعلمه بها؟

وما ذكره من أن نفاة المتكلمين لا دليل عندهم إلا ما ذكر من أن الذي تقوم به الحوادث حادث وما ذكره من إبطال دليلهم على ذلك هو له ألزم فإن الفلاسفة يقيموا على ذلك دليلا بحال إلا ما ينفي الصفات مطلقا

وقولهم في ذلك باطل متناقض إلى الغاية كما قد بين في موضعه وكلامه يتضمن إثبات الصفات فإذا كان من أصلهم أن القديم قد يقوم به الحادث مع أنه تقوم الصفات بالواجب القديم كان ما ألزمه لنفاة المتكلمين له ألزم

قال: فإن قيل: فصفة الكلام من أين تثبت له؟

قلنا: تثبت له من قيام الصفة العلم به وصفة القدرة على الاختراع فإن الكلام ليس شيئا أكثر من أن يفعل المتكلم فعلا يدل عند المخاطب على العلم الذي في نفسه ويصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه وذلك فعل من جملة أفعال الفاعل

قلت: الكلام ليس هو من نفس التكليم فليس كل متكلم مخاطبا لغيره والنظر أولا في إثبات كونه متكلما ثم في إثبات كونه مكلما لغيره وما ذكره إنما هو في إثبات كونه مكلما لغيره ثم إنه لم يذكر إلا مجرد الإعلام والإفهام والدلالة بأي طريق كان وما يسمى إعلاما وإفهاما ويسمى تكليما مع الإطلاق أو التقييد درجات

كما قال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } [ الشورى: 51 ] فالتكلم من وراء حجاب كما كلم موسى وبإرسال ملك كما أرسل جبريل بالقرآن أعظم من مجرد الإيحاء

كما قال: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } [ القصص: 7 ]

وقال: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة: 111 ]

ولا ريب أن الدلالة على مراتب: أحدها: أن يدل الدليل بغير شعور منه ولا قصد فهذا الذي يسمى لسان الحال وكل ما يسمى دليلا فيسمى بهذا الإعتبار شاهدا ومعرفا وقائلا كما قال :

امتلأ الحوض وقال قطني

قطني رويدا قد ملأت بطني

وقالت: انساع بطنه

وقال الحائط للوتد: لم تشقني؟

ولا يجوز أن يجعل تكليم الله من هذا الباب عند المسلمين وقد يجعل تكليمه من هذا الباب من يقول: إنه لا يعلم الجزئيات

والدرجة الثانية: أن يكون الدال عالما بالمدلول عليه لكنه لم يقصد إفهام مخاطب ولكن حاله دل المستدل على ما علمه كالأصوات التي تدل بالطبع مثل البكاء والضحك ونحوهما فإنها تدل على ما يعلمه المرء من نفسه مثل الحزن والفرح وكذلك صفرة الوجل وحمرة الخجل تدل على ما يعلمه المرء من فزعه وحيائه وإن لم يقصد الإعلام بذلك

ومن هذا الباب قول الشاعر :

تحدثني العينان ما القلب كاتم... ولا خير في الشحناء والنظر الشزر

وقول الآخر :

والعين تعلم من عيني محدثها... إن كان من حزبها أو من أعاديها

ومن هذا الباب قوله تعالى: { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } [ محمد: 30 ] فهو يعلم من السيماء ومن لحن القول ما لم يقصدوا الإعلام به

وتكليم الله عند المسلمين لا يجوز أن يكون من هذا الباب اللهم إلا عند القدرية الذين يقولون: إن ما يحدث من علم العبد قد يحدث بدون إرادة الله

والدرجة الثالثة: الدلالة التي يقصدها الدال: فمنها: الإعلام بغير خطاب مسموع كمن يعلم لغيره علامات تدله على ما يريد وكإشارة الأخرس ونحو ذلك فالله تعالى قد يعلم عباده بأنواع كثيرة من الدلائل والإعلام

وهذا هو الذي أثبته المذكور ولكن لازم هذا أن يكون كل من علم علما فقد كلمه الله فإنه قد نصب دليلا أيعرفه بذلك والله عالم به وهو مريد لما وقع

ولهذا قال: وقد يكون من تكليم الله ما يلقيه إلى العلماء بواسطة البراهين لكن من الناس من يستشعر أن الله هداه إلى ذلك وعلمه إياه بما نصبه من الأدلة ومن الناس من قد يعرض عن ذلك ولا ينظر إلا إلى ما دله وقد يقع بنفس الإنسان من ذلك مالا يعرف عليه دليلا معينا

ومعلوم أن جعل كلام الله ليس إلا من هذا النوع خطأ بل هذا النوع ليس هو الإيحاء المذكور في القرآن فإن ذاك إيحاء بما يؤمر به

كما قال تعالى: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي } [ المائدة: 111 ]

وقال: { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } [ القصص: 7 ]

بل إيحاء النحل ليس مقتصرا على هذا فإن ذاك أيضا إيحاء بما يريد أن يفعل وهذا ليس فيه إلا مجرد الإعلام

والتكليم للغير قد يكون مجرد إخبار له وإعلام وقد يكون طلبا منه لفعل أو لترك: إما لمصلحته وإما لمجرد إرادة الأمر وهذا النوع من التكلم مستلزم للأول والأول لا يستلزم هذا فليس كل من أعلم بشيء أمر بشيء وكل من أمر بشيء فقد أعلم بالمأمور به وهو لم يذكر إلا مجرد الإعلام فاقتصر على أدنى نوعي التعليم في آخر درجات التكليم

وهذا الذي ذكره غاية ما يثبته القائلون بقدم العالم من المتفلسفة والصابئة ونحوهم والذين يقولون: إن الله يتكلم بكلام مخلوق يخلقه في غيره خير من هؤلاء

وهذا الدرجة أرفع من درجة مجرد الإعلام مع قصده العلم لأن هذا إعلام بكلام منظوم مسموع وهذا أبلغ من إعلام بمجرد ما يقع في النفس فإذا كان من لم يثبت لله كلاما إلا كلاما مخلوقا في غيره مع أنه حروف منظومة من أضل الناس عند سلف الأمة وأئمتها فكيف من لم يثبت إلا مجرد الإعلام؟

وأهل السنة لا ينازعون في أن مثل هذا الإعلام واقع من جهة الله تعالى ولكن يقولون: ليس كلامه وتكليمه هو هذا فقط بل هذا يحصل لعموم الخلق

وأما تكليمه من وراء حجاب أو بإرسال رسول فهذا مخصوص بالأنبياء وهؤلاء المتفلسفة يجعلون النبوة من جنس ما يحصل لعلماء الفلاسفة الكاملين عندهم

ومن هذا صار كثير من متصوفة الفلاسفة يطمعون في النبوة أو فيما هو أعلى منها عندهم كما حدثونا عن السهروردي المقتول أنه كان يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر

وكذلك ابن سبعين كان يقول: لقد زرب ابن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي

وابن عربي صاحب الفتوحات المكية كان يتكلم في خاتم الأولياء ويقول: إنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء وإن الأنبياء جميعهم يستفيدون العلم بالله من جهة هذا المسمى بخاتم الأولياء والعلم بالله عندهم هو القول بوحدة الوجود كما قد عرف من قول هؤلاء ويقول :

مقام النبوة في برزخ... فويق الرسول ودون الولي

ويقول: إن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول وهذا على أصل هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يجعلون الملائكة ما يتمثل في نفس النبي من الصور الخيالية النورانية وكلام الله ما يحصل في نفسه من ذلك فالنبي عندهم يأخذ عن هذه الأمثلة الخيالية في نفسه الدالة على العلم العقلي والولي يأخذ العلم العقلي المجرد ولهذا يجعلون تكليم الله لأحدهم أفضل من تكليمه لموسى بن عمران لأن موسى كلم عندهم بحجاب الحرف والصوف أي بخطاب كان في نفسه ليس خارجا عن نفسه ويقول بعضهم كلم من سماء عقله وأحدهم يكلم بدون هذا الحجاب وهو إلهامه المعاني المجردة في نفسه

وصاحب خلع النعلين وأمثاله يسلكون هذا المسلك

وهؤلاء أخذوا من مشكاة الأنوار التي بناها واضعها على قانون الفلاسفة وجعل تكليم الله لموسى من جنس ما يلهمه النفوس من العلوم

ولما كان ابن رشد هذا يعتقد في الباطن ما يعتقده من مقالات المتفلسفة كانت غايته فيما أثبته من كلام الله هو من جنس الإعلام العام الذي يشترك فيه نوع الإنسان

ولهذا كانت اليهود والنصارى أعظم إيمانا بالله وأنبيائه ودينه وبالآخرة من الفلاسفة لكن في اليهود والنصارى من يسلك مسلك هؤلاء المتفلسفة فيجتمع فيه الضلالان

واليهود والنصارى آمنوا ببعض ما أنزل الله وكفروا ببعض كما قال تعالى: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا } [ النساء: 150 - 151 ]

لكن أولئك آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض وهؤلاء المتفلسفة قد يقرون بجميع الأنبياء والكتب لكن هم في إيمانهم بجنس الأنبياء والكتب يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فخيارهم يؤمنون بدرجة من درجات إعلام الله وإيحائه إلى عباده كما ذكر ابن سينا وابن رشد وأمثالهما ولا يؤمنون بما فوق ذلك

وكذلك فيما أخبرت به الرسل من الغيب: يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وكذلك فيما أمروا به فهم يؤمنون ببعض نوع الرسالة ويكفرون ببعض

ولهذا قد يكون اليهود والنصارى خيرا منهم وقد يكون خيارهم أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى من بعض الوجوه ويكونون من هذا الوجه خيرا من اليهود والنصارى

ومعلوم أن المنافقين الداخلين في الإسلام فيهم من هو شر من اليهود والنصارى وفيهم من يكون نفاقه أخف من كفر اليهود والنصارى

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55