كلام ابن رشد في ضميمة في مسألة العلم القديم ورد ابن تيمية عليه

فقال لمن راسله: لما فقتم بجودة ذهنكم وكرم طبعكم كثيرا ممن يتعاطى هذه العلوم وانتهى نظركم السديد إلى أن وقفتم على الشك العارض في العلم القديم مع كونه متعلقا بالأشياء المحدثة وجب علينا لمكان الحق ولمكان إزالة الشك والشبهة عنكم أن تحل هذا الشك بعد أن نقول في تقريره فإن لم يعرف الربط لم يقدر على الحل والشك يلزم هكذا إن كانت الأشياء كلها في علم الله تعالى قبل أن تكون فهل هي في علمه في حال كونها كما كانت عليه قبل أن توجد؟

فإن قلنا: إنها في علم الله تعالى في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد لزم أن يكون العلم القديم متغيرا وأن تكون إذا خرجت من العدم إلى الوجود فقد حدث هناك علم زائد وذلك مستحيل على العلم القديم

وإن قلنا: إن العلم القديم فيها واحد في الحالين

قيل: فهل هي في نفسها - أعني الموجودات الحادثة قبل أن توجد - كما هي حين وجدت؟ فيجب أن يقال: ليست في نفسها قبل أن توجد كما هي حين وجدت وإلا كان المعدوم والموجود واحدا

فإذا سلم الخصم هذا قيل له: أفليس العلم الحقيقي هو معرفة الوجود على ما هو عليه؟

فإذا قال: نعم

قيل: فيجب على هذا إذا اختلف الشيء في نفسه أن يكون العلم به يختلف وإلا فقد علم على غير ما هو عليه فإذا يجب أحد الأمرين: إما أن يختلف العلم القديم في نفسه أو تكون الحودث غير معلومة وكلا الأمرين مستحيل عليه سبحانه

ويؤكد هذا الشك ما يظهر من حال الإنسان أعني من تعلق علمه بالأشياء المعدومة على تقدير الوجود وتعلق علمه بها إذا وجدت فإنه من البين بنفسه أن العلمين يتغايران وإلا كان جاهلا بوجودهما في الوقت الذي وجدت فيه وليس ينجي من هذا ما جرت به عادة المتكلمين في الجواب عن هذا بأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل كونها على ما تكون عليه في كونها من زمان ومكان وغير ذلك من الصفة المختصة به بوجود موجود

فإنه يقال لهم: إذا وجدت فهل حدث هنالك تغير أو لم يحدث وهو خروج الشيء من العدم إلى الوجود؟

فإن قالوا: لم يحدث فقد كابروا

وإن قالوا: حدث هنالك تغير

قيل لهم: فهل حدوث هذا التغير معلوم للقديم أم لا؟ فيلزم الشك المتقدم

وبالجملة فيعسر أن ستصور أن العلم بالشيء قبل أن يوجد وأن العلم به بعد أن وجد علم واحد بعينه فهذا هو تقرير هذا الشك

قال: وقد رام الإمام أبو حامد الغزالي حل هذا الشك في كتابه الموسوم بـ تهافت الفلاسفة بشيء ليس فيه منتفع وذلك أنه قال قولا معناه هذا وهو أنه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف وكما أنه قد يتغير أحد المتضايفين ولا يتغير هذا الآخر في نفسه كذلك يشبه أن يعرض للأشياء في علم الله سبحانه وتعالى أعني أن تتغير في أنفسها ولا يتغير علمه سبحانه وتعالى بها

ومثال ذلك في المضاف: أنه قد تكون الاسطوانة الواحدة يمنة زيد ثم تعود يسرته وزيد بعد لم يتغير في نفسه

قال: وليس هذا بصادق فإن الإضافة قد تغيرت في نفسها وذلك أن الإضافة التي كانت يمنة قد عادت يسرة وإنما الذي لم يتغير موضع الإضافة أعني الحامل لها الذي هو زيد

وإن كان كذلك وكان العلم هو نفس إضافة فقد يجب أن يتغير عند تغير المعلوم كما تتغير الإضافة: إضافته الاسطوانة إلى زيد عند تغيرها في نفسها وذلك أنها عادت يسرة بعد أن كانت يمنة

قال: والذي ينحل به هذا الشك عندنا هو أن يعرف أن الحال في العلم القديم مع الموجود بخلاف الحال في العلم المحدث مع الموجود وذلك أو وجد الموجود هو علة وسبب لعلمنا والعلم القديم هو علة وسبب للموجود فلو كان إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد فقد حدث في العلم القديم علم زائد كما يحدث ذلك في العلم المحدث للزم أن يكون العلم القديم معلولا للموجود لا علة له فإذا وجب أن لا يحدث هنالك تغير كما يحدث في العلم المحدث

وأنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث وهو قياس الغائب على الشاهد وقد عرف فساد هذا القياس

وكما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له أعني تغيرا لم يكن قبل ذلك كذلك لا يحدث في العلم القديم تغير عند حدوث مفعوله عنه

فإذا قد انحل هذا الشك ولم يلزمنا أنه إذا لم يحدث هنالك تغير أعني في العلم القديم فليس يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه وإنما لزم أنه لا يعلمه بعلم محدث بل لا يعلمه إلا بعلم قديم كما ظن أنه لازم من ذلك القول لأن حدوث التغير في العلم عندنا بتغير الموجود إنما هو شرط في العلم المعلول عن الموجود وهو العلم المحدث

فإذا العلم القديم إنما يتعلق بالموجود على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث لا أنه غير متعلق أصلا كما حكى عن الفلاسفة أنهم لموضع هذا الشك قالوا: إنه لا يعلم الجزئيات

ولي الأمر كما توهم عليهم بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها ويعلمها بالعلم القديم الذي ليس من شرطه الحدوث بحدوثها إذا كان علة لها لا معلولا عنها كالحال في العلم المحدث

وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به فإنه إذا قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء من جهة أن صدورها عنه إنما هو من جهة أنه عالم لا من جهة أنه موجود فقط أو موجود بصفة كذا بل من جهة أنه عالم كما قال تعالى: { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك: 14 ]

وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم بالمحدث فواجب أن يكون هناك بالموجودات علم آخر لا يكيف وهو العلم القديم

قال: وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات وهم يرون أنه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع الإلهامات

قال: فهذا ما ظهر لنا في وجه هذا الشك وهو أمر لا مرية فيه ولا شك

قلت: لقائل أن يقول: ليس فيما ذكره جواب وذلك أن تفريقه بين العلم القديم والعلم المحدث بأن ذلك سبب للوجود وهذا سبب عنه - هو قول تقوله طائفة من الفلسفة وقد عارضهم طائفة من المتكلمين فزعموا أن ليس في العلم ما هو سبب لوجود الموجود بل العلم يطابق المعلوم على ما هو عليه فلا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة

وأولئك يقولون: علمه فعل وهؤلاء يمنعون ذلك

والتحقيق أن كلا من العلمين: علم الخالق وعلم المخلوق ينقسم إلى ما يكون له تأثير في وجود معلومه وإلى ما لا يكون كذلك فما لا يكون كذلك علم الله بنفسه سبحانه فإن هذا العلم ليس سببا لهذا الموجود فلا يجوز إطلاق القول بأن ذلك العلم سبب للوجود مطلقا

وكذلك علمنا بمخلوقات الله التي لا أثر لنا فيها كالسماوات

وأما الثاني فعلم الله بمخلوقاته فإن خلق المخلوقات مشروط بالعلم بها كما قال: { ألا يعلم من خلق } [ الملك: 14 ] فالعلم بها شرط في وجودها لكن ليس هو وحده العلة في وجودها بل لا بد من القدرة والمشيئة

ومن هنا ضل هؤلاء المتفلسفة فجعلوا مجرد العلم بنظام المخلوقات موجبا لوجوده ولم يجعلوا للقدرة والمشيئة أثرا مع أن تأثير القدرة والمشيئة في ذلك أظهر من تأثير العلم مع أنهم متناقضون في ذلك فإنهم قد يثبتون العناية والمشيئة تارة وينفوها تارة

وعلم العبد بما يريد فعله من أفعاله هو أيضا شرط في وجود المعلوم فهذا العلم بهذا المحدث شرط في حصوله والمعلوم تابع للعلم المحدث هنا فليس وجود كل معلوم لنا هو علة وسببا لعلمنا مطلقا بل يفرق في ذلك بين العلم النظري والعلم العملي فبطل هذا الفرق

ثم يقال أيضا: لا ريب أن الفاعل إذا أراد أن يفعل أمرا فعلم ما يريد أن يفعل لم يكن هذا هو العلم بأن سيكون فإنه ليس كل من تصور ما يريد أن يفعل يعلم أن سيكون ما يريده بل الواحد منا يتصور أشياء يريدها ولا يعلم أنها تكون بل لا تكون ثم إذا علم العالم أن الشيء سيكون ثم كان علم أنه قد كان

فهنا في حقنا ثلاثة علوم وهو إنما ذكر في حق الله العلم المشروط في الفعل وهو الذي لا يكون المريد مريدا حتى يحصل ذلك فإن الإرادة مشروطة بتصور المراد

أما العلم بأن سيكون المراد فهذا لا يثبت بمجرد ما ذكره فإن هذا علم خبري وذاك علم طلبي ثم إذا ثبت هذا العلم جاء الشك وهو أنه هل يكون هذا العلم هو نفس العلم بوقوعه إذا وقع أم لا؟

والمتكلمون تكلموا في هذين العلمين وأرادوا جعل أحدهما هو الآخر فكانوا أقرب إلى الصواب ممن جعل العلم بما يريده هو العلم بأن سيكون المراد وذلك هو العلم بأن قد كان

فتبين أن طريقة المتكلمين أقل إشكالا وأقرب إلى الصواب

وأيضا فيقال له: العالم بما يريد أن يفعل إذا فعله علم أنه سيكون ثم علم أن قد كان لم يخرج بذلك عن أن يكون العلم القديم شرطا في وجود المعلوم وهو من تمام علة وجوده إذا كانت نفسه مستلزمة لعلمه بالموجود بشرط فعله لها كما في سمعه وبصره لم يكن شيء من أحواله معلولا لغيره

فقوله: يلزم أن يكون العلم القديم معلولا للوجود لا علة له - ليس بلازم

وأما ما ذكره من نفي التغير فهو قد طعن في دليل المتكلمين على نفيه ولم يذكر هو دليلا على نفيه فبقي نفيه له بلا حجة أصلا إلا قوله: يلزم أن يكون العلم القديم معلولا للوجود لا علة له وليس هذا بصحيح فإنه بتقدير تجدد علم ثان لا يخرج العلم الذي به كان الفاعل فاعلا عن أن يكون علة

وأيضا فعلم الله لازم لذاته وهو الذي فعل الموجودات فإذا قيل إن ذاته أوجبت له هذا العلم بشرط فعله ما فعل لم يكن ذلك موجبا لافتقاره في العلم إلى غيره

وقوله: إنما أتى هذا من قياس الغائب على الشاهد

فيقال: جميع ما تذكره أنت وأصحابك والمتكلمون في هذا الباب لا بد فيه من مقدمة كلية تتناول الغائب والشاهد ولولا ما يوجد في الشاهد من ذلك لما تصور من الغائب شيء أصلا فضلا عن معرفة حكمه فإن أبطلت هذا بطل جميع كلامكم

وأما قوله: كما لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعول له كذلك في العلم عند حدوث مفعوله

فيقال له: أنت قد أبطلت دليل المتكلمين على هذا الأصل الذي قاسوا عليه ولم تذكر لك عليه دليلا فإن أولئك بنوه على أن ما لا يسبق الحوادث حادث وهذا ثبت بطلانه فيجوز عندك أن تقوم الحوادث بالقديم وإذا كان كذلك لم يمتنع عندك أن يتجدد للفاعل القديم عند فعله حال من الأحوال بل أنت قد بينت في غير موضع أنه لا يعقل صدور الحوادث عن المحدث بدون هذا

وأما قوله: لا يلزمنا إذا لم يحدث هناك تغير أن لا يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه

فيقال: هذا لك ألزم منه للمتكلمين لأنك ألزمتهم أن العلم بأن ما سيكون قد كان ومعلوم أن العلم بما نريد أن نفعل ليس هو العلم بأن سيكون ولا بأن قد كان

فإن نفيت علمه بأن ستكون الموجودات قبل وجودها وعلمه بأن قد كانت بعد وجودها - كان هذا أعظم عليك وإن جعلت ذلك هو نفس علمه بما يريد فعله كان جعلهم العلم بالشيء قبل كونه واحدا أقرب إلى العقل

وأما قوله: حدوث التغير في العلم عندما يتغير الموجود هو شرط في العلم المعلول عن الموجود وهو المحدث

فيقال له: هذا ضعيف لوجهين :

أحدهما: أن ما ذكرته من الدليل لا يفرق

الثاني: أنه يلزم علم العبد بما يريد أن يفعله فإنه متقدم على المعلوم به الموجود وهو متغير فليس هو معلولا عن الموجود فتبين أن كونه سببا في الوجود أو تابعا له لا يمنع ما ذكر من التغير

وعلم الرب تبارك وتعالى لا يجوز أن يكون مستفادا من شيء من الموجودات فإن علمه من لوازم ذاته فعلم العبد يفتقر إلى سبب يحدثه وإلى المعلوم الذي هو الرب تعالى أو بعض مخلوقاته وعلم الرب لازم له من جهة أن نفسه مستلزمة للعلم والمعلوم: إما نفسه المقدسة وإما معلوماته التي علمها قبل خلقها

وهذه المسألة: مسألة تعلق صفاته بالمخلوقات بعد وجودها تعلق العلم والسمع والبصر ونحو ذلك هي مسألة كبيرة

والناس متفقون على تجدد نسب وإضافات لا تقوم بذات الرب وتنازعوا فيما يقوم بذات الرب وهذا كما تنازعوا في الاستواء ونحوه: هل هو مفعول للرب يحدثه في المخلوقات من غير قيام أمر به؟ أم يقوم به أمر؟ على القولين

فالكلابية والمعتزلة ينفون أن يقوم بالرب شيء من ذلك وأكثر أهل الحديث وكثير من أهل الكلام يجوزون ذلك وأما النسب والإضافات فتتجدد باتفاقهم وابن عقيل يسمي هذه النسب والإضافات الأحوال ولعله سماها بذلك كما يسمى غيره كونه عالما وقادرا حالا معللة بالعلم والقدرة كما هي طريقة القاضي أبي بكر ومن وافقه كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهما

وهؤلاء يقولون - تبعا لأبي هاشم - إن الحال لا موجودة ولا معدومة وكذلك هذه النسب والإضافات على قولهم أو أن يكون ابن عقيل شبه ذلك بالأحوال التي يثبتها أبو هاشم ويجعلها لا موجودة ولا معدومة كذلك هذه النسب والإضافات

ولأهل الحديث والتفسير والكلام وغيرهم من الكلام في هذه المسألة ما هو معروف ولهذا صار طائفة من أهل الكلام كهشام بن الحكم والجهم وأبي الحسين البصري والرازي وغيرهم - إلى إثبات أمور متجددة

والكلام على هذا متعلق بما ذكره الله في القرآن في غير موضع كقوله: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } [ البقرة: 143 ]

وقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [ آل عمران: 142 ]

وقوله: { وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء } [ آل عمران: 140 ]

وقوله: { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } [ آل عمران: 165 ] إلى قوله: { فبإذن الله وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا } [ آل عمران: 165 - 166 ] الآية

وقوله: { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا } [ الكهف: 12 ]

وقوله: { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } إلى قوله: { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } [ العنكبوت: 3 - 11 ]

وغير ذلك في كتاب الله هذا مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن الله عالم بما سيكون قبل أن يكون

وقد نص الأئمة على أن من أنكر العلم القديم فهو كافر ومن هؤلاء غلاة القدرية الذين ينكرون علمه بأفعال العباد قبل أن يعملوها والقائلون بالبداء من الرافضة ونحوهم

وإنما المسألة الدقيقة أنه عند وجود المسموع والمرئي والمعلوم إذا سمعه ورآه علمه موجودا فهل هذا عين ما كان موجودا قبل وجود ذلك؟ أو هناك معنى زائد؟

وأما قول من قال من الفلاسفة: إنه لا يعلم إلا الكليات فهذا من أخبث الأقوال وشرها ولهذا لم يقل به أحد من طوائف الملة وهؤلاء شر من المنكرين لعلم القديم من القدرية وغيرهم

وأما ما ذكره من أن الفلاسفة لا يقولون: إنه لا يعلم الجزئيات بل يرون أنه لا يعلمها بالعلم المحدث وإنكاره أن يكون المشاؤون من الفلاسفة ينكرون علمه بجزيئات العالم فهذا يدل على فرط تعصبه لهؤلاء الفلاسفة بالباطل وعدم معرفته بحقيقة مذهبهم فإنه دائما يتعصب لأرسطو صاحب التعالىم المنطقية والإلهية وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه ما بعد الطبيعة وقد ذكر بألفاظه أبو البركات صاحب المعتبر وغيره ورد ذلك عليه أبو البركات مع تعظيمه له

وأرسطو ينكر علم الرب بشيء من الحوادث مطلقا وكلامه في ذلك وحججه من أفسد الكلام كما سنذكره إن شاء الله

ولكن ابن سينا وأمثاله زعموا أنه إنما يعلم الكليات والجزئيات: يعلمها على وجه كلي وهؤلاء فروا من وقوع التغير في علمه

وأما من قبل أرسطو من المشائين فلا ريب أن في كلامهم ما هو خير وأقرب إلى الأنبياء من كلام أرسطو ولهذا نقل عنهم أنهم كانوا يقولون بحدوث الأفلاك وأن أرسطو أول من قال بقدمها من المشائين

وأما احتجاجه على إثبات علم الرب بالجزئيات بالإنذارات والمنامات فاستدلال ضعيف فإن ابن سينا وأمثاله يدعون أن ما يحصل للنفوس البشرية من العلم والإنذارات والمنامات إنما هو فيض العقل الفعال والنفس الفلكية وإذا أرادوا أن يجمعوا بين الشريعة والفلسفة قالوا: إن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ كما يوجد مثل ذلك في كلام أبي حامد في كتاب الإحياء والمضنون وغير ذلك من كتبه وكما يوجد في كلام من سلك سبيله من الشيوخ المتفلسفة المتصوفة يذكرون اللوح المحفوظ ومرادهم به النفس الفلكية ويدعون أن العارف قد يقرأ ما في اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه

ومن علم دين الإسلام الذي بعث الله به رسله علم أن هذا من أبعد الأمور عن دين الإسلام كما قد بسط في موضع آخر إذ تنزيهه هنا للفلاسفة المشائين عن أن يكون هذا كلامهم هو تعصب جسيم منه لهم

وهذا نظر سيء في نقل أقوال الناس وليس تحقيق هذا من غرضنا هنا

والفلاسفة طوائف متفرقون لا يجمعهم قول ولا مذهب بل هم مختلفون أكثر من إاتلاف فرق اليهود والنصارى والمجوس وكلام المشائين في الإلهيات كلام قليل الفائدة وكثير منه بلا حجة

والنقل المذكور موجود في كتب المتبعين لهم كابن سينا وأضرابه وقد نظرت فيما نقل عنهم من الأقوال في العلم فوجدتها عدة مقالات لكن من الناس من يحكي عنهم قولين أو ثلاثة ومن الناس من لا يحكي إلا قولا واحدا وقد وجدت أربعة مقالات منقولة عنهم صريحا في كتب متعددة

فنقل طائفة عنهم ك الشهرستاني وغيره في العلم ثلاث مقالات

قالوا: ذهب قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات وهي غير معلومة عنده أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال

وذهب قوم منهم إلى أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات

وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعا على وجه لا يتطرق إلى علمه نقص وقصور

فهذا القول الثالث هو شبيه بالقول الذي اختاره ابن رشد وأما القول الثاني والأول فهما اللذان حكاهما الغزالي عن الفلاسفة

قال: منهم من قال: لا يعلم إلا ذاته ومنهم من يسلم أنه يعلم غير ذاته

قال: وهو الذي اختاره ابن سينا فإنه زعم أنه يعلم الأشياء كلها بنوع كلي لا يدخل تحت الزمان ولا يعلم الجزئيات التي يوجب تجدد الإحاطة بها تغيرا في ذات العالم وذكر الغزالي أنهم اتفقوا على أنه لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن وما كان ويكون

قال: فمن ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه لا يخفى فساد هذا من مذهبه ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره كما اختاره ابن سينا فقد زعم أنه يعلم الأشياء علما كليا لا يدخل تحت الزمان ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي

قلت: ول أبي البركات صاحب المعتبر مقالة في العلم رد فيها على أرسطو ونصر فيها أنه يعلم الكليات والجزئيات

وما ذكره ابن رشد عنهم من أنهم يرون أن العلم سبب الإنذار بالجزئيات

فيقال: أما الفلسفة الموجودة في كتب ابن سينا وأمثاله ففيها أن ذلك من العقل الفعال والنفس الفلكية وعندهم ذلك هو المنذر بذلك ويسمون ذلك اللوح المحفوظ ومن ذلك ينزل عندهم الوحي على الأنبياء ومن ذلك كلم موسى وكثير من المتصوفة الذين سلكوا مسلكهم قد دخل ذلك في كلامهم

فإن كان فريق غير هؤلاء المتفلسفة يجعله ذلك من علم الله فلا ريب أن من جعل الله منذرا لعباده بالجزئيات لزم أن يكون عالما بها فإن الإعلام بالشيء فرع على العلم به وهذا ما يثبت القول الثالث المحكي عنهم

وذكر أبو البركات في معتبره الأقوال الثلاثة: قول من قال: لا يعلم إلا ذاته وذكره عن أرسطو وذكر ألفاظه وابن رشد هو يعظم أرسطو إلى الغاية وهو من أعظم الفلاسفة عنده فكيف ينفي هذا القول عنهم؟ !

وذكر أبو البركات قول ابن سينا وذكر عنهم القول الثالث وهو أنه يعرف ذاته وسائر مخلوقاته في سائر الأوقات على اختلاف الحالات مما هو كائن وما هو آت

وهذا القول ينزع إلى قولين: أحدهما: القول الذي اختاره ابن رشد الذي قربه من التغير ولم يجب عنه والثاني التزام هذا اللازم وبيان أنه ليس بمحذور وهذا قد اختاره أبو البركات كما يختاره طوائف من المتكلمين كأبي الحسين والرازي وغيرهما وكما هو معنى ما دل عليه الكتاب والسنة وذكره أئمة السنة

فصارت الأقوال للفلاسفة في علم الله أربعة أقوال بل خمسة بل ستة بل سبعة وأكثر من ذلك القول الذي ذكره ابن سينا والقول الذي اختاره ابن رشد والقول الذي اختاره أبو البركات وهذان القولان هما القولان اللذان يقولهما نظار المسلمين

وقول أرسطو وابن سينا فلا يمكن أن يقولهما مسلم ولهذا كان ذلك مما كفرهم به الغزالي وغيره فضلا عن أئمة المسلمين ك مالك والشافعي وأحمد فإنهم كفروا غلاة القدرية الذين أنكروا علمه بالأفعال الجزئية قبل وجودها فكيف من أنكر علمه بالجزئيات كلها قبل وجودها وبعد وجودها؟

وللسهروردي المقتول قول آخر سنحكيه بعد إن شاء الله وكذلك ل الطوسي قول قريب منه مضمونه أن العلم ليس صفة له بل هو نفس المعلومات

كلام ابن ملكا في المعتبر عن مسألة عدم الله وتعليق ابن تيمية عليه

قال أبو البركات: فأما معرفته وعلمه فقد اختلف فيه كثير من العلماء من المحدثين والقدماء يعني علماء النظار من الفلاسفة لا يعني به أتباع الأنبياء

قال: فقال قوم منهم: إنه لا يعرف ولا يعلم سوى ذاته وصفاته التي له بذاته وقال آخرون: بل يعرف ذاته وسائر مخلوقاته في سائر الأوقات على اختلاف الحالات فيما هو كائن وفيما هو آت وقال آخرون: بل يعرف ذاته بذاته والصفات الكلية من مخلوقاته والذات الدائمة الوجود من معلولاته ولا يعرف الجزئيات ولا يعلم الكليات الفاسدات المتغيرات المستحيلات ولا شيئا من الحوادث من الأفعال والذات

قال: واشتهر القول بين المتفلسفة من القدماء بالمذهب الأول أعني تنزيه الذات فقط وبين المحدثين القول الثالث: وهو معرفة الكليات وضعفت بينهم حجج القائلين بمعرفة الجزئيات لتدقيق النظر وتقرير أصول لم تحرر وافقهم عليها السامعون فألزمهم بتصديقهم من حيث لا يشعرون

قال: ونحن الآن نقتص مذاهب الذين يقولون بأنه تعالى لا يعرف الجزئيات وحججهم ثم نشرع في اعتبارها والنظر فيها وفي مذهب القائلين بخلافها ونجري على العادة في توفية كل مذهب حجته مما قيل ومما لم يقل حتى ينتهي النظر إلى الحجة التي لا مرد لها ولا حجة تبطلها فنعرف الحق فيها

ثم قال: الفصل الرابع عشر: في شرح كلام من قال: إن الله لا يحيط علما بالموجودات

قال أرسطو طاليس ما هذه حكايته فيما بعد الطبيعة: فأما على أية جهة هو المبدأ الأول ففيه صعوبة فإنه إن كان عقلا وهو لا يعقل كالعالم النائم فهذا محال وإن عقل أفترى عقله في الحقيقة لشيء غيره؟ وليس جوهره معقوله لكن فيه قوة على ذلك وبحسب هذا لا يكون جوهرا فإن كان هذا الجوهر بهذه الصفة أعني أنه عقل فليس يخلو أن يكون عاقلا لذاته أو لشيء آخر

فإن كان عاقلا لشيء آخر فلا يخلو أن يكون عقله دائما لشيء واحد أو لأشياء كثيرة

فإن كان معقوله لأشياء كثيرة فمعقوله على هذا منفصل عنه فيكون كماله إذن لا في أن يعقل ذاته لكن في عقل شيء آخر أي شيء كان

إلا أنه من المحال أن يكون كماله بعقل غيره إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل فلا يتغير والتغير فيه انتقال إلى الأنقص وهذا هو حركة ما فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل لكن بالقوة

وإن كان هكذا فلا محالة أنه يلزمه الكلال والتعب في إيصال للمعقولات ومن بعد فإنه يصير فاضلا بغيره كالعقل في المعقولات فيكون ذلك العقل في نفسه ناقصا ويكمل بمعقولاته

وإن كان هذا هكذا فيجب أن يهرب من هذا الاعتقاد وإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها فكمال ذلك العقل إذ كان أفضل الكمالات يجب أن يكون بذاته لها فإنها أفضل الموجودات وأكملها وأشرف المعقولات

وهذا يوجد هكذا دائما دون تعرف أو حسن أو رأي أو فكر فهذا ظاهر جدا فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره فإما أن يكون شيئا واحدا دائما أو يكون علمه بما يعلمه واحدا بعد آخر

وهذه الأمور بالهيولى غير الصورة فأما في الأمور العقلية فطبيعة الأمر وكونه معقولا شيء واحد فليس العقل فيها شيئا غير المعقول

وبالجملة فجميع الأشياء العرية عن الهيولى فمعنى العقل والمعقول فيها واحد

قلت: وقد صنف أبو البركات مقالة في العلم ذكر فيها نحو ما ذكره في المعتبر وقال: هذا القول هو الذي نقل عن أرسطو طاليس في مقالة اللام من كتابه المعروف بـ ما بعد الطبيعة وقد تداولته العقلاء وتصرفت فيه العقول وأكثر فيه المفسرون والغرض منه ظاهر وهو إجلال المبدأ الأول عن أن يكون له كمال بغيره فيكون بذاته ناقصا بالقياس إلى ذلك الكمال وتكون له غيرية بإدراك الأبصار وتغير بإدراك المتغيرات وتعب باتصال إدراكها وازدحامها وخروجه من القوة إلى الفعل فيفعلها

قال: وإذا كان هذا مفهوم الكلام قد لاح عن كثب فلا حاجة إلى التطويل وهذا قول إذا تتبع بطريقة النظر المحض لم يثبت له قدم فيه وساق كلامه عليه

قال أبو البركات في المعتبر: وقد كان أرسطو قال قبل هذا ما قصد به أن ينفي عنه أن تتجدد له الأحوال ويمنع به تغيره من حال إلى حال حتى يحكم بذلك في العلوم والمعارف

قال: وليس يمكن في العلة الأولى أن تنفعل وجميع هذه هي حركات توجد بآخرة بعد الحركة المكانية وجميع هذه هي بينة على هيئة على هذه الصفة

ثم ذكر عبارة ابن سينا في هذه المسألة كما سنذكره

وكلام أرسطو فيه أربعة أمور :

أحدها: أن العلم بالغير يوجب كونه كاملا بغيره فأن لا يبصر بعض الأشياء أولى من أن يبصرها

الثاني: أن علمه بالمتغيرات يوجب تعبه وكلاله

الثالث: أن هذا نوع من الحركة يستلزم تقدم الحركة المكانية

الرابع: أن علمه الأشياء نوع حركة يوجب كثرة العلوم فيكون هو لها كالهيولى للصورة

ومدار الحجج على أن العلم يوجب الكثرة والتغير والاستكمال بالمعلوم

قال أبو البركات: الفصل الخامس عشر: في اعتبار الحجج المنقولة عن أرسطو طاليس: أما قول أرسطو بأن تعقله للغير كمال يوجب له نقصا باعتبار لا كونه فيرد بأن يقال فيه على طريق الجدال الذي يلزمه الإذعان له وهو أن يقال: إنك تعرفه مبدأ أولا وخالق الكل فنقول في خلقه مثلما قلت في تعقله

فإن قلت: الخلق لزم عن ذاته

قلنا: والتعقل لزم عن ذاته

وإن قلت: إن ذلك يمنعه عنه حتى لا يجعل له به كمالا أعني كونه يعقل الأشياء

قلنا: فامنع هذا أيضا أعني كونه يخلق الأشياء حتى لا يكون له به كمال فيما لا يخلق لا يكون خالق المخلوقات ومبدأ أول لها كما أنه بما لا يعقل لا يكون عاقل المعقولات ولو بما لا يعقل واحدا منها مثلما لا يخلق واحدا منها فإن الذي لزم في علم المعلوم يلزم مثله في خلق المخلوقات أو إبداع المبدع فإنه بقياس لا وجوده عنه ليس بخالق ولا مبدع فإن لم يوجب هذا نقصا لم يوجب ذاك وإن أوجب ذاك فقد أوجب هذا وإجلاله عن ذلك كإجلاله عن هذا وقدرته على هذا كقدرته على ذاك فلم نزهته عن ذاك ولم تنزهه عن هذا؟ ولم خشيت عليه التعب في أن يعقل ولم تخشه عليه في أن يفعل؟

قال: فهذا جواب كاف في رده على مذهب المجادلة

قلت: قوله على مذهب المجادلة - يعني المعارضة والنقض - التي تبطل حجة المستدل وتبين أنها فاسدة وإن لم يعلم حلها وذلك أن ما ذكره في العلم يلزم مثله بطريق الأولى في الفعل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن كون الشيء مفعولا دون كونه معلوما فإن المفعولات دون الفاعل وليس كل معلوم دون العالم فالإنسان يعلم ما هو أكمل منه ولا يفعل ما هو أكمل منه فالمفعول يجب أن يكون دون الفاعل ويجب أن يكون الفاعل أكمل من المفعول ولا يجب مثل ذلك في العالم والمعلوم بل يجوز أن يعلم العالم ما هو أكمل منه وما لا يفتقر إليه بوجه من الوجوه وأما مفعوله فهو مفتقر إليه

فإذا لم يكن كون الأشياء مفعولة له مما يوجب نقصا له وكمالا بها فأن لا يوجب كونها معلومة له نقصا له وكمالا بها بطريق الأولى إذ كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة له فإذا كانت فاعليته لا تتم إلا بها ولم يكن ذلك نقصا فأن لا تكون عالميته التي لا يتم إلا بها نقصا بطريق الأولى

وذلك من وجوه :

أحدها: أن كونها مفعولة أنقص لها من كونها معلومة

الثاني: أن لزوم الفعل له أولى بأن يجعل نقصا من لزوم العلم له

الثالث: أن استلزام الفاعلية المفعول أولى من استلزم العالمية لوجود المعلوم فإن العالم قد يعلم المعلوم معدوما ويعلمه ممتنعا ويعلمه قبل وجوده وأما الفعل فلا يكون إلا لما يوجد بالفعل لا لما يكون معدوما مع وجود الفعل وحينئذ فتوقف كونه فاعلا على وجودها أولى من توقف كونه عالما على وجودها

الرابع: أنه إذا قيل: فعله لها لا يوجب احتياجه إليها بل هي المحتاجة إليه من كل وجه وكماله بفعله الذي هو من ذاته لا منها قيل: وعلمه بها لا يوجب حاجته إليها بوجه بل العالم أغنى عن المعلوم من الفاعل إلى المفعول إذ لا يعقل في الشاهد فاعل إلا وهو محتاج إلى فعل بل ومفعوله ويوجد عالم لا يفتقر إلى معلوماته بل ولا إلى علمه بكثير من المعلومات وإن كان علمه بها صفة كمال وجوده أكمل منه

وإذا قدر أن بعض الأفعال لا يحتاج إليه بل هو صفة كمال

قيل: الفعل الاختياري لا يكون إلا بإرادة وحاجة الإنسان إلى وجود كل مراد مطلقا أعظم من حاجته إلى العلم بما يعلمه مطلقا تعلق النفوس بمراداتها أعظم من تعلقها بمعلوماتها

ولهذا يقول بعض الناس ويحكونه عن علي: قيمة كل امرئ ما يحسن ولا يصح هذا عن علي ويقول أهل المعرفة: قيمة كل امرئ ما يطلب

فكمال النفوس ونقصها بمرادها أعظم من كمالها ونقصها بمعلومها

بل نفس العلم بأي معلوم كان لا يوجب لها نقصا وأما إرادة بعض الأشياء فيوجب لها نقصا فإذا كان فعله لكل ما في الوجود لا يوجب له نقصا فكيف بعلمه بذلك؟ وإذا كان فعله لها لا يوجب كونه محتاجا إليها مستكملا بها فكيف يوجب ذلك علمه بها؟

ونحن نعلم أن كون الفاعل لا يفعل بعض الأشياء أكمل من فعلها وأما كونه لا يعلمها فلا يعقل كونه نقصا إلا إذا اقترن بالعلم ما يذم لا أن نفس العلم يذم فإذا كان فعله لبعض الموجودات ليس أكمل من فعله لها كلها ولم يكن أن لا يفعلها أكمل من أن يفعلها فكيف يكون أن لا يبصرها أفضل من أن يبصرها؟

وإذ قيل: هو فاعل لبعضها بتوسط بعض

قيل: كيفما قدرت وجود الفعل ونفي كونه نقصا كان تقدير وجود العلم ونفي كونه نقصا أولى وأحرى

فإن قلت: فعله للمفعول الأول لازم لذاته وهلم جرا ولا يكون نقصا

قيل: إن قدر أن هناك معلولا أول يلزمه فإن علمه بنفسه إذا كان يستلزم علمه بالمعلول الأول ولوازمه لم يكن نقصا بطريق الأولى

وإذا قيل: إن في التعقلات تعبا

قيل: من لم يتعب بالفعل فأن لا يتعب بالعلم بطري الأولى فكيف يعقل فاعل يفعل دائما ولا يتعب بالفعل؟ فأن لا يتعب بالعلم بطريق الأولى فكيف يعقل فاعل يفعل دائما ولا يتعب بالفعل ولكن يتعب بعلمه بالمفعول مع كونه عقلا؟ والعقل الذي هو العلم أولى به من الفعل

وهم يعلمون - وكل عاقل - أن نفس الإنسان لا يتعب بالعلم كما يتعب بالفعل وكذلك بدنه إذا قدر فعل لا يكون استحالة وتغيرا فلأن يقدر علم به لا يكون استحالة وتغيرا بطريق الأولى وإذا قدر فعل لا يوجب حركة مكانية فالعلم به أن لا يوجب ذلك أولى وأحرى

ففي الجملة كل ما توهم المتوهم أنه نقص في العلم مثل كونه استكمالا بالغير أو كونه تغيرا أو كونه متعبا مثله في فعل ذلك لغير المعلوم بطريق الأولى وإذا كان الفعل لا نقص فيه بل هو كمال فكذلك للعلم وللغير المذكور هو مفعوله ومخلوقه الذي هو أبدعه

فإذا قيل: إن كماله به فليس كماله إلا بنفسه إذ هو المبدع له فلم تفتقر نفسه إلى غير نفسه ونحن نعقل أن ما هو غني عنا علمنا به أكمل من أن لا نعلمه وإن كان غنيا عنا فلو قدر أن في الوجود ما ليس مفعولا له كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه فكيف إذا كان هو مفعوله؟

وهل يقال: إن من علم الأشياء بعلوم متجددة بل علمها بعد وجودها أنقص ممن لا يعلمها بحال فكيف يكون من لا يعلمها قبل وجودها وبعد وجودها؟

ولو سمى مسم العلم بالمتغيرات تغيرا وحركة واستكمالا بالغير ومهما سماه من ذلك فإذا قيس من يعلم الإشياء إلى من لا يعلمها كان الأول أكمل بكل حال

ولهذا كان الإنسان القابل للعلم أكمل من الجماد وإن كان في علمه من التغير والحركة ما ليس في الجماد وأيضا فمن يكون حيا حساسا يقدر على الحركة أكمل ممن لا يكون كذلك وكلما كانت صفات الكمال أكمل كان الموصوف أكمل فإن الإنسان أكمل من الحيوان البهيم والحيوان أكمل من الجماد وإن قدر أن علمه وفعله مستلزم للحركة بل للحركة المكانية فهو أكمل ممن لا علم له ولا يتحرك بإرادته فالمتحرك بإرادته أكمل ممن لا يمكنه الحركة البتة هذا هو المعقول في الموجودات

وكلما تدبر الإنسان ونظر في الأدلة المعقولة تبين له أن ما ذكره عن أرسطو من الحجج لنفي العلم من أفسد الحجج بل هي الغاية في الفساد وهي مبنية على مقدمتين

ما ذكره ابن ملكا عن أرسطو من الحجج لنفي العلم باطل من وجوه

إحداهما: إن العلم يستلزم أمورا

والثانية: أنه يجب نفي تلك الأمور لكونها نقصا

وهذا باطل من وجوه :

منها: المعارضة بما تقدم

ومنها: أن نفي العلم أعظم نقصا من تلك اللوازم فلو قدر أنها تتضمن ما يسمونه نقصا لكان ما يتضمنه نفي العلم من النقص أعظم فلا يجوز التزام أعظم النقصين حذرا من أدناهما إذا قدر أن كلاهما قد جعله هؤلاء نقصا

ومنها: أن ما ذكره من المقدمة الأولى اللزومية مما ينازعهم فيه كثير من الناس

ومنها: أن كون تلك اللوازم نقصا مما ينازع فيه كثير من الناس

ومنها: أنه يستفصل عن الحدود المذكورة في المقدمتين فإنها ألفاظ مجملة وحينئذ فلا بد من منع الملزوم أو انتفاء اللازم فإما أن لا يسلم ما ذكروه عن اللزوم وإما أن لا يسلم ما ذكروه من انتفاء اللازم

ومنها: بيان أن لوازم العلم كلها كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه

ومنها: أن ما ذكره مبني على وجوب ثبوت الكلام للرب تعالى وتنزيهه عن النقص وهذا حق كما قررناه في غير موضع وبينا أن الكمال الممكن وجوده الذي لا نقص فيه بوجه يجب إثباته لله تعالى وأن العلم من أعظم الكمالات الذي لا نقص فيه بوجه وقد وجد العلم في الوجود فثبوته له أولى من ثبوته لغيره وأن العلم من حيث هو علم لا يستلزم نقصا أصلا ولكن النفوس الظالمة إذا علمت بعض الأشياء فقد تستعين بالعلم على الظلم والنفوس الجاهلة به إذا عرفت بعض الحقائق فقد يضرها معرفة تلك الحقائق فيحصل الضرر لما في النفوس من الشر

أما المقدس المنزه عن كل عيب فعلمه من تمام كماله وهو مما يحمد به ويثنى به عليه لا يستلزم الذم والنقص بوجه من الوجوه فكيف إذا علم وجود العالم وامتناع وجوده بدون العلم وامتناع كونه فاعلا لشيء إلا مع علمه به؟ إلى غير ذلك من الدلائل البرهانية المثبتة لوجوب كونه تعالى عليما بكل شيء

لكن نحن في هذا المقام في أبطال شبه النفاة لا في بيان حجج المثبتين وما ذكره أبو البركات في المعارضة بالفعل في غاية الحسن فإن من لا يلزمه تعب ولا نقص في خلق المخلوقات فأن لا يلزمه ذلك في علمه بها أولى وأحرى

وهذا مما يبين أن قول اليهود الذين وصفوه بالتعب لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأنه استراح بعد ذلك - أقرب إلى المعقول من قول أرسطو وأتباعه الذين يقولون: لو كان عالما بهذا لتعب لكن هذه المعارضة مبنية على أنه علة فاعلة للعالم سواء قيل: إنه فاعل له بالإرادة أو موجب له بذاته بلا إرادة

وكونه مبدأ للعالم هو مما اتفق عليه الأمم من الأولين والآخرين ووافقهم على ذلك أئمة أتباع المشائين كابن سينا وأمثاله وأما أرسطو فليس في كلامه إلا أنه علة غائية بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه به ليس فيه أنه مبدع للعالم

وهذا وإن كان في غاية الجهل والكفر فكلامه في علمه مني على هذا وإبطال كلامه في العلم ممكن مع تقدير هذا الأصل الفاسد أيضا من وجوه فإن حقيقة قول أرسطو وأتباعه: إن الرب ليس بخالق ولا عالم

وأول ما أنزل الله على رسوله { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق: 1 - 5 ]

وكذلك قوله: { سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى: 1 - 3 ]

وقوله موسى لفرعون: { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه: 50 ] وأمثال ذلك

وهؤلاء عندهم لم يخلق شيئا ولم يعلم أحدا بل هو في نفسه ليس بعالم فكيف يعلم غيره ويهديه؟

بقية كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية عليه

قال أبو البركات: فأما الجواب النظري البرهاني فهو أن نقول: ليس كماله بفعله بل فعله بكماله وعن كماله ومن فعله عقله فعقله عن كماله الذاتي الذي لا وجه لتصور النقص فيه ولا القول به فإن النقص في ذات المبدأ الأول غير متصور لأنه واحد والنقص إنما يتصور في موضع الزيادة والنقصان والزيادة والنقصان معا إنما هي من صفات الكثرة والغيرية حيث تتصور في الكثرة قلة وفي الزيادة نقصان كل واحد بقياس الآخر فأما حيث لا كثرة ولا غيرية بل وحدة محضة فلا يتصور نقص وكيف والنقص من الصفات الإضافية حيث يقال: نقص كذا كما يقال: زاد كذا؟

فالنقص المتصور في الذات الأحدية أي نقص يكون؟ ونقص ماذا يكون؟ وكيف يتصور؟ لا أقول: كيف يقال؟ فإن القائل قد يقول ما لا يتصوره لكن العالم لا يعلم ما لا يتصوره إثباتا ولا نفيا

فإن قيل: إن النقص ها هنا متصور بقياس ذاته وهو أن لا يعقل كذا لولا كذا المعقول أي لا يعقل لولا المعقول قلنا: إن الكمال الذي له ليس هو بأن يعقل كل موجود بل كونه بحيث يعقل كل موجود فإن كان المعقول موجودا عقله وإن فرض غير موجود لزمه فرض أن لا يعقله لا لأنه لا يعقله أي لا يقدر على عقله بل النقص من جانب العدم المفروض فكماله وقدرته له بذاته ويلزم عنهما ما له بالقياس إلى موجوداته فما كمل بإيجاد مخلوقاته بل وجدت مخلوقاته عن كماله

وليس هذا القول في المبدأ الأول فقط بل وفينا أيضا فإنا لسنا نكمل بكل معقول بل إنما كمالنا بقدرتنا على أن نعقله وإنما نكمل بما نعقله بالفعل حيث نعقل بالفعل معقولات أشرف منا وذلك نوع آخر من الكمال فإن العقل له بذاته الكمال الذي هو قدرته على أن يعقل وله بأن يعقل وذلك أمر له من ذاته: عقل بالفعل أم لم يعقل وله كمال عرضي إضافي اكتسابي بما يعقل معقولات هي أشرف منه وذلك ليس للأول إذ ليس أشرف منه في الموجودات حتى يشرف ويكمل بعقله له وليس إذا ارتفع هذا عنها ارتفع ذاك فإن ذاك هو الأول والذي بالذات - أعني كونه بحيث يعقل وقدرته على أن يعقل - فهو كماله الذاتي الذي به شرف وجل وعلا عما لا يعقل والآخر هو الثاني والذي بالعرض أعني كماله بمعقولاته وشرفه بها فإن كوننا بحيث نعقل ما نعقله شرف لنا وكمال بالقياس إلى ما ليس له ذلك

وكثير من المعقولات التي نعقلها لا نشرف بها وليس الشرف الحاصل من الفعل هو الشرف الذي بالقدرة فإن الذي بالقدرة قبل الفعل ومعه وبعده والذي بالفعل يحصل مع الفعل وبه وبعده ولا يكون قبله فما شرف الله بمخلوقاته بل خلق بشرفه أعني: ما خلق فشرف بل شرف فخلق وكذلك ما علم فكمل بل كمل فعلم

قلت: ملخص هذا أن الكمال هو الذي يجب له أزلا وأبدا وهو لازم لا يتجدد منه شيء وهو كونه بحيث يفعل ويعقل لا نفس وجود الفعل المعين والعلم المعين وهذا هو القدرة على الفعل والعقل وهذا له بذاته لا يتوقف على شيء من الموجودات

ولهذا قال: إن النقص غير متصور في الذات الواحدة فإن النقص يستلزم التعدد ولا تعدد هناك

لكن قد يقال على هذا: إنه وإن كان الذات واحدة فإذا كانت الصفات متعددة كالقدرة والعلم أمكن تقدير أحدهما دون الآخر فالكمال هو بوجود الجميع والنقص معقول بعدم بعض ذلك

لكن ما قاله لازم لمن ينفي الصفات من الجهمية والفلاسفة ويقدر ذاتا لا صفة لها أو وجودا مطلقا لا يختص بأمر فهذا لا يعقل فيه كمال ولا نقص

وأرسطو من نفاة الصفات وقد قدر أنه يكمل تارة ولا يكمل أخرى وجعل أحد الأمرين أكمل له من الآخر وأصحاب أرسطو يقولون: هذا إنما يمكن تقديره في الأمور الإضافية والسلبية

فيقال لهم: أما الإضافات فإنها تتجدد عندكم فإن قلتم: إنها كمال لزم أن يتجدد له الكمال وهو خلاف أصلكم

وإن قلتم: ليست بكمال بطل تقدير الكمال لامتناع تقدير النقصان

ولكن قد يقال: تقدير النقصان في الواحد المسلوب الصفات غير متصور كما قال أبو البركات لكن يمكن تقدير كمال منتظر ونفيه وهو الذي نفاه أرسطو

وأبو البركات جعل الكمال في نفس القدرة اللازمة له لا فيما ينتظر لكن أبو البركات من مثبتة الصفات فما ذكره وهو أن عدم إمكان النقص في الواحد من كل وجه تقريرا لامتناع النقص عليه وامتناعه بوجه كماله فيكون فعله عن كماله

الرد على أرسطو من وجوه أخرى غير ما ذكره ابن ملكا الوجه الأول

ويقال: يمكن الجواب عن شبهة أرسطو من وجوه أخر غير ما ذكره أبو البركات

أن يقال: العلم لازم لذاته أزلا وأبدا ليس شيئا متجددا فلا يحتاج أن يقال: كماله في أن يقدر على العقل كما قال أبو البركات

بل نفس العقل الذي هو العلم في لغة المسلمين أمر لازم لذاته كما قال أبو البركات في القدرة

وحينئذ فليس كماله بغيره بل بعلمه الذي هو من لوازم ذاته الذل لم يزل ولا يزال كما أن كماله بقدرته كذلك

وكون العلم متعلقا بغيره مثل كون القدرة متعلقة بغيره وكما أن القدرة صفة كمال لا يقدح فيها أنه لا بد لها من مقدور فالعلم كذلك وأولى لأنه يتعلق بنفسه ويتعلق بغيره والقدرة لا تكون قدرة إلا على غيره

الوجه الثاني

أن ما ذكرناه من أن الأعيان الذين يتعلق بهم العلم والقدرة هم مخلوقاته الذين لم يشركه أحد في خلقهم وهم كلهم محتاجون إليه لا إلى غيره فما في الوجود إلا نفسه ومخلوقاته التي لا وجود لها إلا بنفسه فلم يكن تعلق صفاته بمخلوقاته بأعظم من تعلق ذاته بهم وكما أن تعلق ذاته بهم هو من كماله لا من نقصه فتعلق علمه وقدرته بهم كذلك ومعلوم أن وجود ذاته دون لوازم ذاته ممتنع باتفاق العقلاء فيمتنع عند المسلمين وجوده بدون علمه وقدرته

وجماهير المسلمين يقولون: إن إرادته من لوازم ذاته سواء قالوا: إنها واحدة بالعين أو متعددة وإذا كانت إرادته من لوازم ذاته فيمتنع وجوده بدون وجود مراداته التي هي مخلوقاته فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن

والمتفلسفة يقولون: إن وجوده بدون وجود معلولاته ممتنع ومع هذا فلم يكن كونه ملزوما لغيره نقصا فكيف يكون كون علمه ملزوما للمعلوم نقصا مع أنه هو خالق المعلومات؟

الوجه الثالث

جواب من يقول: إنه يعلم الأشياء كلها بعلم قديم أزلي وأنه لا يتجدد عند تجدد المعلومات إلا تعلق العلم بها كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام ومن اتبعهم من الفقهاء فهؤلاء يقولون: إن العلم لا يقف على شيء أصلا بل هو حاصل أزلا وأبدا على وجه واحد

الوجه الرابع

جواب من يقول: إنه يعلم الشيء موجودا بعد أن علمه معدوما وأن هذا الثاني فيه زيادة على الأول فهؤلاء يقولون: لم يحصل المعلوم والعلم الثاني إلا بقدرته ومشيئته فما استفاد شيئا من غيره ولا كمل بغير نفسه ويقولون: إن ما لا يكون إلا بمشيئته وقدرته يمتنع وجوده في الأزل ووجوده بقدرته ومشيئته أكمل من عدم وجوده فوجوده على هذه الحال هو غاية الكمال وعدم هذا الكمال هو النقص الذي يجب تنزيهه عنه فإنه كمال ممكن الوجود لا نقص فيه وكل ما كان كذلك كان واجبا له إذ لو لم يكن واجبا له لكان: إما ممتنعا - وهو خلاف الفرض - أو ممكنا وحينئذ فالمقتضى له هو ذاته بلوازمها وقد وجد ذلك فيجب وجوده وإلا فيكون ممتنعا وهو خلاف الفرض

وبهذين الجوابين يزول ما يقدح به كلام أبو البركات حيث جعل العقل بالفعل ليس كمالا وإنما الكمال في القدرة عليه ولم يجعل الكمال إلا في عقل الأفضل لا الأدنى فإن هذا مما نازع فيه

ويقال: ما كان كمالا إذا كان بالقوة فهو إذا صار بالفعل أكمل وأكمل فكيف تكون القدرة على الفعل والعقل للأشياء الخسيسة كمالا؟ ولا يكون خروج القوة في الفعل ونفس فعلها وعقلها كمالا؟

ولكن يقال: ما كان يمتنع وجوده أزليا ولا يمكن أن يوجد إلا حادثا ليس الكمال إلا في إحداثه ولا في فعله في الأزل وإذا قدر أن علمه موجود لا يمكن تحققه إلا بعد وجوده كان أن يعلم موجودا بعد وجوده أكمل من أن لا يعلم موجودا وإن علم أنه سيوجد

وأما قول أبي البركات: ما كمل بفعله وعقله بل فعل وعقل بكماله فهو صحيح إذا أريد بالكمال ما هو أزلي للذات لا يمكن تجدد شيء من أفراده كما لا يتجدد نوعه

وأما إذا أريد بالكمال ما يتضمن جميع ما يمكن وجوده من الكمال على الوجه الذي يمكن

فيقال: كماله بنفسه وذاته ونفسه تتضمن ما يقوم به من صفاته وأفعاله فلم يكمل بشيء مباين له وما كان داخلا في مسمى اسمه فليس هو مباينا له ولا يطلق القول عليه بأنه مغاير له

وحينئذ فكماله بذلك مثل كماله بذاته وصفاته اللازمة وما كان حدوثه حيث تقتضي الحكمة حدوثه على الوجه الممكن فهو كمال في ذلك الوقت لا كمال في غيره وذلك إنما حصل بنفسه ولها لم يحصل بغيره ولا لغيره

وعلى هذا فإذا قيل: لو عقل لكمل له

يقال: إن أردت بقولك: كمل به إن ذلك بغير أعطاه الكمال فذلك باطل وإن أردت أنه لولا ذلك الغير لما وجد العلم به فيقال: نعم

وهذا لا يضر لوجوه

أحدها: أنه هو الذي أوجد ذلك الغير وبقدرته ومشيئته وجد وهو ولوازمه فلم يكن ما حصل له حاصلا إلا به وحده

الثاني: أنه لو قدر موجودا بغيره لكان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه

الثالث: إذا كان العلم بالغير مشروطا بالغير ولولا الغير لما حصل والغير حاصل على التقديرين: علم أو لم يعلم فوجود الغير - مع فوت الكمال الذي يمكن معه - هو النقص إذ النقص هو فوت ما يمكن وجوده لا ما لا يمكن والعلم صفة كمال والعلم بكل شيء ممكن فوجود هذا كمال وعدمه نقص

عود لكلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

قال أبو البركات: فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الأغيار والكثرة بكثرة المدركات - فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته بل في إضافاته ومناسباته وتلك مما لا تعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت له وجوب وجوده بذاته

ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا وسلبنا عنه ما سلبنا هي وحدة مدركاته ونسبته وإضافاته بل إنما هي وحدة حقيقيته وذاته وهويته ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته لا في مدركاته ومضافاته فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي لا معنى في نفس الذات وذلك مما لا تبطله الحجة ولم يمنعه برهان ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى

قلت: أرسطو إنما اعتمد على نفي التغير إذا علم شيئا بعد شيء فأما كثرة المعلومات مع قدم العلم فلم يتعرض له وكأنه عنده غير ممكن

قال أبو البركات: فأما الذي قيل في منع التغير مطلقا حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم فهو غير لازم في التغير مطلقا بل هو غير لازم البتة وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام مثل الحرارة والبرودة في بعض الأوقات لا في كل حال ووقت ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام فإنه يقول: إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك المتغير حركة مكانية

قال أبو البركات: وهذا محال فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك في المكان على رأيه فإنه لا يعتقد فيها أنها تكون في مكان البتة فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض الذوات والأحوال كالتسخن والتبرد ولا يلزم فيها أبدا فإن الحجر الكبير يسخن ولا يصعد ويبرد ولا يهبط بل ولا يتحرك من مكانه وإنما ذلك مما يصعد بالبخار من الماء ويدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك

والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما تتبخر منه بعض الأجزاء ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركة المكانية

وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبين وهو في مكانه لم يتحرك ولا يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها فما لزم هذا في كل جسم بل في بعض الأجسام ولا في كل حال ووقت بل في بعض الأحوال والأوقات ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال بل على طريق التبع

ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية ولو لزم في التغيرات النفسانية أيضا لما لزم انتقال الحكم فيه إلى المتغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات

فالحكم الجزئي لا يلزم كليا ولا يتعدى من البعض إلى البعض وإلا لكانت الأشياء كلها على حال واحدة

وهو قدم هذا على كلامه في العلم حتى يجري عليه الحكم في المعرفة والعلم فاعتبر بهذا فإن استقصى لهذا القول البحث أمكن أن يرجع إلى أصل ويصح على وجه لكنه مع ذلك لا ينتصر به القول الذي أبطلوا به معرفة الله وعلمه بالحوادث

فأما الأصل الذي يرجع إليه باستقصاء النظر في التأويل له فهو أن يقال: إن الشيء إذا تسخن بعد برده أو تبرد بعد سخونة وتبيض بعد سواد وتسود بعد بياض بسبب يقرب منه بعد بعد يؤثر فيه ذلك إما بحركته إلى السبب وإما بحركة السبب إليه فإن الماء يسخن بعد ما كان باردا بحرارة النار مثلا التي يقرب منها إما بحركة النار إليه أو بحركته هو إليها

كذلك المبيض بعد اسوداده يتحرك إلى المسود أو يتحرك المسود إليه فتتقدم الحركة المكانية بهذا البيان سائر الحركات وتتقدم الدورية المستمرة الدائمة على المستقيمة المنقطعة ذات البداية والنهاية المحدودتين فهكذا يصح أن يقال: تتقدم الحركة الدورية على سائر الحركات والتغيرات فيصح ذلك في الأجسام الداخلة تحت الكون والفساد بالتغيرات المحدودة في التكيفيات المبصرة والملموسة والأشكال والمقادير وما يتبعها ويتعلق بها فأما في النفوس والعقول وفي الله تعالى فلا يلزم شيء من ذلك بهذا البيان

قال: وأعجب من هذا قوله بأنه يتعب حيث قال: وإذا كان هذا هكذا لا محالة إنه يلزمه الكلال والتعب من اتصال المعقولات وهو القائل في كتاب السماء إنها لا تتعب بدوام حركتها المتصلة لأن طبعها لا يخالف إرادتها فجعل علة التعب هناك مخالفة الطبيعة للإرادة وها هنا كثرة الأفعال واتصالها وكثرة الخروج من القوة إلى الفعل

والقوة قوتان: استعداد وقدرة والاستعداد إذا كمل بالخروج إلى الفعل صار قدرة ثم عن القدرة تصدر الأفعال والتي بمعنى الاستعداد نقص يفتقر إلى كمال والأخرى كمال تصدر عنه الأفعال فهذه القوة من قبيل القدرة الدائمة القارة على حد لا ينقص ولا يزيد وليست بمعنى الاستعداد الذي يخرج إلى الكمال

ولو كانت من هذا القبيل لما جاز أن يحكم عليها بالتعب الكلال بل باللذة والكمال فإن ما بالقوة يشتاق إلى كماله الذي بالفعل ومن قبله تكون اللذة والسعادة

والكلال والتعب إنما يعرضان لنا لا من جهة اتصال أفعالنا ولا من جهة ازدحامها بل من جهة تحريك أعضائنا وأرواحنا بتقبلنا وتفكرنا حركة تخالف مقتضى الطبيعة التي في جوهرنا كما نفاه عن السماء

وليس ذلك في جهة الخلاف فإن القوى المتقاومة قد تتقاوم مدة فلا يعرض لها تعب كما لو فرضت مغناطيس علق حديدا زمانا فإنه لا يتعب ولا تضعف تلك القوة الجاذبة ولا يبطل ذلك التعلق ما لم يتجدد أمر من خارج بل لأن الحركة تحل جوهر الروح منا أعني من أعضائنا لتركيبها من لطيف وكثيف

واللطيف عرضة للانحلال والحركة تسبب ذلك له فإذا انحلت الروح التي بها تعلق القوة المحركة ضعفت القوة المحركة فينا وعجزت فيها تعبا وكلالا

وذلك إنما ارتفع عن السماء لارتفاع التركيب والانحلال لا لأن الطبيعة لا تضاد الإرادة فيها أو تضادها فإن ذلك هو سبب بعيد للتعب والكلال والقريب هو ما ذكرناه فإذا ارتفع عن السماء لذلك فلم بالحري أن يرتفع عن سماء السماء وبسيط البسائط الوحداني الذات؟

قال: فأما قوله: فإن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها - فهو أشبه ما قاله من الحجج وأقربها إلى التروج والقبول قبل التأمل وإنما ذلك يكون بالقياس إلينا على ضيق وسعنا وزماننا فيصح أن يقال: إن اشتغالنا بإبصار الأفضل أولى منه بالأخس فأما إذا كان الوسع بحيث لا يشغل فيه إدراك الأخس ولا يعوق عن إدراك الأفضل فلا

ثم هذا الخسيس إنما هو خسيس بالقياس إلينا أيضا وفي أشياء مباينة لطباعنا منافرة لحواسنا لا على الإطلاق

وبالقياس إلى كل خساس فإن طعم العذرة في فم الخنزير كطعم العسل في فم الإنسان وإذا نظرت إلى الكل لم تجد فيه خسيسا تعر معرفته أو يضر علمه أو يكون لا إدراكه أولى من إدراكه لا في الروحانيات ولا في الجسمانيات لا في السماويات ولا في الأرضيات كيف وما في الأرض وتحت السماء ليس غير الاستقصات الكائنة وما يتولد عنها بامتزاجها ! وليس في الممتزج منها سواها إلا قوى سماوية وما منها ما يضر إدراكه أو تعر معرفته اللهم إلا لشخص ينافيه ويضاده لا على الإطلاق ومن علا عن المضادة والمباينة فلا يكون ذلك بالقياس إلا مكروها

فالله تعالى وملائكته أجل من أن ينالهم الأذى بضد أو مباين من لون أو طعم أو رائحة فكيف وما في الوجود إلا ما صدر عنه تعالى ومما عنه وهو عنه الحقيقة؟ فما لا يأنف منه أن يخلقه ويوجده لا يأنف منه أن يدركه وما لم يعره في أن فعله لا يعره في أن علمه ولا له كيفية تناسبه من لون أو طعم أو رائحة فيؤثرها وأخرى تباينه فيكرهها فلم ننتفع الآن بالقضية المشنعة أعني القائلة: فأن لا يبصر بعض الأشياء أفضل من أن يبصرها

ثم الإبصار إن كان عن عجز وضيق وسع فليس بأفضل من الإبصار وإن كان من نوع الالتفات والتقزز فذلك من المنافي والمؤذي وقد قلنا فيه

قال: وأما قوله: فكمال ذلك العقل إذ كان أفضل الكمالات يجب أن يكون بذاته فإنها أفضل الموجودات وأكملها وأشرف المعقولات - فقول صادق صحيح على الوجه الذي قلناه لا على الوجه الذي يقصده من أن كماله بفعله الذي هو بعقل ذاته إذ قد سلم أن ذاته في غاية الكمال والشرف والجلال فليس كمالها بفعل من الأفعال: لا بعقل ذاته ولا بعقل غيرها بل تعقلها لذاتها فعل شريف كامل صدر عن شرف الذات وكمالها فكان كمال الفعل لكمال الذات لا كمال الذات لكمال الفعل وقد سبق هذا

قال: وأما قوله: وهذا يوجد هكذا دائما من دون تعرف أو حس أو رأي أو تفكر - فهذا ظاهر جدا فإن الإدراك والتعقل التام للأمر القديم الدائم من العاقل التام القديم الدائم تام قديم دائم لا محالة

وقوله: فإنه إن كان معقول هذا العقل غيره فإما أن يكون شيئا واحدا دائما وإما أن يكون علمه بما يعلمه واحدا بعد آخر - فجوابه أن يعقل ذاته ويعقل غيره فيعقل الدائمات دائما ويعقل المتجددات عقلا قديما دائما من حيث قدمها النوعي والمادي والذي من جهة العلل الفاعلية والغائية فتعقلها في تغيرها على وفق تغيرها

ولا يكون ذلك التغير فيه بل فيها وهو يعقلها كلها على ما هي عليه كما نعقل نحن بعضها فنعلم عينها وأنها ستكون ومساوقتها وأنها كائنة ومعدومها بعد كونه وأنه كان لا يضيق وسعه عن ذلك ولا يتغير به ولا ينتقص ولا يكمل بل هو له كما يشاء وعلى وفق قدرته وإرادته في خلقه لا يمتنع ذلك بحجة لا من جهة التعجيز لأنه مردود بدليل الخلق

فقدرته على الخلق دليل قدرته على العلم إذ هو خالق الكل والخلق أكبر في القدرة من العلم

وإذا لم يصح التعجيز في الخلق فهو بأن لا يصح في العلم أولى وأحرى وكيف وأكثرهم يقولون: إن علم الله هو قدرته وقدرته وسعت كل شيء خلقا فلا عجب أن يسع كل شيء علما؟ ولا بدليل التنزيه فإنه لا تعره ولا تضره معرفته بشيء من خلقه ولا ضد له فيه ولا مباين وليس به كماله بل هو بكماله على ما قيل

هذا مع أن في الجواب مساعدة ما وإلا فلو فرضنا أن له به كمالا على ما قيل لم يكن له في ذلك نقص لأن الكل منه وعنه وكماله بما منه وعنه فهو كماله بذاته في الحقيقة

والقول بأنه لولا أشياء غيره لم يكن بحال كذا من الكمال إنما كان يكون له وجه لو كانت تلك الأمور ليست منه وعنه فأما وهي منه فلا يضر لأنه كأنه قال: لولاه - أعني لولا ذاته - لم يكن بحال كذا لأن الرفع في الفرض إنما يقع من جهة العلة الأولى التي لا يرتفع المعلول إلا بارتفاعها

قلت: فهذا من كلام أبي البركات على قول أرسطو وهو أقرب إلى تحرير النقل وجودة البحث في هذا الباب من ابن رشد وابن رشد أقرب إلى جودة القول في ذلك من ابن سينا مع غلوه في تعظيم أرسطو وشيعته

فصل باقي كلام ابن ملكا في المعتبر وتعليق ابن تيمية

قال أبو البركات بعد أن فرغ من حكاية حجة أرسطو: فأما قول التابعين في هذه المسألة والمشيدين لما قيل فيها والمستفيدين بحججها وبراهينها فأقصى ما وقفنا عليه منه وأجمعه لما تبدد في غيره وهو ما قال الشيخ الرئيس وهذه عبارته

نقل ابن ملكا لكلام ابن سينا في النجاة

قال: وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل فيكون متقوما بالأشياء وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة وذلك محال إذ لا يكون لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال ويكون له حال لا تلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغيره فيه تأثير والأصول السالفة تبطل هذا ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا ويتوسط ذلك بأشخاصها

قال: ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات

قال: ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص فلم تعقل بما هي فاسدة وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة

قال: ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما ندركها بآلة متجزئة وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له فكذلك إثبات كثير من التعلقات بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض وهذا من العجائب

قلت: تقسيم ابن سينا صفاته إلى مقومة للذات وعرضية بناء على أصلهم الفاسد في المنطق: من أن الصفات اللازمة للموصوف تنقسم إلى ما تكون مقومة للذات داخلة فيها يقولون: هي أجزاء للذات سابقة لها سبقا عقليا وإلى ما تكون خارجة عن الذات عارضة لها بعد تحققها وإن كانت لازمة لها بوسط أو بغير وسط

وهذا التقسيم قد بين فساده في غير هذا الموضع وبين أن الصفات اللازمة للموصوف لا يجوز تقسيمها إلى هذين القسمين ولا يجوز جعل الذات مركبة من أحد الصنفين دون الآخر بل لا يجوز جعل الذات مركبة أصلا منها إلا أن يعنى بالتركيب اتصاف الذات بها وقيامها بالذات أو لزوم الذات لها ونحو ذلك مما تشترك فيه جميع الصفات اللازمة للموصوف

فأما جعل بعضها داخلا في حقيقة الموصوف الثابتة في الخارج وبعضها خارج عن حقيقته الثابتة في الخارج - فكلام في غاية الفساد وغايتهم أن يجعلوا ذلك تركبا مما يتصوره المتصور من صفات الموصوف وهذا أمر يزيد وينقص ويدخل في المتصور ويخرج منه بحسب تصور المتصور لا بحسب الحقيقة الثابتة في الخارج وإن ادعوا أن الحقيقة من حيث هي هي مركبة من ذلك وأن تلك الحقيقة لا تحقق لها إلا في الأذهان لا في الأعيان كما يقوله من يقوله منهم كان هذا من أدل الأشياء على فساد قولهم وضلالهم في تصورهم

قال أبو البركات: فهذا ما قاله الشيخ الرئيس

قال: فقوله: إنه إذا عقل الأشياء من الأشياء كان على أحد وجهين: أحدهما: أن تتقوم ذاته بما تعقل أو يكون عارضا لها أن تعقل وأنه على كلا الوجهين لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته

جوابه: أما في التقويم فالفرض فيه محال لأن العاقل لا يتقوم بما يعقله لأن يعقل هو يفعل ويفعل: إنما يكون بعد أن توجد بعدية بالذات فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات؟

وأما كونها عارضا لها أن تعقل وإلزامه منه أنه لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته فكأنه من مدح الشعراء أو من كلام محسني الألفاظ بالتخيلات من الخطب والمدائح وإلا فما معنى: من جميع جهاته؟

فإن كونه مبدأ أولا بل كونه مبدأ مطلقا يلزم فيه ما لزم في هذا وهو أنه: إما أن يتقوم بكونه مبدأ أولا أو يكون ذلك عارضا له فلا يكون واجد الوجود من جميع جهاته أي لا يكون واجب الوجود في كونه مبدأ أولا لزيد وعمرو وغيرهما من الموجودات

والذي ألزمنا البرهان أنه واجب الوجود بذاته فأما هذا من جميع جهاته إن كان من جهات وجوده فذلك وأما في إضافاته ومناسباته فلا إذ بطل بما قيل

قلت: وهذا الذي قاله أبو البركات ردا على ابن سينا قد صرح به ابن سينا في موضع آخر يناقض ما قاله هنا فإنه قال في كتابه المسمى بـ الشفاء في مسألة العلم: ولا تبالي أن تكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود فإنها من حيث هي علة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاتها وهذا يوافق ما قاله أبو البركات

قال أبو البركات: فإما أن لا يكون مبدأ أولا وإما أن لا يكون واجب الوجود من جميع جهاته أعني من جهة إضافاته إلى ما وجوده بعد وجوده بالذات

وأما قوله: لولا أمور من خارج لم يكن هو بحال كذا فكذلك لولا المخلوقات لم يكن مبدأ أولا لكن ليس ذلك بمحال وقد رد على طريقي المساعدة والمخالفة

وأما قوله: وتكون له حال لا تلزم عن ذاته بل عن غيره فقول باطل وذلك أن العلم إضافة لزمت عن ذاته بالنسبة إلى مخلوقاته ومخلوقاته لزمت عن ذاته ولازم لازم الذات لازم الذات فما لزمت عن غيره كما قيل ولو لزمت لما لزم المحال وإلا فبأي حجة تلزم؟

وهم فلم يوردوا على ذلك حجة بل أوردوه كالبين بنفسه وليس ببين بل مردود وباطل على ما قيل

وأما قوله: فيكون لغيره فيه تأثير أما في وجوده ووجوب وجوده فلا وأما في إضافته ونسبه فأي أصول أبطلته ما بطل ولا يبطل وإنما تمت المغالطة بلفظ التأثير حيث يتوهمه السامع متأثرا مستحيلا وليس العلم استحالة على ما علمت

وأما قوله: ولأنه كما سنبين مبدأ كل موجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والكائنة الفاسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك لأشخاصها - فهو حق وغير مردود فإنه يعقل ويدرك على كل وجه من وجوه العقل وجهة من جهات الإدراك فهو سميع بصير وبالجملة مدرك عالم حكيم مقدر مدبر يسع كل شيء علما: غيبا وشهادة قبل ومع وبعد

وأما قوله: ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات - فقد أجبنا عنه في جواب كلام أرسطو طاليس ولم يبعد فتحسن إعادته

وأما قوله: ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يتشخص فلم تعقل بما هي فاسدة وإن أدركت بما هي مقارنة للمادة وعوارض المادة لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة - ففيه الكلام وقد سلف في علم النفس وما رد عليه في قوله: إن الصور الجسمانية والأشكال الوضعية لا تدركها إلا قوة جسمانية وأعاد أبو البركات مناقضته في ذلك

قلت: ما ذكره أبو البركات من أن العاقل لا يتقوم بما يعقله وأن فرض ذلك محال لأن كونه يعقل تابع لذاته وهو بعده بعدية بالذات فكيف يتقوم الوجود بما هو بعد الوجود بالذات؟ فهذا كلام صحيح وهو مطرد في جميع الصفات اللازمة للموصوف: أن ذاته لا تتقوم بشيء منها ولا تكون صفة الموصوف جزءا مقوما متقدما عليه بالذات إذا كانت الصفة تابعة للموصوف فهي إلى أن تكون بعده بالذات أولى من أن تكون قبله بالذات

فإن قدر أن هنا ترتيبا عقليا تكون فيه الصفة الذاتية قبل الموصوف أو بعده فإنها لا تكون إلا بعده

وإن قيل: لا ترتيب هنا أصلا بل كلاهما ملازم للآخر مقترن به

لم يتقدم أحدهما الآخر وليس بينهما ترتيب عقلي كما ليس بينهما ترتيب زماني فليس أحدهما قبل الآخر بل الموصوف وصفته اللازمة له موجودان معا لم يسبق أحدهما الآخر سواء قدر أن الموصوف قديم أزلي واجب بنفسه وصفته لازمة له أو قدر أنه محدث مخلوق وصفته لازمة له

وقد تكلمنا على هذا لما تكلمنا على ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الصفة الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفة اللازمة للماهية والصفة التي يزعمون أنها لازمة لوجودها وكلاهما خارج عن الماهية

وذكرنا ما ذكروه من الفرق بين اللازم الداخل واللازم الخارج واعترافهم بانتفاء ما ذكروه من الفرق واعتراض بعضهم على بعض في هذا المقام وبيان أن ما ذكروه من الفرق لا يعود إلى فرق حقيقي موجود في الخارج ولا معقول في الذهن إلا إذا جعل الذاتي ما هو لازم للذات المفروضة في الذهن

فأما إذا تصورنا شيئا وعبرنا عنه فمن الصفات ما هو داخل في معلومنا ومذكورنا بالذات ومنه ما هو داخل بالعرض وهو اللازم الخارج

وهذا كما يقولونه في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع المعنى الذي عناه المتكلم ودلالة التضمن دلالة اللفظ على ما هو داخل في ذلك المعنى ودلالة الالتزام دلالة اللفظ على ما هو لازم لذلك المعنى خارج عن مفهوم اللفظ

فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع هذه الماهية التي عناها المتكلم بلفظه وهو دلالة على تمام الماهية وذلك المدلول عليه بالمطابقة هو مقول في جواب ما هو إذا قيل ما هو بحسب الاسم وإذا سئل عما هو المراد بهذا اللفظ ذكر مجموع ما دل عليه بالمطابقة فالمدلول فهو خارج عن حقيقته عرض لازم له فهذا تقسيم معقول ولكنه يعود إلى قصد المتكلم ومراده باللفظ

وأما كون الموجود في الخارج تنقسم صفاته اللازمة له التي لا يكون موجودا إلا بها: إلى ما هو داخل في حقيقته مقوم لها متقدم عليها بالذات وإلى ما تكون خارجة عن حقيقته عرضى لها فهذا باطل عند جماهير العقلاء من متكلمي أهل الإسلام وغيرهم

وقد بينا فساد ذلك في مواضع وكذلك بين فساده غير واحد من أهل الكلام والفلاسفة وتكلمنا على ما ذكره ابن سينا في الإشارات وغيرها وبينا تناقضه وتناقض غيره في الفرق بين الذاتيات والعرضيات اللازمة إذا جعلا لازمين للحقائق الموجودة في الخارج وما ذكره في مسألة العلم مبني على ذلك الأصل الفاسد حيث قال: لو كان واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء لكانت ذاته: إما متقومة بما تعقل فيكون متقوما بالأشياء وإما عارضا لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من جميع الجهات

كلام ابن سينا باطل من وجوه

ثم نقول: هذا الكلام باطل من وجوه :

الوجه الأول

ما ذكرناه من نفي تقوم شيء بصفته

الوجه الثاني

أن يقال: إذا قدر تقوم الموصوف بصفته فهو متقوم بنفس علمه بالأشياء أو بنفس الأشياء المعلومة والثاني باطل وهو إنما ذكر الثاني حيث قال: فذاته متقومة بما يعقل

وهذا باطل فإنا إذا قدرنا العالم متقوما بعلمه فليس المقوم له المعلوم إنما المقوم له علمه بالمعلوم والمعلوم قد يكون منفصلا عنه فلا يكون قائما به فضلا عن كونه لازما له: لا ذاتيا ولا عرضيا فكيف يكون مقوما له؟

وإن قال قائل: يعني بالتقوم أنه لولا المعلوم لما كان العلم قيل له: هذا ليس مراده ولو كان مراده لكان باطلا لأنه على هذا التقدير لا يكون العلم إلا مقوما فلا يقال: إما أن يكون مقوما وإما أن يكون عارضا وهو قد جعل هذا أحد القسمين

وأيضا فإنه على هذا التقدير يكون هذا سؤال الاستكمال بالمعلوم الذي ذكره أرسطو وقد عرف جوابه من عدة أوجه

أحدها: أن ذلك الغير هو مفعوله فلم يحتج إلى غيره بوجه من الوجوه

الثاني: أنه لو قدر وجود موجود مستغن عنه كان أن يعلمه أكمل من أن لا يعلمه فإن العلم صفة كمال والملك والبشر إذا علموا ما هو مستغن عنهم كان أكمل لهم من أن لا يعلموه

الثالث: أنه لو قدر موجود غيره واجب بنفسه أو موجود عن ذلك الواجب بنفسه وذات العالم هي التي اقتضت العلم به - لكان هذا كمالا له على هذا التقدير لم يكن هذا مما ينفيه وجوب وجوده

الرابع: أن هذا وإن قدر أنه استكمال بالغير فلا دليل لهم على نفيه لا من جهة الوجوب ولا من جهة استحقاق الكمال ولا من غير ذلك بل الأدلة تقتضي ثبوته

الوجه الثالث

عن شبهة ابن سينا أن يقال: قوله: ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما تعقل فيكون متقوما بالأشياء وإما عارضا لها أن تقعل فلا تكون واجبة الوجود من كل وجه

يقال له: قولك: يعقل الأشياء من الأشياء أتريد به أن الأشياء تجعله عاقلا فتعلمه العلم بها؟ أم تريد أن علمه بالأشياء لا يكون إلا مع تحقق المعلوم؟ أم تعني به أن علمه بالأشياء يكون بعد وجود المعلوم؟

أما الأول فلا يقوله مسلم بل المسلمون متفقون على أن الله مستغن عما سواه في علمه بالأشياء في غير ذلك بل هو المعلم لكل من علم سواه من علمه

وقد قال تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } [ البقرة: 255 ]

وقال: { علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق: 4 - 5 ]

وقال: { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه: 50 ]

وقال: { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى: 2 - 3 ]

وقال: { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } [ الرحمن: 1 - 4 ]

وقال: { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء: 113 ]

وقال: { وعلمناه من لدنا علما } [ الكهف: 65 ]

وقال: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب } [ البقرة: 282 ]

وقال: { وعلم آدم الأسماء كلها } إلى قول الملائكة: { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } [ البقرة: 31 - 32 ]

وقال: { تعلمونهن مما علمكم الله } [ المائدة: 4 ]

وإن أراد بعقله الأشياء من الأشياء: أنه لا يكون عالما إلا مع تحقق معلوم بعلم فهذا حق لكن لا يمكن ثبوت إلا كذلك وإلا فإذا قدر علم لا يطابق معلومه كان جهلا لا علما وحينئذ الأمر إلى سؤال الاستكمال وقد تقدم

وإن أراد بذلك أنه يعلم الأشياء بعد وجودها فلا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون ثم إذا كان: فهل يتجدد له علم آخر؟ أم علمه به معدوما هو علمه به موجودا؟ هذا فيه نزاع بين النظار وأي القولين كان صحيحا حصل به الجواب

وإذا قال قائل: القول الأول هو الذي يدل عليه صريح المعقول والثاني باطل والإشكال يلزم على الأول

قيل له: وإذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول وعليه دل القرآن في أكثر من عشرة مواضع وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف وما أورد عليه من الإشكال فهو باطل كما قد بين في موضعه

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55