فصل: تابع كلام ابن سينا في مقامات العارفين وتعليق ابن تيمية عليه

ثم قال ( إشارة: أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة وهو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد

إشارة: ثم إنه يحتاج إلى الرياضة والرياضة متوجهة إلى ثلاثة أغراض: الأول: تنحية ما دون الحق من مستن الإيثار الثاني: تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التوهم والتخيل إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي الثالث: تلطيف السر للتنبيه والأول يعين عليه الزهد الحقيقي والثاني: تعين عليه أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما يلحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام والثالث: نفس الكلام الواعظ من قائل زكي بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد وأما الغرض الثالث فيعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذي تأمر فيه شمائل المعشوق ليس سلطان الشهوة )

فيقال قد ذكر أن المريد يحتاج في الرياضة - التي تسمى السلوك إلى ثلاثة أشياء متعلقة بالقصد والعمل والعلم

أما القصد فأن لا يقصد إلا الحق فينحي ما سواه عن طريق القصد فلا يقصد إلا إياه وهذا حق لكن لا يكون إلا على دين المرسلين وأما إرادة الله ومحبته دون ما سواه فليس هو طريق هؤلاء المتفلسفة بل هو ممتنع على أصولهم الفاسدة وليس زهدهم زهد الأنبياء ولكن زهدهم للتوفر على مطلوبهم الذي يرونه كمالا لا على عبادة الله

وأما العمل فهو تطويع قوة النفس الأمارة بالسوء لقوتها المطمئنة وهذا متفق عليه لكن عند أهل الملل أن هذا تكميل لعبادة الله وطاعته وعند الملاحدة إنما هو تهذيب للنفس لتستعد لما جعلوه هم كمالا

وليس المقصود هنا ذكر ما في هذا الكلام من حق وباطل فإن هذا له موضع آخر وإنما المقصود ذكر ما يتعلق بكلامهم في قوى التوهم والتخيل فإنه قال: ( لتنجذب قوى التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي )

فذكر أن المقصود انجذاب قوى التخيل الوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي ولم يقل: إلى التوهمات والتخيلات كما قال انجذاب قوى التخيل والوهم لأنه يريد أن يجذب قوى التخيل والوهم

فالتخيل لصور المحسوسات والوهم لما فيها من المعاني والجذب يكون إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي لا إلى التخيل فإنه ليس المقصود جذبها إلى صورة متخيلة بل إلى أمر متوهم وهو المعاني التي تحبها النفس لأن الوهم كما تقدم تصور المعاني المحبوبة في الأعيان وهي التي تكون لأجلها الولاية والعداوة

والمقصود حصول التوهمات المناسبة للأمر القدسي والانصراف عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والتوهمات هي تصور ما يحب ويبغض ويوالى ويعادى ويوافق ويخالف ويرجى ويخاف من المعاني التي في الأعيان فيريد أن يتصور ما يحب ويرجى لينجذب إليه وما يكره ويخاف لينجذب عنه ويكون ما يجب ويرجى في الأمر القدسي والمكروه والمخوف في الأمر السفلي

وقد ذكر أن المراد المعبود لذاته هو الله تعالى فلا بد أن يتصور ما يوجب حبه لله وبغضه لما يصرفه عن ذلك وأن يتصور من رجائه وخوفه ما يصرفه إليه كما يتصور في الدنيا ما يجذبه عنها

وإذا كان قد قال هذا مع قوله: ( إن الوهم أن يتصور في المحسوسات أمرا غير محسوس لم يمكن حتى هذا يتصور في حق الله تعالى ما يوجب انجذاب القلب إليه وقد سمى ذلك توهما

وقوله: ( ولتنجذب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي )

إن أريد التوهمات المناسبة لقدس الرب تعالى مثل كونه هو الذي يستحق أن يعبد ويحمد وأمثال ذلك من المعاني المناسبة لعبادته فقد جعل الشعور بهذه من باب التوهم

وإن أريد به توهم معان في غير الرب فتلك لا يحتاج إليها في عبادته تعالى ولا يحتاج العابد لله إلى أن يتصور ما يناسب محبته لله وعبادته بشعوره بما يوجب محبة الله وعبادته إياه دون ما سواه فإن عبادة الله وحده تحصل إذا عرف من الله ما تحصل به محبته لله فلا يحتاج أن يعرف من غيره ما يوجب محبته لله ولو قدر أن تصور لغيره يوجب محبته فقد جعل طلب ما يوجب انجذاب قوة التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي

فهذه الأمور سواء كانت صفات لله أو أمورا تقتضي محبة الله فإنه جعلها من باب التوهم

وهذا يوجب كون الله عاليا على خلقه من وجوه :

أحدهما: أنه قد ذكر أن الحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس وهذا قوة الوهم كما تقدم فإذا كان قد قال مع ذلك: أنه لا بد من تطويع القوة الأمارة للقوة المطمئنة لتنجذب قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمر السفلي والتوهمات المناسبة لإرادة الله وحده إنما تكون بتصور معنى فيه يوجب انجذاب القلب إليه

وهو سبحانه يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فإنه واحد لا شريك له وهم يقولون: انحصر نوعه في شخصه فلا يجوز أن يكون التصور الجاذب للقلب إليه وحده إلا تصور معين في معين وهذا هو التوهم عندهم

فهذا تصريح منهم بأن التوهم تصور صفاته فقولهم مع ذلك بنفي إدراك هذه القوة له تناقض

الثاني: أن القوة المتوهمة إذا كانت لا تتصور إلا في معين والمعين لا يكون كليا امتنع أن يكون هذا معقولا إذا كانت المعقولات هي الكليات كما قد يقولونه ولأنه لا حجة لهم على إثبات معقول غير الكليات

الثالث: أن هذا يوجب أن كون محسوسا أي يمكن الإحساس به وهو رؤيته كما ثبت أنه يرى في الآخرة لأن التوهم عندهم أن يتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس

فإذا كان هو سبحانه يجب أن يوالى ويحب دون ما سواه وكان ذلك بتوهم الأمور المناسبة لذلك التوهم وهو تصور أمر غير محسوس في معين محسوس لزم أن يكون هو معينا محسوسا

الوجه الرابع: أنه جعل الذي يعين على تطويع النفس ثلاثة أشياء: العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام والثالث: نفس الكلام الواعظ

ومعلوم أن العبادة لا تكون إلا بقصد وإرادة والقصد والإرادة الذي تنجذب معه قوى التخيل والتوهم إلى التوهمات المناسبة لعبادة الله منصرفة عن المناسبة للأمر السفلي لا يكون إلا إذا تصور في المراد الذي انجذبت إليه قوة التوهم ما يوجب إرادته ومحبته فتكون إرادته توجب موالاته ومحبته بل وخوفه ورجائه

وهذا كله عندهم من عمل القوة المتوهمة فدل على أنه لا بد عندهم أن يكون الحق تعالى مما يتعلق الوهم بمعان فيه وهذا لازم لكلامهم لا محيد عنه

الوجه الخامس: أنه قال: ( الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام )

فتبين أنه يطلب كون الوهم يقبل الكلام الملحن والقوة الوهمية هي التي تدرك المعنى المحبوب والمكروه في المعين المحسوس الجزئي كما تقدم

فدل بها على أن الكلام الملحن يكون فيه ما يوجب قبول الوهم للكلام الذي يدعو إلى عبادة الله ومحبته وذلك بما تقدم من كون الوهم هو الذي يشعر بالمعاني التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي فكان حب العبد لربه وعبادته إياه مشروطا بتوهمه في ربهما يحبه العبد فوجب كون الرب عندهم محسوسا وكون الوهم يتصور فيه ما يحب لأجله

السادس: أنه قال: ( لينجذب التخيل والوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة عن التوهمات المناسبة للأمكر السفلي )

والسفلي ضد العلوي فدل ذلك على أن القدسي علوي

فإن قيل: يراد بذلك علو القدر أو الصفات

قيل: هذا لا يصح هنا لأن قوى الوهم إنما تنجذب إلى معان غير محسوسة في أمر محسوس وما كان محسوسا أمكن أن يكون فوق العالم

السابع: أن يقال: ما أشار إليه من هذه المعاني وغن كان التعبير عنه بعبارات غير معروف فهذا هو الذي فطر الله عليه عباده فإنهم إذا حزبهم أمر احتاجوا فيه إلى توجيه قلوبهم إلى الله توجهوا إلى العلو وتصوروا أن الله جواد كريم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويرزقهم وينصرهم فعرفوا منه ما يوافق مطلوبهم ومرادهم ومحبوبهم

وهذا هو الذي يسميه هؤلاء التوهم

وأيضا فمن كان محبا له محبا لذكره متلذذا بمناجاته فإنه يجد

في فطرته معنى يطلب بالعلو ويتصور أن ربه متصف بما يستحق لأجله أن يعبد ويحب ويطاع وهذا هو الذي يسمونه التوهم ويجد قلبه منصرفا إلى العلو منصرفا عن السفل إلا إذا كان قد غيرت فطرته

فإن قيل له: ربك ليس فوق أو غير ذلك بأن يقال: ليس في جهة أو لا يختص أو لا تحصره أو نحو ذلك من العبارات المجملة التي يراد بها: أنه ليس فوق فيحتاج حينئذ أن يصرف فطرته علما وإرادة عما فطر عليه

فما ذكره في مقامات العارفين موافق لما فطر الله عليه عباده أجمعين بخلاف ما ذكره هناك فإنه مخالف للفطرة كما تقدم

الثامن: أن الشرائع الإلهية جاءت بما يوافق الفطرة

التاسع: أنه قد اتفق على ذلك سلف الأمة

العاشر: أنه دلت على ذلك الدلائل العقلية اليقينية

الحادي عشر: أن موجب ما ذكروه أن لا يكون الرب معبودا إلا بتعلق المعنى الذي سموه الوهم به وأن من نفى تعلق الوهم بمعنى في الرب فقد أبطل كون الرب محبوبا معبودا فمن قال بعد ذلك: إنه لا يقبل في الإلهيات هذه القضايا الوهمية فقد نفى كون الرب مستحقا لأن العبد وأن يحب وهذا حقيقة قولهم ولهذا كان حقيقة قولهم تعطيل الرب عن أن يكون موجودا وأن يكون مقصودا وأن يكون معبودا

وعلى هذا كانت أئمتهم كالقرامطة الباطنية الذين قادوا حقيقة قولهم وكذلك باطنية الصوفية الذين وافقوهم كأصحاب ابن عربي وابن سبعين فإن الذين عرفوا حقيقة قولهم كالتلمساني كانوا من أبعد الناس عن عبادة الله وطاعته وطاعة رسله وأشدهم فجورا وتعديا لحدود الله وانتهاكا لمحارمه ومخالفة لكتابة ولرسوله وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع

عود إلى مناقشة كلام ابن سينا عن الوهم

وحينئذ فنقول قوله: ( إن القضايا الوهمية كاذبة )

إن أراد به القضايا الكلية التي تناقض معقولا فتلك عندهم ليست من قضايا الوهم وإن أراد به ما يدركه الوهم من الأمور المعينة في المحسوسات فتلك صادقة عنده لا كاذبة وهي لا تعارض الكليات

وقوله: ( إن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ويقابلها )

فيقال له: هذا يقتضي تمكنها من الفطرة وثبوتها في النفس وأن الفطرة لا تقبل نقيضها وهذا يقتضي صحتها وثبوتها لا ضعفها وفسادها

وأما قوله: ( لأن الوهم تابع للحس فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم )

فيقال له: إن أردت بالوهم التابع للحس ما سميته وهما وهو توهم معاني جزئية غير محسوسة في المحسوسات الجزئية فلا ريب أن الوهم تابع للحس وهذا الوهم قد ذكرت أنه صحيح مطابق كالحس فإن قدحت في هذا قدحت في الحس وإن جعلت هذا معارضا للعقل كان بمنزلة جعل الحس معارضا للعقل

وإن أردت بالوهم ما يقضي قضاء كليا أن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه محال ونحو ذلك من القضايا الكلية التي تزعم أنها معارضة للعقل كان هذا الكلام باطلا من وجهين :

أحدهما: أن هذه قضايا كلية مطلقة والوهم قد ذكرت أن تصوراته جزئية فلا يكون هذا من الوهميات

الثاني: أن يقال: هذه القضايا الكلية كسائر القضايا الكلية التي مبادئها من الحس كالقضاء بأن السواد والبياض يتضادان والحركة والسكون يتناقضان والجسم الواحد لا يكون في مكانين وأمثال ذلك

بل هذه بمنزلة الحكم بأن الموجود إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا وإما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه وأمثال ذلك

فالقدح في هذه القضايا الكلية كالقدح في تلك فإن الجاز القدح في هذه لأن مبادئها الحس جاز القدح في تلك وإلا فلا إذ الحس وما يتبعه - مما يسمونه توهما وتخيلا - لا يدرك إلا أمورا معينة جزئية ثم يقضي الذهن قضاء كليا فإن جاز أن تكون تلك القضايا الكلية باطلة بسبب كونها مبدئها من هذا الوهم الذي هو في الأصل الصحيح عندهم جاز أن تكون القضايا الكلية باطلة إذا كان مبدئها من الحس عندهم

فلو قال قائل يمكن في الموجود غير المحسوس أن يكون لا وجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره - كان بمنزلة قول القائل: يمكن فيه أن يكون لا مباينا لغيره ولا محايثا له ولا مداخلا له ولا خارجا عنه

وإن جاز أن يقال لهذا: هذه قضايا وهمية والوهم تابع للحس جاز أن يقال للأول: وهذه قضايا وهمية أو يقال: قضايا حسية وحكم الحس والوهم لا يقبل إلا في الحسيات فلا يحكم في الوجود المطلق وتوابعه لأن ذلك معقول غير محسوس فما به ترد تلك القضايا الكلية يمكن أن يقال في أمثالها من القضايا الكلية المتناولة لجميع الموجودات والمعلومات

وأما قوله في بيان أنها كاذبة: ( من المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم )

فيقال له: هذا كلام على تقدير أن يكون للمحسوسات مباد لا يمكن تعلق الحس بها وهذا هو رأس المسألة وأول النزاع فإذا جعلت هذا حجة في إثبات مطلوبك فقد صادرت على المطلوب

ثم يقال لك: الوهم إنما يتصور عندك في الأمور الجزئية وهذه القضايا كلية لا جزئية

ويقال لك أيضا: هذا بعينه يرد عليك في تقسيم الوجود إلى: قائم بنفسه وبغيره وقديم ومحدث وجوهر وعرض وعلة ومعلول ونحو ذلك فإن ما ذكرته من هذه القضايا يتناول هذه

ويقال لك ما تعني بقولك: ( إن المحسوسات إذا كان لها مباد وأصول كانت قبل المحسوسات )

أتعني به أن ما أحسسناه له مباد وأصول لم نحسها؟ أم تعني به أن ما يمكن أن يحس به يجب أن يكون له مبدأ لا يمكن الإحساس به؟

فإن عنيت الأول فهو مسلم لكن لا يلزم من عدم إحساسنا بها أن لا يكون الإحساس بها ممكنا ولا يقول عاقل: إن كل ما لم نشهده الآن لا يمكن أن نشهده بعد الموت أو في وقت آخر فإنه ما من عاقل إلا ويجوز أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشهده الآن بل يجوز أن تكون هناك أفلاك ونجوم لا ندركها فضلا عن غيرها

وإن قال: إنه لا بد أن يكون لكل ما يمكن أن يحس به مبدأ لا يمكن أن نحس به فهذا ممنوع وهو رأس المسألة ولم يذكر عليه دليلا

وهو في إشاراته لم يذكر على ذلك من الأدلة إلا ما ذكره الرازي وأمثاله فإنه قال: ( في الوجود وعلله: إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال وأن ما لا يتخصص بمكان أو يوضع بذاته كالجسم أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم فلا حظ له ولا وجود )

قال: ( وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء فإنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد لا على الاشتراك الصرف بل بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود فذلك المعنى الموجود لا يخلو: إما أن يكون بحيث يناله الحس أو لا يكون فإن كان بعيدا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتش من المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا أعجب وإن كان محسوسا فله لا محالة: وضع وأين ومقدار معين وكيف معين لا يتأتى أن يحس بل ولا أن يتخيل إلا كذلك فإن كل محسوس وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال فلم يكن مقولا على كثيرين يختلفون في تلك الحال فإذن الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير المحسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل الكلي )

فهذا لفظه وأتباعه مشوا خلفه فأثبتوا ما ليس بمحسوس بإثبات الكليات المعقولة وقد عرف بالاضطرار أن الكليات لا تكون كلية إلا في العقل لا في الخارج بل ليس في الخارج كلي البتة والذي يقال إنه كلي طبيعي لا يوجد إلا معينا جزئيا فما كان كليا في العقل يوجد في الخارج معينا لا كليا كما قد بسط في موضعه

فهذا الكلام وأمثاله هو الذي يثبت به أن للموجود مبادئ لا يمكن أن يحس بها

وأما قوله: ( إذا كانت للمحسوسات مبادئ كانت غير محسوسة ) فتلبيس لأن لفظ ( المحسوس ) يراد به ما هو محسوس لنا بالفعل وما يمكن إحساسه ولا ريب أن المحسوسات بالفعل لها مبادئ غير محسوسة

لكن لم قلت: إن كل ما يمكن إحساسه له مبدأ لا يمكن إحساسه هذه حكاية المذهب

وأما قوله: ( ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه ) فهذا ممنوع وقد عرف أن أدلته على إثبات ذلك من جنس هذه الأدلة التي أثبت بها الموجودات العقلية الثابتة في الخارج بإثبات كليات وهو مثل إثباته لما كان خارج الذهن

ثم يقال له: الوهم المساعد للعقل: إن أردت به ما سميته وهما وهو ما يتصور في المحسوسات الجزئية معاني غير محسوسة كالصداقة والعداوة فليس في هذه التصورات مقدمة تساعد على إثبات موجود لا يمكن الإحساس به بل تلك المقدمات مثل إثبات الكليات وأمثالها ليس فيها مقدمة يتصورها هذا الوهم

وإن أردت بالوهم المساعد ما يقضي قضايا كلية مثل قضاء الذهن بأن بين هذا الإنسان وهذا الإنسان إنسانية مشتركة ونحو ذلك فهذه قضايا عقلية لا وهمية

وأيضا فالقاضي بإثبات إنسانية مطلقة هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو محايثا له كما أنه هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يقارن وجود أحدهما الآخر أو يتقدم عليه وأن كل موجود فلا بد أن يكون قائما بنفسه أو بغيره

فهذه القضايا الكلية إن سميتها وهمية كانت العقليات هي الوهميات وإن سميتها عقليات وقدرت تناقضها لزم تناقض العقليات

واعلم أن هؤلاء قد يجيبون بجواب يمكن أن يجاب به كل من قدح في العقليات الكلية

وقولك: ( فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم )

يقال لك: ما الوهم الناكص: أهو الذي سميته وهما؟ فذاك إنما يتصور معاني جزئية فليس له في الكليات حكم: لا بقبول ولا رد فلا يقال فيه: لا يقبل ولا ينكص كما لا يقال في القضايا الكلية: إن الحس يقبلها ولا يردها كما لا يقال: إن البصر يميز بين الأصوات والسمع يميز بين الألوان

وإن قلت: إن العقل يثبت موجودا معينا لا يمكن الإشارة إليه والوهم لا يتصور معينا لا يشار إليه

فيقال لك: العقل إنما يثبت أمورا كلية مطلقة لا يثبت شيئا معينا إلا بواسطة غيره كالحس وتوابع الحس ولهذا كان القياس العقلي المنطقي لا ينتج إن لم يكن فيه قضية كلية وإذا أردنا أن ندخل شيئا من المعينات تحت القضايا الكلية فلا بد من تصور للمعينات غير التصور للقضايا الكلية

فإذا علمنا أن كل شيء: فإما قائم بنفسه أو بغيره وان كل موجود: فإما واجب بنفسه وإما ممكن بنفسه وأن كل موجود: فإما قديم وإما محدث وأن كل موجود أو كل ممكن فهو: إما جوهر وإما عرض وأردنا أن نحكم على معين بأنه قديم أو محدث أو جوهر أو عرض أو واجب أو ممكن أو نحو ذلك فلا بد من أن نعينه بغير ما به علمنا تلك القضية الكلية فتصور المعين الداخل في القضية الكلية شيء وتصور القضية الكلية شيء آخر

فليتدبر الفاضل هذا ليتبين له أن من لم يثبت موجودا يمكن الإحساس به لم يثبت إلا قضايا كلية في الأذهان كما يثبتون العدد المطلق والمقدار المطلق والحقائق المطلقة والوجود المطلق وكل هذه أمور ثابتة في الأذهان لا موجودة في الأعيان

ولهذا من أثبت أن في الوجود موجودا واجبا قديما وقال: إنه يمتنع الإشارة إليه امتنع أن يكون عنده معينا مختصا ولزم أن يكون مطلقا مجردا في الذهن فلا حقيقة له في الخارج

وهذا مذهب أئمة الجهمية فإنهم يثبتون موجودا مطلقا يمتنع وجوده في الخارج فابن سينا وأتباعه يقولون: هو وجود مطلق بشرط نفي جميع الأمور الثبوتية وهو أبلغ الأقوال في كونه معدوما وآخرون يقولون: هو مطلق بشرط نفي الأمور الثبوتية والسلبية لا بشرط شيء من الأمور الثبوتية والسلبية كما يقول هذا وهذا طائفة من ملحدة الباطنية ومن وافقهم من الصوفية

ومن المعلوم أن الوجود المشروط فيه نفي هذا وهذا ممتنع فكيف بالمشروط فيه النفي؟ فإن ما اشترط فيه العدم كان أولى بالعدم مما لم يشترط فيه وجود ولا عدم ومما اشترط فيه نفي الوجود والعدم جميعا؟ وهذا هو المطلق بشرط الإطلاق

وهم يقرون في منطقهم ما هو متفق عليه بين العقلاء من أن المطلق بشر الإطلاق لا وجود له في الخارج ويقررون أن الفصول المميزة بين موجودين لا بد أن تكون أمورا وجودية لا تكون عدمية وهم لا يميزون الوجود الواجب عن الوجود الممكن إلا بأمور عدمية ومن ظن أن مذهب ابن سينا إثبات وجود خاص بمنزلة الوجود المشروط بسلب جميع الحقائق فجعل فيه وجودا مشتركا ووجودا مختصا لم يفهم مذهبه كما فعل ذلك الطوسي منتصرا له فلم يفهم مذهبه

والقونوي وأمثاله يقولون: هو المطلق لا بشرط وهذا إما أن يكون ممتنعا في الخارج وإما أن يكون جزءا من الممكنات فيكون الواجب جزءا من الممكنات

وقد بسط بيان تناقض أقوالهم في غير هذا الموضع واعتبر ما ذكرناه من أن كل ما يثبتونه بالبرهان القياسي فإنه قضايا كلية مطلقة بأنهم إذا أرادوا أن يعينوا شيئا موجودا في الخارج داخلا في تلك القضية الكلية عينوه إما بالحس الباطن أو الظاهر إذ العقل يدرك الكليات والحس هو الذي يدرك الجزئيات فإذا أثبتوا أن الحركة الإرادية مسبوقة بالتصور وأرادوا تعيين ذلك عينوا: إما نفس الإنسان فيشيرون إليها وإما النفس الفلكية فيشيرون إلى الفلك

وإن أثبتوا وجود موجود معين في الخارج يدخل تحت هذه القضية من غير إشارة إليه تعذر ذلك عليهم

وكذلك إذا ثبت بالعقل أن الكل أعظم من الجزء وأن الأمر المساوية لشيء واحد متساوية وأن الشيء الواحد لا يكون موجودا معدوما ونحو ذلك فمنى أراد الإنسان إدخال معين في هذه القضية الكلية أشار إليه والقضايا الكلية تارة يكون لجزيئاتها وجود في الخارج وتارة تكون مقدورة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان وهذا كثيرا ما يقع فيها الغلط والالتباس

وليس المقصود الأول بالعلم إلا علم ما هو ثابت في الخارج وأما المقدورات الذهنية فتلك بحسب ما يخطر للنفوس من التصورات سواء كانت حقا أو باطلا وما يثبته هؤلاء النفاة من إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه ولا هو داخل العالم ولا خارجه عند التأمل والتدبر نبين أنه من المقدرات الذهنية لا من الموجودات العينية

وغير أن ابن سينا وأتباعه م المنطقيين مثل أبي البركات صاحب المعتبر وغيره لم يخرجوا هذه القضايا التي سماها ابن سينا ( وهميات ) من الأوليات البديهيات كما أخرجها ابن سينا وما أظن صاحب المنطق أرسطو أخرجها أيضا

وأما قوله: ( وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها ) إلى آخره

يقال له: هذا أيضا مما يبين قوتها وصدقها فإنهم اعترفوا بأنها أقوى من المشهورات التي ليست بأولية وهذه المشهورات عند أكثر العقلاء من العقليات الضروريات فإذا كانت هذه أقوى منها لزم أن تكون أقوى من بعض العقليات الضروريات وذلك يوجب صدقها

وذلك أنه قال: ( فأما المشهورات فمنها هذه الأوليات ونحوها مما يجب قبوله لا من حيث هي واجب قبولها بل من حيث عموم الاعتراف بها ومنها الآراء المسماة بالمحمودة وربما خصصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلا الشهرة وهي أن لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه لم يؤدب بقبوله قضايا ما والاعتراف بها ولم يمكنه الاستقراء بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيات ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل والأنفة والحمية وغير ذلك - لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه وحسه مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان للإنسان قبيح وأن الكذب قبيح ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج ولو توهم الإنسان نفسه وأنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع أدبا ولم يطع أنفعالا نفسيا أو خلقا لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه ولي كذلك حال قضائه لأن الكل أعظم من الجزء وهذه المشهورات قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وإن كانت صادقة فليست تنسب إلى الأوليات ونحوها إذا لم يكن بينة الصدق عند العقل الأول إلا بنظر وإن كانت محمودة عنده والصادق غير المحمود وكذلك الكاذب غير الشنيع ورب شنيع حق ورب محمود كاذب

والمشهورات: إما من الواجبات وإما من التأديبات الصلاحية وما تتطابق عليها الشرائع الإلهية وإما خلقيات وانفعالات وإما استقرائيات وهي: إما بحسب الإطلاق وإما بحسب صناعة

قلت: ليس هذا موضع بسط القول

قال ابن سينا: ( وأما القضايا الوهمية فهي قضايا كاذبة إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها بسبب أن الوهم تابع للحس فما لا يوافق الحس لا يقبله الوهم ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها وهي أحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات مثل اعتقاد المعتقد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى وانه لا بد في كل موجود من أن يكون مشارا إلى جهة وجوده )

فيقال له: هذا الكلام إنما يصح أن لو ثبت وجود أمور لا يمكن الإحساس بها حتى يكون حكم هذه في ما هو مقدم على تلك أو ما هو أعم منها وثبوت وجود هذه الأمور إنما يصح إذا ثبت إمكان ذلك وإمكان ذلك إنما يصح إذا ثبت بطلان هذه القضايا التي يسميها الوهميات فلو أبطلت هذه الوهميات بإثبات ذلك لزم الدور فإن هذه القضايا تحكم بامتناع وجود ما لا يمكن الإشارة إليه والمقدمات التي تثبت ذلك ليست مسلمة عندها بل لا يمكن عندها تسليم ما يستلزم نقيض ذلك فإنه قدح في الضروريات بالنظريات

وأيضا فالوهم عندهم إنما يتصور معاني جزئية وهذه القضايا كلية فامتنع أن يكون وهمية

وأيضا فما يثبت به وجود هذه الموجودات قضايا سوفسطائية كما بين في موضعه

وأما قوله: ( وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها لكانت تكون مشهورة وإنما تثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية )

فيقال له: هذا من أصدق الدليل على صحتها وذلك أن هذه مشهورة عند جميع الأمم الذين لم تغير فطرتهم وعند جميع الأمم المتبعين لسنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المسلمين واليهود والنصارى وإنما يقدح فيها المبتدعة من أهل الديانات كالمعتزلة ونحوهم

وابن سينا لما كان من أتباع القرامطة الباطنية وهو يعاشر أهل الديانات المبتدعين من الرافضة والمعتزلة أو من فيه شعبة من ذلك وهؤلاء يقولون: إن الله ليس فوق العرش لم تكن هذه مشهورة عند هؤلاء

ومن المعلوم باتفاق هؤلاء وغيرهم أن الأنبياء لم يقدحوا في هذه القضايا ولا أخبروا بما يناقضها بل أخبار الأنبياء كلها توافق هذه القضايا

والقرآن والتوراة والإنجيل فيها من الموافق لهذه القضايا ما لا يحصيه إلا الله وكذلك في الأخبار النبوية والآثار السلفية بل لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم قول يناقض إثبات هذه القضايا

وابن سينا وأمثاله مقرون بان الكتب الإلهية إنما جاءت بما يوافق مذهب المثبتة للصفات والعلو بما لا يناقض ذلك وهم يسمون ذلك تشبيها ويقولون: الكتب الإلهية إنما جاءت بالتشبيه ويجعلون هذا مما احتجوا به كما قد حكينا كلامه في ذلك وأنه احتج بذلك على هؤلاء الذين وافقوه على نفي الصفات والعلو

وقال: إذا كان هذا التوحيد حق والأنبياء لم تخبر به بل بنقيضه فكذلك في أمر المعاد فكيف يزعم من هذا أن السنن الشرعية والديانات الحقيقة منعت هذه أن تكون مشهورة

فعلم أن المانع لشهرتها هو قول لم يوجد عن الأنبياء وأتباع الأنبياء وأن شهرتها إنما امتنعت بين هؤلاء الذين ابتدعوا قولا ليس مشروطا وحينئذ فيكون المانع من شهرتها عند من لم تشتهر عنده سنة بدعية لا شرعية وديانة وضعها بعض الناس ليست منقولة عن نبي من الأنبياء

ولا ريب أن المشركين والمبدلين من أهل الكتاب لهم شرائع وديانات ابتدعوها ووضعوها وتلك لا يجب قبولها عند العقلاء وإنما يجب أن يتبع ما يثبت نقله عن الأنبياء المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم

وكذلك قوله إنه: ( يثلم في شهرتها العلوم الحكمية )

فيقال له: قد نقل غيرك من الفلاسفة القدماء أنهم كانوا يقولون بموجب هذه القضايا كما بين ذلك ابن رشد الحفيد وغيره بل المنقول عن متقدمي الفلاسفة وأساطينهم بل أرسطو وعن كثير من متأخريهم القول بما هو أبلغ من هذه القضايا من قيام الحوادث بالواجب وما يتبع ذلك كما تقدم نقل بعض ذلك عنهم

وقوله: ( ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك لشدة استيلاء الوهم )

فيقال له: هذا يدل على تمكنها في الفطرة وثبوتها في الجبلة

وأنها مغروزة في النفوس فمن دفع ذلك عن نفسه لم يقاوم نفسه ولم يمكنه دفعها عن نفسه

وهذا حد العلم الضروري وهو الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه معه دفعه عن نفسه فإذا لم يمكن الإنسان أن يدفع هذه القضايا عن نفسه ولا يقاوم نفسه في دفعها تبين أنها ضرورية وأن هؤلاء الدافعين لها يريدون تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها وتغيير خلقه كأمثالهم من الجاحدين المكذبين بالحق الذين يكذبون بالحق المعلوم بالبهتان والسفسطة وأن قدحهم في هذا كقدح أمثالهم من السوفسطائية في أمثال هذه

وأما قوله: ( لشدة استيلاء الوهم )

فقد قلنا غير مرة: إن الوهم قد فسروه بالقوة التي تتصور معاني جزئية في محسوسات جزئية وهذا الوهم إنما تصرفه في الجزئيات من المعاني وأما هذه القضايا فهي قضايا كلية فهي من حكم العقل الصريح فالمخالف لها مخالف لصريح العقل وهو المتبع لقضايا الوهم الفاسد فإنه يثبت موجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو موجودا لا داخل العالم ولا خارجه وهذا الموجود لا يثبته في الخارج إلا الوهم والخيال الفاسد لا يثبته لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل ولا وهم مطابق ولا خيال مستقيم كما لا يثبته حس سليم فنفاة ذلك ينفون موجب العقل والشرع والحس السليم والوهم المستقيم والخيال القويم ويثبتون ما لا يدرك إلا بوهم فاسد وخيال فاسد

وقوله: ( على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر )

فيقال له: هذا أيضا حجة عليكم فإن المنازع يقول: أنه لم يقم دليل شرعي ولا عقلي على إثبات موجود لا يمكن أن يعرف بالحس بوجه من الوجوه وإن كان لا يمكن أن يعرف كثير من الناس بحسه ولا يمكن أن يعر ف بالحس في كثير من الأحوال

وقد عرف من مذهب السلف وأهل السنة والجماعة أن الله يمكن أن يرى في الآخرة وكذلك الملائكة والجن يمكن أن ترى وما يقوم بالمرئيات من الصفات يمكن أن يعرف بطريقها كما تعرف المسموعات بالسمع والملموسات باللمس ويقول: إن الرسل صلوات الله عليهم قسموا الموجودات إلى غيب وشهادة وأمروا الإنسان بالإيمان بما أخبروا به من الغيب

وكون الشيء شاهدا وغائبا أمر يعود إلى كونه الآن مشهودا أو ليس الآن بمشهود فما لم يكن الآن مشهودا يمكن أن يشهد بعد ذلك بخلاف هؤلاء النفاة فإنهم قسموا الموجودات في الخارج إلى محسوس وإلى معقول لا يمكن الإحساس به بحال

وهذا مما ينفيه صريح العقل لا مما يثبته وإنما المعقول الصرف ما كان ثابتا في العقل كالعلوم الكلية وليس للكليات وجود في الخارج مع انه قد يقال: إنه يمكن الإحساس بها أيضا إذا أمكن الإحساس بمحلها كما يمكن الإحساس بأمثالها من الأعراض كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك

لكن نحن لا نحس الآن بهذه الأمور بالحس الظاهر وعدم إحساسنا الآن بذلك لا يمنع أن الملائكة يمكنها الإحساس بذلك وأنه يمكننا الإحساس بذلك في حال أخرى وأنه يمكن كل واحد أن يحس بما في باطن غيره كما يمكنه الإحساس الآن بوجهه وعينه وإن كان الإنسان لا يرى وجهه وعينه فقد يشهد الإنسان من غيره ما لا يشهده من نفسه وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع

وأيضا فالحس نوعان: حس ظاهر يحسه الإنسان بمشاعره الظاهرة فيراه ويسمعه ويباشره بجلده وحسن باطن كما أن الإنسان يحس بما في باطنه من اللذة والألم والحب والبغض والفرح والحزن والقوة والضعف وغير ذلك

والروح تحس بأشياء لا يحس بها البدن كما يحس من يحصل له نوع تجريد بالنوم وغيره بأمور لا يحس بها غيره

ثم الروح بعد الموت تكون أقوى تجردا فترى بعد الموت وتحس بأمور لا تراها الآن ولا تحس بها

وفي الأنفس من يحصل له ما يوجب أن يرى بعينه ويسمع بأذنه ما لا يراه الحاضرون ولا يسمعونه كما يرى الأنبياء الملائكة ويسمعون كلامهم وكما يرى كثير من الناس الجن ويسمعون كلامهم

وأما من يقول بعض الفلاسفة: إن هذه المرئيات والمسموعات إنما هي في نفس الرائي لا في الخارج فهذا مما قد علم بطلانه بأدلة كثيرة وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

ومن كان له نوع خبرة بالجن: إما بمباشرته لهم في نفسه وفي الناس أو بالأخبار المتواترة له عن الناس علم من ذلك ما يوجب له اليقين التام بوجودهم في الخارج دع ما تواتر من ذلك عن الأنبياء

وكذلك ما تواتر عن الأنبياء من وصف الملائكة هو مما يوجب العلم اليقيني بوجودهم في الخارج كقصة ضيف إبراهيم المكرمين ومجيئهم إلى إبراهيم وإتيانه لهم بالعجل السمين ليأكلوه وبشارتهم لسارة بإسحاق ويعقوب ثم ذهابهم إلى لوط ومخاطبتهم له وإهلاك قرى قوم لوط وقد قص الله هذه القصة في غير هذه الموضع

وكذلك قصة مريم وإرسال الله إليها جبريل في صورة بشر حتى نفخ فيها الروح وكذلك قصة إتيان جبريل إلى النبي : تارة في صورة أعرابي وتارات في صورة دحية الكلبي

فمن علم أن الروح قد تحس بما لا يحس به البدن وأن من الناس من يحس بروحه وبدنه ما لا يحسه غيره من الناس توسع له طرق الحس ولم يرى الحس مقصورا على ما يحبه جمهور الناس في الدنيا بهذا البدن فإن هذا الحس غنما يدرك بعض الموجودات

وحينئذ فإذا قيل: إن كل قائم بنفسه أو كل موجود يمكن الإحساس به فإنه يراد بذلك ما هو أعم من هذا الحس بحيث يدخل في ذلك هذا وهذا وليس للنفاة دليل على إثبات ما ليس بمحسوس بهذا الحس والعقليات التي يثبتونها إنما هي الكليات الثابتة في الذهن وتلك في الحقيقة وجودها في الأذهان لا في الأعيان

وهذا منتهى ما عند ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة ولهذا كان كمال الإنسان عندهم أن يصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود ويجعلون النعيم والعذاب أمرين قائمين بالنفس من جملة أعراضها لا ينفصل شيء من ذلك عنها وقد بينا بعض ما في هذا القول من الضلال في غير هذا الموضع

ولهذا جعل في منطقه العلوم اليقينية العقلية هي هذه العقليات ونفى أن تكون المشهورات العملية من اليقينيات ونفى أن يكون ما يثبت الموجودات الحسية الغائبة من اليقينيات وسمى هذه وهميات فبإنكاره هذا أنكر الموجودات الغائبة عن إحساس أكثر الناس في هذه الدنيا فلم يصدق بالموجودات الغائبة ولا بكثير مما يشاهد في هذا العالم من الملائكة والجن وغير ذلك وبإنكاره المشهورات أن تكون يقينية أنكر موجب القوة العملية في النفس التي بها تستحسن ما ينفعها من الأعمال وتستقبح ما يضرها فأخرج الأعمال التي لا تكمل النفس إلا بها من أن تكون يقينية كما أخرجها من أن تكون من الكمال ولم يجعل كمال النفس إلا مجرد علم مجرد لا حب معه لله تعالى في الحقيقة وإنما الأعمال عندهم لأجل إعداد النفس لنيل ما يظنونه كمالا من العلم

وهذا العلم الذي يدعونه غالبه جهل وما فيه من العلم فليس علما بموجودات معينة وإنما هو علم أمور مطلقة في الذهن لا وجود لها في الخارج فلم يحصل له من الكمالات العلمية والعملية ما يوجب سعادتهم في الآخرة ولا نجاتهم من النار وكان كثير من اليهود والنصارى أقرب إلى السعادة والنجاة منهم كما قد بسط في موضعه

والمقصود هنا أن الناس متفقون على أن حكم الذهن بأنه ما من موجود قائم بنفسه وإلا يمكن الإشارة إليه وأنه يمتنع وجود موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له بل إن صانع العالم فوق العالم - ليس مما تواطأ عليه الناس وقبله بعضهم عن بعض كقول النفاة: إنه يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل ذلك مما أقر به الناس بفطرتهم وعرفوا ببدائه عقولهم وضروات قلوبهم

والقادحون فيما يسلمون ذلك ويدعون أن فطر الناس أخطأت في هذا الحكم وأنه من حكم الوهم والخيال الباطل

فإذا كانوا معترفين بأن هذا مما أقروا به بلا مواطأة لم يمكن أن يقال: إنهم كذبوا على فطرتهم لأن هؤلاء القائلين بذلك أضعاف أضعاف أضعاف أهل التواتر بل هم جماهير بني آدم فإذا قالوا: إن هذا أمر نجده في قلوبنا وفطرتنا وجب تصديقهم في ذلك

وحينئذ فلا يجوز إبطال هذه القضايا البديهية بقضايا نظرية لأن البديهيات أصل للنظريات فلو جاز القدح بالنظريات في البديهيات والنظريات لا تصح إلا بصحة البديهيات كان ذلك قدحا في أصل النظريات فلزم من القدح في البديهيات بالنظريات فساد النظريات وإذا فسدت لم يصح القدح بها وهو المطلوب

فهذا ونحوه يبين أنه لا تسمع من النفاة حجة على إبطال مثل هذه القضية البديهية ثم يبين فساد ما استدل به على بطلان ذلك

الرد على قول الرازي

الوجه الأول

أن يقال: من المعلوم أن هذا لا ينكره إلا من يقول بأن الله ليس داخل العالم ولا خارجه وينكرون أن يكون الله نفسه فوق العالم فإنهم يقولون: لو كان فوق العرش لكان مباينا له بالجهة مشارا إليه وذلك ممتنع عندهم فيجوزون وجود موجودين ليس أحدهما مباينا للآخر ولا مدخلا له ووجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ويقولون: الباري ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له

وطائفة من الفلاسفة تقول مثل ذلك فيما تثبته من العقول والنفس الناطقة ولهم في النفس الفلكية قولان

وإذا كان كذلك فجماهير الخلائق يخالفون هؤلاء ويقولون بأن الله نفسه فوق العالم وإذا كان الله نفسه فوق العالم فإن كان ذلك مستلزما لجواز الإشارة إليه وأن يكون مباينا للعالم بالجهة فلازم الحق حق وامتنع حينئذ وجود موجود لا مباين للعالم ولا محايث له ولا يشار إليه وإن أمكن أن يكون هو نفسه فوق العالم ويكون مع ذلك غير مشار إليه ولا مباين للعالم بالجهة - بطل قول هؤلاء النفاة فإنهم إنما نفوا أن تكون نفسه فوق العالم لأن ذلك عندهم مستلزم لكونه مشارا إليه ومباينا للعالم بالجهة وإذا بطل قولهم حصل المقصود ولم يكن إلى هذه المقدمات الضرورية حاجة

فالمقصود أنه لا يوافقهم على أنه ليس فوق العالم إلا أقل الناس ومن لم يوافقهم على ذلك فإما أن ينكر وجود موجودين: ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له وإما أن لا ينكر ذلك فإن لم ينكر ذلك مع إنكار قولهم بأنه ليس فوق العالم كان إنكاره لقولهم أعظم من ترك إنكاره لما يبطل قولهم

فإن المقصود ما يبطل قولهم فإذا كان الناس: إما منكر له وإما منكر لما يستلزم إبطاله ثبت اتفاق جمهور الناس على إنكاره وهو المطلوب

ثم يقال: هذه القضية قد صرح أئمة الطوائف الذين كانوا قبل أن يخلق الله الكرامية والحنبلية بأنها قضية بديهية ضرورية فمن ذلك ما ذكره عبد العزيز بن يحيى المكي المشهور صاحب الحيدة وهو من القدماء الذين لقوا الشافعي ومن هو أقدم من الشافعي وهو مشاهير متكلمي أهل السنة الذين اتفقت الأشعرية مع سائر الطوائف المثبتة على تعظيمه واتباعه

كلام عبد العزيز الكناني في مسألة الاستواء والعلو

قال في ( الرد على الزنادقة والجهمية ): ( زعمت الجهمية في قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] إنما المعنى استولى كقول العرب: استوى فلان على مصر استوى فلان على الشام يريد استولى عليها )

قال: ( فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه فإذا قال: لا قيل له: فمن زعم ذلك؟ فمن قوله: من زعم ذلك فهو كافر يقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه وذلك أن الله تبارك وتعالى أخبر أنه خلق العرش قبل خلق السماوات والأرض ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض

قال الله عز وجل: { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } [ هود: 7 ] فأخبر أن العرش كان على الماء قبل السماوات والأرض

ثم قال: { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } [ الفرقان: 59 ]

وقوله: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } [ غافر: 7 ] وقوله: { استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } [ البقرة: 29 ]

وقوله: { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } [ فصلت: 11 ]

فأخبر أنه استوى على العرش فيلزمك أن تقول: المدة التي كان على العرش فيها قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه إذ كان استوى على العرش معناه عندك: استولى فإنما استولى بزعمك في ذلك الوقت لا قبله

وقد روى عمران بن حصين عن النبي أنه قال: [ اقبلوا لبشرى يا بني تميم قد بشرتنا فأعطنا قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا: قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان قال: كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح ذكر كل شيء ]

وروي [ عن أبي رزين - وكان يجب النبي مسألته أنه قال: يا رسول الله كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق العرش على الماء ]

قال: ( فقال الجهمي: أخبرني كيف استوى على العرش؟ أهو كما يقال: استوى فلان على السرير فيكون السرير قد حوى فلانا وحده إذا كان عليه فيلزمك أن تقول: إن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه لأنا لا نعقل الشيء على الشيء إلا هكذا قال: فيقال له: أما قولك: كيف استوى؟ فإن الله لا يجري عليه: كيف وقد أخبرنا أنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى فوجب على المؤمنين أن يصدقوا ربهم باستوائه على العرش وحرم عليهم أن يصفوا كيف استوى لأنهم لم يخبرهم كيف ذلك ولم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت وحرم عليهم أن يقولوا عليه من حيث لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله ولكن يلزمك أيها الجهمي أن تقول: إن الله محدود وقد حوته الأماكن إذ زعمت في دعواك أنه في الأماكن لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه كما تقول العرب: فلان في البيت والماء في الجب فالبيت قد حوى فلانا والجب قد حوى الماء ويلزمك أشنع من ذلك لأنك قلت أفظع مما قالت به النصارى وذلك أنهم قالوا: إن الله عز وجل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد فكفروا بذلك وقيل لهم: ما أعظم الله إذ جعلتموه في بطن مريم ! وأنتم تقولون: إنه في كل مكان وفي بطون النساء كلهن وبدن عيسى وأبدان الناس كلهم ويلزمك أيضا أن تقول: إنه في أجواف الكلاب والخنازير لأنها أماكن وعندك أن الله في كل مكان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ! فلما شنعت مقالته قال: أقول: إن الله في كل مكان لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء ولا كالشيء خارجا عن الشيء ولا مباينا للشيء قال: فيقال له: أصل قولك: القياس والمعقول فقد دللت بالقياس والمعقول على أنك لا تعبد شيئا لأنه لو كان شيئا داخلا فمن القياس والمعقول أن يكون داخلا في الشيء أو خارجا منه فلما لم يكن في قولك شيئا استحال أن يكون كالشيء في الشيء أو خارجا من الشيء فوصفت لعمري ملتبسا لا وجود له وهو دينك وأصل مقالتك: التعطيل )

فهذا كلام عبد العزيز يبين أن القياس المعقول يوجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجا منه فإنه لا يكون شيئا وأن ذلك صفة توجب أن ما لا يكون في الشيء ولا خارجا منه فإنه لا يكون شيئا وأن ذلك صفة المعدوم الذي لا وجود له

والقياس هو الأقيسة العقلية والمعقول هو العلوم الضرورية وعبد العزيز هذا قبل وجود الحنبلية والكرامية كما تقدم

وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي والأشعري وأمثالهم وممن ذكر ذلك عنه أبو بكر بن فورك فيما جمعه من كلامه فإن جمع من كلامه وجمع كلام الأشعري أيضا وبين اتفاقهما في عامة أصولهما

كلام ابن كلاب في مسألة العلو

قال ابن كلاب: ( وأخرج من النظر والخبر قول من قال: لا في العالم ولا لخارج منه فنفاه نفيا مستويا لأنه لو قيل له: صفة بالعدم ما قدر أن يقول فيه أكثر منه ورد أخبار الله نصا وقال في ذلك ما لا يجوز في خبر ولا معقول وزعم أن هذا هو التوحيد الخالص والنفي الخالص عندهم هو الإثبات الخالص وهم عند أنفسهم قياسون )

قال: ( فإن قالوا: هذا إفصاح منكم بخلو الأماكن منه وانفراد العرش به قيل: إن كنتم تعنون خلو الأماكن من تدبيره وأنه عالم بها فلا وإن كنتم تذهبون إلى خلوها من استوائه عليها كما استوت على العرش فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله وعلى العرش ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض واستوى على الجدار وفي صدر البيت )

وقال أيضا أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب: ( يقال لهم: أهو فوق ما خلق؟ فإن قالوا نعم قيل ما تعنون بقولكم: إنه فوق ما خلق؟ فإن قالوا: بالقدرة والعزة قيل لهم: ليس عن هذا سألتكم وإن قالوا: المسألة خطأ قيل: فليس هو فوق فإن قالوا: نعم ليس هو فوق قيل لهم: وليس هو تحت فإن قالوا: ولا تحت أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم وإن قالوا: هو فوق وهو تحت قيل لهم: فوق تحت وتحت فوق )

وقال أيضا: ( يقال لهم: إذا قلنا: الإنسان لا مماس ولا مباين للمكان فهذا محال فلا بد من نعم قيل لهم فهو لا مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا نعم: قيل لهم فهو بصفة المحال من المخلوقين الذي لا يكون ولا يثبت في الوهم؟ فإذا قالوا: نعم قيل: فينبغي أن يكون بصفة المحال من هذه الجهة وقيل لهم أليس لا يقال لما ليس بثابت في الإنسان مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم قيل: فأخبرونا عن معبودكم: مماس هو أو مباين؟ فإذا قالوا: لا يوصف بهما قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق فلم لا تقولون: عدم كما تقولون للإنسان: عدم إذا وصفتموه بصفة العدم؟ وقيل لهم: إذا كان عدم المخلوق وجودا له فإذا كان العدم وجودا كان الجهل علما والعجز قوة )

وقد ذكر هذا الكلام وأشباهه ذكره عنه أبو بكر بن فورك في الكتاب الذي أفرده في لمقالاته وقال فيه: إنه أحب من سماه من أعيان أهل عصره: ( أن أجمع له متفرق مقالات أبي محمد بن كلاب شيخ أهل الدين وإمام المحققين المنتصر للحق وأهله المبين بحجج الله الذاب عن دين الله لما من به الله تعالى من معالم طرق دينه للحق وصراطه المستقيم السيف المسلول على أهل الأهواء والبدع الموفق لاتباع الحق والمؤيد بنصرة الهدى والرشد ) وأثنى عليه ثناء عظيما

قال: ( وكان ذلك على أثر ما جمعت من متفرق مقالات شيخنا الأشعري )

قال: ( ولما كان الشيخ الأول والإمام السابق أبو محمد عبد الله بن سعيد الممهد لهذه القواعد المؤسس لهذه الأصول والفاصل بحسن ثنائه بين حجج الحق وشبه الباطل بالتنبيه على طرق الكلام فيه والدال على موضع الوصل والفصل والجمع والفرق الفاتق لرتق الأباطيل والكاشف عن لبس ما زخرفوا وموهوا ) وذكر كلاما طويلا في الثناء عليه

والمقصود أن ابن كلاب إمام الأشعري وأصحابه ومن قبلهم كالحارث المحاسبي وأمثاله يبين أن من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه فقوله فاسد خارج عن طريق النظر والخبر وأنه قد ورد خبر الله نصا ولو قيل له: صفة بالعدم ما قدر أن يقول أكثر منه وأنه قال ما لا يجوز في خبر ولا معقول وأنهم قالوا: هذا هو التوحيد الخالص وهو النفي الخالص فجعلوا النفي الخالص هو التوحيد الخالص

وهذا الذي قاله هو الذي يقوله جميع العقلاء الذين يتكلمون بصريح العقل بخلاف من تكلم في المعقول بما هو وهم وخيال فاسد

ولذلك قال: ( إذا قالوا: ليس هو فوق وليس هو تحت فقد أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم )

وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة من متأخري الشيعة ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية وغيرهم من طوائف الفقهاء الذين بقولون: ليس هو تحت وليس هو فوق

وذكر حجة ثالثة فقال: ( أنتم تصفونه بالصفات الممتنعة التي مضمونها الجمع بين المتقابلين في الموجودات فيلزمكم أن تصفوه بسائر المتقابلات )

قال: ( فيقال لهم: إذا قلنا الإنسان - يعني: وغيره من الأعيان القائمة بأنفسها - لا مماس ولا مباين للمكان فهذا محال باعترافهم )

تعليق ابن تيمية

وهم يقولون: إنه لا مماس ولا مباين للمكان فيصفونه بالصفة المستحيلة الممتنعة في المخلوق التي لا تثبت في التوهم ويقولون: يجوز أن نصفه بما يمتنع تصوره وتوهمه في غيره من هذا السلوب فإذا جوزوا أن يوصف بما يمتنع تصوره في سائر الموجودات فليصفوه بسائر الممتنعات من الموجودات فيقولوا: لا هو قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا بغيره ولا متقدم على غيره ولا مقارن له ونحو ذلك ويقولوا: هذا إنما يمتنع في غيره من الموجودات لا فيه وحينئذ فيقولون: لا هو حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا موجود ولا معدوم وهذا منتهى قول القرامطة وهو جمع النقيضين أو رفع النقيضين

ومن المعلوم أن العقل إذا جزم بامتناع اجتماع الأمرين أو امتناع ارتفاعهما سواء كان أحدهما وجودا والآخر عدما وهو التناقض الخاص أو كانا وجودين فإنا نعلم ذلك ابتداء بما نشهده في الموجودات التي نشهدها كما أن ما يثبت من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام وأمثال ذلك إنما نعلمه ابتداء بما نعلمه في الموجودات التي نعرفها ثم إذا اخبرنا الصادق المصدوق عن الغيب الذي لا نشهده فإنما نفهم مراده الذي أراد أن يفهمنا إياه لما بين ما أخبر به من الغيب وبين ما علمناه في الشاهد من القدر الجامع الذي فيه نوع تناسب وتشابه فإذا أخبرنا عما الجنة من الماء واللبن والعسل والخمر والحرير والذهب لم نفهم ما أراد إفهامنا إن لم نعلم هذه الموجودات في الدنيا ونعلم أن بينها وبين ما في الجنة قدرا مشتركا وتناسبا وتشابها يقتضي أن نعلم ما أراد بخطابه وإن كانت تلك الموجودات مخالفة لهذه من وجه آخر

كما قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء رواه الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس وقد رواه غيره واحد منهم محمد بن جرير الطبري في التفسير في قوله: { وأتوا به متشابها } [ البقرة: 25 ]

وإذا كان بين المخلوق والمخلوق قدر فارق مع نوع من إثبات القدر المشترك الذي يقتضي التناسب والتشابه من بعض الوجوه فمعلوم أن ما بين الخالق والمخلوق من المفارقة والمباينة أعظم مما بين المخلوق والمخلوق فهذا مما يوجب نفي مماثلة صفاته لصفات خلقه ويوجب أن ما بينهما من المباينة والمفارقة أعظم مما بين مخلوق ولمخلوق مع أنه لولا أن بين مسمى الموجود الموجود والحي والحي والعليم والعليم والقدير والقدير وأمثال ذلك من المعنى المتفق المتواطئ المناسب والمتشابه ما يوجب فهم المعنى لم يفهمه ولا أمكن أن يفهم أحد ما أخبر به عن الأمور الغائبة

وإذا كان هذا في الخطاب السمعي الخبري فكذلك في النظر القياسي العقلي فإنما نعرف ما غاب عنا باعتباره بما شهدناه فيعتبر الغائب بالشاهد ويحصل في قلوبنا بسبب ما نشهده من الأعيان والجزئيات الموجودة قضايا كلية عقلية فيكون إدراج المعينات فيها هو قياس الشمول كالذي يسميه المنطقيون المقدمتان والنتيجة ويكون اعتبار المعين بالمعنى هو قياس التمثيل الجامع المشترك سواء كان هو دليل الحكم أو علة دليل الحكم

والناس في هذا المقام: منهم من يزعم أن القياس البرهاني هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل لا يفيد اليقين بل لا يسمى قياسا إلا بطريق المجاز كما يقول ذلك من يقوله من أهل المنطق ومن وافقهم من نفاة قياس التمثيل في العقليات والشرعيات كابن حزم وأمثاله ومنهم من ينفي قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كأبي المعالي ومتبعيه مثل الغزالي والرازي والآمدي وأبي محمد المقدسي وأمثالهم

ومنهم من يعكس ذلك فيثبت قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات كما هو قول أئمة أهل الظاهر مثل داو بن علي وأمثاله وقول كثير من المعتزلة البغداديين كالنظام وأمثاله ومن الشيعة الإمامية كالمفيد والمرتضى والطوسي وأمثالهم

وكثير من هؤلاء يقول: إن قياس التمثيل هو الذي يستحق أن يسمى قياسا على سبيل الحقيقة وأما تسمية قياس الشمول قياسا فهو مجاز كما ذكر ذلك الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرهما

والذي عليه جمهور الناس وهو الصواب أن كليهما قياس حقيقة وأن كليهما يفيد اليقين تارة والظن أخرى بل هما متلازمان فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك الذي هو علة الحكم أو دليل العلة أو هو ملزوم للحكم وهذا المشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول فإذا قال القايس: نبيذ الحنطة المسكر حرام قياسا على نبيذ العنب لأنه شراب مسكر فكان حراما قياسا عليه وبين أن المسكر هو مناط التحريم فيجب تعلق التحريم بكل مسكر - كان هذا قياس تمثيل وهو منزلة أن يقول: هذا شراب مسكر وكل مسكر حرام فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حدا أوسط هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى بل هما متلازمان وإنما يتفاوتان في ترتيب المعاني والتعبير عنها ففي الأول يؤخر الكلام في المشترك الذي هو الحد الأوسط وبيان أنه مستلزم للحكم متضمن له ويذكر الأصل الذي هو نظير الفرع ابتداء وفي الثاني يقدم الكلام في الحد الوسط ويبين شموله وعموه وانه مستلزم للحكم ابتداء

والمقصود هنا أنا إذا حكمنا بعقولنا حكما كليا يعم الموجودات أو يعم المعلومات مثل قولنا: إن الموجود: إما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما مشار إليه وإما قائم بالمشار إليه وكل موجودين: فأحدهما إما متقدم على الآخر وإما مقارن له وإما مباين له وإما محايث له وقلنا: إن الصانع: إما أن يكون متقدما على العالم أو مقارنا له وإما أن يكون خارجا عنه أو داخلا فيه - كان علمنا بهذه القضايا الكلية العامة بتوسط ما علمناه من الموجودات

فإذا كنا نعلم أن المعلوم: أما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما فادعى مدع أن الواجب لا يقال: إنه موجود لا معدوم أو ليس بموجود ولا معدوم - كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية - كنا وإن لم نشهد الغائب نعلم أن هذا الخير العام والقضية الكلية تتناول غيره وإذا قلنا لهذا: هل يمكنك إثبات شيء في الشاهد ليس بموجود ولا معدوم؟ قلنا: لا قلنا له: فكيف تثبت في الغائب ما ليس بموجود ولا معدوم؟ - كنا قد أبطلنا قوله

قول القائل: أنا لا أصفه بالوصفين المتقابلين لأن القابل لذلك لا يكون إلا جسما

فإذا قال: أنا أصفه لا بهذا ولا بهذا بل أنفي عنه هذين الوصفين المتقابلين لأن اتصافه بأحدهما إنما يكون لو كان قابلا لأحدهما وهو لا يقبل واحدا منهما لأنه لو قبل ذلك لكان جسما إذ هذه من صفات الأجسام فإذا قدرنا موجودا ليس بجسم لم يقبل لا هذا ولا هذا - قيل له: فهكذا سائر الملاحدة إذا قالوا: لا نصفه لا بالحياة ولا بالموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس ولا البصر ولا العمى ولا السمع ولا الصمم لأن اتصافه بأحدهما فرع لقبوله لأحدهما وهو لا يقبل واحدا منهما لأن القابل للاتصاف بذلك لا يكون إلا جسما فإن هذه من صفات الأجسام فإذا قدرنا موجودا ليس بجسم لم يقبل هذا ولا هذا فما كان جوابا لهؤلاء الملاحدة فهو جواب لك فما تخاطب به أنت النفاة الذين ينفون ما تثبته أنت يخاطبك به المثبتون لما تنفيه أنت حذو القذة بالقذة

ونحن نجيبك بما يصلح أن تجيب أنت ونحن به لسائر الملاحدة فإن حجتك عليهم قاصرة وبحوثك معهم ضعيفة كما بينا ضعف مناظرة هؤلاء الملاحدة في غير موضع

الرد عليه من وجوه

الوجه الأول

أن يقال: إن ما يقدر عدم قبوله ولهذا أشد نقصا واستحال وامتناعا من وصفه بأحد النقيضين مع قبوله لأحدهما وإذا قدرنا جسما حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما كالإنسان والملك وغيرهما كان ذلك خيرا من الجسم الأعمى الأصم الأبكم وإن أمكن أن يتصف بضد الكمال

وهذا الجسم الأعمى الأصم الذي يمكن اتصافه بتلك الكمالات أكمل من الجماد الذي لا يمكن اتصافه لا بهذا ولا بهذا والجسم الجماد خير من العدم الذي يكون لا مباينا لغيره ولا مداخلا له ولا قديما ولا محدثا ولا واجبا ولا ممكنا فأنت وصفته بما لا يوصف به إلا ما هو أنقص من كل ناقص

الوجه الثاني

أن يقال: قولك: ( فهذه من صفات الأجسام ) لفظ مجمل فإن عنيت أن يكون هذه الصفات لا يوصف بها إلا من هو من جنس المخلوقات وإذا وصفنا الرب بها لزم أن يكون من جنس الموجودات مماثلا لها - كان هذا باطلا فإنك لا تعلم أن هذه لا يوصف إلا مخلوق فإن هذا أو المسألة فلو قدرت أن تبين أن هذه لا يوصف بها إلا مخلوق لم تحتج إلى هذا الكلام يقال لك: لا سبيل لك إلى هذا النفي ولا دليل عليه

وإن قلت: إن هذه الصفات توصف بها المخلوقات وتوصف بها الأجسام

قيل لك: نعم وليس في كون الأجسام المخلوقة توصف بها ما يمنع اتصاف الرب بما هو اللائق به من هذا النوع كاسم الموجود والثابت والحق والقائم بنفسه ونحو ذلك فإن هذه الأمور كلها توصف بها الأجسام المخلوقة فإن طرد قياسه لزم الإلحاد المحض والقرمطة وأن يرفع النقيضين جميعا فيقول: لا موجود ولا معدوم ولا ثابت ولا منتف ولا حق ولا باطل ولا قائم بنفسه ولا بغيره وهذا لازم قول من نفى الصفات وحينئذ فيلزمه الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين ويلزمه أن يمثله بالممتنعات والمعدومات فلا يفر من محذور إلا وقع فيما هو شر منه

الوجه الثالث

أن يقال لهذا النافي للمباينة والمداخلة: أنت تصفه بأنه موجود قائم بنفسه قديم حي عليم قدير وأنت لا تعرف موجودا هو كذلك إلا جسما فلا بد من أحد الأمرين: إما أن تقول: هو موجود حي عليم قديم وليس بجسم فيقال لك: وهو أيضا له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم ويقال لك: هو مباين للعالم عال عليه وليس بجسم

وإن قلت: يلزم من كونه مباينا للعالم عاليا عليه أن يكون جسما لأني لا أعقل المباينة والمحايثة إلا من صفات الأجسام

قيل لك: ويلزم من كونه حيا عليما قديرا أن يكون جسما لأنك لا تعقل موجودا حيا عليما قديرا إلا جسما فهذا نظير هذا فما تقوله في أحدهما يلزمك نظيره في الآخر وإلا كنت متناقضا مفرقا بين المتماثلين

وإما أن تقول: أنا أقول: إنه موجود قائم بنفسه حي عليم قدير لأن ذلك قد علم بالشرع والعقل وإن لزم أن يكون جسما التزمته لأن لازم الحق حق

قيل لك: وهكذا يقول من يقول: إنه فوق العالم مباين له: أنا أصفه بذلك لأنه قد ثبت ذلك بالشرع والعقل وإذا لزم من ذلك أن يكون جسما التزمته لأن لازم الحق حق

وإما أن تقول: أنا لا أعرف لفظ الجسم أو تقول: لفظ الجسم فيه إجمال وإبهام فإذا عنيت به الجسم المعروف في اللغة وهو بدن الإنسان لم أسلم لأني لا أعلم موجودا حيا عالما قادرا إلا ما كان مثل بدن الإنسان فإن الروح هي أيضا حية عالمة قادرة وليست من جنس البدن وكذلك الملك وغيره

وإن عنيت بالجسم أنه يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بحيث ينفصل بعضه عن بعض الفعل

قيل: أنا أتصور موجودا عالما قادرا قبل أن أعلم أنه يمكن تفريقه وتبعيضه فلا يلزم من تصوري للموجود الحي العالم القادر أن يكون قابلا لهذا التفريق والتبعيض

وإن عنيت بالجسم أنه يمكن أن يشار إليه إشارة حسية لم يكن هذا ممتنعا عندي بل هذا هو الواجب فإن كان ما لا يمكن أن يشار إليه لا يكون موجودا

وإن عنيت بالجسم انه يمكن مركب من الجواهر المنفردة الحسية أو من المادة والصورة اللذان يجعلان جوهران عقليان فأنا ليس عندي شيء من الأجسام كذلك فضلا عن أن يقدر مثل ذلك فإذا كنت نافيا لذلك في المخلوقات البسيطة فتنزيه رب العالمين عن ذلك أولى

وإن عنيت بالتبعيض أنه يمكن أن يرى منه شيء دون شيء كما قال ابن عباس وعكرمة وغيرهما من السلف ما يوافق ذلك لم أسلم لك أن أن هذا ممتنع

وإن عنيت بالجسم أنه يماثل شيئا من المخلوقات لم نسلم الملازمة

فأي شيء أجبت به الملحدة من هذه الأجوبة قال لك المثبت لمباينته للعالم وعلوه عليه مثل ما قلت أنت لهؤلاء الملاحدة

قال ما تعني بقولك: لو كان عاليا على العالم مباينا له كان جسما؟ إن عنيت أنه بدن لم نسلم لك الملازمة

وإن عنيت انه يبل التفريق والتبعيض فكذلك

وإن عنيت أنه مركب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة لم نسلم الملازمة أيضا

وإن عنيت شيئا أنه يكون مماثلا لشيء من المخلوقات لم نسلم الملازمة

وإن عنيت أنه يشار إليه أو أنه يرى منه شيء دون شيء منع انتفاء اللازم

الوجه الرابع

أن يقال: الحكم بأن المعلوم: إما موجود وإما معدوم وأن الموجود: إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما متقدم على غيره وإما مقارن له وإما مباين لغيره وإما محايث له وأن القائم بنفسه أو القائم القابل لصفات الكمال: إما حي وإما ميت وإما عالم وإما جاهل وإما قادر وإما عاجز وإن ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله وأن المتصف بصفات الكمال أكمل من المتصف بصفات النقص وممن لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا

وهذه العلوم وأمثالها مستقرة في العقول وهي إما علوم ضرورية أو قريبة من الضرورية والقطع بها أعظم من القطع بوجود موجود لا يمكن الإشارة الحسية إليه وأن الواجب الوجود لا يشار إليه فإن ما يشار إليه فهو جسم فلو أشير إليه لكان جسما وليس بجسم فإن هذه الأمور إما أن تكون معلومة الفساد بالضرورة أو بالنظر وإما أن تكون إذا علمت لا تعلم إلا بطرق نظرية فلا يمكن القدح بها في تلك المقدمات الضرورية فالاعتبار والقياس تارة يكون بلفظ الشمول والعموم وتارة بلفظ التشبيه والتمثيل

وكذلك إذا قلنا: إما أن يكون قائما بنفسه أو بغيره أو قديما أو محدثا أو واجبا أو ممكنا فكذلك إذا قلنا: إما أن يكون مباينا أو محايثا أو داخلا أو خارجا

فبين ابن كلاب - وغره من أئمة النظار - لهؤلاء النفاة: أنكم إذا جوزتم خلو الرب عن الوصفين المتقابلين - الذين يعلمون أنه يمتنع خلو الوجود عنهما - لزمكم مثل ذلك وأن تصفوه بسائر الممتنعات فقال: إذا وصفتموه بأنه لا مماس ولا مباين وأنتم تعلمون أن الموجود الذي تعرفونه لا يكون إلا مماسا أو مباينا فوصفتموه بما هو عندكم محال فيما تعرفونه من الموجودات لزمكم أن تصفوه بأمثال ذلك من المحالات فتقولون: لا قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا غيره ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وأمثال ذلك

وذكر أيضا حجة أخرى رابعة فقال: أليس يقال لما ليس بثابت في الإنسان: لا مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم قيل: فأخبرونا عن معبودكم: مماس هو أم مباين؟ فإذا قالوا لا يوصف بهما قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق فلم لا تقولون عدم كما تقولون للإنسان: عدم إذا وصفتموه بصفة العدم

يقول: أنتم تعرفون أن سلب هذين المتقابلين جميعا هو من صفات المعدومات فالموجود الذي تعرفونه القائم بنفسه لا يقال: إنه ليس مباينا لغيره من الأمور القائمة بأنفسها ولا مماسا لها بخلاف المعدوم فإنه يقال: لا هو مماس لغيره ولا مباين له فإذا وصفتموه بصفة المعدوم فجعلتم ما هو صفة لما هو عدم في الموجودات صفة للخالق الموجود الثابت وحينئذ فيمكن أن يوصف بأمثال ذلك فيقال: هو عدم كما يوصف ما عدم من الأناسي بأنه عدم فقال لهم: إذا كان عدم الموجود وجودا له فإذا كان العدم وجودا كان الجهل علما والعجز قوة أي إذا جعلتم المعدوم - الذي لا يعقل إلا معدوما - جعلتموه موجودا أمكن حينئذ أن يجهل علما والعجز قوة والموت حياة والخرس كلاما والصمم سمعا والعمى بصرا وأمثال ذلك

وهذا حقيقة قول النفاة فإنهم يصفون الرب بما لا يوصف به إلا المعدوم بل يصفون الموجود الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم بصفات الممتنع الذي لا يقبل الوجود فإن كان هذا ممكنا أمكن أن يجعل أحد المتناقضين صفة لنقيضه كما ذكر

ولا ريب أن النفاة لا تقر بوصفه بالامتناع والعدم والنقائص لكن نقول: لا نصفه لا بهذا ولا بهذا لا نصفه بالعلم ولا الجهل ولا الحياة ولا الموت ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس

فإذا قيل لهم: عن لم يوصف بصفة الكمال لزم اتصافه بهذه النقائص

قالوا: هذا إنما يكون فيما يقبل الاتصاف بهذا وهذا

ويقول المنطقيون: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب والمتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعا بخلاف المتقابلين تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فإنهما قد يرتفعان جميعا إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات فإنها لما لم تقبل الحياة والبصر والعلم لم يقل فيها إنها حية ولا ميتة ولا عالمة ولا جاهلة وقد أشكل كلامهم هذا على كثير من النظار وأضلوا به خلقا كثيرا حتى الآمدي وأمثاله من أذكياء النظار اعتقدوا أن هذا كلام صحيح وأنه يقدح في الدليل الذي استدل به السلف والأئمة ومتكلمو أهل الإثبات في إثبات السمع والبصر وغير ذلك من الصفات

وهذا من جملة تلبيسات أهل المنطق والفلسفة التي راجت على هؤلاء فأضلتهم عن كثير من الحق الصحيح المعلوم بالعقل الصريح

وجواب هذا من وجوه بسطناها في غير هذا الموضع

منها أن يقال: فما يقبل الاتصاف بهذه الصفات مع إمكان انتفائه عنه أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها بحال فالحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة فيكون إما سميعا وإما أصم وإما بصيرا وإما أعمى وإما حيا وإما ميتا - أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا ولا هذا بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بهذا الكمال أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك

فإذا قلتم: إن الموجود الواجب لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال - مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها - جعلتموه أنقص من الحيوانات وجعلتموه بمنزلة الجمادات وكان من وصفه بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بالكمالات خيرا منكم فمن وصفه بالعمى والصمم والعور مع إمكان زول هذه النقائص عنه - كان خيرا منكم

وهم يشنعون بما يحكى عن بعض ضلال اليهود والنصارى من أن الله ندم على الطوفان حتى عض على إصبعه وجرى الدم وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وآلى على نفسه أنه لا يغرق بنيه وأن بعض بني إسرائيل وجده ينوح على خراب بيت المقدس وفي بعض كتب النصارى أنه ينام

ومن قال إن بشرا - كمسيح الهدى ومسيح الضلالة - أنه الله مع كونه يأكل ويشرب وأنه أعور

وأمثال هؤلاء الذين يصفونه بهذه النقائص - مع إمكان اتصافه بالكمال - هم خير ممن يقول: لا يمكن اتصافه بصفات الكمال بحال

بل من جعل يأكل ويشرب فهو خير ممن يقول: لا يمكن أن يكون حيا ولا عالما ولا قادرا فإن الحي الذي يأكل ويشرب خير من الجماد الذي لا يعلم ولا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر علم أن من نفى عنه صفات الكمال كان شرا من جميع هذه الطوائف فإنهم جعلوه كالمعدوم أو الجماد وهؤلاء شبهوه بالحيوان الذي فيه صفة كمال مع نوع من النقص فكان تعطيل الأول له من صفات الكمال وتمثيله له بالمعدومات والجمادات شرا من تعطيل هذا له عن بعض صفات الكمال مع إثباته لكثير من صفات الكمال وكان تشبيهه له بالحيوان أمثل من تشبيه ذاك له بالجماد والمعدوم

وهكذا من قيل له: هو واجب فإنه إن لم يكن واجبا كان ممكنا وهو قديم فإنه إن لم يكن قديما كان محدثا وهو خالق فإن القائم بنفسه إن لم يكن خالقا كان مخلوقا وهو مباين للعالم خارج عنه فإنه إن لم يكن مباينا له خارجا عنه كان داخلا فيه محصورا محوزا

كلام الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة في إثبات علو الله واستوائه

وممن ذكر ذلك الإمام أحمد فيما خرجه في ( الرد على الزنادقة والجهمية ) قال: ( بيان ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش قلنا لم أنكرتم أن الله على العرش؟ وقد قال الله عز وجل: { الرحمن على العرش استوى } [ طه: 5 ] فقالوا هو تحت الأرضين السبعة كما هو على العرش فهو على العرش وفي السماوات وفي الأرض وفي كل مكان لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان وتلو آيات من القرآن: { وهو الله في السماوات وفي الأرض } [ الأنعام: 3 ] فقلنا قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء

فقالوا: أي شيء؟ قلنا أحشاؤكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء وقد أخبرنا أنه في السماء فقال: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } [ الملك: 16 ] { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } [ الملك: 17 ] وقال تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب } [ فاطر: 10 ] وقال: { إني متوفيك ورافعك إلي } [ آل عمران: 55 ] وقال: { بل رفعه الله إليه } [ النساء: 158 ] وقال: { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } [ الأنبياء: 19 ] وقال: { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل: 50 ] وقال: { ذي المعارج } [ المعارج: 3 ] وقال: { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام: 18 ] وقال: { وهو العلي العظيم } [ البقرة: 255 ]

فهذا خبر الله أنه في السماء ووجدنا كل شيء أسفل مذموما بقول الله عز وجل: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء: 145 ] وقال: { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين } [ فصلت: 29 ]

وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد؟

ولكن معنى قول الله عز وجل: { وهو الله في السماوات وفي الأرض } [ آل عمران: 129 ] يقول: هو إله من في السماوات وإله من في الأرض وهو الله على العرش وقد أحاط الله بعلمه ما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان

وذلك قوله تعالى: { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } [ الطلاق: 12 ]

ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يديه قدح من قوارير صاف وفيه شيء صاف لكان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح والله وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه

وخصلة أخرى لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها وخرج منها كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار

فالله عز وجل - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع ما خلق وعلم كيف هو وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق

وما تأوله الجهمية من قول الله عز وجل: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [ المجادلة: 7 ] فقالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا قال: فقلنا: فلم قطعتم الخبر من أوله بأن الله يقول: { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } يعني: إلا الله - بعلمه - رابعهم { ولا خمسة إلا هو } بعلمه { سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم } يعني بعلمه فيهم { أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } [ المجادلة: 7 ] يفتح الخبر بعلمه فيهم ويختمه بعلمه

ويقال للجهمي: إذا قال: إن الله معنا بعظمة نفسه قيل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟ فإن قال: نعم فقد زعم أن الله يباين خلقه وأن خلقه دونه وإن قال لا كفر وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم فقل له: حين خلق الشيء خلقه من نفسه أو خارجا من نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل: واحد منها: إن زعم أن الله خلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة )

تعليق ابن تيمية

فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له ومع المحايثة: إما أن يكون هو العالم وإما أن يكون العالم فيه لأنه سبحانه قائم بنفسه والقائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها قد تكون جميعا قائمة بغيرها

فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده وأن أحدا لا يقول به إذ من المعلوم لكل أحد أن الله تعالى قائم بنفسه لا يجوز أن كون من جنس الأعراض التي تفتقر إلى محل يقوم به

وكذلك من هذا الجنس قول من يقول: لا هو مباين ولا محايث لما كان معلوما بصريح العقل بطلانه لم يدخله في التقسيم إذ من المستقر في صريح العقل أن الموجود: إما مباين لغيره وإما مداخل له فانتفاء هذين القسمين يبطل قول من يجعله لا مباينا ولا مداخلا كالمعدوم وقول من يجعله حالا في العالم مفتقرا إلى المحل كالأعراض إذ المفتقر إلى المحل لا يقوم بنفسه ولا يكون غنيا عما سواه فيمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه

ولهذا لم يقل مثل هذا أحد من العقلاء وإن قال بعضهم ما يستلزم ذاك فما كل من قال مذهبا التزم لوازمه

وقد نفى أيضا قول من يقول: هو في كل مكان بتقسيم آخر من هذا الجنس إذ القائل بأنه لا داخل العالم ولا خارجه لا يمكنه أن ينفي قول من يقول: إنه في كل مكان لأنه إن جوز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يقبل الإشارة إليه لم يمكنه مع هذا السلب أن ينفي قول من يقول: هو في كل مكان لا الجسم مع الجسم ولا كالعرض مع العرض أو الجسم فإنه إذا احتج على نفي ذلك بأنه لو كان في كل مكان للزم احتياجه إلى محل أو نحو ذلك قال له المنازع: هو في كل مكان وهو مع ذلك لا يحتاج إلى محل فإن المحتاج إلى المحل إنما هو العرض أو الجسم وهو ليس بجسم ولا عرض بل هو لا مماس للأشياء ولا مباين لها إذ المماسة والمباينة من صفات الجسم وهو ليس بجسم

كما قد يقول: إنه في كل مكان وليس بحال ولا مماس ولا مباين فإذا قال النافي: هذا لا يعقل قال له نظيره الذي يقول: لا داخل العالم ولا خارجه: وقولك أيضا لا يعقل فكلا القولين مخالف للمعروف في العقول فليس إبطال أحدهما دون الآخر بأولى من العكس

وإنما يمكن أن يرد على الطائفتين أهل الفطر السليمة الذين لم يقولوا ما يناقض صريح العقل

ومن المعلوم أن من قال: إنه في العالم مثل كون القائم بنفسه في القائم بنفسه - كان قوله أقل فسادا من قول من قال: إنه في العالم كالقائم بغيره مع القائم بنفسه فإن هذا لا يقوله عاقل فإذا بطل الأول بطل الثاني

فأبطل الإمام أحمد هذا القول أيضا فقال: ( بيان ما ذكره الله في القرآن من قوله تعالى: { وهو معكم } [ الحديد: 4 ]

كلام آخر للإمام أحمد عن المعية

وهذا على وجوه: قول الله لموسى: { إنني معكما } [ طه: 46 ] يقول في الدفع عنكما

وقال: { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } [ التوبة: 40 ] يقول: في الدفع عنا وقال: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } [ البقرة: 249 ] يقول: في النصر لهم على عدوهم

وقال: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم } [ محمد: 35 ] في النصر لكم على عدوكم

وقال: { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم } [ النساء: 108 ] يقول: بعلمه فيهم

وقال: { فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين } [ الشعراء: 61 62 ] يقول: في العون على فرعون

قال: ( فلما ظهرت الحجة على الجهمي لما ادعى على الله أنه مع خلقه في كل شيء غير مماس للشيء ولا مباين منه فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماسا؟ قال: لا قلنا فكيف يكون في كل شيء غير مماس له ولا مباين له؟ فلم يحسن الجواب فقال: بلا كيف فخدع الجهال بهذه الكلمة وموه عليهم فقلنا له: إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء؟ قال: بلى قلنا: فأين يكون ربنا: قال: يكون في الآخرة في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا في كل شيء قلنا فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو على العرش وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة وما كان من الله في النار فهو في النار وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى )

تعليق ابن تيمية

فكان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يبينون فساد قول الجهمية سواء قالوا: إنه في كل مكان أو قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه أو قالوا: إنه في العالم أو خارج العالم إذ جماع قولهم أنه ليس مباينا للعالم مختصا بما فوق العالم

ثم هم مع هذا مضطربون: يقولون هذه تارة وهذا تارة ولا يمكن بعض طوائفهم أن يفسد مقالة الأخرى لاشتراكهم في الأصل الفاسد

ولهذا كان الحلولية والاتحادية منهم الذين يقولون: إنه في كل مكان يحتجون على النفاة منهم الذين يقولون: ليس مباينا للعالم ولا مداخلا له بأن قد اتفقنا على أنه ليس فوق العالم وإذا ثبت ذلك تعين مداخلته للعالم إما أن يكون وجوده وجود العالم أو يحل في العالم أو يتحد به كما قد عرف من مقالاتهم

والذين أنكروا الحلول والاتحاد من الجهمية ليست لهم على هؤلاء حجة إلا من جنس حجة المثبتة عليهم وهو قول المثبتة: إن ما لا يكون داخلا ولا مباينا غير موجود فإن أقروا بصحة هذه الحجة بطل قولهم وإن لم يقروا بصحتها أمكن إخوانهم الجهمية الحلولية أن لا يقروا بصحة حجتهم إذ هما من جنس واحد

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55