درء تعارض العقل والنقل/48
شرح الرازي لكلام ابن سينا
عدلقلت: والرازي قد شرح هذا الكلام إلى أن وصل إلى آخره وهو قوله: وإليك الاختيار بعقلك دون هواك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا وقال: فاعلم أن الغرض منه الوصية بالتصلب في مسألة التوحيد ولكنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة القدم والحدوث وإن كان الغرض منه إنما هي المقدمة التي منها يظهر الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا لأن القائلين بالقدم يقولون: ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى الواجب بذاته فسواء كان الواجب واحدا أو أكثر من واحد لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتتنية فثبت أنه لا تعلق لمسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد
تعليق ابن تيمية
عدلقلت: لقائل أن يقول: بل ابن سينا عرف أن قوله لا يتم إلا بما ادعاه من التوحيد الذي مضمونه نفي صفات الرب وأفعاله القائمة بنفسه كما وافقه على ذلك من وافقه من المعتزلة وبموافقتهم له على ذلك استطال عليهم وظهر تناقض أقوالهم وإن كان قوله أشد تناقضا من وجه آخر لكنه صار يحتج على بطلان قولهم بما اشتركوا هم وهو فيه من نفي صفات الله الذي هو أصل الجهمية وهكذا هو الأمر فإن حجة القائلين بقدم العالم التي اعتمدها أرسطو طاليس وأتباعه كالفارابي وابن سينا وأمثالهما لا تتم إلا بنفي أفعال الرب القائمة بنفسه بل وتبقى فاته وإلا فإذا نوزعوا في هذا الأصل بطلت حجتهم وإذا سلم لهم هذا الأصل صار لهم حجة على من سلمه لهم كما أن عليهم حجة من جهة أخرى
ولهذا كان مآل القائلين بنفي أفعال الرب الاختيارية القائمة به في مسألة قدم العالم: إما إلى الحيرة والتوقف وإما إلى المعاندة والسفسطة فيكونون إما في الشك وإما في الإفك ولهذا كان الرازي يظهر منه التوقف في هذه المسألة في منتهى بحثه ونظره كما يظهر في المطالب العالية أو يرجح هذا القول تارة كما رجح القدم في المباحث المشرقية وهذا تارة كما يرجح الحدوث في الكتب الكلامية
وابن سينا وصى بالأصل المتضمن نفي صفات الرب وأفعاله القائمة به ثم ذكر القولين في قدم العالم وحدوثه مع ترجيحه القدم مفوضا إلى الناظر الاختيار بعد أن يسلم الأصل الذي به يحتج على القائلين بالحدوث
ونحن نبين إن شاء الله أن قوله مع تسليم نفي الصفات والأفعال القائمة بالله أشد فسادا وتناقضا من قول القائلين بالحدوث فإن كان في قول هؤلاء ما يناقض صريح العقل ففي قول أصحابه من مناقضة المعقول الصريح ما هو أشد من ذلك وذلك أنه إذا كانت الذات بسيطة ليس لها فعل يقوم بها أصلا بل كان امتناع صدور الأمور المختلفة والحادثة عنها بوسط أو بغير وسط دائما أشد امتناعا من صدور ذلك بعد أن لم يصدر فإنه إن أمكن أن يحدث عنها حادث بلا سبب محدث منها أمكن حدوث الحوادث عنها بعد أن لم تحدث وإن لم يمكن كان حدوث الحوادث المختلفة عنها بوسط أو غير وسط دائما من غير فعل منها هو أبعد في الامتناع من صدور المختلفات عنها بعد أن لم تصدر
ولهذا كان أرسطو طاليس مقدم هؤلاء لم يذكر علة فاعلة لحدوث الحركة وإنما ذكر أن سبب الحوادث الحركة الفلكية وما يحدث عنها وذكر لذلك علة غائية فذكر أن كل متحرك فلا بد له من محرك يحركه وجعل الأول يحرك الفلك كما يحرك الإمام المقتدى به المشبه به للمأموم المقتدى المتشبه وقد يشبه ذلك كما يحرك المعشوق عاشقه
ومعلوم أن هذا التحريك ليس هو بفعل من المحرك ولا قصد وتلك الحركة حادثة بعد أن لم تكن فنسأل عن الفاعل لتلك الأجسام الممكنة فإن الممكن وإن كان قديما لا بد له من فاعل فما الفاعل لها؟ ونسأل عن العلة الفاعلة لتلك الحوادث فإن المتحرك ممكن فالمحرك إذا كان أمورا تحدث في ذاته كما يقولونه في تصورات النفس الفلكية وشوقها قيل لهم: فما المحدث لتلك التصورات والارادات شيئا بعد شيء وهي أمور ممكنة كانت بعد أن لم تكن وهي قائمة بممكن هو مفتقر إلى غيره ليس بواجب بنفسه معلوم أن الحركة لا يكفي في حدوثها العلة الغائية بل لا بد من العلة الفاعلية ومعلوم أن افتقار الفعل إلى الفاعل إن لم يكن مثل افتقاره إلى الغاية لم يكن دونها بل العقل يعلم افتقار الفعل الحادث إلى الفاعل قبل علمه بافتقاره إلى الغاية
وأرسطو وأتباعه إنما زعموا افتقاره إلى الغاية المنفصلة عنه ولم يذكروا احتياجه إلى الفاعل المنفصل عنه
ومعلوم أن الموجب لحدوث الحركة يحدثها شيئا بعد شيء فلا بد له من محدث منفصل كما أنه لا بد له من غاية منفصلة بطريق الأولى فإن جوز المجوز أن يكون هو المحدث لفعله من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكنا فلنجوز أن يكون هو غاية لنفسه من غير افتقار إلى شيء منفصل مع كونه ممكنا وذلك ممتنع عندهم
وأيضا فمن المعلوم أن الممكن الذي ليس له شيء من نفسه بل ذاته نفسها من غيره يمتنع أن يكون شيء من أفعاله من نفسه بدون افتقاره في ذلك إلى غيره كما يمتنع أن تكون صفاته وأبعاضه من نفسه من غير افتقار في ذلك إلى غيره
فإن ما به يعلم أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون بنفسه موجودا يعلم أن سائر ما يحصل له من الصفات والأفعال لا تكون بنفسه فإن ما لا يوجد بنفسه بل بغيره كيف يكون موجدا لغيره بنفسه بدون غيره؟
والكلام في هذه المسألة من جنس الكلام في مسألة خلق أفعال العباد فكلما نعلم أن الله خالق أفعال العباد نعلم أنه خالق حركات الفلك إذا قدر أنها اختيارية وإن قدر أنها اختيارية كان الأمر أولى وأولى فإن القدرية تنازع في الأول لا تنازع في الثاني
وليس القائل أن يقول: إن هؤلاء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه قد يسلكون في حركات الأفلاك الاختيارية مسلك القدرية الذين لا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد
لأنه يقال: أولا: ليس هذا مذهبهم بل عندهم أن أفعال الحيوان وغير ذلك من الممكنات صادرة عن واجب الوجود وهذا هو الموجود في كتب الذين نقلوا مذهبهم كابن سينا وأمثاله
وأيضا فيقال لهم: إما تجوزوا على الحي أن يحدث الأفعال من غير سبب من خارج يقتضي حدوث تلك الأفعال لست أعني من غير مقصور يحدث بل من غير مقتض للفعل وإما ألا تجوزوه
فإن لم تجوزوا على الحي ذلك لزمكم أن الفلك الحي عندكم لا تحدث حركته إلا بسبب منفصل يكون مقتضيا لفعل الحدوث لا يكفي أن يكون ذلك متشبها به ثم القول في حدوث اقتضاء ذلك المقتضى كالقول في حدوث حركة الفلك فيلزم أن يكون فوق الفلك سبب فاعل للحوادث وذلك يبطل قولهم فإنه ليس عندهم فوق الفلك حركة ولا فعل بوجه من الوجوه
وإن جوزوا على الحي أن يحدث الأفعال بغير سبب حادث من غيره لم يمتنع حينئذ حدوث العالم من الحي بدون سبب حادث عن غيره
كلام ثابت بن قرة في تلخيص ما بعد الطبيعة وتعليق ابن تيمية عليه
فذكر أرسطو طاليس في كتاب ما بعد الطبيعة وهو العلم الإلهي الذي هو أصل حكمتهم نهاية فلسفتهم فيما حكاه عنه ثابت بن قرة فإنه قال في كتاب تلخيص ما أتى به أرسطو طاليس فيما بعد الطبيعة: إن أرسطو طاليس يأتي في كتابه هذا بأقاويل فيها إغماض يرمي فيها إلى غرض واحد إذا وفى حقه من الشرح والبيان قبل على هذه الجهة مما جرى الأمر فيه على صناعة البرهان سوى ما جرى من ذلك مجرى الإقناع
وقال: إنما عنون أرسطو كتابه هذا بما بعد الطبيعة لأن قصده فيه: البحث عن جوهر غير متحرك وغير قابل للشوق إلى شيء خرج عن ذاته
وقال: إن الجوهر الجسماني كله الوجود مبتدأ لمتكون إنما قوامه بطبيعته الخاصة به وطبيعته الخاصة به إنما قوامها بصورته الخاصة به وصورته الخاصة به المقومة لذاته إنما قوامها بحركته الخاصة به وكل متحرك بحركة خاصة به فإنما يتحرك إلى تمام وتمام كل واحد من الأشياء ملائم لطبيعته وموافق لها وكل متحرك إلى ما لاءمه ووافق طبيعته فبالشوق والمحبة والتوق منه إليه يتحرك والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق والشيء المشتاق معلول له من جهة تلك العلة وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام فتنساق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك كما بين أرسطو ذلك في كتابه المعروف بـ السماع الطبيعي
لأنه وإن وجد بعضها يحرك بعضا فالمتحرك الأقصى متحرك عن محرك غير متحرك والمحرك الأول علة الصورة المقومة لجوهر كل واحد من الأشياء المتحركة حركة خاصية فقوام جوهر كل واحد من الأشياء المتحركة ليس له في ذاته لكنه من الشيء الذي هو السبب الأول في حركته
فيقال لهم: هب أن الحركة الإرادية لا تتصور إلا بمحبوب منفصل عنها لكن إذا كان المتحرك ليس واجبا بنفسه لا هو ولا حركته فما الموجب له ولحركته؟ وأنتم لم تجعلوا المحرك الأول محركا إلا من جهة كونه محبوبا معشوقا لا من جهة أنه فعل شيئا أصلا
قال ثابت: وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن كل ما يتحرك فحركته بالشوق إلى شيء والصورة الأولى فيما هو في الكون وفيما هو موجود الحركة الخاصة به فالمحرك الأول إذن هو المبدأ والعلة في وجود صور الجواهر الجسمانية كلها وبقائها إذ كنا متى توهمنا ارتفاع وجود الحركة الطبيعية وإن شئت أن تقول: القوي من كل واحد من الأجسام التي له فسد جوهره لا محالة
ثم ذكر سؤالا وجوابا مضمونه: إن الجوهر الجسماني لا قوام له إلا بطبيعته التي قوامها بحركته الخاصة به
قال: فإن ظن أحد أن هذا الجوهر إذ قدرت صورته الطبيعية باطلة منه انحل إلى شيء آخر أبسط منه ليس في طبيعته حركة خاصة به فيكون حينئذ في ذاته لا معلول لكن المركب فيه معلول
فأرسطو طاليس يقول: إن هذا الظن باطل محال لأن ذلك البسيط إنما يوجد حينئذ في الوهم الفكري فقط فأما في خاصة نفسه مفردا فلا وجود له بالحقيقة لا قوام لذاته وليس بهذا المعنى فقط يترك هذا الظن لكنه يرى أنه يوجد في ذلك البسيط الذي ينحل إليه الجوهر الجسماني في الوهم إذا توهمنا فساد صورته تلك قبول صورة أخرى فهو معلول في ذلك القبول من المحرك الأول
فإن ظن ظان أنه معلول من جهة ذلك القبول فقط قلنا: فإن أنزلنا إزالة ذلك القبول نفسه من أنه قد بطل وجب أن تبطل ذاته يعني فتفسد وتنحل طبيعته التي بها هو حينئذ ما هو إذ كانت ذاته تلك حينئذ إنما هي التي في طبيعتها القبول فإن قيل أيضا: إنها تنحل إلى شيء آخر كان الجواب فيه كما أجبنا في الانحلال الأول وليس يمكن أن ينحل هذا دائما إلى ما لا نهاية له
قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر جسماني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ الأول بحركة الجميع
قلت: فهذا هو تقريرهم لوجود العلة الأولى التي هي المبدأ الذي يسميه المتأخرون: واجب الوجود بذاته وهي طريقة المتقدمين من المشائين وأما الطريقة المشهورة عند المتأخرين: وهي الاستدلال بمطلق الوجود على الواجب فهذه هي التي سلكها ابن سينا ومتبعوه ثم هذه طريقة أرسطو وأتباعه المشائين: مضمونها أن كل جسم لا يتقوم إلا بطبيعته ولا تتقوم طبيعته إلا بحركة إرادية لا تتقوم تلك إلا بمحبوب معشوق لا يتحرك ثم إن أرسطو أورد على نفسه سؤالا بأنه يمكن تقدير بطلان طبيعة الجسم الخاصة وبطلان حركته بانحلاله إلى شيء أبسط منه فلا يكون المحرك علة لذاته بل علة للتركيب فقط
وأجاب بأن البسيط إنما يوجد في الذهن لا في الخارج وأجاب أتباعه بجواب ثان وهو أنه يكون فيما انحل إليه قبول والقبول حركة
وهذا الجواب ساقط فإنه إذا قدر أن فيه قبولا لم يجب أن يكون ذلك حركة إرادية شوقية وإذا لم تكن الحركة إرادية شوقية لم يستلزم وجود محبوب بل يستلزم وجود فاعل مبدع وهم لم يثبتوا ذلك
وكذلك تقدير أرسطو تقدير فاسد فإنه إذا قدر أن الحركة لا تتم إلا بطبيعة تستلزم الحركة الإرادية مع أن في تقدير هذا كلاما ليس هذا موضع بسطه لكن بتقدير أن هذا سلم له فغاية ما في هذا أن يكون الجسم المتحرك بالإرادة مفتقرا إلى المعشوق الذي هو غايته وأنه لا يتم وجوده إلا به فيكون وجوده شرطا في وجوده بأن يقال: لا قوام للجسم إلا بطبيعته ولا قوام لطبيعته إلا بحركته ولا قوام لحركته إلا بالمحرك المنفصل الذي هو محبوب معشوق فغاية ما في هذا أنه لابد من وجود محبوب معشوق ولا يمكن وجود الجسم المتحرك إلا به لكن مجرد المحبوب المنفصل لا يكفي في وجود الجسم الممكن الذي ليس بواجب بذاته ولا في وجود طبيعته ولا في وجود احتياجه إلى المبدع لذلك ولا دليلا على وجود المبدع لذلك كله بل اكتفوا بوجود المعشوق المنفصل
وهذا مقام يتبين فيه جهل هؤلاء القوم وضلالهم لكل من تدبر نصوص كلامهم الموجود في كتبهم الذي ينقله أصحابه عنهم فإنا نحن لا نعرف لغة اليونان ولم ينقل ذلك عنهم بإسناد يعرف رجاله ولكن هذا نقل أئمة أصحابهم الذين يعظمونهم ويذبون عنهم بكل طريق وقد نقلوا ذلك إلينا وترجموه باللسان العربي وذكروا أنهم بينوه وأوضحوه وقدروه وقربوه إلى أن تقبله العقول ولا ترده فكيف إذا أخذ الكلام أولئك على وجهه؟ فإنه يتبين فيه من الجهل بالله أعظم مما يتبين من كلام المحسنين له
ولا ريب أن الفلاسفة أتباع أرسطو يقل جهلهم ويعظم علمهم بحسب ما اتفق لهم من الأسباب التي تصحح عقولهم وأنظارهم فكل بالنبوات أعلم وإليها أقرب كان عقله ونظره أصح
ولهذا يوجد لابن سينا من الكلام ما هو خير من كلام ثابت بن قرة ويوجد لأبي البركات صاحب المعتبر من الكلام ما هو خير من كلام ابن سينا وكلام أرسطو نفسه دون كلام هؤلاء كلهم في الإلهيات
ثم إنهم مع أنهم لم يذكروا المبدع للأجسام الممكنة المتحركة اللهم إلا أن يكون هؤلاء قائلين بأن الأجسام الفلكية المتحركة واجبة الوجود بنفسها وأنها مع ذلك مفتقرة إلى المحرك الأول وهذا حقيقة قول أرسطو فهذا أعظم في التناقض فإنه إذا قدر إن الأجسام الفلكية واجبة الوجود بنفسها وهي متحركة حركة تفتقر فيها إلى غيرها كان واجب الوجود متحركا مفتقرا في حركته إلى غيره
وحينئذ فكونه متحركا لا يفتقر في حركته إلى غيره أولى فإنهم حينئذ يكونون قد أثبتوا واجبا بنفسه لا يتحرك أصلا وواجبا بنفسه يفتقر في الحركة إلى محبوب غيره لا قوام له إلا به
وحينئذ فإثبات واجب يتحرك لا يفتقر في الحركة إلى غيره أولى بالإمكان من هذا فإن كلاهما متحرك لكن هذا يفتقر إلى غيره وهذا مستغن عنه
هم قد جعلوا على هذا التقدير واجب الوجود بنفسه اثنين: واجبا لا يفتقر إلى غيره وواجبا يفتقر إلى غيره فإذا قدر واجبا يتحرك بنفسه لنفسه من غير افتقار إلى غيره كان أولى بالجواز ولم يكن في ذاك محذور إلا لزمهم فيما أثبتوه ما هو أشد منه وسيأتي تمام كلامهم في ذلك وقولهم: إن الجسم لا يجوز أن يتحرك بنفسه حركة لا نهاية لها
فهذا فصل وهنا فصل ثان وهو أنهم مع إثباتهم لكون الفعل معلولا إنما أثبتوه بكونه محتاجا إلى معشوق يكون هو مبدأ الحركة الإرادية من جهة كونه غاية لا فاعلا وليس في هذا ما يدل على أن الفلك له علة مبدعة فاعلة له كما لا يخفى على عاقل
ثم ادعوا أن ذلك المعشوق الذي هو العلة الغائية لا يجوز أن يكون متحركا ولا له حركة أصلا ومن هنا قالوا بقدم العالم إذ كان حدوث المحدثات يقتضي حركة يحدث بها فمنعوا حدوث الحوادث عن المعشوق الذي سموه المحرك الأول لئلا يكون فيه تغير وحدوث الحوادث عن علة لا تغير فيها ممتنع بصريح العقل وكلامهم في ذلك في غاية التناقض وهذا منتهى نظر القوم وعلمهم وحكمهم
فلما قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر إنساني معلول في جوهره ووجوده وبقائه للعلة التي هي المبدأ لحركة الجميع فهذا كلامهم
قلت وقد عرف أنه لم يبين إن سلم له ما ذكره من المقدمات إلا أنه لا بد للحركة من محرك ولم يبين بعد أن المحرك لا يتحرك ولا أن المحرك للأجسام أمر منفصل عنها
فقال في بيان ذلك: ولأنه ليس يلزم أن يكون كل عدم أقدم بالزمان من الوجود فيما علة وجوده شيء غيره ولا كل الأنظام أقدم من النظام ولا كل بسيط أقدم من المركب لأنه ليس كل ما كان تقدمه لغيره فإن قوام غيره به وبسببه أو وجود غيره عنه وجب أن يكون متقدمه في الزمان وكذلك ما يقول أرسطو طاليس: إن الأفضل في المبدأ الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود وسبب بقاء كل باق منذ الأبد من غير أن يكون إنما صار كذلك في زمان وبعد أن لم يكن كذلك إذ ليس موجود ولا شيء له بقاء إلا به
وقال: وذلك أنه لم يزل ولا وجود ولا قوام للفلك ولسائر الأجسام الطبيعية إلا بالمبدأ الأول يعني المحرك الأول إذ صورة كل واحد منها هي حركته الخاصة به وحركته الخاصة به هي المقومة لجوهره التي بارتفاعها يرتفع وجوده فإذن المحرك الأول علة وجود هذه الحركة
قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود العالم في زمان
فيقال له: أنت لم تذكر إلا أنه لا وجود للجسم المتحرك إلا بحركته وهذا إذا سلم لك لم يدل على أنه مبدع وفاعل له أصلا بل ولا يثبت أن له غاية منفصلة عنه بل ادعيت ذلك دعوى نعم: إذا ثبت أن الحركة إرادية فلا بد لها من مراد أما أن كون المراد منفصلا عن المتحرك أو غير منفصل فهذا يحتاج إلى دليل ثان ولم تبينه ثم إذا بينته يلزم افتقار المتحركات إليه وكونه شرطا في وجودها لا يقتضي كونه مبدعا لها وفاعلا لها إذ مجرد العلة الغائية من هذه الجهة لا تكون هي الفاعلة المبدعة بالضرورة وواتفاق العقلاء وهم لم يدعوا ذلك
لكن لو قال قائل غيرهم بجواز أن يكون الأول غاية وفاعلا قلنا: نعم لكن هذا ينقض ما بنوه من حيث يكون فاعلا للحوادث مبدعا لها وهم يأبون ذلك حيث يكون فيه جهتان: جهة كونه مرادا محبوبا وجهة كونه فاعلا مبدعا وهذا إذا قيل: إنه حق أفسد أصولهم ومذهبهم
والمسلمون لا ينكرون أن يكون الله رب كل شيء وإلهه فهو من جهة كونه ربا هو الخالق المبدع الفاعل ومن جهة كونه إلها هو المعبود المألوه المحبوب
لكن هذا القول الذي يقوله المسلمون ينقض قولهم ويبطله فثبت بطلان قولهم على ما ذكروه وعلى ما يقوله المسلمون
فتبين أن قوله: إن الأفضل في الأول ما يوجد الأمر عليه من أنه علة وجود كل موجود كلام مبني على محض الدعوى والكذب
أما الدعوى: فإنه ادعى أن المتحرك لا بد له من معشوق منفصل
وأما الكذب: فقوله: إن ذلك هو العلة في وجود المتحرك وإنما هو مجرد شرط وغايته أن يكون جزءا من أجزاء العلة في وجوده فهذا إذا سلمت المقدمات كلها وهو أن الفلك يتحرك بالإرادة وأن المتحرك بالإرادة لا وجود له إلا بحركته وأن حركته لا بد لها من معشوق منفصل - لم يثبت إلا مجرد كون ذلك شرطا في وجوده لا علة تامة لوجوده فكيف إذا قيل: إن المقدمات الثلاث باطلة كما هو مذكور في موضعه؟
ثم قال: فهذا هو الأفضل من أن تكون العلة الأولى علة وجود هذا العالم في زمان
قال: وكان يجب من هذا أن الأشياء الموجودة لم يكن لها بتة وجود ثم أخرجت إلى الوجود فيلزم من ذلك أن يكون لوجود العالم علة أخرى مشاركة للعلة الأولى فيه أو فوق العلة الأولى لأنه إن لم يكن للعلة الأولى في إخراج العالم إلى الوجود أمر من الأمور ولا ها هنا علة تعين أو تدعو العلة الأولى إلى إخراج العالم إلى الوجود غير ذاتها ولا علة ترتبها وتعوقها فليس لتأخر وجود العالم عن وجود ذات العلة الأولى سبب يوجبه فكيف يمكن أن يتأخر وجود زمانا بلا نهاية ثم يخرج إلى الوجود كحال من كان نائما فانتبه؟
فيقال لهؤلاء الذين مثلهم كما قال عبد الله بن عمر لما سأله بعض الناس عن المحرم يقتل البعوض: انظروا إلى هؤلاء يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله ﷺ !
وكما يقال عن بعض الناس إنه كان يزني بامرأة وهو صائم فقال لها: غطي وجهك فقد كره العلماء القبلة للصائم
وكما يقال عن بعض النصارى إذ قال لبعض المسلمين: أنتم تقولون: إن راعيا هو رسول الله فيقال له: أنتم تقولون: إن جنينا في بطن أمه هو الله
ونظائر هذه الأمثال كثيرة التي ينكر فيها الرجل شيئا وقد التزم ما هو أولى بالإنكار منه
فإن هؤلاء قالوا: إذا كان العالم محدثا بعد أن لم يكن لزم افتقار العالم إلى شيء غير العلة الأولى وهم لم يذكروا أن العلة الأولى أبدعت العالم أصلا بل قولهم مضمونه: إن العالم أبدعه غيرها أو هو واجب آخر بنفسه ليس هو مبدع ولكن هو محتاج إليها احتياج المحب إلى محبوبه وهم لم يثبتوا هذا الاحتياج إلا بمقدمات إذا حقق الأمر عليهم فيها ظهر جهلهم وتناقضهم فغاية ما أثبتوه ليس فيه أن العالم إبداع الأول أصلا مع أنهم ينكرون على من جعله محدثا للعالم لكون الحادث يفتقر إلى سبب حادث فهل يكون أعظم تناقضا من مثل هذا القول؟ !
ثم يقال: الأجسام المتحركة: إما أن تكون - أو شيء منها - واجب الوجود بذاته وإما ألا تكون ولا شيء منها واجب الوجود بذاته
فإن كان منها شيء واجب الوجود بذاته بطل ما أثبتوه من أن الواجب بنفسه وهو العلة الأولى لا يمكن أن يتحرك إذ كان على هذا التقدير قد قيل: إن شيئا واجبا بنفسه هو متحرك
وعلى هذا التقدير فلا يبقى لهم طريق إلى إثبات محرك لا يتحرك إذا أمكن أن يكون الواجب بنفسه متحركا
وإن لم يكن في الأجسام المتحركة ما هو واجب بنفسه فقد ثبت أن الأفلاك المتحركة كلها ممكنة مفتقرة إلى واجب يكون فاعلا مبدعا لها سواء قيل: إنها قديمة أو حادثة فإن الممكن لا بد له من فاعل سواء قيل بقدمه أو حدوثه إذ كان لا يكون بنفسه
ولو قيل: إنه لا فاعل له ولا مبدع كان واجبا بنفسه فالشيء إما أن يكون وجوده بنفسه وإما أن يكون وجوده بغيره فالأول هو الممكن بنفسه والثاني هو الواجب بنفسه
وقد نازعهم من نازعهم في أن الممكن لا يجوز أن يقارن وجود الواجب بل لا بد من تأخره عنه
لكن ليس مقصودنا في هذا المقام منازعتهم في ذلك بل نتكلم على تقدير ما يدعونه من أن الممكن يقارن وجوده وجود الواجب مع كونه معلولا موجبا له صادرا عنه وهم يسمون الواجب علة ومبدعا وفاعلا وقد يسمونه محدثا لكن هذه تسمية بعض من أظهر الإسلام منهم لئلا يخالف المسلمين في الظاهر كما فعل ذلك ابن سينا وغيره
لكن بكل حال لا بد للمكن الذي لا يوجد بنفسه من موجب يوجبه بل يوجب صفاته وحركاته لا يكفي في وجوده مجرد وجوده محبوبه بل لا بد من موجب لذاته وصفاته بل وموجب لنفس حبه
ثم إذا قيل: إنه محب لشيء منفصل عنه لزم احتياجه إلى المحبوب وأما كون مجرد المحبوب هو المبدع له الموجب لذاته وصفاته وأفعاله من غير اقتضاء ولا إيجاب ولا إبداع من المحبوب بل لمحض كونه محبوبا - فهذا مما يعرف ببديهة العقل فساده
وهم وكل عاقل يفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلة فالمحبوب يقتضي ثبوت العلة الغائية ولا بد من علة فاعلية فإن جعلوا المحبوب هو العلة الفاعلية لزم كونه مبدعا له وهو المطلوب وحينئذ يخاطبون على هذا التقدير بما يبين فساد قولهم
وإن لم يجعلوه مبدعا له لم يكن لهم دليل على إثبات علة فاعلة لوجود العالم وقيل لهم: افتقار الممكن إلى مبدع له ولصفته ولحركته أبين من افتقاره إلى محبوب له
قال ثابت بن قرة: وأرسطو طاليس ينكر هذا الرأي المجدد والظن الذي يظنه كثير من الناس من أنه يلزم من رأى أرسطو: أن العالم أبدي أن يكون غير معلول في جوهره لعلة خارجة عنه - ظن كاذب
فيقال له: الذين يظنون هذا يقولون: إن هذا لازم لأرسطو لأنه لم يثبت أن العالم معلول بعلة فاعلة مبدعة له وإن كان مقارنا لها بل إنما أثبت بما ادعاه من المقدمات أنه لا بد من محبوب يتحرك لأجله وليس مجرد كون الشيء محبوبا يوجب أن يكون علة فاعلة مبدعة لمحبة فلهذا ألزموه ذلك
ثم هذا اللازم له: إن اعتقده وإن لم يعتقده يقتضي بطلان قوله لأن إذا كان العالم واجبا بنفسه ليس له مبدع مع كونه مفتقرا إلى محبوب له كما يقوله أرسطو لزم كون الواجب بنفسه مفتقرا إلى شيء منفصل عنه في بعض صفاته
وحينئذ فإذا قيل بأن الواجب المبدع للعالم مفتقر إلى شيء بعينه على إبداع العالم لم يكن باطلا على هذا القول الذي يلزم أرسطو
وأيضا فعلى هذا التقدير إذا كان الواجب بنفسه متحركا لغيره فلأن يكون متحركا لنفسه أولى وأحرى وأرسطو أبطل كون الأول متحركا بحجج تنقض مذهبه
قال ثابت: وأرسطو طاليس يقول: فإن كان الأمر كما يظن من رأى أن للعالم ابتداء زمانيا فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إخراج العالم إلى الوجود بعد أن لم يكن موجودا زمانا بلا نهاية؟ وما هذه العلة الباعثة للعلة الأولى على ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة؟
فيقال له: هذا كله يبين فساد قولك فإنه يقال: إما أن يكون العالم واجب الوجود بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا بنفسه فما العلة التي أوجبت أو دعت إلى إحداث ما فيه من الحوادث وحركته المتحددة وتحريكه لما يحركه؟ وما هذه العلة الباعثة للواجب بنفسه على ذلك؟ وما كانت العلة المرتبة له عن إحداث الحوادث المتأخرة؟ فإنه لا يزال تحدث فيه أمور بعد أمور فما الموجب لتأخر هذه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة؟
فأي شيء أجاب به عن ذلك كان جوابا له
فإن قال: ليستكمل الشروط التي بها تتم الحوادث فقد جوز أن يكون فعل الواجب الوجود لا يتم إلا بشروط تحدث وحينئذ فيجوز أن يقال: إن الموجب لتأخر فعله للعالم لتتم شروط إحداثه للعالم إذ كان فعل الواجب بنفسه على هذا التقدير قد يتوقف على الشروط التي بها يحدث
وإن قال: إن العالم ممكن
قيل له: فلا بد له من واجب فعله وحينئذ فقد فعله على الوجه الذي هو عليه من تأخر الحوادث فما الذي أوجب للفاعل أن يؤخر ما يحدث من الحوادث؟ وما الذي دعاه إلى إخراج الحوادث إلى الوجود بعد أن لم تكن؟ وما العلة الباعثة للفاعل إلى ذلك؟
وأيضا فيقال لهم: إن كان ممكنا صادرا عن الواجب فما الذي أوجب الأول أن يفعله؟ وما الذي دعاه إلى ذلك؟
فإن قالوا: مجرد ذاته المجردة أوجبت ذلك
قيل: فإذا كانت موجبة لما يصدر عنها لا يقف شيء من فعلها على غير الذات المجردة وجب اقتران كل ما صدر عنها بها ووجب اقتران الصادر عن الصادر به فحينئذ لا يتأخر شيء عن العالم بل يكون كله بجميع أجزائه قديما ملازما للذات المجردة وهو خلاف الحس والمشاهدة
وأيضا فيقال له: فعل الأول إما أن يقف على داع وإما أن لا يقف على داع فإن وقف على داع قيل لك: ما الداعي الموجب لإبداعه للعالم على ما هو عليه من الأمور المختلفة والحادثة؟ وإن لم يقف على داع جاز أن يحدث ما حدث بلا داع ولم يجب أن يكون لفعله علة
قال ثابت: ويلزم أهل هذا الرأي أن يكون في المبدأ الأقصى الذي عنده يتناهى الأبد في ابتداء كل فعل ما هو بالقوة وما بالقوة ليس يخرجه ما هو له بالقوة بغير علة داخلة عليه من خارج يصير معلولا لها في تلك الجهة لأنه إن كان ليس لإخراج ما هو له بالقوة إلى الفعل سبب غير ذاته فيجب أن يكون وجوب ذلك الأمر بالفعل مع وجود تلك الذات المخرجة له وذلك الشيء غير متأخر عن وجودها وإن كان له سبب غير ذاته فإذن تكون العلة الأولى والمبدأ الأول ليس بمبدأ أول على الحقيقة لأنه يحتاج حينئذ إن كانت تلك حاله إلى مبدأ آخر وأيضا فيلزم جوهر العلة الأولى وإن كان لها ما هو بالقوة حينا لم يخرج إلى الفعل حينا تغير وهذا أمر قد أضرب عنه سائر القدماء فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال وكما أنه ليس يمكن منه في مادة من المواد أن تؤخرها الطبيعة لحظة من غير أن يعمل منها أجود ما ينعمل من مثلها ما لم يعتور ذلك شيء من خارج كذلك يرى أرسطو طاليس أن الأمر واجب في جملة أمر العالم أي في وجود جملته إذ كان إمكانه لم يزل والإمكان له بمنزلة المادة
الرد عليه من وجوه
عدلفيقال له: جواب هذا من وجوه
الوجه الأول
عدلأن يقال: خروج ما بالقوة إلى الفعل: إما أن يفتقر إلى علة من خارج وإما أن لا يفتقر فإن لم يفتقر بطل هذا الكلام وإن افتقر فإما أن يفتقر إلى علة خارجة فاعلة أو علة غائية أو كلاهما والافتقار إلى علة غائية وحدها غير كاف لأن ما بالقوة إذا لم يخرج إلى الفعل إلا بعلة من خارج فلا بد أن يكون علة لوجود كونه فاعلا وإلا مجرد المحبوب بدون ما به يفعل المحب مطلوبه لا يوجب وجود الفعل
ولهذا إذا كان المحب غير قادر على الفعل لم يتحرك إلى المحبوب وتحركه إلى المحبوب هو ممكن ليس بممتنع ولا واجب بنفسه والممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح تام يستلزم وجود الممكن فلا بد لفاعلية الممكن من مرجح تام الفاعلية وذلك هو الفعل إذ مجرد الغاية ليس مرجحا تاما
وإن افتقر خروج ما بالقوة إلى الفعل إلى علة من خارج علة فاعلة أو علة فاعلة وغائية
قيل له: فحركة الجوهر الجسماني حينئذ يفتقر إلى فاعل خارج عنها وحينئذ فذاك الفاعل لم يكن فاعلا لتلك الفاعلية في الأزل إذ لو كان كذلك لزم وجود جميع الحركات والحوادث في الأزل لوجود فاعلها التام فتعين أنه صار فاعلا لتلك الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا
فيلزم حينئذ إذا جعل الممكن مفتقرا إلى علة خارجة أن تكون العلة صارت علة لفاعليته بعد أن لم تكن علة وهذا قد يستدل به على العلية مطلقا سواء جعلت فاعلية أو غائية
فإنه يقال: كل ما حدث من الحوادث فإنه يمتنع وجود علته التامة في الأزل فإذن قد حدثت عليته - علية الفاعل والغاية - بعد أن لم تكن فيجب أن يكون الأول قد صار علة فاعلية وغائية بعد أن لم يكن لكل ما يحدث على قلولكم وهذا يبطل ما ذكرتموه فيه
ثم يقال: إذا كان هذا جائزا فيه جاز أن يكون حدوث الأفلاك لحدوث علية حدوثها وأن تكون قبلها حوادث قائمة به أو منفصلة عنه متعاقبة ليس فيها ما هو قديم بعينه
الوجه الثاني
عدلأن يقال: لم قلت: إن ما هو بالقوة لا يخرجه فاعله بغير علة منفصلة؟ قوله: لأنه إن لم يكن لإخراجه سبب غير ذاته فيجب أن يكون مقارنا للذات وإن كان له سبب غير ذاته لم تكن العلة الأولى مبدأ أولا على الحقيقة
فيقال له: وأنت لم تجعل الأول مبدأ لوجود ما سواه بمعني أنه فاعل له مبدع وإنما جعلته مبدأ بمعنى أنه محبوب معشوق ومجرد كونه محبوبا معشوقا لا يوجب وجود المحب وذاته وصفاته وأفعاله فليس الأول على ما ذكروه وحده مبدأ بل ما ذكرته أبعد عن كونه مبدأ لأن كونه فاعلا يتوقف فعله على شيء من غير أقرب إلى كونه مبدأ من كونه ليس إلا مجرد كونه محبوبا
الوجه الثالث
عدلأن يقال: ما تعني بقولك: إن كان ليس لإخراجه سبب غير ذاته؟ أتعني به ذاتا مجردة عن فعل يقوم بها أم ذاتا موصوفة بفعل يقوم بها؟
فإن عنيت الأول كان اللازم أن الذات المجردة عن الفعل ليست مبدأ أول ولا علة أولى وهم يلتزمون هذا فإن الذات المجردة من الفعل لا حقيقة لها عندهم وهم يمنعون أن يكون الأول كذلك
وإن عنيت الثاني لم يلزم أن يكون المبدأ الأول بمبدأ أول لأنه إذا كان مبدأ بما هو عليه من صفاته وأفعاله التي لا يحتاج فيها إلى غيره كان هو المبدأ الأول من غير احتياج إلى غيره
الوجه الرابع
عدلأن يقال: العالم إن كان واجب الوجود بنفسه مع كونه مفتقرا إلى محبوب كان واجب الوجود معلولا من بعض الجهات فجاز حينئذ أن يكون المحبوب الأول مع وجوب وجوده بنفسه من خارج ما به يصير فاعلا فإن العالم حينئذ واجب الوجود وله من خارج ما به يصير فاعلا وإن كان ممكن الوجود بنفسه لم يوجد إلا بمبدع فاعل يبدعه فالإبداع فعل من المبدع وصنع وأنت لم تجعل الأول إلا محبوبا فقط
وأيضا فإذا كان الأول فاعلا مبدعا للعالم بما فيه من الأمور المختلفة المحدثة امتنع أن يكون صانعا بالفعل لها في الأزل لأن ذلك يستلزم وجود كل من المحدثات في الأزل وهو مكابرة للحس
فيلزم أنه كان صانعا بالقوة ثم صار صانعا بالفعل من غير سبب خارج عنه إذ الخارج عنه كله على هذا التقدير ممكن مفعول له ففعله له لو توقف على تأثير فيه لزم الدور
ومن تدبر هذه الوجوه وما يناسبها تبين له فساد قول هؤلاء في رب العالمين وأن الحق ليس إلا ما جاء عن المرسلين بالعقل الصريح المبين
الرد على كلام آخر لثابت بن قرة من وجوه
عدلوأما قوله: وأيضا فيلزم جوهر العلة الأولى تغير وهذا أضرب عنه القدماء فجوابه من وجوه
الوجه الأول
عدلأن صدور التغير عن غير المتغير إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا بطلت هذه الحجة ثم يجوز أن يقال: كان بحيث لا يصدر عنه شيء ثم صدر عنه شيء من غير تغير كما يقول ذلك كثير من أهل النظر
وإن كان ممتنعا قيل له: فالعالم المتغير: إما أن يكون صادرا عنه وإما أن لا يكون فإن كان صادرا عنه لزم أن يكون متغيرا وإن لم يكن صادرا عنه فهو إما واجب بنفسه وإما ممكن
فإن كان واجبا بنفسه وهو مع ذلك متغير فقد لزم أن يكون الواجب بنفسه متغيرا وإن كان ممكنا بنفسه لزم أن يكون الممكن قد وجد بلا موجب وهذا مع واتفاق العقلاء على فساده فهو معلوم الفساد بالضرورة
ثم من جوز أن يوجد الممكن بلا فاعل فلأن يجوز تغير الواجب أولى وأحرى لأن هذا فيه مصير ما ليس بشيء شيئا من غير فاعل فلأن يصير شيئا بفاعل متغير أولى وأحرى
الوجه الثاني
عدلقولك: هذا أمر أضرب عنه سائر القدماء لو كان هذا النقل حقا لم ينفعك لأنه لا حجة في إضراب من ليس بمعصوم وأنت لو احتج عليك محتج بنصوص الأنبياء وهو ممن يعتقد عصمتهم وقد قام الدليل عنده على ذلك لم تقبل حجته فلأن لا يقبل منك قول قوم توافقه أنت على عدم عصمتهم أولى وأحرى فكيف وهذا النقل ليس صحيحا؟
بل كثير من القدماء ومن المتأخرين جوزوا أن تقوم بالأول أمور يشاؤها ويقدر عليها بل صرحوا بأنه متحرك وأنه تقوم به إرادات حادثة وعلوم حادثة وغير ذلك كما تقدم فإن لم يبطل قولهم بحجة عقلية لم يكن ما ذكرته حجة
الوجه الثالث
عدلأن يقال: ما تعني بالتغير؟ أتعني به استحالته كاستحالة الجسم من صورة إلى صورة؟ أو تعني به كونه يفعل ما لم يكن فاعلا له؟
فإن عنيت الأول منعت المقدمة الثانية فإن المتحركات التي يخرج منها ما بالقوة إلى الفعل كالأفلاك لا تستحيل صورتها بذلك
وإن عنيت الثاني قيل لك: هذا لا يسمى تغيرا أو لا نسميه تغيرا وإذا سميته تغيرا لم يكن في مجرد تسميتك له ولا تسميتنا له - إذا وافقناك على التسمية - ما يمنع جوازه
فإن مجرد الألفاظ لا تثبت بها المعاني العقلية فلم قلت: إن هذا المعنى ممتنع؟
بل هذا هو نفس المتنازع فيه لكن بدلت العبارة عنه أفبأن بدلت العبارة عنه صادرت عليه وجعلته مقدمة في إثبات نفسه؟ ونحن لا نعني بالتغير إلا كونه يفعل ما لم يكن فاعلا
الوجه الرابع
عدلأن يقال لك: نحن نشاهد حدوث الحوادث وأنت تسمي ذلك إخراج ما بالقوة إلى الفعل فلا بد حينئذ في حدوث الحوادث من إخراج ما بالقوة إلى الفعل فمحدثها أخرج ما بالقوة إلى الفعل والمحدث لإحداثه الذي جعله يخرج ما بالقوة إلى الفعل كذلك وهلم جرا
فإن قدرت مع هذا محدثا لفاعليته غير مخرج ما بالقوة إلى الفعل بطلت حجتك
وإن جعلت الأول أخرج ما بالقوة إلى الفعل بطل أيضا دليلك
وإن ادعيت أن بعض الفاعلين يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل دون الآخر بطل دليلك فهو باطل على كل تقدير
وذلك أنه يلزمه أحد أمرين كلاهما يبطل قوله فإنه إن أثبت فاعلا يخرج ما بالقوة إلى الفعل من غير سبب من خارج أمكن أن يكون الأول كذلك فبطل قوله
وإن لم يجوز أن يكون فاعلا يخرج ما بالقوة إلى الفعل إلا بسبب من خارج لزمه أن يكون كل فاعل للحوادث لم يحدث فاعليته إلا بسبب أخرج ما بالقوة إلى الفعل: فإن كان الأول كذلك لزم التسلسل الممتنع وإن لم يكن كذلك كان الأول مخرجا لما بالقوة إلى الفعل من غير سبب من خارج وذلك يبطل قوله
قال: فينبغي أن يسلم لأرسطو طاليس أن العلة الأولى على غاية ما يمكن من التمام والكمال
الرد على كلام آخر لثابت بن قرة
عدلفيقال له: أولا: أرسطو لم يثبت على أولى مبدعة للعالم ولا فاعلة له ولا علة فاعلة له وإنما أثبت علة غائية له ولم يقم على ذلك دليلا فهو مع أنه لم يذكر إلا جزء علة لم يقم عليه دليلا فأي تمام وكمال أثبته للعلة الأولى؟ !
وأما أهل الإثبات فيقولون: نحن نثبت للأول غاية ما يمكن من التمام والكمال بما نثبته له من صفات الكمال وأفعاله سبحانه وتعالى فنحن أحق بوصفه بالكمال من وجوه لا تحصر
وإذا قال القائل: فلم تأخر ما تأخر من مفعولاته؟
قلنا: هو لازم على القولين فلا يختص بجوابه
ثم يقال: الموجب لذلك ما تقول أنت في نظيره في تأخر الحوادث مثل استجماع الشروط التي بها يصلح كون الحادث مفعولا أو بها يمكن كونه مفعولا فإن عدمه قبل ذلك قد يكون لعدم الإمكان وقد يكون لعدم الحكمة الموجبة تأخره إذ لا بد في الفعل من القدرة التامة والإرادة التامة المستلزمة للحكمة
وأما قوله: كما أنه ليس يمكن أن تؤخر الطبيعة فعلها في المادة القابلة إلا لعائق فكذلك الأمر في العالم إذا كان إمكانه لم يزل والإمكان له بمنزلة المادة
فيقال: أولا أنت لم تثبت له فعلا ولا إبداعا بل الطبيعة عندك تفعل والأول لم يثبت إلا كونه محبوبا للتشبه به وأثبت ذلك بلا دليل
ويقال لك: ثانيا: إن كان مجرد الإمكان موجبا لكون الممكن مقارنا للواجب لزم أن يكون كل ما يمكن وجوده أزليا وهذا مكابرة للحس والعقل
فإن قلت: إن بعض الممكنات توقف على شروط أو يكون له مانع
قيل لك: فحينئذ ما المانع أن يكون إبداع الأول للعل متوقفا على شروط أو له مانع مع كون الأول لم يزل يفعل أفعالا قائمة بنفسه أو مفعولات منفصلة عنه كما يقوله أساطين أصحابك من الفلاسفة المتقدمين على أرسطو أو غيرهم؟
ويقال لك: ثالثا: إن كان العالم واجبا لنفسه فقد تأخر كثير من أفعاله فيلزم أن يتأخر ما يتأخر من فعل الواجب بنفسه وإن كان ممكنا بنفسه ففاعله قد أخر كثيرا مما فيه من الأفعال
وعلى كل تقدير فقد تأخر عن الواجب بنفسه ما تأخر من مفعولاته فعلم أنه لا يلزم مقارنة مفعولاته كلها له وإذا جاز تأخر ما يتأخر من مفعولاته فلم لا يجوز أن تكون الأفلاك من ذلك المتأخر؟
قال: إلا أن قوما يرون أنه يجب من هذا - أعني من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى - أن لا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم كما لا صنع لها في وجود جوهرها إذ كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود جوهر العلة الأولى فيكون وجوده لازما اتباعه لوجود العلة الأولى فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له فيكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته إذ وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك لا سيما وأرسطو طاليس يقول: إن المحرك الأول هو علة حركة كل ما في الكون بالتشوق
فالأولى على ظاهر الأمر أن يكون الشيء المتشوق إليه تشوق بجهة طبيعته لا بإرادته لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه
فإذن ليس يؤثر جوهر هذه العلة أثرا ولا يفعل فعلا منقلبا عن قصدها وإرادتها ولا دون إرادتها إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج ولا فوق جوهرها أمر تقتبس منه ازدياد في شيء من حاله ولا يعرض لها أمر تحتاج إلى استدفاعه فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء ولا قبول لتغيير ولا لحدوث شأن متجدد له
فليس يوجد إذن أمر يحدث هذه الذات بالطبع وبغير إرادة وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات في حال أو شأن ليس هي المبدأ الأول له والعلة فيه
وبالجملة فكل ما كان له ما هو الطبع على الجهة الطبيعية التي ينحوها فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق له والشيء المشوق له مبدأ له في ذلك الشوق ومن جهة أنه هو له علة تمامية من جهة من الجهات
وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة
فساد كلام آخر له من وجوه
عدلالوجه الأول
عدلهذا كلامه ولقائل أن يقول: هذا الكلام قد كشف فيه قوله ومذهبه وقد تبين في ذلك من التناقض والفساد ما يطول ذكره بالوصف والتعداد وذلك من وجوه :
قول أرسطو: إن المحرك الأول هو علة كل ما في الكون بالتشوق والمتشوق إليه إنما تشوق بجهة طبيعته لا إرادته ولأنه قد يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يوجد شيء عليه فإذن ليس يؤثر أثرا ولا يفعل فعلا لا عن إرادتها ولا بدون إرادتها إلى آخر كلامه
فيقال له: قد صرحتم في كلامكم بأن الأول ليس له فعل بإرادة ولا بدون إرادة ولا تأثير في العالم أصلا إلا من جهة كونه معشوقا متشوقا إليه والمعشوق المتشوق إليه لا يجب أن يكون شاعرا بالعاشق ولا مريدا له ولا قادرا على فعل يفعله به بل الجمادات تحب ويشتاق إليه كما يشتاق الجائع إلى الطعام والعطشان إلى الشراب والبردان إلى الثياب والضاحي في الشمس إلى الظلال
ثم إنكم مع هذا لم تذكروا على ذلك دليلا صحيحا ولكن نحن نخاطبكم بما أقررتم به
فيقال: إذا كان بهذه المثابة لم يكن علة للعالم ولا مبدأ له ولا فاعلا له ولا مؤثرا فيه أثرا فبطل قولكم: إنه علة العلل وإنه المبدأ الأول
قولكم: إنه علة طبيعية للعالم ومتممة له غاية ما في الباب أن العالم يكون محتاجا إليه من كونه مشتاقا إليه والشيء المشتاق إليه لا يجب أن يكون هو المبدع المشتاق ولا الفاعل له ولا يكون مؤثرا فيه كما اعترفتم به وكما هو معلوم لكل عاقل
فإن كون الشيء علة غائية لا يستلزم أن يكون على فاعلية لا سيما وإنما هو علية من جهة أن الفلك يحب التشبه به فهذا مع ما فيه من جحد وجود واجب الوجود المبدع للعالم فيه من تناقض قولكم ما قد تبين
وسنبين إن شاء الله فرقهم بين العلة الأولى وبين العالم القديم بأنه جسم وأن الجسم لا تكون فيه قوة غير متناهية وما ذكروه في ذلك
الوجه الثاني
عدلأن يقال: هذا القول الذي قلتموه يبطل حجتكم على قدم العالم أيضا فإنه إذا لم يكن مؤثرا في العالم وعلة له ومبدأ ومحركا له إلا من جهة كونه محبوبا شائقا معشوقا أمكن تأخر وجود العالم عن وجوده فإن الشيء المشتاق إليه قد يتأخر عنه ما يشتاقه والشيء المشتاق إليه هو مستلزم لوجود المشتاق بل الأمر بالعكس فالمشتاق إليه غني عن المشتاق والمشتاق محتاج إلى المشتاق إليه
وحينئذ فيكم وجود الأول المشتاق إليه بدون وجود العالم المشتاق ثم بعد هذا يوجد العالم المشتاق ولا يقدح ذلك في كمال المشتاق إليه
فإن قلتم: فما الموجب لوجود العالم بعد هذا؟
قيل لكم: هو الموجب لوجوده قبل هذا على أصلكم فإنكم لم تثبتوا للعالم مبدعا فاعلا وحينئذ فلا فرق بين تقدم وجوده وبين تأخره إلا أن تقولوا إنه واجب الوجود بنفسه
وإذا قلتم: إن العالم مع احتياجه إلى المعشوق الغني عنه واجب الوجود بنفسه كان قولكم أعظم تناقضا
الوجه الثالث
عدلونحن نبي ذلك بالوجه الثالث: فنقول: إذا أثبتم للعالم وعلته المعشوقة له التي يجب التشبه بها وتتحرك لاستخراج ما فيه من الأيون والأوضاع لأن ذلك غاية التشبه بها فإما أن تقولوا: هذا واجب الوجود بنفسه أو تقولوا: إن أحدهما ممكن بنفسه لا يوجد إلا بالواجب بنفسه
فإن قلتم بالأول ثبت أن العالم المحتاج إلى محبوبه واجب الوجود بنفسه مع كونه معلولا من هذه الجهة وكونه ذي إرادة وشوق وكونه يؤثر آثارا ويفعل أفعالا بالإرادة
وقد قلتم: إن هذا لو كان في الأول لكان نقصا يحتاج فيه إلى تمام من خارج فقد أثبتم في الواجب بنفسه نقصا يحتاج فيه إلى تمام من الخارج فإن كان هذا جائزا في الواجب بنفسه لم يمتنع هذا في الأول المعشوق بل جاز مع وجوبه بنفسه أن يكون أيضا عاشقا مريدا مؤثرا فاعلا فيه على أصلكم نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج
وإذا كان هذا غير ممتنع في الواجب بنفسه بطل ما ذكرتموه من امتناع ذلك عليه
وأيضا فإذا جاز ذلك عليه لم يكن أحدهما بكونه عاشقا والآخر معشوقا أولى من العكس بل يمكن أن يكون كلاهما محبا للآخر مشتاقا إليه
وبتقدير أن يكون هو المحب للعالم المريد له يكون هو المحدث لما فيه من الحركات
ثم على هذا التقدير لا يجب أن تكون الأفلاك هي الواجبة بنفسها بل يمكن أن يقال هناك واجب بنفسه غيرها ثم إن أحد الواجبين أحدث الأفلاك لما حدث له من الشوق كما تقولون فيما يحدث بحركة الفلك
وفي الجملة إذا قالوا: إن العالم واجب الوجود بنفسه نقضوا كل ما ذكره في المبدأ الأول ولم يكن لهم حجة على الطبيعية الذين ينكرون الأول
والطبيعة الذين يقولون: العالم واجب بنفسه قولهم أفسد من قول هؤلاء الإلهيين منهم كلهم كما قد بين فساد قولهم في غير هذا الموضع
لكن فساد أقوالهم يظهر من وجه آخر من غير التزام صحة قول الإلهيين بل قول كلا الطائفتين باطل متناقض يعلم بطلانه وتناقضه بصريح العقل
وإن قال هؤلاء الإلهيون: إن العالم ممكن الوجود بنفسه فلا بد أن يكون هناك واجب هو علة فاعلة له لا يكفي في وجوده ما هو مشتاق إليه فإن ما لا وجود له من نفسه ليس له من نفسه لا صفة ولا شوق ولا حركة ولا شيء من الأشياء فلا بد لكم من إثبات مبدع للممكن قبل إثبات شوقه إلى غيره ثم يبقى النظر بعد ذلك في قدمه وحدوثه نظرا ثانيا
الوجه الرابع
عدلأن يقال: قولهم أولا: إن قوما يرون أنه يجب من هذا أي من وجوب وجود العالم مع العلة الأولى ألا يكون صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم كما لا صنع لها في وجود جوهرها إذا كان وجود العالم غير ممكن تأخره عن وجود العلة الأولى إلى آخره
فيقال لكم: إرادة العلة الأولى إما أن يستلزم تأخر فعلها للعالم أو يجوز مع ذلك تقدم فعلها للعالم فإن كانت الإرادة تستلزم تأخر المراد لزم تأخر العالم المشتاق صاحب الإرادة والشوق فإن العالم عندكم قديم له إرادة وشوق قديم فإن كان القديم لا يكون له شوق وإرادة بطل قولكم بقدم العالم مع القول بشوقه
وإن كان القديم يمكن أن يكون له إرادة وشوق أمكن أن يكون الأول له إرادة وشوق مع قدمه وأن يكون صانعا للعالم صنعا إراديا وهذا أيضا يبطل قولكم
الوجه الخامس
عدلأن يقال: القديم: إما أن يجوز أن يكون له إرادة وإما ألا يجوز فإن لم يجز امتنع كون العالم قديما مريدا وحينئذ فلا يبقى لكم حجة على إثبات المبدأ الأول فإنكم إنما أثبتموه بأنه معشوق للعالم المتحرك بالإرادة مع قدم العالم فإذا امتنع كون القديم مريدا لم يلزم أن يكون هناك معشوق قديم فلا يبقى دليل على ثبوته وإن جاز أن يكون القديم مريدا جاز كون الأول مريدا وبطل قولكم: إنه لا صنع إرادي للعلة الأولى
فأنتم بين أمرين: إما سلب الإرادة عن العالم القديم وإما إثباتها للأول القديم وأيهما قلتم بطل قولكم ببطل قولكم وسنتكم إن شاء الله على فرقهم
الوجه السادس
عدلبل يقال في الوجه السادس: إنكم لو أثبتم الإرادة للأول القديم وسلبتموها عن الفلك كما يقول ذلك من يقوله من أهل الملل كان أقرب إلى المعقول من إثباتها للفلك ونفيها عن العلة الأولى فإن صريح العقل يعلم أن العلة والمبدأ الأول أولى أن يكون مريدا من المعلول الثاني فإن الفعل إن لم يستلزم إرادة لم تستلزم حركة الفلك إرادة وإن استلزم إرادة فالعلة الفاعلة أولى بالإرادة من المعلول المفعول
ألا ترى أن المعلولات قد تكون جامدة كالعناصر والنباتات التي لا إرادة لها؟
يبين ذلك أن الحركات ثلاثة: الطبيعية والقسرية والإرادية فالقسرية تابعة للقاسر والطبيعية لا تكون إلا إذا خرج الجسم عن مركزه فيميل بطبعه إلى مركزه فكلاهما عارضة وإنما الحركة الأصلية هي الإرادية
وإذا كان كذلك فالمعلول المفعول يحتاج إلى إرادة فاعلة أعظم من حاجته إلى كونه هو مريدا فإنه إذا كانت جميع الحركات مستندة إلى الإرادة فمن المعلوم أن احتياجها إلى إرادة الفاعل أعظم من احتياجها إلى إرادة المفعول
فإن قالوا: الفلك عندنا ليس بمعلول عن واجب مبدع بل هو قديم واجب بنفسه كان ما يلزمهم على هذا التقدير مثل جعل الواجب بنفسه جسما متحيزا تحله الحوادث مفتقرا إلى علة يتشبه بها وسائر اللوازم أعظم مما فروا منه
الوجه السابع
عدلأن يقال: الممكن لا يوجد إلا بفاعل ويمكن وجوده بدون كونه مشتاقا فوجوده مشروط بالفاعل له ليس مشروطا بكونه مشتاقا فكيف يجوز إثبات ما لا يحتاج الممكن في وجوده إليه وإلغاء ما لا يكون موجودا إلا بوجوده؟
الوجه الثامن
عدلأن يقال: قولكم: فتكون العلة الأولى علة طبيعية للعالم ومتممة له ويكون القياس في ذلك كالقياس فيما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته أو وجود ذلك مع وجود جوهر الفلك لا سيما وأرسطو يقول: إن المتحرك الأول إنما يحرك كل ما في الكون بالشوق وهو شوق المتحرك إليه إلى آخره
فيقال: هذا كلام متهافت متناقض وذلك أن ما يفعله الفلك ويؤثره بطبيعته هو عندكم مريد له مع أن وجوده مع وجود الفلك وقد شبهتم فعل الأول بفعل الفلك ثم قلتم إن الأول ليس له إرادة ولا تأثير فهذا التمثيل يناقض هذا التفريق
الوجه التاسع
عدلأن يقال: الفلك إما أن يكون فاعلا بالإرادة وإما ألا يكون فإن كان الأول وهو قولكم: ووجود فعله مع وجوده لزم أن يكون الفعل الإرادي يجوز مساوقته للفاعل وألا يتأخر عنه وهذا يبطل قلوكم: إنه يجب من وجوب الفلك مع العلة الأولى أن يكون لا صنع إرادي للعلة الأولى في وجود العالم فإنكم حينئذ أثبتم فاعلا فعلا إراديا مع كون فعله موجودا معه
وأما قولكم: كما لا صنع لها في وجود جوهرها فهذا تمثيل ساقط إلى غاية فإن الواجب بنفسه لا يكون فاعلا لنفسه وأما معلوله فلا بد أن يكون فاعلا له فكيف يقال: لا يفعل معلوله كما لا يفعل نفسه؟
وإن لم يكن الفلك فاعلا بالإرادة بطل كونه مشتاقا عاشقا وبطل ثبوت المبدأ الأول وحينئذ فيبطل ما بنيتم عليه ثبوت الأول وقدم العالم
الوجه العاشر
عدلقولكم: ينبغي أن ينزل أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه كلام حق لكن أنتم من أبعد الناس عنه فإنكم جعلتم أمر العلة الأولى من أنقص ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه بل جعلتموه أنقص من كل موجود شبيها بالمعدوم فإن الموجودات أقسام: أعلاها الذي يفعل غيره ولا ينفعل عن غيره وهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المبدأ الأول
والقسم الثاني: الذي يفعل وينفعل كالإنسان
وثالثها: الذي ينفعل ولا يفعل كالجماد
وأما ما لا يفعل وال ينفعل فهذا لا يكون إلا معدوما وأنتم جعلتم الأول لا يفعل شيئا ولا ينفعل فإنكم قد قلتم: إنه لا يؤثر أثرا ولا يفعل فعلا لا عن إرادة ولا دون الإرادة وقلتم أيضا إنه لا ينفعل عن غيره وهذا حال المعدوم
ووصفهم له بأنه معشوق لا يفيد فإن المحبوب المعشوق من الموجودات لا بد أن يكون فاعلا أو منفعلا وأما ما لا يفعل ولا ينفعل فلا يحب ولا يحب ولا حقيقة له فوصفتم الواجب الوجود المبدع لكل ما سواه بما هو أنقص من صفات سائر الموجودات ولا يتصف به إلا المعدومات
الوجه الحادي عشر
عدلأنكم قلتم: إن المحرك الأول إنما يحرك الفلك لكون الفلك مشتاقا إليه أي إلى التشبه به وقلتم: إن المشتاق إليه إنما تحرك بجهة طبعية لا إرادية لأنه قد يمكن أن يكون المعشوق المتشوق إليه نائما أو غير ذي إرادة وهو يحرك المشتاق إليه والعاشق له إلا أنه ينبغي أن يترك أمر العلة الأولى في جوهرها وسائر أمورها على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه
وأردتم تنزيهه أن يشبه بالنائم ونحوه وأنتم وصفتموه بدون صفة النائم فإن المحبوب الذي لم يشعر بمحبه لنومه يمكن أن يتنبه فيشعر به ويمكن أن يحب محبه
ومن المعلوم أن المحبوب الذي يمكن أن يعلم بمحبه وأن يحبه أكمل من النائم الذي لا يعلم به ولا يحبه وأنتم قد قلتم: إنه لا يمكن أن يكون منه محبة لمحبه ولا أثر ولا فعل من الأفعال
وقال أرسطو وأكثركم: إنه لا شعور له بمحبة بل قد يقولون: إنه لا شعور له بنفسه أيضا فهل هذا إلا وصف له بدون صفة النائم ونحوه من الناقصين؟ !
الوجه الثاني عشر
عدلأن يقال: إذا نزل أمر الأول على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه فمن المعلوم أن الموجود إذا انقسم إلى حي وميت فالحي أكمل من الميت وإذا قسم إلى ما يقبل الاتصاف بالحياة والموت وما لا يقبل فالذي يمكن اتصافه بذلك كالحيوان أكمل ممن لا يمكن اتصافه بذلك كالجماد
وإذا قسم إلى عالم وجاهل وما لا يقبل لا هذا ولا هذا وقادر وعاجز وما لا يقبل لا هذا ولا هذا كان ما يقبل واحدا منهما أكمل مما لا يقبل وما كان عالما قادرا أكمل مما كان جاهلا عاجزا
وإذا قسم إلى ما يكون فاعلا بالإرادة وما يفعل إرادة وما لا يفعل لا بهذا ولا بهذا كان ما يفعل بالإرادة أكمل مما يفعل بدون إرادة وما يفعل بدون إرادة أكمل ممن لا فعل له وأنتم جعلتموه لا يفعل لا بإرادة ولا بدون إرادة
الوجه الثالث عشر
عدلقولكم: فإذن لا يؤثر هذه العلة أثرا ولا يفعل فعلا منقلبا عن إرادتها وقصدها ولا دون إرادتها إذ ليس في هذه الذات نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج ولا فوق جوهرها أمر يقتبس منه ازديادا في شيء من حاله إلى آخره
فيقال لكم: إذا قدر ذات لها فعل وتأثير بالإرادة وذات ليس لها فعل ولا تأثير لا بإرادة ولا بدونها شهد صريح العقل بأن الأول أكمل ولهذا كان الحيوان أكمل من الجماد
وقلتم أنتم: إن حركة الفلك إرادية وإن ذلك أكمل من أن تكون حركته غير إرادية وإذا قدر مع هذا أن المتحرك بالإرادة محتاج إلى تمام من خارج وهو متحرك لطلب ذلك التمام فهو أكمل من الذي لا يقبل التمام كالجماد فإذا كان الأول عندكم لا شعور له ولا إرادة ولا فعل بالإرادة ولا يمكن أن يكون له شيء من ذلك كان المتحرك بالإرادة لطلب تمامه أكمل من هذا الناقص المسلوب صفات الكمال الذي لا يمكن اتصافه به فالعميان والعرجان والصم والبكم العمي أكمل من هذا الأول الذي فرضتموه والفلك أكمل منه بكثير وفيما ذكرتموه من التناقض وغاية الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد
الوجه الرابع عشر
عدلأن يقال: العالم: إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممكنا لم يوجد إلا بواجب يبدعه ويفعله فيلزم أن يكون للأول فعل وتأثير وذلك مناقض ما ذكرتموه ثم إذا قدر من يفعل بإرادة ومن يفعل بلا إرادة فالفاعل بالإرادة أكمل فيلزم أن يكون فاعلا له بالإرادة حيث سلمتم أنه يجب أن ينزل أمره في جوهره وسائر أموره على أفضل ما يمكن أن يكون وجود شيء عليه وإن كان العالم واجب بنفسه مع كونه عندكم مفتقرا إلى الأول افتقار الشيء إلى من يتشبه به ويحركه بالإرادة حركه يحصل بها تمامه - أمكن أن يكون واجب الوجود يتحرك حركة إرادية يحتاج فيها إلى تمام من خارج فثبت أنه على تقدير إمكان العالم بنفسه ووجوبه بنفسه يلزم أن يكون الواجب بنفسه له فعل وتأثير وذلك ينقض ما ذكرتموه وإن وصفه بذلك أولى من وصفه بكونه لا فعل له ولا إرادة ولا تأثير ولا يمكن اتصافه بشيء من صفات الكمال
الوجه الخامس عشر
عدلأن يقال: أنتم فررتم من إثبات نوع من النقص له فأثبتم له من النقائص ما يكون أنقص به من جميع الموجودات فإنكم فررتم من كونه يفعل بإرادة وبغير إرادة لأن ذلك بزعمكم يستلزم نقصا يحتاج فيه إلى تمام من خارج
فيقال: إذا قدر أنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا فعل لا بإرادة ولا غير إرادة ولا يؤثر شيئا أصلا ولا يتأثر عن شيء - كان ما في الموجود أكمل منه فهذا منتهى كل نقص ومن كان فيه نقص يمكنه إتمامه من خارج كان خيرا من العدم ومن لا يمكنه إتمام نقصه
الوجه السادس عشر
عدلأن يقال: ما هو النقص الذي نزهتموه عنه؟ فإن النقص لا يعقل إلا عدم كمال أو وجود مناف لكمال فعدم العلم والحياة والقدرة يسمى نقصا ووجود الصم والبكم والخرس المنافي لهذه الصفات يسمى نقصا ثم ما كان قابلا للاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبلها فإذا كان عندكم لا متصفا بها ولا قابلا للاتصاف بها كان هذا غاية ما يعقل من النقص فما النقص الذي نزهتموه عنه؟
فإن قالوا: نزهنا عن طلب تمامه من خارج فإن كون تمامه لا يحصل إلا بسبب من خارج نقص
فيقال لهم: هذا باطل من وجوه :
أحدها: أن هذا إن كان نقصا فما وصفتموه به من النقائص أعظم من هذا وأكثر
الثاني: أن يقال: فكون تمامه ممكنا وهو طالب له أكمل من كونه لا يقبل التمام ولا يطلبه
الثالث: ولم قلتم: إن هذا نقص؟ فإن النقص إنما يكون نقصا إذا عدم ما ينبغي وجوده أو ما يمكن وجوده فإذا قدر أمر لا يمكن وجوده في الأزل أو لا يصلح وجوده في الأزل فلم قلتم: إن عدم هذا نقص؟
الرابع: أن يقال: ظنكم أن تمامه يحتاج إلى سبب منفصل غلط كما قد بسط في موضع آخر فليس هو محتاجا في شيء من أفعاله فضلا عن صفاته وذاته إلى سبب خارج عنه
الوجه السابع عشر
عدلأن يقال: لم قلتم: إن الأول إذا كان فاعلا مؤثرا بالإرادة لزم أن يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج؟ فإن هذا إنما يلزم لو كان المحرك له شيئا منفصلا عنه أما إذا لم يكن مبدأ فعله إلا منه لم يلزم أن يكون محتاجا إلى تمام من خارج وأنتم لم تقيموا دليلا على أن كل فاعل بالإرادة لا يكون مبدأ فعله إلا بسبب من خارج بل ادعيتم هذا دعوى مجردة ومن هنا يتبين فساد أصل كلامهم فنقول في :
الوجه الثامن عشر
عدلأنتم لما ذكرتم أن حركة الأفلاك إرادية قلتم: إن المتحرك بالإرادة لا يكون إلا بمحبوب منفصل عنه ثم إنكم قلتم: الأول لا يتحرك بالإرادة لئلا يكون له محبوب منفصل فنحتاج إليه ولم تذكروا دليلا على أن كل متحرك بالإرادة يجب أن يكون مفتقرا إلى محبوب منفصل بل ذكرتم هذا دعوى مجردة بنيتم عليها إثبات الأول وبنيتم عليها امتناع كون الأول مؤثرا ويفعل بإرادة أو غير إرادة وإذا لم يفعل بإرادة ولا غير إرادة امتنع وجود الممكنات فامتنعت حركتها بالإرادة فامتنع احتياجها إلى معشوق فبطل دليلكم على إثبات الأول فكان نفس دعواكم التي بنيتم عليها إثبات الأول وسلب أفعاله ولم تقيموا عليها دليلا هي بعينها تستلزم عدم دليلكم على ثبوت الأول فتبين أنه ليس في كلامكم لا إثبات للأول ولا نفي لشيء عنه
الوجه التاسع عشر
عدلأن يقال: لم قلتم: إن كل فاعل بالإرادة أو كل متحرك بالإرادة يجب أن يكون محتاجا إلى مراد منفصل عنه غني عنه؟ ولم تذكروا على هذا دليلا ويقال لكم: لم لا يجوز أن يكون هو المراد المحبوب فيكون محبا لنفسه فهو المحب وهو المحبوب؟ أو يكون مريدا محتاجا لما هو مفعول له فيكون هو مراده فلا يكون في ذلك احتياجه إلى غيره؟
وأنتم تقولون ما هو موجود في كتبكم: إن الأول عاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ومبتهج ومبتهج به فإذا جاز عندكم أن يكون محبا محبوبا مريدا مرادا فلم لا يجوز أن يكون إذا فعل بالمحبة والإرادة هو المحبوب المراد؟
وعلى اصطلاحكم: هو العاشق المعشوق؟ وعلى هذا التقدير يبطل أصلا كلامكم ويمكن وصفه بصفات الكمال وبالأفعال الكاملة الإرادية التي لا يفتقر فيها إلى غيره ولا يكون فيه نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج
الوجه العشرون
عدلأنكم تقولون: إن العالي لا يفعل لأجل السافل وإن حركة الفلك الإرادية لا يجوز أن تكون لأجل السفليات لكن لزم حصول ما حصل عن حركته الإرادية بالقصد الثاني وإنما مقصوده بحركته الإرادية التشبه بمحبوبه الأعلى وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكون الأول هو المريد والمراد والمحبوب والمحب؟ وهو لا يريد شيئا لأجل شيء سواه ولكن محبته لنفسه وإرادته لها استلزم وجود المفعولات كما قلتموه فيما صدر عن الأفلاك
وإذا قيل: هو فاعل باختياره وإرادته فعلا يستلزم وجود المعلولات كان كما قلتم مثل ذلك في حركة الفلك فهذا القول جاز على أصولكم وهو أحق بالجواز إن كانت أصولكم صحيحة - مما قلتموه فيه من وصفه بغاية النقص فإذا وصفتموه بهذا كنتم قد وصفتموه بصفات الكمال مع رعاية أصولكم التي اعتقدتم صحتها ولم يكن في هذا محذور إلا كان في نفيه من المحذور ما هو أعظم منه
الوجه الواحد والعشرون
أن يقال: قولكم: فجوهرها ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء مضمونه أنها لا تحب شيئا ولا تبغضه فلم قلتم ذلك؟
فإن قلتم: إن المحب المبغض لا يحب إلا ما يحتاج إليه من غيره ولا يبغض إلا ما يحتاج إلى دفعه عن نفسه
قيل لكم: ولم قلتم ذلك والفلك عندكم يحب بل يعشق؟ وإذا كان يحب شيئا فإنه يبغض زواله ومع هذا فهو عندكم لا يخاف من شيء منفصل ولا يحتاج إلى دفع ضرر عن نفسه بل ولا يجوز عليه الفساد والانحلال وهو مع هذا عاشق محب طالب مشتاق فلا يلزم من كونه مشتاقا أن يكون من يعرض له أمر يحتاج إلى استدفاعه وأما كون الحب يوجب أن يكون فوقه جوهر آخر يقتبس منه فهذا إنما يلزم إذا لم يكن قادرا على حصول محبوبه فأما إذا قدر أنه ليس في ذلك حاجة إلى ما هو غني عنه لم يكن في ذلك محذور
الوجه الثاني العشرون
أن يقال: قولكم: فجوهرها إذن ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء ولا قبول لتغيير ولا لحدوث شأن متجددة أمر لم يذكروا عليه حجة عقلية إلا ما ذكرتموه من أن هذه الذات ليس فيها نقص يحتاج فيه إلى تمام من خارج ولا فوقها ما تزداد منه ولا يعرض لها ما يحتاج دفعه
فيقال لكم: الجوهر المتحرك أهو محتاج إلى شيء من خارج وفوقه ما يزداد منه ويعرض له ما يحتاج إليه في دفعه أم ليس كذلك؟
فإن قلتم: إنه بهذه الصفة وهو متحرك لم يكن في ثبوت هذه الصفات ما يمنع كون الموصوف متحركا فيجوز حينئذ على الأول أن يكون متحركا قابلا لقيام الأمور الاختيارية به كما يقبله الجوهر المتحرك إذ كان كلاهما مشتركا في هذه الصفات
وإن قلتم: ليس كذلك وإن الجوهر المتحرك يعرض له ما يدفعه عن نفسه
قيل لكم: ليس هذا قولكم: وبتقدير أن يعرض له فليس فوقه ما يدفع هذا عنه إذ عندكم ليس فوقه فاعل إنما فوقه محبوب ليس بفاعل ولا مؤثر: لا بإرادة ولا بدون إرادة
وكذلك إن قلتم: إنه يحتاج إلى تمام من خارج أو فوقه جوهر يقتبس منه زيادة
قيل لكم: فمن الذي يفيده الزيادة ويزيل عنه الحاجة غيره؟
فإن قلتم: الأول فالأول عندكم ليس يؤثر أثرا ولا يفعل فعلا: لا عن إرادة ولا عن غير إرادة وكونه محبوبا لا يقتضي أنه يفعل بالمحب فعلا يزداد به إذ كان الفاعل للحب في المحبوب المحرك له إلى المحبوب ليس نفس المحبوب إذ كل عاقل يعلم أن الخبز إذا أحبه الجائع لم يفعل حركته ولا قصده كذلك المعشوق الذي لا يشعر بعاشقه ليس منه فعل ولا حركة يزيد بها المحب شيئا وإنما يضاف الفعل إليه كما يضاف إلى الجماد
كما يقال: أهلك الناس الدرهم والدينار ويقال: قتلني حب المال
ويقال للذهب: قاتول ويقال للدنيا: غرارة خداعة مكارة ونحو ذلك مما يضاف إلى ما تحبه النفوس وتهواه من غير فعل منه ولا قصد فإنما يضاف الفعل إليه لأنه كان بسببه لا أنه هو المحدث لذلك الفعل ولا الفاعل له ولا المبدع له وهذا متفق عليه بين العقلاء
وإذا كان كذلك فليس في الجوهر الجسماني الفلكي إلا من جنس ما جعلتموه في الأول وهو غني كغنى الأول ومع هذا فقد جاز عليه الحركة وقيام الحوادث به فكذلك في الأول
وإذا جاز أن يقال: إن الفلك يتحرك بنفسه فلم لا يجوز أن يقال: إنه يشتاق إلى نفسه
وإذا قيل: إن الأول هو محبوب مشتاق إليه فلم لا يجوز أن يكون محبا لنفسه وحركته من المحبة لنفسه؟
وإذا قلتم: إلى أي شيء يتحرك؟
قيل لكم: والفلك إلى شيء يتحرك؟
فإذا قلتم: لإخراج ما لا يمكن وجوده دفعة عن الأيون والأوضاع
قيل لكم: ولم لا يجوز على هذا أن تقولوا: إن الأول يتحرك لإخراج ما لا يمكن وجوده دفعة من أحواله وشؤونه ثم الحوادث المنفصلة تابعة لذلك كما قلتم مثل ذلك في الفلك؟
الوجه الثالث العشرون
أن يقال: قولكم ليس فيه شوق إلى شيء ولا منافرة لشيء: أتريدون به أنه ليس فيه حب لشيء أصلا: لا لنفسه ولا لغيره؟ ولا بغض لشيء من الأشياء؟ وسميتم الحب الباعث على الفعل شوقا؟ أم تريدون به ليس فيه شوق إلى شيء مستغن عنه كما قلتموه في الفلك؟
فإن كان مرادكم الثاني: لم يضر هذا مع أنكم لم تقيموا على هذا دليلا
ولو قيل لكم: بل يجوز أن يكون مشتاقا إلى غيره وغيره مشتاق إليه - لم يمكنكم الجواب لأنكم إن قلتم: إن الفلك ممكن بنفسه لزم أن يكون الأول فاعلا له ولزم أن يكون كالفلك وهو عندكم لا يفعل ولا يؤثر وإن كان الفلك واجبا كان الواجب موصوفا بالشوق إلى غيره
وأيضا فأنتم لم تذكروا دليلا على ثبوته فضلا عن غناه إذ دليلكم في ثبوته مبني على أن المتحرك بالإرادة لا تكون حركته إلا عن حب لغيره وهذا لم تقيموا عليه دليلا وهو لا يتم حتى يمتنع كون الأول فاعلا بالإرادة فإذا لا يمكنكم ثبوته حتى يمتنع كونه فاعلا بالإرادة ولا يمتنع كونه فاعلا بالإرادة حتى يعلم ثبوته فإذا لا يثبت لا هذا ولا هذا
وإن كان مرادكم الأول فيقال لكم: من أين علمتم أنه لا يكون محبا لنفسه ولا لغيره؟
فإن قلتم: إن المحب لغيره ناقص يحتاج إلى الغير كان جوابكم من أربعة أوجه :
أحدها: أن يقال: لم لا يجوز أن يكون محبا لنفسه ثم محبته لغيره تبعا؟ كما تقولون في حب الفلك وإرادته بالقصد الأول والقصد الثاني
الثاني: أن يقال: فلم لا يجوز أن يكون محبا لغيره الذي هو مفعول مصنوع له؟ وإذا كان مريدا كما هو مفعول مصنوع له وهو ممكن لم يكن في ذلك إرادته ومحبته إلا لمفعولاته ومبتدعاته التي هي فقيرة إليه من كل وجه فليس في هذا افتقار إلى شيء هو مستغن عنه بوجه من الوجوه ومعلوم أن هذا خير من قولكم: إن الفلك لا يحتاج إليه إلا من جهة كونه محبوبا فإن ذلك في إثبات فقر الفلك إليه من كل وجه وهذا أبلغ في الكمال
الثالث: أن يقال: ولو فرض محبا لغيره مريدا لغيره وذلك الغير أيضا محتاج إليه لكونه لا يقوم إلا به كان غاية ما في هذا أن يكون قوام كل منهما بالآخر ومعلوم أن هذا وإن كان المسلمون ينزهون الله عنه فهو خير من قولكم المتضمن أن الفلك ليس له مبدع فاعل مع كونه محتاجا إلى محبوبه لأن هذا يتضمن شيئين كل منهما فاعل له وأحدهما محب للآخر أقرب إلى العدل والإمكان إن كان ذلك ممكنا وإلا فهو أقرب إلى الامتناع لأن كلا القولين يتضمن إثبات شيئين لا فاعل لهما وأحدهما يتضمن أن المحب أحدهما والآخر محبوب والقول الثاني يتضمن أن كلاهما محب محبوب
الوجه الرابع: أن يقال: المحب المريد لأمور منفصلة عنه إذا كان قادرا عليها وهو يفعلها بحسب محبته وإرادته من غير مانع فلم قلتم: إن هذا نقص؟ أو ليس الموصوف بهذا أكمل من الذي لا يحب شيئا ولا يريده ولا يقدر عليه؟ وإذا شبه الأول بالحيوان كان الثاني مشبها بالجماد والجماد أنقص
الوجه الرابع العشرون
أن يقال: إذا قدر موجودان: أحدهما محب مريد يفعل ما يريده وهو قادر على ذلك والثاني لا يحب شيئا ولا يريده ولا يقدر على شيء محبوب مراد لكن غيره يحبه - كان إجماع العقلاء أن الأول أكمل من الثاني فإن الثاني شبيه بالخبز والماء واللباس والمساكن التي يحبها الناس ويريدونها والأول شبه بالناس الذين يحبون ذلك
ومعلوم أن الثاني أنقص من الأول والأول أقرب إلى الكمال فهؤلاء فروا بزعمهم مما توهموه نقصا فوقعوا فيما هو أعظم نقصا بلا ريب
وإيضاح هذا أن يقال: إذا قسمنا الموجودات إلى قسمين: حي وميت وعالم وجاهل وقادر وعاجز وقادر على الفعل وغير قادر عليه بل قادر على الفعل والحركة بإرادته ومحبته ومن لا إرادة له ولا قدرة له أو لا فعل له ولا حركة إلى ما يريده ونحو ذلك - كان الأول هو الموصوف بصفات الكمال دون الثاني
وأما مجرد كون الشيء مرادا محبوبا فليس بصفة كمال إلا أن يكون محبوبا لنفسه مرادا لذاته وهؤلاء سلبوا الرب جميع صفات الكمال ووصفوه بالنقائص ولم يثبتوا له شيئا من الكمال إلا مجرد كونه محبوبا ولم يقيموا حجة على ذلك ولا على أنه محبوب لنفسه فكان ما وصفوه به غاية النقص بل العدم
بقية كلام ثابت بن قرة ورد ابن تيمية عليه
قال ثابت: فليس يوجد إذن أمر يجتذب هذه الذات بالطبع وبغير إرادة وليس يوجد إذن أمر يدعو هذه الذات إلى حال أو شأن ليس هي المبدأ الأول له والعلة فيه
فيقال لهم: أولا: لم تقيموا دليلا على شيء من ذلك فإنكم لم تجعلوها فاعلا لشيء ولا مؤثرا فيه أصلا فليست مبدأ لشيء من الأشياء ولا علة له إلا من كونها محبوبة فقط وليس في هذه الجهة أنها تحدث شيئا ولا أنها تبدع شيئا
وإذا كان كذلك فما المانع أن يكون غيرها جاذبا لها وداعيا لها إلى شيء؟ وما المانع أن تكون هي محبة لغيرها؟ وأنتم لم تذكروا على امتناع ذلك حجة أصلا
والمسلمون وغيرهم من أهل الملل إذا نزهوا الله عن الحاجة إلى غيره فهم يثبتون أنه رب غيره ومليكه وخالقه وأنتم لم تثبتوا أنه رب كل ما سواه ومليكه وخالقه
وحينئذ فلا دليل لكم على انتفاء الحاجة عنه لا سيما مع أنه يلزمكم أن تجعلوا العالم واجب الوجود بنفسه مع فقره إليه فيكون الواجب بنفسه فقيرا إلى غيره أو تجعلوه ممكنا لا بد له من فاعل فيكون الأول مبدعا فاعلا لغيره والفاعل كما ذكروه يستلزم أن يكون له فعل وإرادة وهذا نقيض قولهم
ويقال لهم: ثانيا: لم لا يجوز أن يكون مفعولها المحتاج إليها هو الداعي الجاذب؟ وليس في هذا افتقار إلى ما هو مستغن عنها وأنتم لم تقيموا دليلا على انتفاء ذلك
ويقال لهم: ثالثا: لم لا يجوز أن يكون هو المبدأ لما يفعله والداعي منه لا من غيره وهو المحب لنفسه؟ وقد ذكر أئمتكم في كتبهم أنه عاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ به
قال: وبالجملة فكل ما كان له ما هو بالطبع على الجهة الطبيعية التي يمحوها فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته والمشتاق معلول من جهة شوقه للشيء المشوق إليه مبدأ له في ذلك الشوق ومن جهة أي هو له علة تمامية من جهة من الجهات وليس يليق هذا الأمر البتة بالمبدأ الأول ولكنه مبدأ لكل طبيعة ولكل شوق ولكل حركة
فيقال له: الكلام على هذا من وجوه :
الأول: قولكم: إن الأول مبدأ لكل طبيعة وكل شوق وكل حركة كلام مناقض لما ذكرتموه فإنكم لم تجعلوه إلا محبوبا فقط لا فاعلا مبدعا ولا علة فاعلة ومجرد كون الشيء محبوبا لا يوجب أن يفعل شيئا في غيره وقد علم الفرق بين العلة الفاعلة والغائية
والثاني: قولكم: إن المشتاق إليه علة للمشتاق فيقال لكم: ولم يمتنع أن يكون محبا لنفسه؟ فهو المحب المحبوب
الثالث: أن يقال: ما المانع أن يكون محبا مريدا لما هو مفعول مصنوع له؟ وليس في هذا كونه معلولا لغيره لأن ذلك الغير هو معلوله من كل وجه مفعول له بكل طريق محتاج إليه بكل سبب
وليس في حب الشيء وإرادته لمثل ذلك نقص بل هذا من الكمال فإن من أراد ما هو مفعول له معلول له وهو قادر على ذلك المراد المحبوب كان هذا غاية الكمال بخلاف من لا يفعل شيئا منفصلا عنه ولا يريده ولا يقدر عليه بل ولا يفعل فعلا قائما بنفسه بل هو كالجماد الذي ليس له صفة كمال بل كالمعدوم
الرابع: قولكم: وليس يليق هذا البتة بالمبدأ الأول كلام بلا برهان وأنتم تدعون البرهان والحجة - وقد ذكر هذا غيركم - لم ترضوا أن تجعلوا هذا خطابة بل جعلتموه دون الخطابة وأنتم تجعلونه عمدة في مثل هذا الأمر العظيم بلا حجة أصلا مع أنكم لم تثبتوا أن الأول مبدأ ولا فاعل أصلا إلا بجهة كونه محبوبا مع أنكم لم تقيموا على ذلك دليلا
الخامس: قوله: كل ما كان ما هو له بالطبع من الجهة التي ينحوها فإنه يلزم أن يوجد في جوهره شوق بالطبع إلى حال لا تملكها إرادته
فيقال لهم: هذه قضية كلية لم يذكروا عليها دليلا وغاية ما يستدلون به أن يقولوا: وجدنا المتحركات بالإرادة كذلك الحيوان
فيقال لهم: وكذلك وجدتم ذلك ممكنا مفعولا مصنوعا مفتقرا إلى فاعل مبدع فقولوا: إن الأول ممكن مفعول مصنوع مفتقر إلى فاعل مبدع فإن كان الدليل قد أثبت موجودا واجبا بنفسه لا يفتقر إلى غيره فإما أن يكون ذلك هو الفلك أو أمرا فوق الفلك فإن كان هو الفلك وهو مشتاق إلى حال تملكها إرادته بطل نفيكم لهذا عن الواجب بنفسه
وإن كان الواجب بنفسه أمرا فوق الفلك كان هو الفاعل للفلك المبدع له وحينئذ فالفلك وما فيه محتاج إليه من كل وجه فليس في الوجود ما هو خارج عن ملكه حتى يقال: إنه مشتاق إلى ما تملكه إرادته
السادس: أن هذا الكلام إنما يصح أن لو كان فيه الوجود ما لا تملكه إرادة الأول فأما إذا كان كل ما سواه كائنا بإرادته ومشيئته فليس في الوجود شيء لا تملكه إرادته وأنتم لم تقيموا دليلا على امتناع إرادته وإذا كانت إرادته ممكنة على هذا الوجه كما يقول المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن - لم يمنع أن يكون مريدا على هذا الوجه
السابع: أن يقال: كونه يفعل بالطبع أو نحو ذلك ليس من عبارة المسلمين فإذا كانوا يسمون كل ما يفعل فعلا قائما بنفسه متحركا بالطبع لم ننازعهم في المعنى
لكن نقول: لم قلتم: إن من كان فاعلا فعلا يقوم به بإرادته مشتاق إلى حال لا يملكها؟
فإذا سميتم كل ما كان كذلك فاعلا بالطبع فلم قلتم: إن كل ما كان كذلك مشتاق إلى حال لا يملكها؟
درء تعارض العقل والنقل | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 |