فصل عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

عدل

ثم قال ابن رشد: فإن قيل: فإذ قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري فما هي الطريق الشرعية التي نبه الكتاب عليها وكان يعتمدها الصحابة؟

قلنا: الطرق الشرعية التي نبه الكتاب عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرئ الكتاب وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما طرق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله وتسمى هذه دليل العناية

والطريق الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الخمسة والعقل ولنسم هذا دليل الاختراع

أما الطريق الأولى فتبنى على أصلين: أحدهما: أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان

والأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذك مريد إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق فأما كونها موافقة لوجود الإنسان فيحصل اليقين بذلك بدليل موافقة الليل والنهار والشمس والقمر لوجود الإنسان وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له والمكان الذي هو فيه أيضا وهو الأرض

وكذلك أيضا يظهر موافقة كثير من الحيوان له والنبات والجمادات وجزيئات كثيرة: مثل الأمطار والأنهار والبحار وما تحمله الأرض والماء والهواء والنار

وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء الإنسان وأعضاء الحيوان أعني كونها موافقة لحياته ووجوده

وبالجملة فمعرفة منافع الموجودات داخلة في هذه الجنس ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن صانع جميع الموجودات

قال: وأما دلالة الاختراع فيدخل فيها وجود الحيوان كله ووجود النبات ووجود السموات وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في فطر جميع الناس أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات

كما قال تعالى: { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } الآية [ الحج: 73 ] فإنا نرى أجساما جمادية ثم تحدث فيها الحياة فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها وهو الله تبارك وتعالى وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هو ها هنا ومسخرة لنا والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة

قلت: هذا يبين بأن حركات الأفلاك ليست من قبل أنفسها بل من محرك منفصل عنها حتى يكون ذلك المحرك لها هو الآمر المسخر

وهذا يتبين بوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع مثل أن يبين المحرك من جهة الفاعل والسبب ومن جهة المقصود والغاية أي أنها لا بد أن تقصد بحركاتها شيئا منفصلا عنها مثل ما يقول المسلمون وغيرهم من أهل الملل: إنها عابدة لله تعالى ويقول المتفلسفة - كأرسطو وأتباعه -: إنها تقصد التشبه بالإله على قدر الطاقة

وعلى القولين فتكون حركتها من جنس حركة المحب إلى محبوبه والطالب إلى مطلوبه وما كان له مراد منفصل عنه مستغن عنه - فهو محتاج إلى ما هو مستغن عنه ومن احتاج إلى ما هو مستغن عنه لم يكن غنيا بنفسه بل يكون مفتقرا إلى ما هو منفصل عنه وهذا لا يكون واجب الوجود بنفسه بل يكون ممكنا عبدا فقيرا محتاجا فتكون السموات مفتقرة ممكنة ليست بواجبة

والوجه الثاني: أن كل فلك فإنه يحركه غيره من الأفلاك المنفصلة عنه فتكون حركته من غيره والفلك المحيط بها المحرك لها لا يحرك ولا يؤثر في غيره إلا بمعاونة غيره من الأمور المنفصلة عنه فليس هو وحده المحرك لسائر أنواع حركاتها بل يجب أن يكون المحرك غيره والمتحركات المنفصلة عنه ليست منه وحده بل منه ومن غيره فليس فيها ما هو مستقل بالتحريك وما كان مفتقرا إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه فلا بد من محرك منفصل عنها

ومثل أن يقال: ليس شيء منها مستقلا بمصالح السفليات والآثار الحادثة فيها بل إنما يحصل ذلك بأسباب منها اشتراكها ومنها أمور موجودة في السفليات ليست من واحد منها فكل واحد منها لا بد له من شريك معاون له مانع يعوقه عن مقتضاه فلا يتم أمره إلا بمشارك غني عنه وانتفاء مانع معارض له فيمتنع أن يكون مبدعا لشريكه الغني عنه ولمانعه المضاد له وأن يكون ما يحصل من المصالح التي في العالم السفلي بمجرد قصده وفعله فوجب أن يكون هناك ما يوجب فعله وحركته من غيره وذلك هو الأمر والتسخير

لأن الحركة إن كانت قسرية فلها قاسر وإن كانت طبيعية فالطبعية لا تكون إلا إذا خرجت بالعين من محلها فهي مقسورة على الخروج

وإن كانت إرادية فالمريد لآثار لا يستقل بها ولا يحصل إلا بمشاركة غيره ويمتنع بمعارضة غيره له فيها هو مفتقر في مقصوده إلى غيره

ويمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه لأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره المستغني عنه بوجه من الوجوه إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه لم يكن من ذلك الوجه غنيا عن الغير بل مفتقرا إليه

ولا يتم ذلك الوجه إلا بذلك الغير المستغني عنه

والمريد لأمر إذا لم يكن قادرا على تحصيل مراده كان عاجزا وكان فقيرا إلى ما به يحصل مراده والمفتقر إلى ما يعجز عنه لا يكون واجبا بنفسه ولا يكون كماله حاصلا به بل بما هو مستغن عنه فهذه الأمور وغيرها مما يستدل به على هذا المطلوب

قال: وأما الأصل الثاني فهو أن كل مخترع فله مخترع فيصح من هذين الأصلين أن للوجود فاعلا مخترعا له وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات ولذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع

وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } [ الأعراف: 185 ]

وكذلك أيضا من تتبع معنى الحكمة في موجود أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق والغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم فهذان الدليلان هما دليلا الشرع

وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة فذلك بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى

وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذا المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع :

إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا

فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فقط فمثل قوله تعالى: { ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا } [ النبأ: 6 - 7 ] إلى قوله: { وجنات ألفافا } [ النبأ: 16 ]

ومثل قوله تعالى: { تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا } [ الفرقان: 61 ] إلى قوله: { أو أراد شكورا } [ القرقان: 62 ]

ومثل قوله: { فلينظر الإنسان إلى طعامه } الآيات [ عبس: 24 ] ومثل هذا كثير في القرآن

وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى: { فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق } [ الطارق: 6 ]

ومثل قوله: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [ الغاشية: 17 ] الآية

ومثل قوله تعالى: { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا } [ الحج: 73 ]

ومن هذا قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا } [ الأنعام: 79 ] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى

وأما الآيات التي تجمع الدلالتين فهي كثيرة أيضا بل هي الأكثر مثل قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة: 21 ] إلى قوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } [ البقرة: 22 ]

وذلك أن قوله: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة: 21 ] تنبيه على دلالة الاختراع وقوله: { الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء } [ البقرة: 22 ] تنبيه على دلالة العناية

ومثله قوله: { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون } [ يس: 33 ]

وقوله: { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران: 191 ]

وأكثر الآيات الواردة في هذا المعنى يوجد فيها النوعان من الأدلة

قال: فهذه الطريق هي الصراط المستقيم التي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى

وإلى هذا الفطرة الأولى المغروزة في طباع البشر الإشارة بقوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم } إلى قوله: { قالوا بلى شهدنا } [ الأعراف: 172 ]

ولهذا يجب على كل من كان وكده طاعة الله تعالى في الإيمان به وامتثال ما جاءت به رسله أن يسلك هذه الطريقة حتى يكون من العلماء الذي يشهدون لله بربوبيته مع شهادته لنفسه وشهادة ملائكته له

كما قال تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } [ آل عمران: 18 ]

قال: ودلالة الموجودات من هاتين الجهتين عليه هو التسبيح المشار إليه بقوله تعالى: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء: 44 ]

قلت: في هذه الآية وآية أخذ الميثاق من الكلام ما ليس هذا موضعه وكذلك دعواه انحصار الطريق في هذين النوعين

وقوله: إن في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع وغير ذلك - كلام ليس هذا موضعه بل كل ما دل على العناية دل على الاختراع ولكن المقصود هنا حكاية ما ذكره

قال: فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين: دلالة العناية ودلالة الاختراع

قال: وبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما: طريقة الخواص ويعنى بالخواص العلماء وطريقة الجمهور وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفضيل: أعني أن الجمهور يقتصرون من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس وأما العلماء فيزيدون إلى ما يدركون من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان أعني من العناية والاختراع حتى لقد قال بعض العلماء: إن الذي أدرك العلماء من معرفة منافع أعضاء الإنسان والحيوان هو قريب من عشرة آلاف منفعة

قال: وإذا كان هذا هكذا فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والفلسفية الحكمية وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب والعلماء ليسوا يفضلون الجمهور في هذين الاستدلالين من قبل الكثرة فقط بل من قبل التعمق في معرفة الشيء الواجب بنفسه فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعها فإنهم إنما يعرفون من أمرها أنها مصنوعات فقط وأن لها صانعا موجودا

ومثلا العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عنده ببعض صنعها وبوجه الحكمة فيها ولا شك أن من حاله من العلم بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصانع من جهة ما هو صانع من الذي لا يعرف من تلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط

وأما مثال الدهرية في هذا الذين جحدوا الصانع سبحانه وتعالى فمثال من أحس مصنوعات فلم يعرف أنها مصنوعات بل ينسب ما رأى فيها من الصنعة إلى الاتفاق والأمر الذي يحدث من ذاته

قلت: فهذا الرجل مع أنه من أعيان الفلاسفة المعظمين لطريقتهم المعتنين بطريقة الفلاسفة المشائين كأرسطو وأتباعه يبين أن الأدلة العقلية الدالة على إثبات الصانع مستغنية عما أحدثه المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم من طريقة الأعراض ونحوها وأن الطرق الشرعية التي جاء بها القرآن هي طرق برهانية تفيد العلم للعامة وللخاصة والخاصة عنده يدخل فيهم الفلاسفة والطرق التي لأولئك هي مع طولها وصعوبتها لا تفيد العلم لا للعامة ولا للخاصة

هذا مع أنه يقدر القرآن قدره ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن فإن القرآن قد اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق وأكمل الطرق كما قد بسط في موضعه

والذي قاله من أن هذه الطرق المعتزلية كطريقة الأعراض المبنية على امتناع حوادث لا أول لها لم يبعث الرسول بدعوة الخلق إليها ولا كان سلف الأمة يتوسلون بها إلى معرفة الله - هو أمر معلوم بالاضطرار لكل من كان عالما بأحوال الرسول وأصحابه والسلف ولكل من تدبر القرآن والحديث

وكل متكلم فاضل كالأشعري وغيره يعلم ذلك كما تقدم كلام الأشعري

وأما كون هذه الطرق المعتزلية - كطريقة الأعراض والتركيب والاختصاص - هي برهانية أو ليست برهانية وهي تفيد العلم أو لا تفيده فهذا مما يعلم بنظر العقل الصريح فمن كان ذكيا طالبا للحق عرف الحق في ذلك

ولنا مقصودان: أحدهما: أن ما به يعلم ثبوت الصانع وصدق رسوله لا يتوقف على هذه الطرق المعتزلية الجهمية وهذه الطرق هي التي يقال: إنها عارضت الأدلة الشرعية ويقال: إن القدح فيها قدح في أصل الشرع فإذا تبين أنها ليست أصلا للعلم بالشرع كما أنها ليست أصلا لثبوته في نفسه بالاتفاق بطل قول من يزعم أن القدح في هذه العقليات قدح في أصل الشرع وهو المطلوب

والمقصود الثاني أن هذه العقليات المعارضات للشرع باطلة في نفسها وإن لم نقل إنها أصل للعلم به وقد ذكرنا من قدح فضلاء أهل الكلام والفلسفة فيها بالأدلة العقلية ما يحصل هذا المقصود

فمن كان له نظر ثاقب في هذه الأمور عرف حقيقة الأمر ومن كان لا يفهم بعض الدقيق من كلامهم كفاه أن يعلم أن هؤلاء النظار يقدح بعضهم في أدلة بعض وأنهم لم يتفقوا على مقدمتين عقليتين ولا مقدمات ولا مقدمة واحدة يمكن أن يستنتج منها دليل عقلي يصلح لمعارضة أخبار الرسول بل إن اتفقوا على مطلوب كاتفاق طائفة من أهل الكلام وطائفة من أهل الفلسفة على نفي العلو مثلا - فهؤلاء يثبتون ذلك وينفقون التجسيم بدليل الأعراض والآخرون يطعنون في هذا الدليل ويثبتون فساده في العقل وهؤلاء يثبتون ذلك بدليل نفي التركيب العقلي وأولئك يثبتون فساد هؤلاء فصار هذا بمنزلة من ادعى حقا وأقام عليه بينتين وعلى بينة تقدح في الأخرى وتقول: إنها كاذبة فيما شهدت به وتبدي ما يفسد شهادتها وأنها غير صادقة فلا يمكن ثبوت الحق بذلك لأنا إن صدقنا كلا منهما فيما شهدت به من الحق وفي فسق أولئك الشهود لزم أن لا تقبل شهادة أولئك الشهود فلا تقبل شهادة لا هؤلاء ولا هؤلاء فلا يثبت الحق وإن عينا إحدى البينتين بالقبول أو قبلنا شهادتهما في الحق دون جرح الأخرى كان تحكما

مع أنه ما من مطلوب من المطالب إلا وقد تنازع فيه أهل الكلام والفلسفة جميعا فأهل الفلسفة متنازعون في الجهة وحلول الحوادث وأهل الكلام متنازعون أيضا في ذلك والمثبتون من هؤلاء وهؤلاء يقدحون في أدلة النفاة بالقوادح العقلية

وأهل السنة وإن كانوا يعرفون بعقولهم من المعاني الصحيحة نقيض ما يقول النفاة فلا يعبرون عن صفات الله بعبارات مجملة مبتدعة ولا يطلقون القول بأن الله جسم وأنه تحله الحوادث وأنه مركب ولا نحو ذلك ولا يطلقون من نفي ذلك ما يتناول نفي ما أثبته الرسول ودلت العقول عليه بل يفسرون المجملات ويوضحون المشكلات ويبينون المحتملات ويتبعون الآيات البينات ويعلمون موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح

وهؤلاء المتفلسفة مثل هذا الرجل وأمثاله وإن وافقوا النفاة في الباطن في بعض ما نفوه فهم معترفون بأن الشرع لم يرد بذلك ومبطلون لأدلة إخوانهم النفاة ثم يذكرون من أدلة النفي ما هو أضعف وأفسد مما ضعفوه وأفسدوه

ونحن نذكر كلامه في ذلك وذلك أنه لما تكلم على الطريق العقلية الشرعية في إثبات الصانع تكلم أيضا على إثبات التوحيد والصفات الثبوتية والسلبية والأفعال

فقال: القول في الوحدانية: فإن قيل: إذا كانت هذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في معرفة وجود الصانع سبحانه فما طريقة معرفة وحدانيته الشرعية أيضا وهو معرفة أنه لا إله إلا هو فإن هذا النفي هو معنى زائد على الإيجاب الذي تضمنته هذه الكلمة والإيجاب قد ثبت من القول المتقدم فبماذا يصح النفي؟

قلنا: أما نفي الألوهية عما سواه فإن طريق الشرع في ذلك هي الطريق التي نص الله عليها في كتابه

وذلك في ثلاث آيات: إحداها قوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء: 22 ]

والثانية قوله: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } [ المؤمنون: 91 ]

والثالثة قوله: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء: 42 ]

فأما الآية الأولى فدلالتها مغروزة في الفطر بالطبع وذلك أنه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صاحبه أه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد فيجب ضرورة إن فعلا معا أن تفسد المدينة الواحدة إلا أن يكون أحدهما يفعل ويبقى الآخر عطلا وذلك منتف في صفة الإلهية فإنه متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة أو تمانع الفعل فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن واحد فهذا معنى قوله سبحانه: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء: 22 ]

قلت: المعلوم بنفسه أنه لا يكون المفعول الواحد بعينه فعلا لفاعلين على سبيل الاستقلال ولا التعاون ولا يكون المعلول الواحد بالعين معلولا لعلتين مستقلتين ولا متشاركتين وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء بعد تصوره فإنه إذا كان أحدهما مستقلا به لزم أن يحصل جميع المفعول المعلول به وحده فلو قدر أن الآخر كذلك للزم أن يكون كل منهما فعله كله وحده وفعله له وحده ينفي أن يكون له شريك فيه فضلا عن آخر مستقل فيلزم الجمع بين النقيضين: إثبات استقال أحدهما ونفي استقلاله وإثبات تفرده به ونفي تفرده به وهذا جمع بين النقيضين

ومن المعلوم بنفسه أن عين المفعول الذي يفعله فاعل لا يشركه فيه غيره كما لا يستقل به فإنه لو شرك فيه غيره لم يكن مفعوله بل كان بعضه مفعوله وكان مفعولا له ولغيره فيمتنع وقوع الاشتراك فيما هو مفعول لواحد

ولهذا كان المعقول من الاشتراك هو التعاون بأن يفعل كل منهما غير ما يفعله الآخر كالمتعاونين على البناء: هذا ينقل اللبن وهذا يضعه أو على حمل الخشبة: هذا يحمل جانبا وهذا يحمل جانبا

والمخلوقات جميعها يعاون بعضها بعضا في الأفعال فليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول ينفرد به بل لا بد له من مشارك معاون مستغن عنه ثم مع احتياجه إلى المشارك له من يعارضه ويعوقه عن الفعل فلا بد له من مانع يمنع التعارض المعوق

وهذا في كل ما يقال إنه مؤثر واحد يصدر عنه وحده شيء أصلا فلا واحد يفعل وحده إلا الله سبحانه

وهذا مما يبين ضلال هؤلاء المتفلسفة القائلين بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وجعلوا هذه قضية كلية ليدرجوا فيها واجب الوجود ويقولوا: لم يصدر عنه إلا واحد بسيط وهو ما يسمونه العقل

فإن هذا القول وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة لكن المقصود هنا أن هذه القضية الكلية لا تصدق في موضع واحد غير محل النزاع ومحل النزاع علم فيه أن الفاعل واحد لكن لم يعلم فيه أنه لا يفعل إلا واحدا

وأيضا فالوحدانية التي يستحق الرب أن يوصف بها ليست هي الوحدة التي يدعونها فإن تلك الوحدة التي يدعونها لا تصدق إلا على الممتنع الذي لا يمكن وجوده إلا في الذهن لا في الخارج إذ يثبتون وجودا مطلقا أو مشروطا بسلب الأمور الثبوتية أو الثبوتية والعدمية وهذا لا يكون إلا في الأذهان كما قد قرروا ذلك في منطقهم وهو معلوم بصريح العقل وقد بين هذا في موضعه

والمقصود هنا أنهم لا يعلمون واحدا يصدر عنه شيء غير الله تعالى فإذا قالوا: الشمس يصدر عنها الشعاع فالشعاع لا يحصل إلا مع وجود جسم قابل له ينعكس عليه الشعاع فصار لوجوده سببان: الشمس والجسم المقابل لها ثم له مانع وهو الحجب التي تحول بين الشمس وبين ما يقبل الشعاع

وهكذا النور الخارج من السراج ونحوه من النيران لا يحصل إلا بالنار وبجسم يقبل انعكاس الشعاع عليه وارتفاع الحجب الحائلة بينهما

وكذلك تسخين النار وتبريد الماء وما يحصل بالخبز والماء من شبع وري وسائر الآثار الحاصلة بالأغذية والأدوية وغير ذلك فإنه لا بد من النار ومن جسم يقبل أثرها وإلا فالياقوت والسمندل ونحو ذلك لا تحرقه النار وكذلك الغذاء لا ينفع إلا بقوة قابلة لأثره في الجسم وأمثال ذلك كثيرة

وكذلك الفاعل المختار كالإنسان فإن حركته الحاصلة باختياره لا تحصل إلا بقوة من أعضائه يحتاج إليها وليس هو الفاعل لأعضائه ولا لقواها فهو محتاج في فعله إلى أسباب خارجة عن قدرته وقد يحصل في بدنه من العوائق ما يعوقه عن الحركة هذا فعله في نفسه فأما الأمور المنفصلة عنه التي يقال: إنها متولدة عن فعله فمن الناس من يقول: ليست مفعولة له بحال بل هي مفعولة لله تعالى كما يقول ذلك كثير من متكلمي المثبتين للقدر

ومنهم من يقول بل هو مفعول له على طريق التولد كما يقوله من يقوله من المعتزلة ويحكى عن بعضهم: أنه قال: لا فاعل لها بحال

وحقيقة الأمر أن تلك قد اشترك فيها الإنسان والسبب المنفصل عنه فإنه إذا ضرب بحجر فقد فعل الحذف ووصول الحجر إلى منتهاه حصل بهذا السبب وبسبب آخر من الحجر والهواء

وكذلك الشبع والري حصل بسبب أكله وشربه الذي هو فعله وبسبب ما في الطعام والشراب من قوة التغذية وما في بدنه من قوة القبول لذلك والله خالق هذا كله

وهذا مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول أصلا فالقلب الذي هو ملك البدن وإن كان منه تصدر الإرادات المحركة للأعضاء فلا يستقبل بتحريك إلا بمشاركة الأعضاء وقواها كما تقدم

وولاة الأمور المدبرون للمدائن والجيوش لا يستقل أحدهم بمفعول إن لم يكن له من يعينه عليه وإلا فقوله وعمله أعراض قائمة به لا تجاوزه وكل ما يصدر خارجا عنه فمتوقف على أسباب أخرى خارجة عن محل قدرته وفعله

وهذا كله مما يبين عجز كل مخلوق عن الاستقلال بمفعول ما فلا يكون شيء من المخلوقات ربا لشيء من المخلوقات ربا لشيء من المخلوقات ربوبية مطلقة أصلا إذ رب الشيء من يربه مطلقا من جميع جهاته وليس هذا إلا لله رب العالمين

ولهذا منع في شريعتنا من إضافة الرب إلى المكلفين كما قال : [ لا يقل أحدكم: اسق ربك أطعم ربك ]

بخلاف إضافته إلى غير المكلفين كقول النبي لمالك بن عوف الجشمي: [ أرب إبل أنت أم رب شاء؟ ] وقولهم: رب الثوب والدار

فإنه ليس في هذه الإضافة ما يقتضي عبادة هذه الأمور لغير الله فإن هذا لا يمكن فيها فإن الله فطرها على أمر لا يتغير بخلاف المكلفين فإنهم يمكن أن يعبدوا غير الله كما عبد المشركون به من الجن والإنس غيره فمنع من الإضافة في حقهم تحقيقا للتوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ولهذا لم يكن شيء يستلزم جود المفعولات إلا مشيئة الله وحده فما شاء الله كان وإن لم يشأ ذلك غيره وما لم يشأ لا يكون ولو شاءه جميع الخلق

فصل عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

عدل

وإذا عرف أنه ليس في المخلوقات ما هو مستقل بمفعول ولا معلول فليس في المخلوقات ما هو رب لغيره أصلا بل فعل كل مخلوق له فيه شريك وقد يكون له مانع وهذا مما يدل على إثبات الصانع تعالى ووحدانيته كما نبه عليه في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنه من المعلوم بنفسه أنه لا يكون اثنان مستقلين بفعل ولا يكون مفعول واحد قد فعله كل من الاثنين ولا يكون نفس مفعول الفاعل الواحد قد شاركه فيه غيره فحيث حصلت المشاركة لم يكن هناك مفعول واحد لفاعل واحد فإن الوحدة تناقض الشركة ومفعولات المخلوقات لا بد فيها من الاشتراك لكن لا يفعل أحد الشريكين نفس فعل الآخر فلا تفعل اليد ما تفعله العين ولا يفعل الدماغ ما يفعله القلب وإن كان كل منها مفتقرا إلى غيره في فعله

فكذلك السفينة إذا كان فيها ربانان أو كان للقرية رئيسان أو للمدينة ملكان لم يمكن أن يكون فعل هذا هو نفس فعل هذا بل يفعل هذا شيئا وهذا شيئان وما يفعله كل منهما لا يفعله الآخر

فلهذا قال هذا الرجل: إنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد وقوله: من نوع واحد - إن كان زيادة إيضاح وإلا فلا حاجة إليه فإنه لا يمكن أن يكون عن فاعلين فعل واحد سواء كان فعلهما نوعا واحدا أو نوعين مختلفين بل الامتناع هنا أظهر

وقوله: متى اجتمع فعلان من نوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة أو تمانع الفاعل فإن الفعل الواحد لا يصدر إلا عن فاعل واحد فحقيقته أن يقال: بل يمتنع الفعل والحال هذه فلا يمكن وقوعه حتى يقال: إن المحل يفسد أو لا يفسد

ولكن هو ظن - كما ظن من ظن من المتكلمين - أن الإله هو بمعنى الرب وأن دلالة الآية على انتفاء إلهين إنما دلت به على انتفاء ربين فقط وذلك يظهر بتقدير امتناع الفعل من ربين

وسنبين إن شاء الله أن الآية دلت على ما هو أكمل وأعظم من هذا وأن إثبات ربين للعالم لم يذهب إليه أحد من بني آدم ولا أثبت أحد إلهين متماثلين ولا متساويين في الصفات ولا في الأفعال ولا أثبت أحد قديمين متماثلين ولا واجبي الوجود متماثلين

ولكن الإشراك الذي وقع في العالم إنما وقع بجعل بعض المخلوقات مخلوقة لغير الله في الإلهية بعبادة غير الله تعالى واتخاذ الوسائط ودعائها والتقرب إليها كما فعل عباد الشمس والقمر والكواكب والأوثان وعباد الأنبياء والملائكة أو تماثيلهم ونحو ذلك

فأما إثبات خالقين للعالم متماثلين فلم يذهب إليه أحد من الآدميين

وقد قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ لقمان: 25 ]

وقال تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون } [ المؤمنون: 84 - 89 ]

وقال: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [ يوسف: 106 ]

والرسل دعوا الخلق إلى توحيد الإلهية وذلك متضمن لتوحيد الربوبية كما قال كل منهم لقومه: { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف: 59 ]

وقال: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } [ الزخرف: 45 ]

وقال: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء: 25 ]

وقال: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل: 36 ]

وإلا فمجرد توحيد الربوبية قد كان المشركون يقرون به وذلك وحده لا ينفع وهؤلاء الذين يريدون تقرير الربوبية من أهل الكلام والفلسفة يظنون أن هذا هو غاية التوحيد كما يظن ذلك من يظنه من الصوفية الذين يظنون أن الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية

وهذا من أعظم ما وقع فيه هؤلاء وهؤلاء من الجهل بالتوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب

فإن هذا التوحيد - الذي هو عندهم الغاية - قد كان مشركو العرب يقرون به كما أخبر الله عنهم ولكن كثير من الطوائف قصر فيه مع إثباته لأصله كالقدرية الذين يخرجون أفعال الحيوان عن قدرة الله ومشيئته وخلقه ولازم قولهم حدوث محدثات كثيرة بلا محدث

وأما الفلاسفة القائلون بقدم العالم فلازم قولهم أن الحوادث جميعها ليس لها فاعل ثم هم يجعلون بعض مبدعات الرب هي الفاعلة لما سواه كما يزعمون مثل ذلك في العقل

ومشركو العرب كانوا خيرا في التوحيد من هؤلاء فإن هؤلاء غايتهم أن يثبتوا أسبابا لبعض الموجودات لكن الأسباب لا تستقل بل تفتقر إلى مشارك وانتفاء معارض وقد يثبتون أسبابا وعللا لا حقيقة لها كالعقول التي يزعمون أنها أبدعت ما سواها

وأما المجوس الثنوية فهم أشهر الناس قولا بإلهين لكن القوم متفقون على أن الإله الخير المحمود هو النور الفاعل للخيرات وأما الظلمة - التي هي فاعل الشرور - فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه محدث حدث عن فكرة رديئة من النور وعلى هذا فتكون الظلمة مفعولا للنور لكنهم جهال أرادوا تنزيه الرب عن فعل شر معين فجعلوه فاعلا لأصل الشر ووصفوه بالفكرة الرديئة التي هي من أعظم النقائص وجعلوها سببا لحدوث أصل الشر

والقول الآخر قولهم: إن الظلمة قديمة كالنور

فهؤلاء أثبتوا قديمين لكن لم يجعلوها متماثلين ولا مشتركين في الفعل بل يمدحون أحدهما ويذمون الآخر

ولذلك من قال من الملاحدة كمحمد بن زكريا الرازي الطبيب وأمثاله الذين اتبعوا قول طائفة من الملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدماء الخمسة التي هي: واجب الوجود والنفس والهيولى والدهر والخلاء وأن سبب حدوث العالم أن النفس تعلقت بالهيولى فلم يمكن واجب الوجود أن يخلصها منها حتى تمتزج بالعالم فتذوق ما فيه من الشرور

وسبب قوله هذا القول أنه كان يقول بحدوث العالم وطولب بسبب حدوثه فأثبت نوعا من الحركات سماها الحركة الفلتية وشبهها بالريح والصوت الذي يخرج من الإنسان بغير اختياره وجعل عشق النفس للهيولى من هذا الباب وظهر الناس جهله في إلحاده فإن هذه الحركة على أي وجه كانت حادثة بعد أن لم تكن فيسأل عن سبب حدوثها كما يسأل عن سب حدوث حركة أخرى فلم يتخلص بهذا الجهل من السؤال

والمقصود أن كثيرا من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات أو حدوث بعض الحوادث إلى غير الله وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب وهم مع شركهم وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية لا يثبتون مع الله شريكا مساويا له في أفعاله ولا في صفاته

وإما إثبات الأسباب التي لا تستقل بالأثر بل تفتقر إلى مشارك معاون وانتفاء معارض مانع وجعلها مخلوقة لله - فهذا هو الواقع الذي أخبر به القرآن ودل عليه العيان والبرهان وهو من دلائل التوحيد وآياته ليس من الشرك بسبيل فإن ذلك مما يبين أنه ليس في المخلوقات ما يستقل بمفعول من المفعولات

والمقصود هنا أن هؤلاء اعتقدوا أن قوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء: 22 ] إنما يدل على نفي الشركة في الربوبية وهو أنه ليس للعالم خالقان ثم صار كل منهما يذكر طريقا في ذلك

فهذا الفيلسوف ابن رشد قرر هذا التوحيد كما تقدم

قال: وأما قوله تعالى: { إذا لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون: 91 ] فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال وذلك أنه يعقل في الآلهة المختلفة الأفعال التي لا يكون بعضها مطيعا لبعض أن لا يكون عنها موجود واحد بل موجودات كثيرة فكان يكون العالم أكثر من واحد وهو معنى قوله: { إذا لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون: 91 ] ولما كان العالم واحدا وجب أن لا يكون موجودا عن آلهة كثيرة متفننة الأفعال

قلت: لما قرر أولا امتناع ربين فعلهما واحد قرر امتناع أرباب تختلف أفعالهم فإن اختلافهم الأفعال يمنع أن يكون المفعول واحدا والعالم واحدا

وكلامه في تفسير هذا الآية بهذا من جنس كلامه في تفسير تلك الآية بذاك

قال: وأما قوله تعالى: { لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء: 42 ] فهي كالآية الأولى أعني أنه برهان على امتناع إلهين فعلهما واحد ومعنى هذه الآية: أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله قادرة على إيجاد العالم وخلقه غير الإله الموجود حتى تكون نسبته من هذا العالم نسبة الخالق له لوجب أن يكون على العرش معه فكان يوجد موجودان متماثلان ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة فإن المثلين لا ينتسبان إلى محل واحد نسبة واحدة لأنه إذا اتحدت نسبته اتحد المنسوب أعني أن يكونا بالمحل وإن كان الأمر في نسبة الإله إلى العرش ضد هذه النسبة أعني أن العرش يقوم به لا أنه يقوم بالعرش ولذلك قال: { وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم } [ البقرة: 255 ]

قلت: قد سلك في هذه الآية هذا المسلك الذي ذكره والآية فيها قولان معروفان للمفسرين: أحدهما: أن قوله: { لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء: 42 ] أي بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له

والثاني: بالممانعة والمغالبة والأول هو الصحيح فإنه قال: { لو كان معه آلهة كما يقولون } [ الإسراء: 42 ] وهم لم يكونوا يقولون: إن آلهتهم تمانعه وتغالبه بخلاف قوله: { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون: 91 ] فهذا في الآلهة المنفية ليس فيه أنها تعلوا على الله وأن المشركين يقولون ذلك

وأيضا فقوله: { لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء: 42 ] يدل على ذلك فإنه قال تعالى: { إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } [ المزمل: 19 ] والمراد به اتخاذ السبيل إلى عبادته وطاعته بخلاف العكس فإنه قال: { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } [ النساء: 43 ] ولم يقل: إليهن سبيلا

وأيضا فاتخاذ السبيل إليه مأمور به كقوله: { وابتغوا إليه الوسيلة } [ المائدة: 35 ] وقوله: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } [ الإسراء: 56 - 57 ]

فبين أن الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة فهذا مناسب لقوله: { لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء: 42 ]

وليس المقصود هنا بسط الكلام على ذلك إذ المقصود بيان ما ذكره في طرق المعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية

قال: فهذا هو الدليل الذي بالطبع والشرع في معرفة الوحدانية وإنما الفرق بين الجمهور وبين العلماء في هذا الدليل أن العلماء يعلمون من اتحاد العالم وكون أجزائه بعضها من أجل بعض بمنزلة الجسد الواحد أكثر مما يعلمه الجمهور من ذلك

ولهذا المعنى الإشارة بقوله تعالى في آخر الآية: { سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا * تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا } [ الإسراء: 43 - 44 ]

قال: وأما ما يتكلفه الأشعرية - يعني والمعتزلة - من الدليل الذي يستنبطونه من هذه الآية وهو الذي يسمونه دليل التمانع فشيء ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية ولا الشرعية أما كونه ليس يجري مجرى الطبع فلأن ما يقولون في ذلك ليس برهانا وأما كونه ليس شرعيا لا يجري مجرى الشرع فإن الجمهور لا يقدرون على فهم ما يقولون من ذلك فضلا عن أن يقع لهم به إقناع وذلك أنهم قالوا: لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها: إما أن يتم مرداهما جميعا وإما أن لا يتم مراد أحدهما ويتم مراد الآخر وإما أن لا يتم مراد واحد منهما

قالوا: ويستحيل أن لا يتم مراد واحد منهما لأنه لو كان الأمر كذلك لكان العالم لا موجودا ولا معدوما

ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا لأنه كان يكون العالم موجودا معدوما معا

فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما ويبطل مراد الآخر والذي بطلت إرادته عاجز والعاجز ليس بإله

قال: ووجه الضعف في هذا الدليل أنه كما يجوز في العقل أن يختلفا قياسا على المريدين في الشاهد كذلك يجوز أن يتفقا وهو الأليق بالإلهية من الاختلاف وإذا اتفقا على صناعة العالم كانا مثل الصانعين: اتفقا على صنع مصنوع ما

وإذا كان هذا هكذا فلا بد أن يقال: إن أفعالهم - ولو اتفقا - كان تتعاوق لورودهما على محل واحد إلا أن يقول قائل: ولعل هذا يفعل بعضا والآخر بعضا أو لعلهما يفعلان على المداولة إلا أنه هذا التشكيك لا يليق بالجمهور

والجواب في هذا لمن يشكك من الجدليين في هذا المعنى: أن الذي يقدر على اختراع البعض يقدر على اختراع الكل فيعود الأمر إلى قدرتهما على كل شيء فإما أن يتفقا وإما أن يختلفا وكيفما كان يتعاوق الكل

وأما التداول فهو نقص في حق كل واحد منهما والأشبه أن لو كانا اثنين أن يكون العالم اثنين فإذا العالم واحد فالفاعل واحد فإن الفعل الواحد إنما يوجد عن واحد فإذا ليس ينبغي أن يفهم من قوله: { ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون: 91 ] من جهة اختلاف الأفعال فقط بل من جهة اتفاقهما فإن الأفعال المتفقة تتعاوق في ورودها على المحل الواحد كما تتعاوق الأفعال المختلفة

قال: وهذا هو الفرق بين ما فهمناه نحن من الآية وما فهمه المتكلمون وإن كان قد يوجد في كلام أبي المعالي إشارة إلى هذا الذي قلناه

قلت: بل الذي ذكره النظار عن المتكلمين الذي سموه دليل التمانع برهان تام على مقصودهم وهو امتناع صدور العالم عن اثنين وإن كان هذا هو توحيد الربوبية

والقرآن يبين توحدي الإلهية وتوحيد الربوبية لكن المقصود هنا أن اعتراض هذا على دليل نظار المتكلمين هو اعتراض مشهور قد ذكره غيره وظنوا أنه اعتراض قادح في الدلالة كما ذكر ذلك الآمدي وغيره وحتى ظن بعض الناس أن التوحيد إنما يعرف بالسمع

وليس الأمر كما ظنه هؤلاء بل هو برهان صحيح عقلي كما قدره فحول النظار وكما بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وأفردت مصنفا للتوحيد

وذلك أن هؤلاء النظار قالوا: إذا قدر ربان متماثلان فإنه يجوز اختلافهما فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الآخر وحينئذ: إما أن يحصل مراد أحدهما أو كلاهما أو لا يحصل مراد واحد منهما

والأقسام الثلاثة باطلة فيلزم انتفاء الملزوم

أما الأول: فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين وأن يكون الشيء الواحد حيا ميتا متحركا ساكنا قادرا عاجزا إذا أراد أحدهما أحد الضدين وأراد الآخر الضد الآخر

وأما الثاني: فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما لزم عجز كل منهما وذلك يناقض الربوبية

وأيضا فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما لزم ارتفاع القسمين المتقابلين كالحركة والسكون والحياة والموت فيما لا يخلو عن أحدهما

وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر كان النافذ مراده هو الرب القادر والآخر عاجزا ليس برب فلا يكونان متماثلين

فلما قيل لهم: هذا إنما يلزم إذا اختلفت إرادتهما فيجوز اتفاق إرادتهما

أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخرة امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس مفعول الآخر فإن استقلال أحدهما بالفعل والمفعول يمنع استقلال الآخر به بل لا بد أن يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول هذا وهذا معنى قوله تعالى: { إذا لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون: 91 ]

وهذا ممتنع فإن العالم مرتبط بعضه ببعض ارتباطا يوجب أن الفاعل هذا ليس هو مستغنيا عن فاعل الآخر لا حتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض

وأيضا فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادرا فإنهما إذا كانا قادرين لزم جواز اختلاف الإرادة

وإن قدر أنه لا يجوز اختلاف الإرادة بل يجب اتفاق الإرادة كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده لآخر ويفعله لزم أن لا يكون واحد منهما قادرا إلا إذا جعله الآخر قادرا ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر

وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون واحد منهما قادرا فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله والآخر كذلك وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين لم يكن هذا قادرا مريدا حتى يكون الآخر قادرا مريدا

وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادرا مريدا كان هذا دورا قبليا وهو دور في الفاعلين والعلل

كما لو قيل: لا يوجد هذا حتى يوجده هذا ولا يوجد هذا حتى يوجده الآخر فإن هذا محال ممتنع في صريح العقل ولم ينازع العقلاء في امتناع ذلك وهذا يسمى الدور القبلي

بخلاف ما إذا قيل: لا يكون هذا إلا مع هذا ولا هذا إلا مع هذا كالأمور المتلازمة فإن هذا يسمى الدور المعي الاقتراني

وذلك جائز كما إذا قيل: ذات الرب لا تكون إلا مع صفاته اللازمة لها وصفاته اللازمة لها لا تكون إلا مع ذاته وقيل: لا تكون حياته إلا مع علمه ولا علمه وحياته إلا مع قدرته ونحو ذلك

فتبين أنه يمتنع أن تكون قدرة كل منهما مستفادة من قدرة الآخر

وإن قيل: بل كل منهما قادر مريد من غير أن يستفيد أحدهما ذلك من الآخر وهو دور معي لا قبلي كان هذا أيضا باطلا

فإنه حينئذ يجب أن تكون قدرة كل منهما من لوازم ذاته فلزم أن صانع العالم لا بد أن يكون قادرا قدرة لا يحتاج فيها إلى غيره بل تكون من لوازم ذاته وهذا حق

وحينئذ فإذا قدر ربان لزم أن يكون كل منهما قادرا قدرة لازمة لذاته لا يحتاج فيها إلى غيره فيكون الفعل بتلك القدرة ممكنا فيلزم أن يكون الرب قادرا متمكنا من الفعل بمجرد قدرته لا يحتاج في ذلك إلى غيره

وحينئذ فيمتنع وجد ربين: كل منهما كذلك لأنه إذا كان كل منهما قادرا بنفسه على الفعل أمكنه أن يفعل دون الآخر وأمكن الآخر أن يفعل دونه وهذا ممتنع فإنه إذا فعل أحدهما شيئا امتنع أن يكون الآخر فاعلا له أو شريكا فيه مع استقلال الأول بفعله فيلزم عجز كل منهما عما يفعله الآخر ويلزم أنه لا يمكنه الفعل إن لم يمكنه الآخر منه فلا يفعله هو فيلزم أن يكون كل منهما عاجزا غير قادر على الفعل

وقد تبين أنه لا بد أن يكون كل منهما قادرا على الفعل فيلزم الجمع بين النقيضين ويلزم أيضا أنه لا يكون هذا قادرا إلا إذ كان الآخر غير قادر فيلزم أن يكون كل منهما قادرا غير قادر وهذا جمع ثان بين النقيضين

فتبين أن الخالق لا بد أن يكون قادرا بنفسه على الاستقلال بالفعل وهذا وحده برهان كاف

وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما أقدر من الآخر فيلزم علو بعضهم على بعض

ولهذا بين الله تعالى في كتابه: أن كل واحد من ذهاب كل إله بما خلق ومن علو بعضهم على بعض برهان قاض بأنه ليس مع الله إله

كما قال تعالى: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون: 91 ]

فجعل هنا لازمين كل منهما يدل على انتفاء الملزوم أحدهما قوله: { إذا لذهب كل إله بما خلق } فإن الإله لا بد أن يكون قادرا مستقلا بالقدرة على الفعل لا يحتاج في كونه قادرا إلى غيره كما تقدم من أنه لو كانت قدرة أحدهما يحتاج فيها إلى من يجعله قادرا كان ذلك ممتنعا

فإن الذي يجعله قادرا: إن كان مخلوقا له فهو الذي جعل المخلوق قادرا فلو كان المخلوق هو الذي جعله قادرا كان هذا دورا ممتنعا كما يمتنع أن يكون المخلوق خالقا للخالق

وإن كان قديما واجبا بنفسه مثله كان القول في قدرته كالقول في قدرة الآخر فإن كانت قدرته من لوازم ذاته لا يحتاج فيها إلى غيره ثبت المدعى

وإن كان يحتاج فيها إلى غيره لم يكن قادرا حتى يجعله ذلك الآخر قادرا وهذا دور ممتنع كما يمتنع أن لا يكون أحدهما موجودا أو عالما حتى يجعله الآخر موجودا وعالما فإنه حينئذ يكون كونه موجودا وقادرا وعالما مستفادا من الآخر ومفعولا له فلا يكون هذا حتى يكونه هذا ولا يكون هذا حتى يكونه هذا فلا يكون هذا ولا هذا

وهذا أعظم امتناعا من أن يقال: لا يكون الشيء حتى يكون نفسه فإنه ذلك يقتضي كون نفسه فاعلة لنفسه ومتقدمة عليها

وهذا وإن كان ممتنعا في صريح العقل فكونه فاعلا لفاعل نفسه ومتقدما على المتقدم على نفسه أبلغ في الامتناع

فإذا كان يمتنع أن لا يكون الواحد قادرا حتى جعل نفسه قادرا فكون كل منهما لا يكون قادرا حتى يجعله الآخر قادرا - أولى بالامتناع

وذلك أنه لا يجعل نفسه قادرا حتى يكون هو قادرا فيلزم أن يكون حينئذ قادرا غير قادر

وكذلك يلزم إذا لم يكن أحدهما قادرا ألا يجعل الآخر أن يكون كل منهما قادرا غير قادر مرتين: حين جعل مجعوله قادرا وحين جعله مجعوله قادرا

ولما كان هذا من المعالم البديهية الضرورية لمن تصوره لم يحتج إلى تقرير وإذا كان ذلك الإله لا بد أن يكون قادرا على الاستقلال بالفعل فاستقلاله بالفعل يمنع أن يكون غيره فاعلا له ومشاركا له فيه فيلزم أن ينفرد كل إله بما خلق ولا يحتاج فيه إلى غيره

وحينئذ يلزم أن لا يحتاج مخلوق هذا إلى مخلوق هذا لأن ذلك يوجب حاجة كل منهما إلى الآخر وأنه لا يقدر أن يفعل إلا مع فعل الآخر ويكون فعل كل منهما مستلزما لفعل الآخر ملزوما له والملزوم لا يوجد بدون لازمه فيلزم العجز عن الانفراد بالفعل وذلك بنفي القدرة التي هي من لوازم الربوبية

وأما البرهان الثاني: وهو لزوم علو بعضهم على بعض وذلك بمنع إلهية المغلوب فإنه يمتنع أن يقدر أحدهما على عين مقدور الآخر لأن ذلك يستلزم أن يكون ما فعله أحدهما يقدر الآخر أن يفعله مع كونه فعل الأول

ويمتنع أن يكون كل منهما لا يقدر إلا إذا مكنه الآخر وأقدره فإن ذلك يستلزم أن لا يكون أحدهما قادرا فيمتنع أن يكون كل منهما قادرا على الاستقلال ويمتنع أن يكونا قادرين على مفعول واحد فيلزم حينئذ أن لا يوجد مفعول واحد لا بطريق استقلال أحدهما ولا بطريق اشتراكهما فيه وذلك يمنع أن يكون أحدهما قادرا

وكذلك يمتنع أن يكونا متماثلين في القدرة فإنه إن أمكن كل منهما منع الآخر من الفعل لزم امتناع الفعل وانتفاء القدرة عن كل منهما

وإن لم يمكنه ذلك لزم أن لا يكون قادرا على ما يقدر عليه الآخر إذا لو كان قادرا عليه لأمكنه فعله وذلك ممتنع

وإذا لم يكن قادرا على ما يقدر عليه الآخر لم تكن قدرته مثل قدرته فإن المثلين هما اللذان يسد أحدهما مسد الآخر ويقوم مقامه

وإذا امتنع تماثل القدرتين وجب كون أحدهما أقدر من الآخر وحينئذ فالأقدر الأقوى يغلب الأضعف

وهذا معنى قوله: { ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون: 91 ]

فإن قيل: قد أوردوا هنا سؤالا معروفا أورده الآمدي وغيره وذكروا أنه لا جواب عنه

وهو أنه يجوز أن يكون كل منهما قادرا بشرط أن لا يفعل الآخر معه ولا يقدح ذلك في القدرة كما يكون هو قادرا على أحد الضدين بشرط عدم الآخر فإن اجتماع الضدين محال فالقدرة على فعل أحدهما ينافي القدرة على فعل الآخر معه ولا ينافي القدرة على فعل الآخر حال عدمه بل كل من الضدين مقدور بشرط عدم الآخر وهو مقدور على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فكذلك يقال في القادرين: كل منهما قادر على الفعل المعين حال عدم قدرة الآخر عليه

قيل: هذا تشبيه باطل وذلك أن القادر على الضدين يفعل كل منهما بمشيئته وإذا فعل أحدهما لم يكن عاجزا عن فعل الآخر لكنه قادر عليه إن اختاره والجمع بينهما ممتنع لذاته ليس بشيء

وذلك لا ينافي القدرة بوجه من الوجوه فإن الفاعل لأحد الضدين يختار هذا دون ذاك فلم يكن عدمه إلا لكونه لم يرده لا لأن غيره منعه منه ولا أن قدرته عاجزة عنه إذا أراد أن يفعله بخلاف القادر إذا قيل: إنه لا يمكنه الفعل إلا إذا أمكنه غيره ولم يرد أن يفعل معه ولو أراد الآخر أن يفعل ما فعله لم يقدر أن يفعله هو فإنه حينئذ لا يكون قادرا بنفسه بل يكون غير قادرا حتى يمكنه الآخر ويمتنع من أن يفعل ما يفعله

ومما يوضح هذا أن الخالق لا بد أن يكون قادرا وأن يكون قادرا بنفسه لا بقدرة استفادها من غيره ويمتنع أن يكون معه آخر قادر بنفسه فإن القادر لا بد أن يقدر أن يفعل وحده مفعولا لا يشركه فيه غيره فإنه إذا كان لا يقدر إن لم يعاونه غيره لم يكن قادرا بنفسه بل كان تمام قدرته من ذلك المعنى له ويمتنع أن يكون كل منهما لا يكون قادرا إلا بإعانة الآخر فإن هذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر وهذا بدون إعانة الآخر ليس بقادر فليس واحد منهما قادرا بنفسه ومن لم يكن قادرا بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادرا فإنه إذا لم يكن القادر قادرا بنفسه امتنع أن يجعل غيره قادرا بطريق الأولى فلو لم يكن الوجود من هو قادر بنفسه بمعنى أنه قادر على أن يستقل بالفعل فيفعل وحده من غير شريك ومعين لم يكن في الوجود حادث لامتناع وجود الحوادث بدون القادر بنفسه

والحوادث مشهودة دلت على وجود القادر بنفسه ويمتنع أن يكون في الوجود قادران على الاستقلال بالفعل بحيث يكون كل منهما مستقلا بالفعل وحده فإنه إذا قدر ذلك فحال ما يفعل أحدهما الفعل يمتنع أن يكون الآخر قادرا على ذلك الفعل بعينه فاعلا له وحده فإنه إذا فعله أحدهما وحده لم يكن له شريك فضلا عن أن يفعله غيره مستقلا فتبين أنه حال ما يكون الشيء مقدورا لقادر مستقل أو مفعولا لفاعل مستقل لا يكون مقدورا ولا مفعولا لآخر مستقل

فتبين أن ما يقدر عليه يفعله القادر المستقل يمتنع أن يقدر عليه غيره ويفعله غيره بل يكون هذا عاجزا عما يفعله هذا ولا يكون هذا قادرا إلا إذا مكنه الآخر وخلاه يفعله فلا يكون واحد منهما قادرا حتى يجعله الآخر قادرا فلا يكون واحد منهما قادرا

فتبين امتناع وجود قادرين مستقلين وتبين امتناع وجود الفعل بدون قادر مستقل أنه لا يكفي وجود قادر غير مستقل ولا يجوز وجود قادرين مستقلين فعلم أن القادر على الخلق واحد لا يجوز أن يكون اثنان قادرين على الخلق سواء اتفقا أو اختلفا وهو المطلوب

وهذا أمر مستقر في فطر بني آدم وعقولهم وإن تنوعت العبارات عنه وإن كان قد يحتاج إذا تغيرت فطرة أحدهم باشتباه الألفاظ والمعاني إلى بسط وإيضاح فإنهم يعلمون أنه لا يجتمع ملكان متساويان في القدرة والملك إن لم يكن ملك هذا منفصلا عن ملك هذا وإلا فإذا كان أحدهما يتصرف فيما يتصرف فيه الآخر امتنع أن يكون كل منهما قادرا مالكا لما يقدر عليه الآخر ويملكه لأنه يجب حينئذ أن يكون كل منهما قادرا على ما يقدر عليه الآخر بل فاعلا مدبرا لما يفعله الآخر ويدبره وذلك ممتنع فإن قدرة أحدهما على الشيء وفعله له يمنع أن يكون الآخر قادرا عليه وفاعلا له إلا في حال عدم قدرة الآخر وفعله فيمكن أن يفعله هذا إذا لم يفعله هذا ويقدر أحدهما على فعله إذا لم يفعله الآخر

فأما حال فعل الآخر له فيمتنع أن يكون الآخر فاعلا له إذا أراد فعله وإذا امتنع كون أحدهما فاعلا له إذا أراده امتنع كونه قادرا عليه فإن كونه قادرا عليه مع امتناع فعل له إذا أراده جمع بين النقيضين فإن القادر هو الذي يقدر على الشيء إذا أراد فعله فإذا كان لا يقدر عليه إذا أراده لم يكن قادرا عليه فامتنع أن يكون الشيء قادرا على فعل ما يفعله غيره حال كون الآخر فاعلا له ومفعول أحدهما مقدور له

فصل عود إلى كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه

وإذا كان حينئذ يمتنع كون الآخر فاعلا له وذلك يمنع كونه قادرا عليه امتنع أن يكونا قادرين على مقدور واحد في حال واحدة وفاعلين لمفعول واحد في حال واحد بل لا يقدر أحدهما على الفعل إلا إذا تركه الآخر يفعله وسكت عن فعله استقلالا ومشاركة ولو أراد الآخر أن يفعله كان الآخر غير قادرا على فعله فصار المانع لأحدهما من القدرة على الفعل والاستقلال به كون الآخر قادرا عليه فاعلا له

وذلك يوجب بطلان الربين من وجوه :

منها: أن الممنوع الذي منعه غيره لا يكون قادرا بخلاف من لم يفعل الفعل لكونه هو لم يرده فإن هذا لا يمنع قدرته على الآخر

فإذا كان الرجل قادرا على القيام والقعود فاختار أحدهما بدلا عن الآخر لم يكن عدم الآخر لعجزه عنه بل لأنه لم يرده وهو لا يريد اجتماعهما في حال واحدة لأن ذلك ممتنع لنفسه لا لكونه غير قادر أو لكونه عاجزا عنه فإن الممتنع بذاته ليس بشيء يتصور وقوعه

ولهذا اتفق النظار على أنه ليس بشيء فلا يدخل في قوله: { إن الله على كل شيء قدير } [ البقرة: 20 ] بخلاف من كان لا يقدر أن يفعل فعلا لأن غيره فعله فإنه حينئذ يكون غير قادر على أن يفعل مفعول ذلك ولو أراده

ولهذا كان أحد الملكين غير قادر على أن يكون ملكا مع ملك غيره بل إنما يكون ملكا مع انتفاء ملك غيره

وأيضا فإنه إذا كان أحدهما قادرا ولم يمنعه أن يكون قادرا فاعلا للفعل إلا كون الآخر قادرا عليه فاعلا له لزم أن يكون كل منهما ممنوعا حال ما هو مانع وقادرا حال ما هو غير قادر فإن أحدهما حينئذ لا يمنعه من الفعل المعين كون الآخر قادرا عليه فاعلا له وذلك لا يكون قادرا فاعلا إلا إذا لم يكن ممنوعا ولا يكون ممنوعا إلا إذا كان المانع قادرا فيلزم ألا يكون هذا قادرا إلا إذا كان غير قادر ولا ممنوعا إلا إذا كان غير ممنوع ولا فاعلا إلا إذا كان غير فاعل وذلك جمع بين النقيضين

وهذا كله بين في فطر الناس فإنه يعلمون أن من كان أميرا أو متوليا على فعل أو إماما لقوم أو قاعدا في مكان لم يقدر غيره أن يكون أميرا أو متوليا أو إماما أو فاعلا حال كون الآخر أميرا أو متوليا أو إماما أو قاعدا

فتبين أن القادر على الفعل لا يقدر حال فعل الآخر له ولا حال قدرة الآخر عليه أما قدرته حال فعل الآخر فظاهر الامتناع وأما حال قدرة الآخر فلا يمكن أن يفعله إلا إذا سكت الآخر عن فعله وتركه وحده يفعل وأما حال فعل الآخر فلا يكون قادرا

فتبين أن اجتماع قادرين بأنفسهما ممتنع لذاته في فطر جميع الناس وحينئذ فالقادر بنفسه هو واحد فيجب أن يكون الإله العالي الغالب وما سواه مقهور مغلوب

وحينئذ فلا يكون الواحد قادرا إلا إذا كان الآخر غير قادر فإن كلا منهم قادر حال عدم قدرة الآخر فلا يكون أحدهما قادرا إلا مع كون الآخر غير قادر وكل منهما قدرته من لوازم ذاته إن كان قادرا فيلزم من ذلك أن يكون كل منهما لا يزال قادرا غير قادر فيلزم الجمع بين النقيضين

وكذلك إذا قيل: لا يكون أحدهما قادرا إلا إذا جعله الآخر قادرا أو مكنه الآخر وامتنع من منعه فإنه يلزم ألا يكون واحد منهما قادرا للدور الممتنع وهو قد جعل فاعلا فيلزم اجتماع النقيضين فيلزم ألا يكون واحد منهما قادرا مع وجوب كون الخالق قادرا ويلزم أن يكون كلا منهما غير قادر مع كونه قادرا

وهذا كله من الممتنع بصريح العقل وهو لازم من إثبات ربين قديمين واجبين بأنفسهما فدل على امتناع ذلك وسواء قدر اتفاقهما على الفعل أو اختلافهما فيه فنفس كونهما قديمين واجبين قادرين ممتنع ونفس كونهما غير قادرين ممتنع ونفس اجتماع القدرة وعدمها ممتنع ونفس اتفاقهما على مفعول واحد يستقل به كل منهما ممتنع ونفس الاشتراك بأن يفعل هذا بعضه وهذا بعضه ممتنع

وحينئذ فلا بد أن يكون أحدهما هو القادر أو الأقدار فيعلو بعضهم على بعض ولا بد إذا كانا قادرين من أن يذهب كل إله بما خلق فإن العالي هو الإله المعبود فلا يكون معه إله بل يكون ما يقال إنه إله مملوكه وعابده

وهم مقرون بذلك لكن بين لهم فساد عبادة المخلوق والعابد لغيره كما قال: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [ الإسراء: 42 ]

وقال: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } [ الإسراء: 56 - 57 ]

فإنه سبحانه ينهي عن الشرك الواقع وهو اتخاذ ما سواه إلها وإن كان المشركون مقرين بأنه إله مخلوق عابد للإله الأعظم ولهذا يقول: { لو كان معه آلهة كما يقولون } [ الإسراء: 42 ]

وبين أيضا امتناع أن يكون معه إله غني عنه بقوله: { ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون: 91 ] وبقوله: { لذهب كل إله بما خلق } [ المؤمنون: 91 ] وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد ذكرها العلماء في كتبهم

وكذلك ما ذكره هذا الفيلسوف ذكره غير واحد من النظار وذكروا أنه بتقدير الاتفاق يمتنع أن يكون مفعول أحدهما هو مفعول الآخر والمفعول الواحد لا يكون مفعولا لفاعلين باتفاق العقلاء لكن التقدير الذي يحتاج إلى نفيه تقدير التعاون كما ذكر من فعل هذا البعض وهذا البعض وما ذكره من أن التداول نقص هو موجود في التبعيض فإن الشريكين قد يتهابان بالمكان وقد يتهابان بالزمان

وهذا التقدير قد أبطلوه بوجوه :

منها: أن هذا نقص في حق كل واحد منهما ينافي الإلهية

ومنها: أن كلا منهما إن لم يكن قادرا على الاستقلال كان عاجزا وإن كان قادرا عليه - وهو لا يمكنه مع معاونة الآخر كان ممنوعا من مقدوره وهو مثل العجز وأشد وكذلك إن لم يكن قادرا على خلاف مراد الآخر كان عاجزا وإن كان قادرا ولم يفعل إلا ما يوافق الآخر فإن كان الفعل الآخر ممكنا لا مانع له من غيره أمكن تقديره ويعود دليل التمنع وإن لم يكن ممكنا لزم تعجيزه ومنعه بغيره

وبالجملة فالدلائل العقلية على هذا متعددة وإن كان من الناس من يزعم أن دليل ذلك هو السمع لكن هذا المطلوب الذي أثبتوه هو متفق عليه بين العقلاء

ومقصود القرآن توحيد الإلهية وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس

ولهذا قال تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء: 22 ] فلم يقل: لو كان فيهما إلهان بل المقدر آلهة غير الإله المعلوم أنه إله فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق وإنما نازعوا هل يتخذ غيره إلها مع كونه مملوكا له؟

ولهذا قال: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } [ الروم: 28 ]

وقال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر: 3 ]

وقال: { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون * وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [ الزمر: 43 - 45 ] وقد بسط الكلام على هذا في موضعه

والمقصود هنا ما ذكره هذا

قال: ويدلك على أن الدليل الذي فهمه المتكلمون من الآية ليس هو الدليل الذي تضمنته الآية: أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه الدليل المذكور في الآية وذلك أن المحال الذي أفضى إليه الدليل الذي زعموا أنه دليل الآية هو أكثر من محال واحد إذ قسموا الأمر إلى ثلاثة أقسام وليس في الآية تقسيم فدليلهم الذي استعملوه هو الذي يعرفه أهل المنطق بالشرطي المنفصل ويعرفونه هم في صناعتهم بدليل السبر والتقسيم والدليل الذي هو الآية هو الذي يعرف في صناعة المنطق بالشرطي المتصل وهو غير المنفصل ومن نظر فيه أدنى نظر في تلك الصناعة تبين له الفرق بين الدليلين

وأيضا فإن المحالات التي أفضى إليها دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب وذلك أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو أن يكون العالم: إما لا موجودا ولا معدوما وإما أن يكون موجودا ومعدوما وإن أن يكون الإله عاجزا مغلوبا وهذه مستحيلات دائمة الاستحالة أكثر من واحد والمحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب ليس مستحيلا على الدوام وإنما علقت الاستحالة فيه في وقت مخصوص وهو أن يوجد العالم فاسدا في وقت الوجود فكأنه قال: ( لو كان فيهما آلهة إلا الله ) لوجد العالم فاسدا في الآن ثم استثنى أنه غير فاسد فوجب ألا يكون هناك إله إلا واحد

قلت: الفساد المذكور في الآية لم يوقت بوقت مخصوص والفساد ليس هو امتناع الوجود الذي يقدر عند تمانع الفاعلين إذا أراد أحدهما شيئا وأراد الآخر نقيضه ولا هو أيضا امتناع الفعل الذي يقدر عن كون المفعول الواحد لفاعلين فإن هذا كله يقتضي عدم الوجود

وأما الفساد فهو ضد الصلاح كما قال تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } [ البقرة: 11 ]

وقال تعالى: { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف: 142 ]

وقال: { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف: 56 ]

وقال: { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة 205 ]

وقال: { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } [ المائدة: 32 ]

وقالت الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة: 30 ]

وقال تعالى: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } [ المائدة: 33 ]

وقال: { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } [ المؤمنون 71 ]

وجماع الصلاح اللآدميين هو طاعة الله ورسوله وهو فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم والفساد بالعكس فصلاح الشيء هو حصول كماله الذي به تحصل سعادته وفساده بالعكس والخلق صلاحهم وسعادتهم في أن يكون الله هو معبودهم الذي تنتهي إليه محبتهم وإرادتهم ويكون ذلك غاية الغايات ونهاية النهايات

ولهذا كان كل عمل يعمل لغير الله لا ينفع صاحبه بل قد يضره وكانت أعمال الذي كفروا: { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } [ إبراهيم: 18 ]

قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات: 56 ]

فعبادته هي الغاية التي فيها صلاحهم فإن الإنسان حارث همام كما قال النبي : [ أصدق الأسماء الحارث وهمام ] والحارث هو الكاسب والهمام هو الذي يكثر الهم الذي هو أول الإرادة فالإنسان متحرك بالإرادة وكل مريد لا بد له من مراد والذي يجب أن يكون هو المراد المقصود بالحركات هو الله فصلاح النفوس وسعادتها وكمالها في ذلك وهكذا العالم العلوي أيضا

والحركات ثلاثة طبيعية وقسرية وإرادية لأن الحركة: إما أن يكون مبدأها من المتحرك وإما من غيره فما كان مبدؤها من غيره فهي القسرية الكرهية وما كان مبدؤها من المتحرك فإن كان على شعور منه فهي الإرادية وإلا فهي الطبيعية

والطبيعية لا تعرف إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه كصعود الحجر والماء إلى فوق ففي طبعه الهوي والنزول فهي تابعة للقسرية فكل من الطبيعية والقسرية تابعة لغيرها

فمبدأ الحركات كلها هي الإرادية وكل إرادة لا يكون الله هو المراد المقصود بالقصد الأول بها كانت ضارة لصاحبها مفسدة له غير نافعة ولا مصلحة له

وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته المراد لذاته المطلوب لذاته المعبود لذاته: إلا الله كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله فكما أنه لا رب غيره فلا إله إلا هو فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون ربا له ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها

وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال بل إذا استحق أن يحب ويراد فإنما يراد لغيره وله ما شاركه في أن يحب معه وكلاهما يجب أن يحب لله لا يحب واحد منهما لذاته إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها إذا كانت هي الغاية المطلوبة

والله فطر عباده على ذلك وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم فإن ذلك وإن كان كذلك ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته أن يكون للعالم مبدع غير الله قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [ الروم: 30 ]

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ]

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار النبي أنه قال: [ يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]

والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد ففسد إدراكها كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مرا وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه والشرك لا يغفره الله فإنه فساد لا يقبل الصلاح

ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله والحب لله فالأول شرك والثاني إيمان

قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة: 165 ] فليس لأحد أن يحب شيئا مع الله

وأما الحب لله فقال تعالى: { أحب إليكم من الله ورسوله } [ التوبة: 24 ]

وقال في الصحيح: [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواه ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ]

وفي الحديث: [ أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ]

وهذا حقيقة قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [ الأنفال: 39 ]

وفي الصحيح عن النبي : [ يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك ]

فمكان الفعل الواحد ممتنع أن يكون من فاعلين مستقلين فيمتنع أن يكون المرادين مستقلين بالإرادة فإن كون هذا مستقلا بكونه هو المراد المحبوب يناقض كون الآخر كذلك ومتى لم يكن المراد مستقلا بالإرادة لم يكن هو المراد بل بعض المراد وما كان بعض المراد لم يحصل به صلاح النفوس وهو المراد الذي لا يصلح المتحرك بالإرادة إلا به فمن أراد غير الله بعلمه امتنع أن يكون الله مراده بعمله ومن لم يكن الله هو مراده لم يحصل صلاحه بل كان الحاصل فساده بالشرك لا يغفر بخلاف ما دونه

وأفضل الكلام قول: لا إله إلا الله والإله هو الذي يستحق أن تألهه القلوب بالحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء فهو بمعنى المألوه وهو المعبود الذي يستحق أن يكون كذلك

ولكن أهل الكلام الذي ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية فهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله: اسم فاعل وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع كما يقول الأشعري وغيره ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع

ومن قال: إن أخص وصف الإله هو القدم كما يقوله من يقوله من المعتزلة قال ما يناسب ذلك في الإلهية وهكذا غيرهم وقد بسط الكلام على هذا في موضعه

والمقصود هنا التنبيه على هذه الأمور وأن هؤلاء غلطوا في معرفة حقيقة التوحيد وفي الطرق التي بينها القرآن فظنوا أنه مجرد اعتقاد أن العالم له صانع واحد ومنهم من ضم إلى ذلك نفي الصفات أو بعضها فجعل نفي ذلك داخلا في مسمى التوحيد وإدخال هذا في مسمى التوحيد ضلال عظيم

وأما الأول فلا ريب أنه من التوحيد الواجب وهو الإقرار بأن خالق العالم واحد لكنه هو بعض الواجب وليس هو الواجب الذي به يخرج الإنسان من الإشراك إلى التوحيد بل المشركون الذي سماهم الله ورسوله مشركين وأخبر الرسل أن الله لا يغفر لهم كانوا مقرين بأن خالق كل شيء

فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه فإنه به يعرف التوحيد الذي هو رأس الدين وأصله

وهولاء قصروا في معرفة التوحيد ثم أخذوا يثبتون ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم وليس الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد

قال ابن رشد: فقد تبين من هذا القول الطرق التي دعا الشرع من قبلها الناس إلى الإقرار بوجود الباري تعالى ونفي الإلهية عما سواه وهما المعنيان اللذان تضمنتها كلمة التوحيد: أعني لا إله إلا الله فمن نطق بهذه الكلمة وصدق بهذين المعنيين اللذين تضمنتهما بهذه الطرق التي وصفنا فهو المسلم الحقيقي الذي عقيدته العقيدة الإسلامية ومن لم تكن عقيدته مبنية على هذه الأدلة وإن صدق بهذه الكلمة فهو مسلم مع المسلم الحقيقي باشتراك الاسم

ثم تكلم على الصفات الثبوتية فقال: الفصل الثالث في الصفات: أما الأوصاف التي صرح الكتاب العزيز بوصف الصانع لوجود العالم بها فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان وهي سبعة: العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام

أما العلم فقد نبه الكتاب على وجه الدلالة عليه في قوله تعالى: { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [ الملك: 14 ]

ووجه الدلالة: أن المصنوع يدل من جهة الترتيب الذي في أجزائه أعني كون صنع بعضها من أجل بعض ومن جهة موافقة جميعها للمنفعة المقصودة لذلك المصنوع أنه لم يحدث عن صانع هو طبيعة وإنما وجدت عن صانع رتب ما قبل الغاية لأجل الغاية فوجب أن يكون عالما به

مثال ذلك: إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما صنع من أجل الحائط وأن الحائط من أجل السقف - تبين أن البيت إنما وجد عن فاعل عالم بصناعة البناء وهذه الصفة هي صفة قديمة إذ كان لا يجوز عليه أن يتصف بها وقتا ما

لكن ليس ينبغي أن نتعمق في هذا فنقول ما يقوله المتكلمون: إنه يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم فإنه يلزم على هذا أن يكون العلم بالمحدث في وقت وجوده وعدمه علما واحدا

وهذا أمر غير معقول إذ كان العلم واجبا أن يكون تابعا للموجود ولما كان الموجود تارة يوجد فعلا وتارة يوجد قوة وجب أن يكون العلم بالوجودين مختلفا إذ كان في وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل وهذا - يعني قول المتكلمين - شيء لم يصرح الشرع به بل الذي صرح به خلافه وهو أنه يعلم المحدثات حين حدوثها

كما قال تعالى: { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام: 59 ]

فينبغي أن يوضع في الشرع أنه عالم بالشيء قبل أن يكون على أنه سيكون وعالم بالشيء إذا كان على أنه قد كان وعالم بما تلف أنه تلف في وقت تلافه وهذا هو الذي تقتضيه أصول الشرع

وإنما كان هكذا لأن الجمهور لا يفهمون من العالم في الشاهد غير هذا المعنى وليس عند المتكلمين برهان يوجب أن يكون بغير هذه الصفة إلا أنهم يقولون: إن العلم المتغير بتغير المعلومات الموجودات هو محدث والباري تعالى لا يقوم به حادث لأن ما ينفك عن الحوادث زعموا أنه حادث

قال: والذي يقال للخواص: إن العلم القديم لا يشبه علم الإنسان المحدث فالذي يدركه الإنسان من تغاير العلم المحدث بالماضي والمستقبل والحاضر هو شيء يخص العلم المحدث وأما العلم القديم فيجب فيه اتحاد هذه العلوم لأن انتفاء العلم عنه بما يحدثه من هذه الموجودات الثلاثة محال فقد وقع اليقين بعلمه سبحانه بها وانتفى التكييف إذ التكييف يوجب تشبيه العلم القديم بالمحدث

قلت: هذا الكلام من جنس ما حكاه عن المتكلمين فإنه إذا اتحد في العلم القديم العلم بالماضي والحاضر والمستقبل ولم يكن هذا مغايرا لهذا كان العلم بالموجود حال وجوده وحال عدمه واحدا وهذا مناقض لما تقدم من قوله يجب أن يكون العلم بالموجودين مختلفا

غاية ما في هذا الباب أن هذا الرجل يقول: إن عدم التغاير هو ثابت في العلم القديم دون المحدث ولا ريب أن أولئك المتكلمين يقولون هذا ولكن يقولون: ولو فرض بقاء العلم الحادث لكان حكمه حكم القديم ويقولون: إن هذا من باب حدوث النسب والإضافات التي لا توحب حدوث المنسوب المضاف كالتيامن والتياسر

وهكذا هذا يقول: إنما تتجدد النسب والإضافات وقد ذكر ذلك في مقالة له في العلم لكن المتكلمون خير منه لأنهم يقولون بعلمها بعد وجودها: إما بعلم زائد عند بعضهم وإما بذلك الأول عند بعضهم

وأما هذا فلا يثبت إلا العلم الذي هو سبب وجودهما كما سيأتي كلامه وهذا عندهم حكم يعم الواجب والقديم وهذا يقول: بل ذلك حكم يخص المحدث وهو لم يأت على الفرق بحجة إلا مجرد الدعوى وقد بين ذلك في كلام أفرده في مسألة العلم وأراد أن ينتصر بذلك للفلاسفة الذين قيل عنهم: إنهم يقولون: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي فذكر أنهم يقولون: إنه يعلم الجزئيات لكن على هذا الوجه

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55