الوجه العاشر

عدل

أنه ما من قول موافق للسنة إلا وتجد العقلاء الذين يقرون به أكثر وأعظم من العقلاء الذين ينكرونه بل تجد الموافقين له من العقلاء قد اتفقوا على ذلك بغير مواطأة من بعضهم البعض وذلك يبين أنه موجب العقل الصريح بخلاف الأقوال المخالفة فإنك لا تجد من يقولها من طوائف العقلاء إلا من تواطأ على تلك المقالة التي تلقاها بعضهم عن بعض وما تواطأ عليه الناس يجوز فيه الغلط والكذب ما لا يجوز فيما اتفق عليه العقلاء من غير مواطأة ولا تشاعر والله أعلم

الوجه الثاني والثلاثون

عدل

أن يقال القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها من عقل أو كشف أو غير ذلك يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به ولا يستفاد من أخبار الله ورسوله هدى ولا معرفة بشيء من الحقائق بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل

وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق كما يجد ذلك أو اعتبره وذلك لأنه إذا جوز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله وبلغه الرسول إلى أمته من القرآن والحديث وما فيه من ذكر صفات الله تعالى وصفات ملائكته وعرشه والجنة والنار والأنبياء وأممهم وغير ذلك مما قصه الله في كتابه أو أمر به من التوحيد والعبادات والأخلاق ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته وليس معه ما يدل على ثبوته إلا أخبار الله ورسوله - وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه - فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية إلا أن يحيط علما بكل ما يخطر ببال بني آدم مما يظن انه دليل عقلي

وهذا أمر لا ينضبط وليس له حد فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر ويقع لهم من الآراء والاعتقادات ما يظنونه دلائل عقلية وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس فإذا جوز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبدا فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول - بمجرد إخباره - أبدا فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول لكون الرسول أخبر به أبدا ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علما ولا هدى بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبدا

وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدم بقي لا مصدقا بما جاء به الرسول ولا مكذبا به وهذا كفر باتفاق أهل الملل وبالاضطرار من دين الإسلام وإن قام عنده المعارض المقدم كان مكذبا للرسول فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط

ويتناول كلا منهما قوله تعالى: { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا } [ الفرقان: 27 31 ]

وقال تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } [ الأنعام: 112 - 113 ] وأمثال ذلك

ولهذا كان الأصل الفاسد مستلزما للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والإلحاد ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح وظهر ما في قوله من التناقض والفساد

ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنت الدعوة وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد فإن هذا الأصل متناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه

وقد رأيت كتابا لبعض أئمة الباطنية سماه الأقاليد الملكوتية سلك فيه هذا السبيل وصار يناظر كل فريق بنحو من هذا الدليل فإنهم وافقوه على تأويل السمعيات ووافقوه على نفي ما يسمى تشبيها بوجه من الوجوه فصار من أثبت شيئا من الأسماء والصفات كاسم ( الموجود ) و( الحي ) و( العليم ) و( القدير ) ونحو ذلك يقول له: هذا فيه تشبيه لأن الحي ينقسم إلى: قديم ومحدث والموجود ينقسم: إلى قديم ومحدث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فيلزم التركيب وهو التجسيم ويلزم التشبيه فإنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا اشتبها واشتركا في مسمى الوجود وهذا تشبيه وإذا كان أحد الموجودين واجبا بنفسه صار مشاركا لغيره في مسمى الوجود ومتميزا عنه بالوجوب وما به الامتياز غير ما به الاشترك فيكون الواجب بنفسه مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز والمركب محدث أو ممكن لأنه مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلا غيره لا يكون واجبا بنفسه فساق من سلم له الأصول الفاسدة إلى نفي الوجود الواجب الذي يعلم ثبوته بضرورة عقل كل عاقل فأورد على نفسه أنك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا ميت كان هذا تشبيها بالمعدوم أيضا فقال: لا أقول لا هذا ولا هذا فأورد على نفسه أنك قد قررت في المنطق أنه إذا اختلفت قضيتان بالسلب والإيجاب لزم من صدق إحداهما كذب الأخرى فإن صدق أنه موجود كذب أنه ليس بموجود وإن صدق أنه ليس بموجود كذب أنه موجود ولا بد لك بذلك من إحداهما فأجاب بأني لا أقول لا هذا ولا هذا فلا أقول: موجود ولا ليس بموجود ولا معدوم ولا ليس بمعدوم

فهذا منتهى كلام الملاحدة وقد حكوا مثل هذا عن الحلاج وأشباهه من أهل الحلول والاتحاد وأنهم لا يثبتونه ولا ينفونه ولا يحبونه ولا يبغضونه

فيقال لهذا الضال: كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع فرفع النقيضين أيضا ممتنع فإذا امتنع أن يكون موجودا ليس بموجود امتنع أن لا يكون موجودا ولا غير موجود فقد وقعت في شر مما فررت منه

وأما التشبيه فإنك فررت من تشبيه بموجود أو معدوم فشبهته بالممتنع الذي لا حقيقة له فإن ما ليس بموجود ولا معدوم لا حقيقة له أصلا وهذا شر مما يقال فيه: إنه موجود أو معدوم

وقد رام طائفة من المتأخرين كالشهرستاني والآمدي والرازي - في بعض كلامه - ونحوهم أن يجيبوا هؤلاء عن هذا بأن لفظ ( الموجود ) و( الحي ) و( العليم ) و( القدير ) ونحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي كما يقال لفظ ( المشتري ) على الكوكب والمبتاع وكما يقال لفظ ( سهيل ) على الكوكب والرجل المسى بسهيل وكذلك لفظ ( الثريا ) على النجم والمرأة المسمات بالثريا ومن هنا قال الشاعر :

أيها المنكح الثريا سهيلا... عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت... وسهيل إذا استقل يمان

وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وأمثال ذلك مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة إن لم يكن المعنى مشتركا سواء كان متماثلا أو متفاضلا ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككا فالتقسيم لا يكون إلا في الألفاظ المتواطئة التواطؤ العام الذي يدخل فيه المشككة أو في المتواطئة التواطؤ الخاص وفي المشككة أيضا

فأما مثل ( سهيل ) فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل إلا أن يراد أن لفظ ( سهيل ) يطلق على هذا وهذا

ومعلوم أن مثل هذا التقسيم لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ ولهذا كان تقسيم المعاني العامة صحيحا ولو عبر عن تلك المعاني بعبارات متنوعة في اللغات فإن المقسم هو المعنى الذي لا يختلف باختلاف اللغات

وأيضا فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة لكان لا يفهم منها عند الإطلاق الثاني معنى حتى يعرف معناها في ذلك الإطلاق الثاني كما في الألفاظ المشتركة فإنه إذا أطلقه في موضع ما يدل على معناه ثم أطلقه مرة ثانية وأراد به المعنى الآخر فإنه لا يفهم ذلك المعنى إلا بدليل يدل عليه

ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي والعليم والقدير والموجود ونحو ذلك مشتركة اشتراكا لفظيا لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي بها الله لا سيما إذا كان المعنى المفهوم منها عند الإطلاق ليس هو المراد إذا سمي بها الله

ومعلوم أن اللفظ المفرد إذا سمي به مسمى لم يعرف معناه حتى يتصور المعنى أولا ثم يعلم أن اللفظ دال عليه فإذا كان اللفظ مشتركا فالمعنى الذي وضع له في حق الله لم نعرفه بوجه من الوجوه فلا يفهم من أسماء الله الحسنى معنى أصلا ولا يكون فرق بين قولنا: حي وبين قولنا ميت ولا بين قولنا موجود وبين قولنا معدوم ولا بين قولنا عليم وبين قولنا جهول أو ( ديز ) أو ( كجز ) بل يكون بمنزلة ألفاظ أعجمية سمعناها ولا نعلم مسماها أو ألفاظ مهملة لا تدل على معنى كديز وكجز ونحو ذلك

ومعلوم أن الملاحدة يكفيهم هذا فإنهم لا يمنعون إطلاق اللفظ إذا تظاهروا بالشرع وإنما يمنعون منه أن نفهم معنى

وسبب هذا الضلال أن لفظ ( التشبيه ) و( التركيب ) لفظ فيه إجمال وهؤلاء أنفسهم - هم وجماهير العقلاء - يعلمون أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفس التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه وإنما التشبيه الذي قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى إذ هو سبحانه: { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ] ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله

ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم على الرد على هؤلاء الملاحدة وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلا للآخر ولا يجوز أن ينفي عن الخالق سبحانه كل ما يكون فيه موافقة لغيره في معنى ما فإنه يلزمه عدمه بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة بل يلزم نفي وجوده ونفي عدمه وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل

وكذلك لفظ ( التركيب ) فإن ثبوت معاني لله تعالى ليس هو مما ينفيه الدليل وكون تلك المعاني من لوازم ذاته وأنه لا يكون إلا متصفا بها ليس هو تركيبا ينفيه عقل ولا شرع بل مثل هذا لا بد منه كما قد بسط ذلك في مواضع كثيرة

فهذا وأمثاله هي العقليات الفاسدة التي تطرق بها أهل الإلحاد وكذلك ردهم للدلالة السمعية إذا عارضها عندهم ما هو عندهم عقلي يوجب أن لا يستدل بشيء من كلام الله ورسوله كما تقدم فلا يبقى عندهم لا عقل ولا سمع

وهذا الذي ذكرناه من أن هذا الأصل يوجب عدم الاستدلال بكلام الله ورسوله على المسائل العلمية قد اعترف حذاقهم به بل التزمه من التزمه من متأخري أهل الكلام كالرازي كما التزمته الملاحدة الفلاسفة

وأما المعتزلة فلا يقولون: الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون لا يحتج بالسمع على مسائل التوحيد والعدل لأن ذلك - بزعمهم - يتوقف العلم بصدق الرسول عليه

وكذلك متأخرو الأشعرية يجعلون القول في الصفات من الأصول العقلية وأما الأشعري وأئمة أصحابه فيحتج عليهم عندهم بالسمع كما يحتج بالعقل

كلام الرازي في نهاية المعقول عن الأدلة السمعية

عدل

ولهذا لما ذكر أبو عبد الله الرازي أصول الأدلة التي يحتج بها في أصول الدين أصحابه وغيرهم ذكر هذا الأصل واعترض عليه فقال في نهاية المعقول: ( الفصل السابع في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع ) فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله وذكر القياس وذكر الإلزامات ثم قال: ( والرابع هو التمسك بالسمعيات فنقول: المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع ومنها ما يستحيل العلم بها إلا من السمع ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى )

قال: ( أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسل )

قال: ( وأما القسم الثاني وهو ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا يدركه بشيء من حواسه فإن حصول غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقا وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلا وهو غائب عن النفس والحس استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق وأما القسم الثالث وهو معرفة وجوب الواجبات وإمكان الممكنات واستحالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها مثل مسألة الرؤية والصفات والوحدانية وغيرها )

تعليق ابن تيمية

عدل

قلت: ليس المقصود هنا استيفاء الكلام فيما ذكره من الأمثال فإن فيما ذكر أنه لا يعلم إلا بالسمع ما يمكن علمه بدون السمع إذ علم الإنسان بوجود بعض الممكنات له طرق متعددة غير إخبار الرسول وكذلك ما ذكر أنه لا يعلم بالسمع فيه كلام ليس هذا موضعه

ولكن المقصود ذكر قوله بعد ذلك فإنه قال: ( إذا عرفت ذلك فنقول: أما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر وإلا لو وقع الدور وأما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال

وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي فإما أن نكذب بالعقل وإما نأول النقل فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا العقل فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه فإذن لا يكون النقل مقطوع الصحة فإذن تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا فتعين تأويل النقل

فإذن الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا بينا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك الأمر إلا من وجهين: إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضلا غير محتاج إليه وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلا اللهم إلا أن نقول: إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه ولكنا زيفنا هذه الطريقة أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الفلانية الأخرى وحينئذ يحتاج إلى إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي وثبت أن الدليل النقلي يتوقف إفادته اليقين على ذلك فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته على مقدمة غير يقينية وهي عدم دليل عقلي فوجب تأول ذلك النقل وكل ما تبنى صحته على ما لا يكون يقينيا لا يكون هو أيضا يقينيا فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين )

قال: ( وهذا بخلاف الأدلة العقلية فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفى منها بأن لا يعلم فسادها بل لا بد وأن يعلم بالبديهية صحتها ويعلم بالبديهية لزومها مما علم صحته بالبديهية ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحال التعارض في العلوم البديهية )

قال: ( فإن قيل: إن الله لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء فلو كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه تعالى أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك تلبيسا من الله تعالى وأنه غير جائز قلنا: هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح وأنه يجب على الله شيء ونحن لا نقول بذلك سلمنا ذلك فلم قلتم: إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو أسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر ثم إنه يجوز أن يكون هناك دليل على خلاف ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقصير واقعا من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع فثبت إنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبسا )

قال: ( فخرج مما ذكرناه أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في المسائل العلمية ولعله يمكن أن يجاب عن هذا السؤال بما به يجاب عن تجويز ظهور المعجزات على الكاذبين نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية )

قلت فليتدبر المؤمن العاقل على هذا الكلام مع أنه قد ينزل فيه درجة ولم يجعل عدم إفادته اليقين إلا لتجويز المعارض العقلي لكونه موقوفا على مقدمات ظنية كنقل اللغة والنحو والتصريف وعدم المجاز والاشتراك والنقل والإضمار والتخصيص وعدم المعارض السمعي أيضا مع العقلي

وبهذا دفع الآمدي وغيره الاستدلال بالأدلة السمعية في هذا الباب ونحن قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا إمكان دلالة الأدلة السمعية على اليقين وبينا فساد ما ذكره هؤلاء الذين أسسوا قواعد الإلحاد

والمقصود هنا أن نبين اعترافهم بما ألزمناهم به وإذا كان كذلك فيقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أن النبي إذا اخبر أمته بما أخبرهم به من الغيب من أسماء الله وصفاته وغير ذلك فإنه لم يرد منهم إلا يقروا بثبوت شيء مما أخبر به إلا بدليل منفصل غير خبره فإذا كان القول مستلزما لكون الرسول أراد أن لا يثبت شيء بمجرد خبره وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه كذب على الرسول علم أن هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام

وهؤلاء الذين سماهم أهل التحقيق هم أهل التحقيق عنده سماهم كذلك بناء على ظنه كما يسمي الاتحادية والحلولية أنفسهم أهل التحقيق ويسمي كل شخص طائفته أهل الحق بناء على ظنه واعتقاده

ومثل هذا لا يكون مدحهم زينا ولا ذمهم شيئا إلا إذا كان قولا بحق

والذي مدحه زين وذمه شين هو الله ورسوله والذين جعلهم أهل الحق هم المذكورون في قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا } [ الأنفال: 2 - 4 ] فوصف المؤمنين حقا بأنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وهؤلاء المعارضون لآياته إذا تليت عليهم آياته لم تزدهم إيمانا بل ريبا ونفاقا

وقال تعالى: { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } [ محمد: 3 ] فوصف المؤمنين بأنهم اتبعوا الحق من ربهم ومن اتبع الحق كان محقا

والمؤمنون اتبعوا الحق من ربهم فهم أحق الناس بالتحقيق وإذا كان المؤمنون هم المحققين ومن نعتهم أنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا كان الموصوفون بنقيض ذلك ليسوا من المحققين عند الله وعند رسوله بل من المحققين عند إخوانهم كما أن اليهود والنصارى والمشركين وكل طائفة من المحققين عند من وافقهم على أن ما يقولونه بحق

وقد وصف المؤمنين بما ذكره في قوله تعالى: { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة: 124 - 125 ]

ومن المعلوم أن من ناقض الآيات المنزلة باعتقاده وهواه لم تزده إيمانا ولم يستبشر بنزولها بل تزيده رجسا إلى رجسه

وقال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } [ الحجرات: 15 ] فالصادق في قوله: آمنوا هو الذي لم يحصل له ريب فيما جاء به الرسول ومن جوز أن يكون فيما أخبر به ما يعارضه صريح المعقول لم يزل في ريب من ثبوت ما أخبر به ولكن غايته أن يعلم أن الرسول صادق فيما أخبر به على طريق الجملة فإذا نظر فيما أخبر به لم يعلم ثبوت شيء مما أخبر به

ومن المعلوم أن العلم بأنه صادق مقصوده تصديق أخباره والمقصود بتصديق الأخبار التصديق بمضمونها فإذا كان لم يصدق بمضمون أخبار الرسول كان بمنزلة من آمن بالوسيلة ولم يحصل له المقصود

ولو قال الحاكم: إن هؤلاء الشهود صادقون في كل ما يشهدون به وهو لا يثبت بشهادة أحد منهم حقا لم يكن في تعديلهم فائدة ومن تدبر هذا الباب علم حقيقته والله أعلم

الوجه الثالث والثلاثون

عدل

أن يقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا به بل إذا أقر أنه رسول الله وأنه صادق فيما أخبر ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب - لجواز أن يكون ذلك متيقنا في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك - فإن هذا ليس مؤمنا بالرسول

وإذا كان هذا معلوم بالاضطرار كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله فيصدقه في كل ما أخبر به ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفيا في نفس الأمر وأنه لا دليل يدل على انتفائه وإما أن يكون الرجل غير مصدق للرسول في شيء مما أخبر به إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول ومن لم يقر بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمنا به بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض: إن قام دليل على قوله وافقه وإلا لم يوافقه

ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل لا المؤمنين بهم ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم: { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام: 124 ]

وهذا الذي ذكره هذا في العقل ذكره طائفة أخرى في الكشف كما ذكره أبو حامد في كتابه الإحياء في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول وذكر أنه لا يستدل بالسمع على شيء من العلم الخبري وإنما الإنسان يعرف الحق بنور إلهي يقذف في قلبه ثم يعرض الوارد في السمع عليه فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه )

ومن هنا زادت طائفة أخرى على ذلك فادعوا أنهم يعلمون - إما بالكشف وإما بالعقل - الحقائق التي أخبر بها الرسول أكمل من علمه بها بل ادعى بعضهم أن الأنبياء والرسل يستفيدون معرفة تلك الحقائق من مشكاة أحدهم كما ادعاه صاحب الفصوص أن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة المسمى عنده بخاتم الأولياء وادعى انه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الموحي به إلى الرسول

ومعلوم أن هذه الأقوال من شر أقوال الكافرين بالرسول لا المؤمنين به

الوجه الرابع والثلاثون

عدل

أن الذين يعارضون الشرع بالعقل ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول ويقولون: إن العقل أصل للشرع فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع - إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقروا بصحة الشرع بدون المعارض وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول وبأنه قال هذا الكلام وبأنه أراد به كذا وإلا فمع الشك في واحدة من هذه المقدمات لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل فكيف مع معارضة العقل أما النبوة: فمن لم يعلم أن الرسول عالم بهذه القضية التي أخبر بها وأنه معصوم أن يقول فيها غير الحق لم يمكن أن يعلم حكمها بخبره فمتى جوز أن يكون غير عالم مع خبره بها يجوز عليه أن يخطئ فيما يخبر به عن الله واليوم الآخر أو أن يكذب لم يستفد بخبره علما ومن كانت النبوة عنده مكتسبة من جني نبي الفلاسفة وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم وقوة بتصرف بها في العلم وقوة تجعل من المعقولات في نفسه خيالات ترى وتسمع فتكون تلك الخيالات ملائكة الله وكلامه كما يقول ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة - لم يمكنه أن يجزم بأن الرسول عالم بما يقوله معصوم أن يقول غير الحق فكيف إذا كان يقول: إن الرسول قد يقول ما يعلم خلاف

فهؤلاء يمتنع أن يستفيدوا بخبر الرسول علما فكيف يتكلمون في المعارضة؟

وكذلك من لم يعلم ثبوت الأخبار لم يتكلم في حصول العلم بموجبها وكذلك من قال: إن الدليل السمعي لا يعلم به مراد المتكلم كما يقول الرازي ومتبعوه الذين يزعمون أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم فهؤلاء ليس عندهم دليل شرعي يفيد العلم بما أخبر به الرسول فكيف يعارضون ذلك المعقول

وكذلك أيضا من عرف أن معقولاتهم التي يعارضون بها الشرع باطلة امتنع أن يعارض بها دليلا ظنيا عنده فضلا عن أن يعارض بها دليلا يقينيا عنده ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم الأدلة العقلية على الشرعية مطلقا كأبي حامد والرازي ومن تبعهم ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علما بما أخبروا به إذا لم يكونوا مقرين بأن الرسول بلغ البلاغ المبين المعصوم بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب: إما لتجويز أن يقول خلاف ما يعلم كما يقول ابن سينا وأمثاله وإما لتجويز أن يكون لا عالما بذلك كما تقوله طائفة أخرى وإما لأنه جائز في النبوة - لم يجزم بعد بأن النبي معصوم فيما يقوله وأنه بلغ البلاغ المبين فلا تجد أحدا ممن يقدم المعقول مطلقا على خبر الرسول إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول فهذا محتاج أولا إلى أن يعلم أن محمدا رسول الله الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق وأنه بلغ البلاغ المبين وأنه معصوم عن أن يقره الله على خطأ فيما بلغه وأخبر به عنه ومن ثبت هذا الإيمان في قلبه امتنع مع هذا أن يجعل ما يناقض خبر الرسول مقدما عليه

الوجه الخامس والثلاثون

عدل

أن يقال: قول هؤلاء متناقض والقول المتناقض فاسد وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون البعض وليس في المنتسبين إلى القبلة بل ولا في غيرهم من يمكنه تأويل جميع السمعيات

وإذا كان كذلك قيل لهم: ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البين وبين ما أقررتموه؟

فهم بين أمرين: إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم: إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه

فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء فإن لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية كما تقدم بيانه

وأيضا فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي فإنه - على قولكم -: إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولا لا معنى مفهوم وهو لا يريد ذلك لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك - جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخلف ذلك أو لكون ذلك ليس معلوما بدليل عقلي ونحو ذلك فإنه إذا جاز أن يكون تصديق الناس له فيما أخبر به موقوفا على مثل ذلك الشرط جاز أن يكون موقوفا على أمثاله من الشروط إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به

وإن قالوا بتأول كل شيء إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده كان ذلك أبلغ فإنه ما من نص وارد إلا ويمكن الدافع له أن يقول: ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا

فإن كان للمثبت أن يقول: أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده

كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت إن يقول أيضا مثل ذلك

ولا ريب أن المثبتين للعلو والصفات عندهم أن هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسول فهم لا يتناقضون ومن نازعهم يتناقض فإنه لا يمكنه أن يقول لغيره من النفاة شيئا إلا أمكن أهل الإثبات للعلو أن يقولوا له: فإما أن تقبل مثل هذا وإلا كان متناقضا لا يستقيم له قول عند واحد من الطوائف وهذا يبين فساد قوله وهو المطلوب

وهذا الذي ذكرناه بين في كلام كل طائفة حتى في كلام المثبتين لبعض الصفات دون البعض فإنك إذا تأملت كلامهم لم تجد لهم قانونا فيما يتأول وما لا يتأول بل لازم قولهم إمكان تأويل الجميع فلا يقرون إلا بما يعلم ثبوته بدليل منفصل عن السمع وهم لا يجوزون مثل ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا مثل ذلك فعلم أن قولهم باطل وأن قولهم: لا نتأول إلا ما عارضه القطعي - قول باطل ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه وأنه لا يستفاد من السمعيات علم كما ذكره الرازي وغيره مع انهم يستفيدون منها علما فيتناقضون ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول: أخبار الرسول ثلاثة أقسام: ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولا وما لا يعلم بدليل منفصل لا يمكن ثبوته ولا انتفاؤه وكان مشكوكا فيه موقوفا

وهذه حقيقة قولهم الذي ذكرناه أولا وهو ما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مناقض لما أوجبه الرسول من الإيمان بأخباره وانه في الحقيقة عزل للرسول عن موجب رسالته وجعل له كأبي حنيفة مع الشافعي وأحمد بن حنبل مع مالك ونحو ذلك

الوجه السادس والثلاثون

عدل

أن يقال: هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبقى معهم إلا طريقان: إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق الصوفية: وهي الطريقة العبادية الكشفية وكل من جرب هاتين الطريقتين علم أن مالا يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك إن كان له نوع عقل وتمييز وإن كان جاهلا دخل في الشطح والطامات التي لا يصدق بها إلا أجهل الخلق

فغاية هؤلاء الشك وهو عدم التصديق بالحق وغاية هؤلاء الشطح وهو التصديق بالباطل والأول يشبه حال اليهود والثاني يشبه حال النصارى فحذاق أهل الكلام والنظر يعترفون بالحيرة والشك كما هو معروف عن غير واحد منهم كالذي كان يتكلم على المنبر فأخذ ينكر العلو على العرش ويقول: كان الله ولا عرش وهو لم يتحول عما كان عليه: فقام إليه الشيخ أبو الفضل جعفر الهمذاني وقال: دعنا يا أستاذ من ذكر العرش واستواء الله عليه يعني أن هذا يعلم بالسمع وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال: عارف قط: يا الله إلا ويجد قبل أن يتحرك لسانه في نفسه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك من جواب على هذا

فصل: كلام الغزالي عن التأويل وتعليق ابن تيمية عليه

عدل

ذكر أبو حامد في كتاب الإحياء كلاما طويلا في علم الظاهر والباطن قال: ( وذهبت طائفة إلى التأويل فيما يتعلق بصفات الله تعالى وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهره ومنعوا التأويل وهم الأشعرية ) - أي متأخروهم الموافقون لصاحب الإرشاد قال: ( وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا كونه سميعا بصيرا والرؤية والمعراج وإن لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والسراط وجملة من أحكام الآخرة ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات )

قلت: تأويل الميزان والصراط وعذاب القبر والسمع والبصر إنما هو قول البغداديين من المعتزلة دون البصرية

قال أبو حامد: ( وبترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة إلى أمور عقلية روحانية ولذات عقلية )

إلى أن قال: ( وهؤلاء هم المسرفون في التأويل وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إن انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع فلا يستقر له قدم )

قلت: هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول شيء من الأمور العلمية بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة

وهذان أصلان للإلحاد فإن كل ذي مكاشفة إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات

وأفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأفضل من كان محدثا من هذه الأمة عمر للحديث وللحديث الآخر: [ إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ] ومع هذا فالصديق أفضل منه لأن الصديق إنما يأخذ من مشكاة الرسالة لا من مكاشفته ومخاطبته وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة ففيه صواب وخطأ وإنما يفرق بين صوابه وخطائه بنور النبوة كما كان عمر يزن ما يرد عليه بالرسالة فما وافق ذلك قبله وما خالفه رده

قال بعض الشيوخ ما معناه: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف وقال أبو سليمان الداراني: إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب والسنة وقال أبو عمرو إسماعيل بن نجيد: كل ذواق أوكل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن وبكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا وقال سهل أيضا: يا معشر المريدين لا تفارقوا السواد على البياض فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق

وهذا وأمثاله كثير في كلام الشيوخ العارفين يعلمون أنه لا تحصل لهم حقيقة التوحيد والمعرفة واليقين إلا بمتابعة المرسلين وقد يحصل لهم من الدلائل العقلية القياسية البرهانية ومن المخاطبات والمكاشفات العيانية ما يصدق ما أخبر به الرسول

كما قال تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت: 53 ]

وقال تعالى: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط } [ سبأ: 6 ]

وقال تعالى: { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } [ الرعد: 19 ]

وتجد كثيرا من السالكين طريق العلم والنظر والاستدلال الذين اشتبهت عليهم الأمور وتعارضت عندهم الأدلة والأقيسة يحسنون الظن بطريق أهل الإرادة والعبادة والمجاهدة ظانين أنه ينكشف بها الحقائق

وكثير من السالكين طريق العبادة والإرادة والزهد والرياضة الذين اشتبهت عليهم الأمور وتعارضت عندهم الأذواق والمواجيد يحسنون الظن بطريق أهل العلم والنظر والاستدلال ظانين أنه ينكشف به لهم الحقائق

وحقيقة الأمر أنه لا بد من الأمرين فلا بد من العلم والقصد ولا بد من العلم والعمل به ومن علم بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم

والعبد عليه واجبات في هذا وهذا فلا بد من أداء الواجبات ولا بد أن يكون كل منهما موافقا لما جاء به الرسول فمن أقبل على طريقة النظر والعلم من غير متابعة للسنة ولا عمل بالعلم كان ضالا غاويا في عمله ومن سلك طريق الإرادة والعبادة والزهد والرياضة من غير متابعة للسنة ولا علم ينبني العمل عليه كان ضالا غاويا ومن كان معه علم صحيح مطابق لما جاء الرسول بلا عمل به كان غاويا ومن كان معه عمل موافق للسنة بدون العلم المأمور به كان ضالا فمن خرج عن موجب الكتاب والسنة من هؤلاء وهؤلاء كان ضالا وإذا لم يعلم بعلمه أو عمل بغير علم كان ذلك فسادا ثانيا والذين لم يعتصموا بالكتاب والسنة من أهل الأحوال والعبادات والرياضات والمجاهدات ضلالهم أعظم من ضلال من لم يعتصم بالكتاب والسنة من أهل الأقوال والعلم وإن كان قد يكون في هؤلاء من الغي ما ليس فيهم فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم

كما قال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } [ الشعراء: 221 - 222 ]

والإنسان همام حارث فمن لم يكن همه وعمله ما يحبه الله ورسوله كان همه وعمله مما لا يحبه الله ورسوله

والأحوال نتائج الأعمال فيكون ما يحصل لهم بحسب ذلك العمل وكثيرا ما تتخيل له أمور يظنها موجودة في الخارج ولا تكون إلا وفي نفسه فيسمع خطابا يكون من الشيطان أو من نفسه يظنه من الله تعالى حتى أن أحدهم يظن أنه يرى الله بعينه وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج كما سمعه موسى بن عمران ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم وهو يظنه من كرامات الأولياء وهذا باب واسع بسطه موضع آخر

ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح: [ الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام ]

وكثيرا ما يرى الإنسان صورة اعتقاده فيكون ما يحصل له بمكاشفته ومشاهدته هو ما اعتقده من الضلال حتى أن النصراني يرى في كشفه التثليث الذي اعتقده وليس أحد من الخلق معصوما أن يقر على خطأ إلا الأنبياء فمن أين يحصل لغير الأنبياء نور إلهي تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه بحيث يصير بنفسه مدركا لصفات الرب وملائكته وما أعده الله في الجنة والنار لأوليائه وأعدائه؟

وهذا الكلام أصله من مادة المتفلسفة والقرامطة الباطنية الذين يجعلون النبوة فيضا من العقل الفعال على نفس النبي ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء وعندهم هذا الكلام باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى

ومع هذا فإن هؤلاء لا يقولون: إن كل أحد يمكنه أن يدرك بالرياضة ما أدركه من هو أكمل منه فلا يتصور على هذا الأصل أن يدرك عامة الخلق ما أدركه النبي ولو فعلوا ما فعلوا فإن كان العلم بما أخبر به لا يعلم إلا بهذا الطريق لم يمكنه معرفته بحال

ثم من المعلوم أن هذا لو كان ممكنا لكان السابقون الأولون أحق الناس بهذا ومع هذا فما منهم من ادعى أنه أدرك بنفسه ما أخبر به الرسول

ومن المعلوم أن الله فضل بعض الرسل على بعض وفضل بعض النبيين على بعض

كما قال تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } [ البقرة: 253 ]

وقال: { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء: 55 ] كما خص موسى بالتكليم فلا يمكن عامة الأنبياء والرسل أن يسمع كلام الله كما سمعه موسى ولا يمكن غير محمد أن يدرك بنفسه ما أراه الله محمدا ليلة المعراج وغير ليلة المعراج

فإذا كان إدراك مثل ذلك لا يحصل للرسل والأنبياء فكيف يحصل لغيرهم

ولكن الذي قال هذا يظن أن تكلم الله لموسى من جنس الإلهامات التي تقع لآحاد الناس ولهذا ادعوا أن الواحد من هؤلاء قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران وله في كتاب مشكاة الأنوار من الكلام المبني على أصول هؤلاء المتفلسفة ما لا يرضاه لا اليهود ولا النصارى ومن هناك مرق صاحب ( خلع النعلين ) وأمثاله من أهل الإلحاد كصاحب الفصوص ابن عربي الذي ادعى أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وأن الأنبياء جميعهم إنما يستفيدون معرفة الله من مشكاة خاتم الأولياء

وتلك المعرفة عندهم هي كون الوجود واحدا لا يتميز فيه وجود الخالق عن وجود المخلوق وادعى أن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول وخاتم الأولياء وإن كان قد تكلم به أبو عبد الله الترمذي وغيره وتكلموا فيه بكلام باطل ا كره عليهم العلم والإسمان فلم يصلوا به إلى هذا الحد

ولكن هذا بناه ابن العربي وأمثاله من الملاحدة على أصول الفلاسفة الصائبة وهؤلاء أخذوا كلام الفلاسفة: أخرجوه في قالب المكاشفة والمشاهدة

والملك عند هؤلاء ما يتخيل في نفس النبي من الصورة الخيالية وهم يقولون إن للنبي ثلاثة خصاص: إحداها أن يكون له قوة قدسية ينال بها العلم بلا تعلم والثانية: أن تكون له قوة نفسانية يؤثر بها في هيولى العالم الثالثة: أن يرى ويسمع في نفسه بطريق التخيل ما يتمثل له من الحقائق فيجعلون ما يراه الأنبياء من الملائكة ويسمعونه منهم إنما وجوده في أنفسهم لا في الخارج

وخاتم الأولياء عندهم يأخذ المعقولات الصريحة التي لا تفتقر إلى تخيل ومن كان هذا قوله قال: إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى خاتم الأنبياء فإن الملك عنده الخيال الذي في نفس النبي وهو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الخيال

هذا وأمثاله هو المكاشفة التي يرجع إليها من استغنى عن تلقي الأمور من جهة السمع وهؤلاء هم الذين سلكوا ما أشار إليه صاحب الإحياء وأمثاله ممن جرى في بعض الأمور على قانون الفلاسفة

وطريق هؤلاء المتفلسفة شر من طريق اليهود والنصارى وقد بسط الكلام على طريقهم في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن هؤلاء مع إلحادهم وإعراضهم عن الرسول وتلقي الهدى من طريقه وعزله في المعنى هم متناقضون في قول مختلف أؤفك عنه من أفك فكل من أعرض عن الطريقة السلفية الشرعية الإلهية فإنه لا بد أن يضل ويتناقض ويبقى في الجهل المركب أو البسيط

وكان المقصود أولا بيان تناقض من أعرض عن الأدلة السمعية الشرعية في الأصول الخبرية كالصفات والنبوات والمعاد وأنه من سلك طريقا يتناول به علم هذه الأمور غير الطريقة الشرعية النبوية فإن قوله متناقض فاسد وليس له قانون مستقيم يعتمد عليه فكيف بمن عارضها بطريق تناقضها يعتمد فيه على آراء متناقضة يحسبها براهين عقلية ومشاهدات ومخاطبات ربانية؟ وهي خيالات فاسدة وأوهام باطلة كما قال السهيلي: أعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي

وأما بيان فساد ذلك من جهة الرسل والإيمان بهم فنقول :

الوجه السابع والثلاثون

عدل

أنا نعلم بالاضطرار من دين النبي ودين أمته المؤمنين به بطلان لوازم هذا القول وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم بل نعلم الاضطرار أن من دينه أن لوازم هذا القول من أعظم الكفر والإلحاد وذلك لأن لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها: أن الرسول لا يكون فيما أخبر به عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: لا علم ولا هدى ولا كتاب منير فلا يستفاد منه علم بذلك ولا هدى يعرف به الحق من الباطل ولا يكون الرسول قد هدى الناس ولا بلغهم بلاغا بينا ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور ولا هداهم إلى صراط العزيز الحميد

ومعلوم أن كثيرا من خطاب القرآن بل أكثره متعلق بهذه الباب فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدرا وصفة

فإذا كان هذا الخطاب لا يستفيدون منه معرفة ولم يبين لهم الرسول مراده ومقصوده بهذا الخطاب بل إنما يرجع أحدهم في معرفة الأمور التي ذكرها ووصفها وأخبرهم عنها إلى مجرد رأيه وذوقه فإن وافق خبر الرسول ما عنده صدق بمفهوم ذلك ومقتضاه وإلا أعرض عنه كما يعرض المسلم عن الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب - كان هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول

وهذا يعلمه كل من علم ما دعا إليه الرسول سواء كان مؤمنا أو كافرا فإن كل من بلغته دعوة الرسول وعرف ما كان يدعوا إليه علم أنه لم يكن يدعو الناس إلى أن يعتقدوا فيه هذه العقيدة

فالمقصود أنه يعلم بالاضطرار أن هؤلاء مناقضون لدعوة الرسول وأن هذا يعرفه كل من عرف حال الرسول من مؤمن وكافر ولوازم هذا القول أنواع كثيرة من الكفر والإلحاد كما سننبه عليه إن شاء الله

الوجه الثامن والثلاثون

عدل

قال: إذا كان الرسول ما بين للناس أصول إيمانهم ولا عرفهم علما يهتدون به في أعظم أمور الدين وأجل مقاصد الدعوة النبوية وأجل ما خلق الخلق له وأفضل ما أدركه الخلق وحصلوه وانتهوا إليه بل إنما بين لهم الأمور العملية فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من علمهم وبين لهم أشرف القسمين وأعظم النوعين كان ما أتاهم به أفضل مما أتاهم به من لم يبين إلا القسم المفضول والنوع المرجوح

وحينئذ فمذهب النفاة للصفات ليس من أئمته أحد من خيار هذه الأمة وسابقيها وإنما أئمتهم الكبار: القرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ومن يوافق هؤلاء من ملاحدة الفلاسفة وملاحدة المتصوفة القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد كابن سينا والفارابي وابن عربي وابن سبعين وأمثال هؤلاء

ثم من امثل هؤلاء كأئمة الجهمية: مثل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وأبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام وبشر المريسي وثمامة بن أشرس وأمثال هؤلاء فيكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة أفضل وأشرف مما أتى به موسى ابن عمران ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم وأمثالهما من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه لأن هؤلاء عند النفاة الجهمية لم يبينوا أفضل العلم وأشرف المعرفة وإنما بينها أولئك على قول النفاة

ولازم هذا القول أن يكون عند النفاة الجهمية أولئك أفضل من الأنبياء والرسل في العلم بالله وبيان العلم بالله وقد صرح أئمة هؤلاء بهذا فابن عربي وأمثاله يقولون: إن الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول

وابن سبعين يقول: إنه بين العلم الذي رمز إليه هرامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية فعلى قوله: إن الأنبياء راموا إفادته وما أفادوه

وطائفة من المتفلسفة يقولون: إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه وهكذا ملاحدة الشيعة من الإسماعيلية ونحوهم يقولون: إن أئمتهم كمحمد بن إسماعيل بن جعفر ونحوه أفضل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين

ثم إن هذا كثر في طوائف من جهال البربر والأكراد والفرس والعرب يعتقدون في شيخهم أنه أفضل من النبي ومن شيوخه هؤلاء من يكون منافقا زنديقا

ومن قال في أئمة الإسماعيلية وأمثالهم من الشيوخ المنافقين والفاسقين: إنه أفضل من الرسل فإن هؤلاء شر من النصارى فإن النصارى يزعمون أن الحواريين وأمثالهم أفضل من إبراهيم الخليل وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء والحواريون كانوا مؤمنين فإذا كان من قال هذا من النصارى من أجهل الناس وأكفرهم فمن فضل ملحدا من الملاحدة على أنبياء الله ورسله كان كفره أعظم من كفر النصارى من هذا الوجه

بل هؤلاء قد يكونون شرا ممن يفضل من النصارى على إبراهيم وموسى وداود وسليمان وغيرهم كبولص وأمثاله الذين يقال: إنهم ابتدعوا للنصارى ما ابتدعوه من الضلالات وأضلوهم وأدخلوا في دين المسيح من دين المشركين والصائبين ومن الروم وأمثالهم ما أفسدوا به دين المسيح وجعلوا النصارى على الضلالات التي فارقوا بها دين المسيح حتى قال من قال من العلماء: إن النصارى صاروا على مذهب الروم المشركين لا أن الروم صاروا على دين النصارى فإن أولئك غيروا شريعة دين المسيح مستبدلين بها ما استبدلوه من شرائع المشركين وغايتهم أنهم ركبوا دينا من دين الفلاسفة والصائبين والمشركين ودين النصارى كما صانع ماني لما ركب دينا من دين المجوس ودين النصارى

فإذا كان هؤلاء من أجهل الناس وأكفرهم فمن جعل أئمة الملاحدة الباطنية أفضل من محمد وإبراهيم وموسى وعيسى كان أكثر من هؤلاء

وهؤلاء الملاحدة ركبوا مذهبا من دين المجوس ودين الصابئين ودين رافضة هذه الأمة فطافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فإنهم يبطنون من مناقضة الرسل وإبطال ما جاءوا به ما لم يبطنه أتباع بولص وأمثاله من النصارى

ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم فقد شاركهم في الأصل وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزما لا محيد عنه كما تقدم إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم وبيانهم وطريقهم التي بينوها وإنما يستفاد من كلام شيوخه وأئمته

الوجه التاسع والثلاثون

عدل

أن يقال: إن الرسل لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب ولو سكتوا عنه للزم تفضيل شيوخ النفاة وأئمتهم على الأنبياء كما تقدم فكيف إذا تكلموا فيه بما يفهم منه الخلق نقيض الحق على قول النفاة فإذا كان الحق هو قول النفاة ولم يتكلموا إلا بما يدل على نقيضه كانوا - مع أنهم لم يهدوا الخلق ويعلموهم الحق عند النفاة - قد لبسوا عليهم ودلسوا بل أضلوهم وجهلوهم وأخرجوهم إلى الجهل المركب وظلمات بعضها فوق بعض: إما من علم كانوا عليه وإما من جهل بسيط أو حيروهم وشككوهم وجعلوهم مذبذين لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال إذ كانوا ما تكلموا به عارضوا به طرق العلم العقلية والكشفية

فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي ويضل ولا يهدي ويضر ولا ينفع ويفسد ولا يصلح ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى كما يوجد ف كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة كابن الخطيب وابن سينا وابن عربي وأمثالهم خيرا من كلام الله وكلام رسله فلا يكون خير الكلام كلام الله ولا أصدق الحديث حديثه بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب الذي ليس فيه كذب في نفسه وإن كانت نسبته إلى الله كذب ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا لجليل - عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله الذي وصف به نفسه ووصف به ملائكته واليوم الآخر وخيرا من كلام رسوله لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة فلا مضرة فيه ولا فساد بل يضحك المستمع - كما يضحك الناس - من أمثاله

وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم وأديانهم وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسله أو يشكوا ويرتابوا في الحق أو يكونوا - إذا عرفوا بعقلهم - تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه ومعاداة من يقر بذلك وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل

وإنما ذكرنا هذا لأن كثيرا من الجهمية النفاة يقولون: فائدة إنزال هذه النصوص المثبتة للصفات وأمثالها من الأمور الخيرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه فائدتها عندهم اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كد الاجتهاد وحتى تنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق ولا يدل على العلم ولا يفهم منه الهدى بل يدل على الباطل ويفهم منه الضلال ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق وأنهم بسبب ذلك ينظرون نظرا يؤديهم إلى معرفة الحق من غير أن ينصب الرسول لهم على الحق دلالة ولا يبينه لهم بخطابه أصلا فمثال ذلك عندهم مثل من أرسل مع الحجاج أدلة يدلونها على طريق مكة وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير طريق مكة ليكون ذلك الخطاب سببا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا طريق مكة بنظرهم لا بأولئك الأدلاء وحينئذ يردون ما فهم من كلام الأدلاء ويجتهدون في نفي دلالته وإبطال مفهومه ومقتضاه

وإذا كان لأمر كذلك فمن المعلوم أن خلقا كثيرا لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون انهم أعلم بالطريق منهم وأن ولاة الأمور قد قلدوهم دلالة الحاج أو تعريفهم الطريق وإن درك ذلك عليهم فيتبعون الأدلاء

والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يقصدوا بكلامهم الدلالة والإفهام والإرشاد إلى سبيل الرشاد صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقا أخرى غير طريق مكة فأفضت بهم إلى أودية مهلكة ومفاوز متلفة وأرض متشعبة - فأهلكتهم

وطائفة أخرى شكوا وحاروا فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود ولا لطرق المخالفين للأدلاء ركبوا وسلكوا بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين حتى هلكوا أيضا في أمكنتهم جوعا وعطشا كما هلك أرباب الطرق المتشعبة فلم يظفروا بالمطلوب ولا نالوا المحبوب بل هلكوا هلاك الخاسر الحائر

وآخرون اختصموا فيما بينهم فصار هؤلاء يقولون: الصواب فيما ذكره الأدلاء ونطق به هؤلاء الخبراء وآخرون يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون: إنهم أخبر وأحذق وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق وآخرون حاروا مع من الصواب ووقفوا موقف الارتياب فاقتتل هؤلاء وهؤلاء وخذل الواقفون الحائرون لهؤلاء وهؤلاء ولكن فاتت باختلاف أولئك مصالح دينهم ودنياهم فهلك الحجيج وكثر الضجيج وعظم النشيج واضطربت السيوف وعظمت الحتوف وتزاحف الصفوف وحصل من الفتنة والشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد

فهل من فعل هذا بالحجيج يكون قد هداهم السبيل وأرشدهم إلى اتباع الدليل؟ أم يكون مفسدا عليهم دينهم ودنياهم فاعلا بهم ما لا يفعله إلا أشد عداهم؟ وإذا قال: إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحجاج في أن يعرفوا الطريق بعقولهم وكشوفهم ولا يستدلوا بكلام الأدلاء الذين أرسلتهم لتعريفهم لينالوا بذلك أجر المجالدين وتنبعث هممهم إلى طريق المجالدين - هل يصدقه في ذلك عاقل؟ أو يقبل عذره من عنده حاصل؟

فهذا مثال ما يقوله النفاة في رسل الله الذين أرسلهم الله تعالى إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم سبيل الله ويدعوهم إليه كما قال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد } [ إبراهيم: 1 ] وقال تعالى: { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } [ الأحزاب: 45 - 46 ]

وقال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } [ الشورى: 52 - 53 ]

فجعل هؤلاء الجهاد في إفساد سبيل الله جهادا في سبيل الله والاجتهاد في تكذيب رسل الله اجتهادا في تصديق رسل الله والسعي في إطفاء نور الله سعيا في إظهار نور الله والحرص على أن لا تصدق كلمته ولا تقبل شهادته أو لا تفيد دلالته سعيا في أن تكون كلمة الله هي العليا والمبالغة في طريق أهل الإشراك بالله والتعطيل مبالغة في طريق أهل التوحيد السالكين سواء السبيل فقلبوا الحقائق وأفسدوا الطرائق وأضلوا الخلائق

وهذه المعاني وأمثالها - وأعظم منها - يعرفها كل من فهم لوازم أقوال هؤلاء المبدلين المعطلين وإن كان قد التبس كثير من كلامهم على من لا يعرف لا الحق ولا نقيضه بل صار حائرا حتى أنك تجد كثيرا ممن عنده علم وفقه وعبادة وزهد وحسن قصد وقد ضرب في العلم والدين بسهم وافر وهو لا يختار أن ينحاز عن المؤمنين بالله واليوم الآخر فيسمع كلام الله وكلام رسوله وأهل العلم والإيمان وكلام أهل الزندقة والإلحاد الذين سعوا في الأرض بالفساد فيؤمن بهذا وهذا إيمانا مجملا ويصدق الطائفتين أو يعرض عنهما فلا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء بمنزلة من سمع كلام محمد بن عبد الله الصادق الأمين وكلام مسيلمة الكاذب الكافر ولم يفهم ما بينهما من التناقض والاختلاف فصار يصدق هذا وهذا ويقر كلا منهما على ما قاله ويسلم إليه حاله ويقول: هذا رسول الله وهذا رسوله

لكن هؤلاء لا يمكنهم التظاهر بين المسلمين بإظهار رسالة غير محمد ولكن يقولون ما هو بمعنى الرسالة أو أبلغ منها فيقولون: هذا كلام رسول الله وهذا كلام أولياء الله بل كلام خاتم الأولياء وهذا كلام العارفين المحققين وكلام العقلاء وأهل البراهين وكلام النظار المحققين ونحن نسلم هذا وهذا ففضلاؤهم الذين يفهمون التناقض هم في الباطن مع أعداء الرسول وإليهم أميل وهم عندهم أهل التحقيق والتبيين بحقيقة الطريق

وأما من لم يفهم التناقض فقد يكون الطائفتان عنده على السواء وقد يكون إلى أهل مسيلمة أميل لمعنى من المعاني وإلى أبي بكر الصديق وأمثاله أميل من وجه ثان وربما رجح هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه آخر

فهذا وأمثاله من الأمور الواقعة بسبب هذه الواقعة التي أصلها ترك الاستدلال بكلام الله ورسوله على الأمور العلمية والمطالب الخيرية والمعارف الإلهية

الوجه الأربعون

عدل

أن يقال: كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور بكلام عظم قدره وكبر أمره وذكر انه بين لهم به وعلم وهدى به وأفهم ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات ولا معرفة لتلك المطلوبات بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل وهي على غير العلم أدل - كان هذا: إما مفرطا في الجهل والضلالة أو الكذب والشيطنة والنذالة فكيف إذا كان قد تكلم في الأمر الإلهية والحقائق الربانية التي هي أجل المطالب العالية وأعظم المقاصد السامية بكلام فضله على كل كلام ونسبه إلى خالق الأنام وجعل من خالفه شبيها بالأنعام وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغام وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علما في مثل هذه القضية بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجح إليه ذوو الإيقان فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال

فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله وأعظمهم هدى لخلق الله لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم الذي هو اعلم الخلق بالله وأنصح الخلق لعباد الله وأفصح الخلق في بيان هدى الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين

ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه فإما أن يكون قد أتي من علمه أو قصده أو عجزه فإنه قد يكون جاهلا بالحق وقد لا يكون جاهلا به بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم وإما أن يكون علمه تاما وقصده البيان لكنه عجز عن البيان والإفصاح لقصور عبادته وعجزه عن كمال البيان والإيضاح

فإن الفعل يتعذر لعدم العلم أو لعدم القدرة أو لعدم الإرادة فأما إذا كان الفاعل له مريدا له وهو قادر عليه وعالم بما يريده لزم حصول مطلوبه

ومن المعلوم أن محمدا أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده وأمثال ذلك من الغيب وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم

كما قال تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة: 128 ]

ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم يهتدوا حتى يسليه ربه ويعزيه كقوله تعالى: { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } [ النحل: 37 ]

وقال تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص: 56 ]

وقال تعالى: { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء: 3 ] وقال تعالى: { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } [ الأنعام: 35 ]

ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين فقال تعالى: { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين } [ النور: 54 ]

وقال تعالى: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } [ المائدة: 92 ]

وقال تعالى: { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل: 35 ]

ومعلوم انه كان من افصح الناس وأحسنهم بيانا واللغة التي خاطب بها أتم اللغات وأكملها بيانا وقد امتن الله عليهم بذلك كما في قوله تعالى: { الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } [ يوسف: 1 - 2 ]

وقال تعالى: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } [ الزخرف: 3 ]

وقال تعالى: { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم: 4 ] وقال تعالى: { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } [ الشعراء: 193 - 195 ]

وقال تعالى: { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } [ النحل: 103 ] وأمثال ذلك

فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه ويصفه ويخبر به وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم وتعليمهم وهداهم وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبنيا للعلم والهدى والحق فيما خاطب به وأخبر عنه وبينه ووصفه بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالا على العلم والحق والهدى وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام أحق الكلام بأن يكون جهلا وكذبا وباطلا

وهذا قوا جميع من آمن بالله ورسوله فتبين أن قول الذين يعرضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله ويطلبونه في كلام غيره من أصناف أهل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرهم هم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم فكيف بمن يعارض كلامه بكلام الذين عارضوه وناقضوه ويقول أن الحق الصريح والعلم والهدى إنما هو في كلام هؤلاء المناقضين المعارضين لكلام رسول رب العالمين دون ما أنزله الله من الكتاب والحكمة وبعث ه رسوله من العلم والرحمة

الوجه الحادي والأربعون

عدل

أن يقال: كل من سمع القرآن من مسلم وكافر علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن اتبعه دون من خالفه كما قال تعالى: { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [ البقرة: 1 - 2 ]

وقال تعالى: { المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف: 1 - 2 ]

وقال: { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه: 123 - 127 ]

وقال تعالى: { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } [ الأنعام: 155 ]

وقال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى: 52 ]

وقال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [ إبراهيم: [ 1 - 2 ]

وكذلك نعلم انه ذم من عارضه وخالفه وجادل بما يناقضه كقوله تعالى: { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } [ غافر: 4 ]

وقال تعالى: { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } [ غافر: 56 ] وأمثال ذلك

وإذا كان كذلك فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن أخبر أن من صدق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى ومن أعرض عن ذلك كان جاهلا ضالا فكيف بمن عارض ذلك وناقضه

وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر كان عند من جاء بالقرآن جاهلا ضالا فكيف بمن قال بنقيض ذلك؟

فلأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط وهؤلاء في الجهل المركب

ولهذا ضرب الله تعالى مثلا لهؤلاء ومثلا لهؤلاء فقال: { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } [ النور: 39 ] فهذا مثل أهل الجهل المركب

وقال تعالى: { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } [ النور: 40 ] فهذا مثل أهل الجهل البسيط

ومن تمام ذلك أن يعرف أن للضلال تشابها في شيئين: أحدهما الإعراض عما جاء به الرسول والثاني معارضته بما يناقضه فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة

فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر أن غير ذلك فقد ناقضه وعارضه سواء اعتقد ذلك بقلبه أو قال بلسانه

وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة وهؤلاء من أهل الجهل المركب الذين أعمالهم كسراب بقيعة

ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه فهو من أهل الجهل البسيط وهؤلاء من أهل الظلمات

وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط فإن القلب إذا كان خاليا من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به كان معرضا لأن يعتقد نقيضه ويصدق به لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق وإلى جهته تمتد الأعناق فالمهتدون فيه أئمة الهدى كإبراهيم الخليل وأهل بيته وأهل الكذب فيه أئمة الضلال كفرعون وقومه

وقال تعالى في أولئك: { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } [ الأنبياء: 73 ]

وقال تعالى في الآخرين: { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون } [ القصص: 41 ]

فمن لم يكن فيه على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحا لأئمة الضلال

ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه تقصير من قصر في إظهار السنة والهدى مثل ما وقع في هذا الباب فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التكذيب والجحود في توحيد الله تعالى وصفاته كان من أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله وفي معرفة معاني أسمائه وآياته حتى أن كثيرا من المنتسبين إلى الكتاب والسنة يريدون أن طريقة السلف والأئمة إنما هو الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبر معانيها وفقهها وعقلها

ومن هنا قال من قال من النفاة: ( إن طريقة الخلف أعلم وأحكم وطريقة السلف أسلم ) لأنه ظن أن طريقة الخلف فيها معرفة النفي الذي هو عنده الحق وفيها طلب التأويل لمعاني نصوص الإثبات فكان في هذه عندهم علم بمعقول وتأويل لمنقول ليس في الطريقة التي ظنها طريقة السلف وكان فيه أيضا رد على من يتمسك بمدلول النصوص وهذا عنده من إحكام تلك الطريق

ومذهب السلف عنده عدم النظر في فهم النصوص لتعارض الاحتمالات وهذا عنده أسلم لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معان فتفسيره ببعضها دون بعض فيه مخاطرة وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة

فلو كان قد بين وتبين لهذا وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات وفهم ما دلت عليه وتدبره وعقله وإبطال طريقة النفاة وبيان مخالفتها لصريح المعقول وصحيح المنقول - علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوام وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به وفهم ذلك ومعرفته وأن ذلك هو الذي يدل عليه صريح المعقول ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب وأن طريقة النفاة المنافية لما أخبر به الرسول طريقة باطلة شرعا وعقلا وأن من جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الآيات وعدم إثبات ما تضمنته من الصفات فقد قال غير الحق: إما عمدا وإما خطأ كما أن من قال على الرسول: إنه لم يبعث بإثبات الصفات بل بعث بقول النفاة كان مفتريا عليه

وهؤلاء النفاة هم كذابون: إما عمدا وإما خطأ: على الله وعلى رسوله وعلى سلف الأمة وأئمتها كما أنهم كذابون: إما عمدا وإما خطأ: على عقول الناس وعلى ما نصبه الله تعالى من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية

والكذب قرين الشرك كما قرن بينهما في غير موضع كقوله تعالى: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين } [ الحج: 30 - 31 ]

وقال تعالى: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ الأعراف: 152 ]

وقال تعالى: { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ القصص: 74 - 75 ]

وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب } [ آل عمران: 7 ] حيث ظنوا أن المراد بالتأويل: صرف النصوص عن مقتضاها

وطائفة تقول إن الراسخين في العلم يعلمون هذا التأويل وهؤلاء يجوزون مثل هذه التأويلات التي هي تأويلات الجهمية النفاة

ومنهم من يوجبها تارة ويجوزها تارة وقد يحرمونها على بعض الناس أو في بعض الأحوال لعارض حتى أن الملاحدة من المتفلسفة والمتصوفة وأمثالهم قد يحرمون التأويلات لا لأجل الإيمان والتصديق بمضمونها بل لعلمهم بأنه ليس لها قانون مستقيم وفي إظهارها إفساد الخلق فيرون الإمساك عن ذلك لمصلحة وإن كان حقا في نفسه

وهؤلاء قد يقولون: الرسل خاطبوا الخلق بما لا يدل على الحق لأن مصلحة الخلق لا تتم إلا بذلك بل لا تتم إلا بأن تخيلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجودا في الخارج لنوع من المصلحة كما يخيل للنائم والصبي والقليل العقل ما لا وجود له لنوع من المناسبة لما له في ذلك من المصلحة

وطائفة يقولون: هذا التأويل لا يعلمه إلا الله

ثم من هؤلاء من يقول: تجرى على ظواهرها ويتكلم في إبطال التأويلات بكل طريق

ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالف ظاهرها لم يحمل على ظاهره وما حمل على ظاهره لم يكن له تأويل يخالف ذلك فضلا عن أن يقال: يعلمه الله أو غيره

بل مثل هذا التأويل يقال فيه: كما قال تعال: { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس: 18 ] فإن كان منتفيا لا وجود له لا يعلمه الله إلا منتفيا لا وجود له لا يعلمه ثابتا موجودا

وسبب هذا الاضطراب أن لفظ ( التأويل ) في عرف هؤلاء المتنازعين ليس معناه معنى التأويل في التنزيل بل ولا في عرف المتقدمين من مفسري القرآن فإن أولئك كان لفظ ( التأويل ) عندهم بمعنى التفسير ومثل هذا التأويل يعلمه من يعلم تفسير القرآن

ولهذا لما كان مجاهد إمام أهل التفسير وكان قد سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن كله وفسره له كان يقول: إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل أي التفسير المذكور

وهذا هو الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله ممن يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل ومرادهم به التفسير وهم يثبتون الصفات لا يقولون بتأويل الجهمية النفاة التي هي صرف النصوص عن مقتضاها ومدلولها ومعناها

وأما لفظ ( التأويل ) في التنزيل فمعناه: الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية

وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله ولهذا كان السلف يقولون: الاستواء معلوم والكيف مجهول فيثبتون العلم بالاستواء وهو التأويل الذي بمعنى التفسير وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر ويعقل ويفقه ويقولون: الكيف مجهول وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو

وأما التأويل بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح كتأويل من تأول: استوى بمعنى استولى ونحوه فهذا عند السلف والأئمة - باطل لا حقيقة له بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته

فلا يقال في مثل هذا التأويل: لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم بل يقال فيه: { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } [ يونس: 18 ] كتأويلات الجهمية والقرامطة الباطنية كتأويل من تأول الصلوات الخمس: بمعرفة أسرارهم والصيام بكتمان أسرارهم والحج: بزيارة شيوخهم والإمام المبين: بعلي بن أبي طالب وأئمة الكفر: بطلحة والزبير والشجرة الملعونة في القرآن: ببني أمية واللؤلؤ والمرجان: بالحسن والحسين والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين: بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والبقرة: بعائشة وفرعون: بالقلب والنجم والقمر والشمس: بالنفس والعقل ونحو ذلك

فهذه التأويلات من باب التحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله وهي من باب الكذب على الله وعلى رسوله وكتابه ومثل هذه لا تجعل حقا حتى يقال إن الله استأثر بعلمها بل هي باطل مثل شهادة الزور وكفر الكفار يعلم الله أنها باطل والله يعلم عباده بطلانها بالأسباب التي بها يعرف عباده: من نصب الأدلة وغيرها

وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله تعالى كما فهمه الصحابة والتابعون ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسول لكن على وجه النفاق والخداع

وهو حال الباطنية وأشباههم ممن يتظاهر بالإسلام واتباع القرآن والرسالة بل بموالاة أولياء الله تعالى من أهل بيت النبوة وغيرهم من الصالحين وهو في الباطن من أعظم الناس مناقضة للرسول فيما أخبر به وما أمر به لكنه يتكلم بألفاظ القرآن والحديث ويضم إلى ذلك من المكذوبات ما لا يحصيه إلا الله ثم يتأول ذلك من التأويلات بما يناسب ما أبطنه من الأمور المناقضة لخبر الله ورسوله وأمر الله ورسوله ويظهر تلك التأويلات لمستجيبيه بحسب ما يراه من قبولهم وموافقتهم له

مثل أن يروا أن العالم كله مفعول ومصنوع لشيء يسميه العقل الأول فجعله هو رب الكائنات ومبدع الأرض والسموات ولكنه لازم للواجب بنفسه ومعلول له وأنه يلزمه عقل ونفس وفلك ثم يلزم ذلك العقل عقل ونفس وفلك حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الذي أبدع بزعمه جميع ما تحت السماء من العناصر والحيوان والمعادن وغير ذلك وهو الذي يفيض عنه العلم والنبوة والرسالة وغير ذلك في أنفس العباد وعنه صدر القرآن والتوراة وغير ذلك

ثم يريد أن يوفق بين هذا وبين ما أخبرت به الرسل فيقول: هذه العقول هي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء وقد يقول عن هذا العقل الفعال: إنه جبريل الذي ما هو على الغيب بضنين أي ببخيل لأنه دائم الفيض بزعمه لكن يحصل الفيض بحسب استعداد القوابل

ومن المعلوم بالاضطرار لكل من تدبر ما أخبرت به الرسل من صفات الملائكة أن هذه العقول التي وصفها هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركون ليست هي الملائكة فإنا نعلم بالاضطرار أنهم لم يجعلوا ملكا واحدا أبدع جميع ما سوى الله تعالى ولا ملكا أبدع جميع ما تحت السماء ولا جعلوا الملائكة أربابا ولا آلهة

بل قد قال تعالى: { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } [ آل عمران: 80 ]

وقال تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } [ الأنبياء: 26 ] إلى: { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء: 29 ] ونحو ذلك من الآيات

فغاية الملك أن يكون شافعا عند الله ولا يشفع إلا من بعد إذنه

ومن المعلوم أن كفر هؤلاء أعظم من كفر النصارى فإن النصارى يقرون بإله خلق جميع المخلوقات لا يجعلون له معلولا خلق المخلوقات لكن يقولون: إنه اتحد بالمسيح

وأما هؤلاء فيثبتون عقولا لا حقيقة لها ثم يقولون إن كلا منها أبدع الآخر وسائر العالم

وتسميتهم للعقول بالملائكة باطل ثم يستدل من يجمع بين كلامهم وكلام الأنبياء بحديث موضوع نبه على وضعه أبو حاتم البستي والعقيلي والدارقطني والخطيب وابن الجوزي

وهو ما روي عن النبي انه قال: [ أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب ] ومع هذا فهو لفظه: لما خلق الله العقل فهذا اللفظ يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا يقتضي أنه أول المخلوقات بل هذا اللفظ يقتضي أنه خلق قبله غيره فإنه قال له: [ ما خلقت خلقا أكرم علي منك ]

وإيضا فإنه وصف بالإقبال والإدبار والعقل عندهم لا يقبل ولا يدبر

وإيضا فإنه قال: بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب وهؤلاء عندهم جميع الموجودات صادرة عنه: من العقول والأفلاك والأرض والحيوان والنبات ونحو ذلك

والأعراض من العلوم والإرادات فقول القائل: بك آخذ وبك أعطي إلى آخره يقتضي أن به هذه الأعراض الأربعة وعندهم جميع الكائنات هو مبدعها وهو ربهم الأعلى فمرتبته عندهم أجل مما وصف في هذا الحديث

فهؤلاء يتمسكون من السمعيات بمثل هذا الحديث المكذوب وهو لا يدل إلا على نقيض المطلوب: لا إسناد ولا متن ثم يفسرون هذه الأحاديث مقلوبا ويعبرون بتلك الألفاظ عن معان غير ما عناه الرسول كما يعبرون بلفظ ( الملك ) و( الملكوت ) و( الجبروت ) عن: الجسم والنفس والعقل

ولفظ الملك والملكوت والجبروت في كلام الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الاله عليه وسلم لا يراد به ذلك

وكذلك يعبرون بلفظ ( الملائكة والشياطين ) عن: قوى النفس المحمودة والمذمومة وبالضرورة من الدين أن الرسل أرادوا بالملائكة والشياطين أعيانا قائمة بأنفسها متميزين لا مجرد أعراض قائمة بنفس الإنسان كالقوة الجاذبة والماسكة والدافعة والهاضمة وقوة الشهوة والغضب وإن كان قد يسمى بعض الإعراض باسم صاحبه

الوجه الثاني والأربعون

عدل

أن يقال إن هؤلاء متناقضون تناقضا بينا فإنهم جعلوا المعلومات ثلاثة أقسام: ما لا يعلم إلا بالعقل وما لا يعلم إلا بالسمع وما يعلم بكل منهما وجعلوا من المعلومات التي لا تعلم إلا بالسمع الإخبار عما يمكن وجوده وعدمه

ومعلوم أن ما ذكروه ينفي أن يكون الدليل السمعي حجة في هذا القسم أيضا وذلك لأن الشيء الذي يمكن وجوده وعدمه إذ دل الدليل السمعي على أحد طرفيه وجوزنا أن لا يكون مدلول الدليل السمعي ثابتا أمكن هنا أيضا أن لا يكون ذلك المدلول المخبر به ثابتا في نفس الأمر وأن يكون الشارع لم يرد ما دل عليه قوله ولا يحتاج ذلك إلى تجويز قيام دليل عقلي يعارض ذلك فإن المعارض الدال على أن مدلول الدليل السمعي غير ثابت أو أن الشارع لم يرد بكلامه ما دل عليه إذا قدر عدمه لم يلزم انتفاء مدلوله فإن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل العقلي النافي لموجب الدليل السمعي عدم مدلوله إذا جوزنا أن يكون مدلوله ثابتا في نفس الأمر فإن كما لا يلزم من عدم علمنا عدم الدليل لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه

وحينئذ فلا يستدل بالسمع على ما لا مجال للعقل فيه من الأمور الأخروية وهذا نهاية الإلحاد

فإن اعتذروا من ذلك بأن الشارع لا يجوز أن يريد بكلامه ما يخالف ظاهره إلا أن يكون في العقل ما يدل على ذلك

قيل: جوابكم عن هذا كجوابكم للمعتزلة لما قالوا: لا يجوز أن يسمعه الخطاب الذي أراد به خلاف ظاهره إلا إذا أخطر بباله العقلي المعارض

فلما قلتم له: هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وأيضا فالتفريط من المكلف كما تقدم إيراده

فيقال لكم هنا كذلك: هذا مبني على قاعدة الحسن والقبح وأيضا فالتفريط من المكلف لأنه لما اعتقد في الأدلة السمعية أنها تفيد اليقين وهي لا تفيد اليقين كان مفرطا فكان جزمه بمدلول خبر الشارع مطلقا تفريط منه مع تجويزه أن يريد بخطابه خلاف ظاهره

فإن سلكوا طريقة أخرى: وهو أنه لا يحتج بالسمع على شيء من المسائل العلمية وقالوا: المعاد ونحوه معلوم بالضرورة من دين الرسول كما علم وجوب الصلاة وأجابوا به ابن سينا وكان هذا أيضا جوابا لأهل الإثبات فإن إثبات الأسماء والصفات والأفعال معلوم بالضرورة بل وإثبات لعلو أيضا

ومنشأ الضلال قوله: ( لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما دل عليه الدليل السمعي ) وإثبات هذا التقدير هو الذي أوقعكم في هذه المحاذير فكان ينبغي لكم أن تعلموا أن هذا التقدير يجب نفيه قطعا وأنه يمتنع أن يقوم دليل قاطع عقلي مخالف للدليل السمعي

ثم هؤلاء يحكمون إجماعات يجعلونها من أصول علمهم ولا يمكنهم نقلها عن واحد من أئمة الإسلام وإنما ذلك بحسب ما يقوم في أنفسهم من الظن فيحكون ذلك عن الأئمة: كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في المحافل

فإذا قيل لأحدهم في الخلوة: أنت حكيت أن هذا قول هؤلاء الأئمة: فمن نقل ذلك عنهم؟ قال هذا: العقلاء والأئمة لا يخالفون العقلاء فيحكون أقوال السلف والأئمة لاعتقادهم أن العقل دل على ذلك

ومن المعلوم أنه لو كان العقل يدل على ذلك باتفاق العقلاء لم يجز أن يحكى عن الإنسان قول لم ينقله عنه أحد ولهذا كان أهل الحديث يتحرون الصدق حتى أن كثيرا من الكلام الذي هو في نفسه صدق وحق موافق للكتاب والسنة يروى عن النبي فيضعفونه أو يقولون: هو كذب عليه لكونه لم يقله أو لم يثبت عنه وإن كان معناه حقا

ولكن أهل البدع أصل كلامهم الكذب: إما عمدا وإما بطريق الابتداع ولهذا يقرن الله بين الكذب والشرك في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } [ الأعراف: 152 ] وقوله تعالى: { واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به } [ الحج: 30 - 31 ]

ولهذا قال النبي : [ عدلت شهادة الزور والإشراك مرتين أو ثلاثا ]

وقال تعالى: { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون * ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ القصص: 74 - 75 ]

وهذا كحكاية الرازي وإجماع المعتبرين على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أحد أن ينقل عن نبي من أنبياء الله تعالى ولا من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة ولا أعيان أئمتها وشيوخها إلا ما يناقض هذا القول ولا يمكنه أن يحكي هذا عمن له في الأمة لسان صدق أصلا

وكما تقول طائفة - كأبي المعالي وغيره: اتفق المسلمون على أن الاجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادا فكل جزء لا يتجزأ وليس له طرف واحد

ومعلوم أن هذا القول لم يقله إلا طائفة من أهل الكلام لم يقله أحد من السلف والأئمة وأكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية على خلاف ذلك

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55