درء تعارض العقل والنقل/11
السادس والتعليق عليه
قال الرازي: السادس: ( لو كانت الأدوار الماضية غير المتناهية كان وجود اليوم موقوفا على إنقضاء ما لا نهاية له والموقوف على المحال محال )
قال الأرموي: ولقائل أن يقول: انقضاء ما لا نهاية له محال وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه نزاع
قلت: هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي أما اللفظي فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم إنقطاعها وأنها لا أول لها فهل يعبر عن هذا بأن يقال: لا نهاية لها أو يقال: لا بداية لها ولا يقال لا نهاية لها؟ فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها والمعترض أنكر ذلك وهذا نزاع لفظي وذلك أنه يقال: هذا غير متناه بمعنى أنه ليس له حد محدود وقد يقال: ( غير متناه ) بمعنى أنه لا آخر له ويقال ( هذا له نهاية ) أي: له آخر و( هذا لا نهاية له ) أي: لا آخر له والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل فإنه يقال: ( لا نهاية لها ) بالمعنى الأول وأما بالمعنى الثاني: فقد انقضت وانصرمت ولها آخر
وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كـ أبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية وذكروا أنه اعتمد عليها يحيى النحوي وغيره من المتقدمين وظنوا أن ما لا يتناهى يمتنع أن يكون منقضيا منصرما فإن ما أنقضى وانصرم فقد تناهى فكيف يقال: إنه لا نهاية له؟ واشتبه عليهم لفظ ( النهاية ) لما فيه من الإجمال والاشتباه ) فإن الماضي له آخر انتهى إليه فهو متناه بهذا الاعتبار بلا نزاع وبهذا المعنى يقال: إنه انصرم وانقضى وفرغ ونفد وأما بالمعنى المتنازع فيه فهو أنه لا بداية له: أي لم تزل آحاده متعاقبة
وأما النزاع المعنوي فهو أنه: هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي مم جهة مبدئه أو لا؟ ولا ريب أن المستدل لم يذكر دليلا على امتناع انقضاء ذلك لكن أخذ لفظ ( ما لا يتناهى ) ولفظ ( ما لا يتناهى ) فيه إجمال فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره فإذا قيل: ( إن هذا ينقضي ) كان ذلك جمعا بين النقيضين وقد يعني به ما لا بداية له وهو ينازع في إمكان ذلك لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية وكأنه يقول: ما له نهاية فلا بد له من بداية ومنازعوه يقولون: هذا مسلم في الأشخاص فكل شخص ينتهي فلا بد له من مبدأ إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديما وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي وينازعونه في النوع ويقولون: يمكن أن يقال: إن الله لم يزل يفعل شيئا بعد شيء
وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي على إفساد هذه الحجة التي ذكرها ههنا على تناهي الحوادث بكلام لم يذكر عنه جوابا
قال الرازي: وإن كان الجسم في الأزل ساكنا كان ذلك ممتنعا ( لأن ) السكون وجودي وكل وجودي أزلي فإنه يمتنع زواله
والمنازع نازعه في كون السكون وجوديا ولم ينازعه في أن الوجود الأزلي يمتنع زواله وقد قرر ذلك الرازي بأن القديم إما واجب بذاته أو ممكن يكون مؤثرة بذاته سواء كان تأثيره بنفسه أو بشرط لازم له ولا يحتاج إلى هذا بل يقال: القديم إن كان واجبا بنفسه امتنع عدمه وإن لم يكن كذلك فالمقتضى له - سواء سمى موجبا أو مختارا - إما أن يتوقف اقتضاؤه له على شرط محدث أو لا والثاني ممتنع فإن القديم لا يتوقف على شرط محدث إذ لو توقف عليه لكان القديم مع المحدث أو بعده وإذا لم يتوقف على شرط محدث لزم ان يكون قد وجد المقتضى التام المستلزم له في الأزل وحينئذ فيجب دوامه بدوام المقتضى التام ثم كون القديم لا يكون مقتضية له اختيار: فيه كلام ونزاع ليس هذا موضعه والمقصود هنا: أن منازعه نازعه في كون السكون وجوديا
وقد احتج عليه الرازي بأن ( تبدل حركة الجسم الواحد بالسكون وبالعكس يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت فيكون الآخر وجوديا لأن الحركة هي: الحصول في حيز مسبوقا بالحصول في الآخر والسكون هو: الحصول في حيز مسبوقا بالحصول فيه فاختلافهما إنما هو بالمسبوقية بالغير وإنها وصف عرضي لا يمنع اتحاد الماهية فيلزم كونهما وجوديين )
قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف الضدين في تمام الماهية وكذا العدم والملكة وايضا المسبوقية وصف عرضي لما به الاشتراك والوصف العرضي لما به الاشتراك يكون ذاتيا للماهية المركبة منهما )
قلت: مضمون ذلك أن الرازي احتج بأن السكون من جنس الحركة وإنما يختلفان في كون أحدهما مسبوقا بالغير وهذا اختلاف في وصف عرضي لا يمنع التماثل في الحقيقة فمنعه الأرموي بمقدمتين بل أبطل الأولى بأن المتقابلين تقابل الضدين - كالسواد والبياض والحلاوة والمرارة ونحو ذلك - هما مختلفان في الحقيقة وكذا المتقابلان تقابل العدم والملكة - كالعمى والبصر والحياة والموت والعلم والجهل ونحو ذلك - والحركة مع السكون: إما من هذا وإما من هذا فكيف تجعل حقيقة أحدهما مماثلة لحقيقة الآخر وأنهما لا يختلفان إلا بوصف عرضي؟
وإيضاح هذا: أن الحركة ليست من جنس الحصول المشترك بينها وبين السكون فإن كون الشي في هذا الحيز وفي هذا الحيز معقول مع قطع النظر عن كونه متحركا فإنه إذا قدر أنه سكن في الحيز الثاني كان هذا الحصول من جنس ذلك الحصول وأما نفس حركته: فأمر زائد على مطلق الحصول المشترك ومنع الثانية وجعل سند منعه: أن قول القائل: ( المسبوقية وصف عرضي ) إن عنى أنها ليست ذاتية: فلا دليل على ذلك وإن عنى أنه عرضية لما اشتركا فيه: فالعرض لما به الاشتراك قد يكون ذاتيا للحقيقة المركبة من المشترك والمميز كالناطقية فإنها تعرض للحيوانية ليست ذاتية لها ثم أنها ذاتية للإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية
والرازي قد يمكنه أن يجيب عن هذا بأن كون هذا مسبوقا بهذا إنما هو أمر إضافي أي هو متأخر عنه مثل هذا لا يكون من الصفات الذاتية كالحركتين المتماثلتين الثانية مع الأولى فإنهما إذا كانت متماثلتين لم يجز أن يجعل كون إحداهما مسبوقة بالغير دون الاخرى من الصفات الذاتية المفرقة بينهما
ولقائل أن يقول: الحجة والاعتراض مبني على أن الصفات اللازمة للحقيقة تنقسم إلى ذاتي وعرضي كما يقوله من يقوله من أهل المنطق فإن تقسيم الصفات اللازمة للحقيقة إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة وما هو عرضي خارج عنها: قول لا يقوم عليه دليل بل الدليل يقوم على نقيضه ولهذا لما لم يكن في نفس الأمر بينهما فرق لم يحدد المفرقون بينهما حدا بفصل بينهما بل ما ذكروه من الضوابط منتقض كما هو مبسوط في موضعه وإذا كانت الصفتان متلازمتين في الوجود والعدم والثبوت والانتفاء لا توجد هذه إلا مع هذه وإذا انتفت هذه انتفت هذه: كان التفريق بجعل إحداهما مقومة والأخرى عرضية تحكما
ثم إذا قيل: الذات هي المركبة من الصفات الذاتية والصفات الذاتية ما لا تتصور الذات إلا بها لم تعرفه الذات إلا بالصفات الذاتية ولا الصفات الذاتية إلا بالذات
وأيضا فإن هذا مبني على أن وجود الشيء في الخارج زائد على حقيقته الموجودة في الخارج وهو أيضا قول باطل ضعيف
وأيضا فالذات الموجودة في الخارج القائمة بنفسها كهذا والإنسان: إن قيل: ( إنه مركب من عرضين ) لزم كون الجوهر مركبا من عرضين وإن يكونا سابقين له وهذا ممتنع في البديهة وإن قيل: ( إنه ركب من جوهرين كل منهما يحمل عليه كما يقال: هو حيوان ناطق ) لزم أن يكون فيه جوهران أحدهما: حيوان والآخر: ناطق وهذا مكابرة للحس والعقل إذ هو حيوان واحد موصوف بأنه ناطق
وإذا كان كذلك فكون الحصول الذي هو مسبوق بحصول آخر إذا كان ذلك لازما له كان من الصفات اللازمة وإذا افترق الشيئان في الصفات اللازمة لم يجب أن تكون حقيقة أحدهما مثل حقيقة الآخر فإن المتماثلين هما المشتركان فيما يجب ويجوز ويمتنع فإذا وجب لأحدهما ما لا يجب للآخر لم يكن مثله
وللأرموي أن يقول: قد تبين بطلان المقدمتين سواء كان بطريقة المنطقيين أو بطريقة سائر أهل النظر الذين أنكروا على المنطقيين ما ذكروه كما أنكر سائر طوائف أهل النظر من المسلمين وغيرهم عليهم كثيرا مما ذكروه في الحدود وغيرها كما هو معروف في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية وطوائف الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وليس المقصود هنا بسط ما يتعلق بهذا
قال الرازي: ( وإنما قلنا السكون لا يمتنع زواله لأن الخصم يسلم جواز حركة كل جسم ولأن المتحيز يجوز خروجه من حيزه لأنه إن كان بسيطا كانت طبائع جوانبه متساوية فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر وإن كان مركبا كان هذا لازما لبسائطه وخروجه عن حيزه هو الحركة
ولقائل أن يقول: هذا يقتضي إمكان كون نوع الجسم يقبل الحركة فإذا قدر أن السكون وجودي وله موجب مستلزم له كان امتناع الحركة لمعنى آخر يختص به الجسم المعين لم يوجد لغيره من الأجسام فلا يلزم إذا قدر أنه موجود أزلي أنه يمكن زاواله بل هذا جمع بين المتناقضين فما قدر موجودا أزليا لا يمكن زواله بحال ولا يمكن أن يجمع بين تقديرين متناقضين وقبول كل جسم للحركة لا يحتاج إلى هذا فإذا قيل: ( إن السكون عدم الحركة ) أمكن مع كون السكون أزليا من إثبات الحركة ما لا يمكن مع تقدير كونه وجوديا وذلك أنه حينئذ لا تتوقف الحركة إلا على وجود مقتضيها وانتفاء مانعها وليس هناك معنى وجودي أزلي يحتاج إلى زواله
وقد أورد بعضهم على استدلاله على أن السكون أمر وجودي اعتراضا بالغا فقال: هذا فيه نظر من جهة أن مقدمة الدليل مناقضة للمطلوب لأن المطلوب كونهما وجوديين ومقدمة الدليل أن أحدهما وجودي ولا يمكن تقريره إلا بما سبق وهو يقتضي أن يكون أحدهما عدميا فادعاء كونهما وجوديين بعد ذلك مناقض له
قلت: وهذا كلام جيد فإن الأمرين اللذين تبدل أحدهما بالأخر ورفعه: إن لزم أن يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا لزم أن تكون الحركة والسكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا وهو نقيض المطلوب وإن جاز أن يكونا جميعا وجوديين أو عدميين بطل الدليل - وهو قوله: لأن تبدل أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون أحدهما وجوديا لان المرفوع إن كان وجوديا وإلا فالرافع وجودي لأن رفع العدم ثبوت - فإنه على هذا التقدير يمكن رفع العدم بالعدم والوجود بالوجود
وإن قيل: بل يجب أن يكونا وجوديين أو يكون أحدهما وجوديا ولا يجوز أن يكونا عدميين لأن العدم لا يرتفع بالعدم كما يرتفع الوجود بالوجود والعدم بالوجود أو بالعكس
قيل: بل العدمان قد يتضادان كما قد يتلازمان فكما أن عدم الشرط مستلزم لعدم المشروط فعدم الأمور الواجب واحد منها ينافي عدمها كلها فإذا كان الجنس لا يوجد إلا بوجود نوع له فصل امتنع مع وجود الجنس عدم جميع الأنواع والفصول فكان عدم بعضها ينافي عدمها كلها وهذا كما يقال في التقسيم وهو الشرطي المنفصل: قد يكون مانعا من الجمع والخلو كقول القائل: العدد إما شفع وإما وتر وقد يكون مانعا من الجمع فقط كقول القائل: الجسم إما أسود وإما أبيض وقد يكون مانعا من الخلو فقط فما كان مانعا من الخلو فقط أو من الجمع: امتنع اجتماع العدمين فيه فكما أن الشفعية تنافي الوترية في العدد فعدم الشفعية ينافي عدم الوترية لا ثبوتها فلا يحصل العدمان معا بل إذا ثبت أحد العدمين لم يثبت العدم الآخر فيكون الدعم رافعا للعدم
وأيضا فمطلوب المستدل: أن تكون الحركة والسكون وجوديين فإذا قال: ( تبدل الحركة بالسكون يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت ) كان إثبات كونهما وجوديين موقوفا على تقدير كون أحدهما عدميا لأنه قال ( لأن رفع العدم ثبوت ) فإن لم يكن أحدهما عدميا لم يصح هذا وإذا كان المرفوع عدميا امتنع أن يكونا وجوديين والمطلوب كونهما وجوديين فصار المطلوب مناقضا لمقدمة الدليل كما ذكره المعترض
لكنه قال: فالأولى أن يقال في تقريره: إن الحركة وجودية إجماعا ولأنه مبصر فوجب أن يكون السكون أيضا وجوديا بالتقرير الذي سبق
ثم ذكر اعتراض الأرموي فقال: وأورد بينهما إما تقابل التضاد أو العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف ماهية المتضادين والمتقابلين
قال: وأجيب بان التضاد بين الشيئين إذا كان عارضا لهما كما بين الأسود والأبيض لم يلزم ذلك وما نحن فيه كذلك فإن التضاد عارض لهما بسبب المسبوقية بالغير وهي عدمية فلم يجز أن تكون جزءا ولأنه ليس جعل السكون عبارة عن دعم الحركة أولى من العكس فإما أن يكونا عدميين وهو باطل وفاقا وفتعين أن يكونا وجوديين
ولقائل أن يقول: التضاد بين الحركة والسكون من جنس التضاد بين الحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض والعمى والبصر والحلاوة والحموضة ونحو ذلك من الصفات الثبوتية أو التي بعضها ثبوتي وبعضها عدمي ليس هو من جنس تضاد القائمين بأنفسهما كالأسود والأبيض فإن التضاد إنما يكون في المعتقبين اللذين يعتقبان على محل واحد كما قال متكلمة أهل الإثبات: الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما في محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة فما لم يكن المعنيان قائمين بمحل واحد فلا تضاد والحركة والسكون يعتقبان على المحل الواحد إما تعاقب اللونين والطعمين وإما تعاقب العلم والبصر والسمع وعدم ذلك فكيف يكون أحدها مثل الآخر لا يفارقه إلا بصفة عرضية؟ وفي الجملة: فالحركة والسكون هما إن كانا وجوديين فهما عرضان وإن كان أحدهما وجوديا فأحدهما عرض والآخر عدم العرض وعلى التقديرين: فليسا قائمين بأنفسهما فلا يجوز تشبيهما بالأجسام كالأسود والأبيض والطويل والقصير والعالم والجاهل بل يجب تشبيههما بالاعراض وعدم كالسواد والبياض والعلم وعدم العلم ونحو ذلك
فقول الأرموي: ( إن الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة وعلى التقديرين: يجب اختلاف ماهيتها لا تماثلهما ) كلام صحيح وقول المعارض له: إن الاختلاف إذا كان لعارض كما بين الأسود والأبيض: لم يجب اختلاف الماهيتين فإن ماهية الأسود من جنس ماهية الأبيض: كلام باطل لأن الأسود والأبيض من باب الأجسام القائمة بأنفسهما لا من باب الصفات والأعراض
وأيضا فالأسود والأبيض لا يتقابلان تقابل الضدين ولا تقابل العدم والملكة فليس من هذا الباب اللهم إلا إذا مريد بذلك: أن الحيز الذي فيه الأسود لا يكون فيه الأبيض وحينئذ فيكون تضاد الأبيض والأسود كتضاد الأسودين والأبيضين
وأيضا فيقال: اختلاف الأسود والأبيض يراد به اختلاف عينهما مع قطع النظر عن السواد والبياض أوبشرط السواد والبياض فإن أريد الأول فلا اختلاف بين ذاتيهما مع قطع النظر عن اللونين فإن الجسم الذي هو الأسود قد يكون نفس الجسم الذي هو الأبيض وإن أريد بالاختلاف اختلافهما بشرط اللون المختلف فحينئذ يكون اختلافهما كاختلاف السواد والبياض فإن الشيء المشروط بالسواد مخالف للشيء المشروط بالبياض ولا يجوز أن يقال: إن الذاتين متماثلين إلا مع التجريد عن الاختلاف وإلا فإذا أخذت الذاتين مشروطتين بالاختلاف لم يكونا متماثلتين التماثل الذي لا يشترط فيه الاختلاف كيف والتماثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر؟ والشيء في حال سواده لا يجوز أن يكون أبيض وهو في حال بياضه لا يكون أسود؟ فلا يكون الأسود حال كونه مشروطا بالسواد يجوز عليه ما يجوز على الأبيض حال كونه مشروطا بالبياض
وقول القائل: ( إن الإختلاف بين الحركة والسكون عارض بسبب المسبوقية بالغير ) ليس بمسلم له فإنه يعقل التضاد بينهما مع عدم خطور المسبوقية بالبال كما يعقل التضاد بين العلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض
وقول القائل: ( ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة بأولى من العكس ) دعوى مجردة فلا نسلم انتفاء هذه الأولوية بل هذه الدعوى بمنزلة قول القائل: ليس جعل العمى عدم البصر بأولى من العكس وليس جعل الصمم عدم السمع بأولى من العكس وليس جعل الجهل البسيط عدم العلم بأولى من العكس وليس جعل المتقابلين عدما والآخر وجودا بأولى من العكس
ومعلوم أن كل هذه دعاى مجردة بل باطلة فإنا نعلم بالحس أن الحركة أمر وجودي كما نعلم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر أمر وجودي وأما كون ما يقابل ذلك هو ضد ما ينافيها أو عدمها من محلها فهذا فيه نظر ولهذا تنازع العقلاء في هذا دون الأول وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظيا فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزما لأمر وجودي مثل الحياة مثلا فإن عدم حياة البدن مثلا مستلزما لأعراض وجودية
والناس تنازعوا في الموت: هل هو عدمي أو وجودي؟ ومن قال: ( إنه وجودي ) احتج بقوله تعالى: { خلق الموت والحياة } ( الملك: 2 ) فأخبر أنه خلق الموت كما خلق الحياة ومنازعه يقول: العدم الطارىء يخلق كما يخلق الوجود أو يقول: الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة وحينئذ فالنزاع لفظي
وكذلك تنازعوا في الظلمة: هل هي وجودية أو عدمية وهي عدم النور عما من شأنه قبوله ومن قال: ( إنها وجودية ) يحتج بقوله تعالى: { وجعل الظلمات والنور } ( الأنعام: 1 ) والآخر يقول: كل ما يتجدد ويحدث من الأمور الوجودية والعدمية فالله سبحانه جاعله أو يقول: عدم النور مستلزم لأمور وجودية هي الظلمة المجعولة وكون السكون وجوديا أبعد من كون الموت والظلمة ونحو ذلك وجوديا والسكون قد يراد به قوة في الجسم تمنع حركته كالطبيعة التي في الحجر التي توجب استقراره في الأرض وهذا أمر وجودي لكن من قال ( إن السكون عدمي ) لم يجعل تلك الطبيعة هي السكون بل قد يسمون ذلك اعتمادا ويفرقون بين السكون والاعتماد لكن قد يقال له: فالجسم إذا كان ساكنا فإما أن يكون السكون وجوديا أو مستلزما لأمر وجودي وحينئذ فالمقتضى لذلك الأمر الوجودي: إما موجب بنفسه ويساق الدليل إلى آخره لكن من قال: ( إن الجسم الأول كان ساكنا في الأزل ثم تحرك ) يقول في هذا ما يقوله القائلون بحدوث الأجسام فإنهم إذا قالوا: ( حدثت هي وحركتها من غير سبب يقتضي حدوثها ) قال لهم هذا المنازع: بل كان ما قدر قديما من الأجسام ساكنا ثم حدثت حركته من غير سبب يقتضي حركتها وهذا يقوله من يقول: إن الأول جسم وإنه يتجدد له الفعل بعد أن لم يكن له فاعلا ويقول: الكلام في حدوث الفعل القائم به كالكلام في حدوث المفعول المنفصل عنه
وذلك أن أهل الكلام والنظر من أهل القبلة وغيرهم تنازعوا في ثبوت جسم قديم :
فطائفة قالت: بامتناع جسم قديم وحدوث كل جسم وتنازعوا في المحدث للجسم هل أحدث بعد أن لم يكن محدثا بدون سبب حادث أصلا أم لا بد من سبب حادث؟ وهل تقوم به أمور حادثة كإرادة حادثة وتصور حادث بل وفعل حادث؟ على قولين لهم
وطائفة قالت بثبوت جسم قديم: ثم هؤلاء منهم من قال: لم يزل فاعلا متحركا ومنهم من قال: بل تجدد له الفعل والحركة فإذا احتج الأولون على هؤلاء بأن الجسم لو كان أزليا لم يخل من الحركة والسكون والحركة لا تكون أزلية لامتناع دوام الحوادث وتسلسلها والسكون لايكون أزليا لأنه وجودي فلو كان أزليا لامتنع زواله لأن الوجودي الأزلي يمتنع زواله لأن المقتضي له إما موجب بنفسه أو لازم للموجب بنفسه ثم نقول: والسكون يجوز زواله فلا يكون أزليا
أجابوهم عن جواز الحوادث بأجبوتهم المعروفة كما تقدم التنبيه على ذلك وأجابوهم على السكون الأزلي بأن قالوا: ما ذكرتموه يناقض ما ذكرتموه في حدوث الأجسام وذلك أنكم إذا قلتم بحدوثها فلا يخلو: إما أن تقولون بجواز تسلسل الحوادث وإما أن لا تقولوا بجواز ذلك
فإن قلتم بجواز تسلسل الحوادث وأن الأجسام حدثت بشرط حوادث متعاقبة كما قال ذلك من قاله من القائلين بحدوث الأجسام كالأرموي والأبهري وغيرهما قالوا لهم: فإذا جوزتم تسلسل الحوادث بطل دليلكم على امتناع التسلسل في الآثار وأمكن حينئذ أن يكون الجسم القديم لم يزل متحركا فبطل دليلكم على حدوث الجسم
وإن قلتم لا يجوز تسلسل الحوادث والآثار وقلتم بحدوث الأجسام من غير سبب حادث - لزم أن لا يكون حدوث الحادثات متوقفا على سبب حادث بل كان الفاعل المختار يحدث ما يحدث من غير سبب حادث أصلا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن وافقهم
وحيئنذ فيقول لهم منازعوهم من الهشامية والكرامية وغيرهم: فيجوز حينئذ أن يكون الجسم القديم الازلي تحرك بعد أن كان ساكنا من غير سبب أوجب ذلك بل بمحض المشيئة والقدرة لأن القادر المختار يمكنه ترجيح احد طرفي الممكن بلا مرجح: يرجح السكون تارة والحركة أخرى
فإن قالوا هم: نحن نقول: ( يفعل بعد أن لم يكن فاعلا فإذا قلتم السكون أمر وجودي جعلتموه فاعلا في الأزل لأمر وجودي والفعل في الأزل محال )
قالوا لهم: نحن ليس لنا غرض في أن نجعل السكون أمرا وجوديا ولا أن نجعله فاعلا في الأزل لأمر وجودي بل اتفقنا نحن وأنتم على أنه يفعل ما لم يكن فاعلا له من غير سبب حادث لكن نزاعنا في الفعل: هل يقوم به؟ وفي الفاعل: هل هو جسم؟ فإذا طالبتمونا بسبب فعله للحركة بعد السكون قلنا لكم: هذا بمنزلة فعله لكل محدث بعد أن لم يكن فاعلا والفرق إنما يعود إلى محل الفعل لا إلا سببه ومقتضيه وتلك مسألة أخرى قد تكلم عليها في غير هذا الموضع وإلا فمن جهة المطالبة بسبب الفعل الحادث لا فرق بيننا وبينكم بل قولنا أقرب إلى المعقول من قولكم فإن أحداث الأمور المنفصلة بدون حدوث فعل يقوم بالفاعل أمر غير معقول بخلاف العكس
فإذا قالوا لهم: السكون أمر وجودي فإذا كان أزليا كان له موجب قديم فيمتنع زواله
قالوا لهم: حدوث ما يحدث إما أن يقف على سبب حادث وإما أن لا يقف فإن وقف على أمر حادث بطل قولكم بحدوث الأجسام وإن لم يقف فقد يقال: فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا وحدوث حادث يزيل أمرا عدميا فإن لم يقف بطل قولكم بحدوث الاجسام وإن وقف فلا فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا أو حدوث حادث لايزيل أمرا وجوديا وذلك أنه إن جوز على الفاعل أن يحدث ما يحدث من غير تجدد أمر فقد تغير الأمر الذي لم يزل بلا سبب اقتضى التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وحيئنذ فيجوز أن يتغير السكون الذي لم يزل بدون سبب يقتضي التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وإذا كان الفاعل القادر المختار قادر على أن يحدث ما يحدث ويجعل المعدوم موجودا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح كان قادرا على أن يجعل الساكن متحركا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا إحداث الاجسام التي تكون ساكنة ومتحركة أعظم من إحداث نفس حركاتها فإذا أمكنه إحداثها بدون سبب حادث فإحداث حركاتها أمكن وأمكن
ويقال لهم: لو خلق الباري تعالى جسما ساكنا ثم أراد تحريكه بدون سبب حادث: أكان ذلك ممكنا أو ممتنعا؟
فإن قلتم: ( يمتنع ذلك ) بطل مذهبكم ودليلكم وإن قلتم: ( يمكن ذلك ) قيل لكم: فالقول في زوال ذلك السكون كالقول في زوال غيره فإنه يقال: السكون أمر وجودي وذلك السكون الوجودي لا بد له من سبب وحيئنذ فتجيء مسألة زوال الضد: هل هو بإحداث ضد آخر أو بإحداث عدمه أو بخلق فناء أو نفس الاعراض لا تبقى؟ فيقال في هذا ما يقال في ذلك
ومن قال: ( السكون الوجودي لا يبقى زمانين بل ينقضي شيئا فشيئا ) قيل له: فكذلك إذا قدر السكون قديما فإنه لا يبقى زمانين بل يحدث شيئا فشيئا وحينئذ فكل جزء من أجزاء السكون ليس هو قديما بنفسه كما قلتم في كل جزء من أجزاء الحركة: ليس هو قديما بنفسه
فإذا كان القائلون بأن السكون أمر وجودي يقولون: إنه يتجدد شيئا فشيئا كما يقولون مثل ذلك في الحركة
قيل لهم: فيكون دليلكم على امتناع كون الازلي ساكنا من جنس دليلكم على امتناع كونه متحركا وهو تناهي الحوادث وقد تقدم الكلام فيه
فإذا قالوا: ( السكون أمر وجودي فإذا كان قديما امتنع زواله لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه لأن القديم إما أن يكون واجبا بنفسه أو من لوازم الواجب بنفسه )
قيل لهم: هذا مثل أن يقال: عدم الفعل هو تركه وترك الفعل أمر وجودي فإذا كان قديما امتنع عدمه لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه
فإذا قالوا: ( عدم الفعل ليس هو تركا وجوديا ) أمكن أن يقال: عدم الحركة ليس هو سكونا وجوديا
وقد ضعف الآمدي وغيره هذه الحجة: حجة الحركة والسكون وهي فاسدة على أصول من يقول بان الأعراض لا تبقى زمانين من هذه الجهة وهي في الأصل من حجج المعتزلة الذين يقولون بجواز بقاء الأعراض لكن من ينازعهم من الهشامية والكرامية وغيرهم: ممن يقول بإثبات جسم قديم وأنه قام به من الفعل ما لم يكن قائما - سواء سموا ذلك حركة كما يقر بعضهم بذلك أو لم يسموه حركة كما يمتنع بعضهم من ذلك - فإن المقصود المعاني العقلية لا الإطلاقات اللفظية
فإذا قال من قال من معتزلة البصرة: ( إن إفناء الاجسام بإحداث فناء لا في محل كما إن إحداثها بحدوث إرادة لا في محل ) والتزموا حدوث عرض لا محل له وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وأن من الحوادث ما يحدث بدون إرادة وقالوا: لا يزوال الضد إلا بحدوث ضده
قال لهم هؤلاء: فكذلك إذا قدرنا جسما قديما متحرك بعد أن كان ساكنا كان زوال ذلك السكون بحدوث ضده من الحركة وحدوث ذلك بما به يحدث المنفصل ومن قال: ( العرض يعدم بإحداث إعدام ) كما هو أحد القولين لمتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية والكرامية وغيرهم قالوا: ذلك السكون يعدم بإحداث إعدام والقول في سبب حدوث الإعدام كالقول في حدوث سبب الإحداث
وإن قالوا: ( إن السكون ينقضي شيئا فشيئا كما تنقضي الحركة شيئا فشيئا ) كما قالوا مثل ذلك في سائر الأعراض - كما هو أحد قولي أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم - قالوا لهم: فالسكون إذن كالحركة فكما أن الحركة متعاقبة الأجزاء فكذلك السكون
ولا ريب أن هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوما لا محيد عنه وإنما التبس مثل هذا لأن الواحد من هؤلاء يبنى على المقدمة الصحيحة في موضع ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر فيظهر من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها لكن قد يكون ما أثبتوه في أحد الموضعين صحيحا متفقا عليه فلا ينازعوهم الناس فيه ولا في مقدماته وقد تكون المقدمات فيها ضعف لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها وإنما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع
والمسلمون متفقون على أن الله سبحانه وتعالى وصفاته اللازمة لذاته لايجوز عليها العدم وقد اشتهر في اصطلاح المتكلمين تسميته بالقديم بل غالب المعتزلة ومن سلك سبيلهم غالب ما يسمونه بالقديم وإن كان من المعتزة وغيرهم من لايسميه بالقديم وإن سماه بالأزلي وأكثرهم يجعلون القدم أخص وصفه كما أن الفلاسفة المتأخرين الإلهيين غالب ما يسمونه به ( واجب الوجود ) والمتقدمون منهم غالب ما يسمونه به ( العلة الأولى ) و( المبدأ الأول )
فإذا قرر المقرر أن ما وجب قدمه امتنع عدمه كان من المعلوم أن الرب القديم الواجب الوجود يمتنع عدمه تعالى وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره حتى يقال: إنه يمتنع عدمه والمتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك يقولون: إنه يمتنع عدمها فهذه المقدمة وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يصلح أن يستدل بها من قال بما يناقضها أو بما يستلزم ما يناقضها فإن نفس ما يستدل به عليها إذا ناقض قوله أمكن معارضه أن يبطل حجته بالاعتراض المركب لاسيما إذا اقتضى فساد قوله على التقديرين
فمن كان من أصل قوله إن الفاعل المختار له أن يرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح أصلا بمجرد كونه قادرا أو بمجرد إرادته القديمة وقدر مع ذلك جسم قديم قادر مختار يقبل الحركة والسكون كان تحركه بعد سكونه الدائم بمنزلة تحريكه لغيره فإن أمكن تحركيه لغيره بمجرد كونه قادرا أو بمجرد إرادته أمكن ذلك في هذا الموضع ولا يمتنع من ذلك إلا أن يقوم دليل على أن الجسم يمتنع قدمه أو أن القديم يمتنع كونه يتحرك لكن هؤلاء إذا لم يثبتوا حدوث الجسم أو امتناع تحريك القديم إلا بهذا الدليل لم يمكنهم أن يجعلوا من مقدمات الدليل حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم بل إذا كان حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم موقوفا على هذا الدليل كانوا قد صادروا على المطلوب وجعلوا المطلوب حجة في إثبات نفسه لكن غيروا العبارات وداروا الدورات وهم من موضعهم لم يتغيروا فلهذا كان من وافقهم وفهم كلامهم حائرا لم يفده علما ومن لم يفهمه ووافقهم كان جاهلا مقلدا لأقوام جهال ضلال يظهرون أنهم من أعلم الناس بأصول الدين والكلام والعقليات
ثم إن الرازي ذكر من جهة المنازعين بأن هذه الوجوه الستة في امتناع كون الجسم أزليا متحركا - التي تقدمت وتقدم اعتراض الأرموي عليها - معارضة: ( بأن امتناع الحركة في الأزل إن كان لذاتها وجب أن لا توجد أصلا وإن كان لغيرها فذلك المانع إن كان واجبا لذاته فكذلك وإن كان واجبا لغيره عاد الكلام فيه وتسلسل أو ينتهي إلى واجب الوجود لذاته ولزم امتناع زوال المانع
فإن قلت: المانع هو مسمى الأزل لأنه ينافي المسبوقية بالغير التي تقتضيها الحركة وإنه زائل فيما لايزال
قلت: الترديد المذكور عائد في مسمى الأزل أنه: هل هو واجب لذاته أو لغيره؟ )
وأجاب الرازي عن هذه المعارضة فقال: ( قوله: صحة الحركة أزلية قلنا: إنه لايلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية ) قلت: ولقائل أن يقول: ما تعني بقولك: صحة الحركة أزلية أتعني به: أنه يصح وجود الحركة في الأزل؟ أم تعني به أنه في الأزل يصح الحكم عليها بالصحة فيما لا يزال؟ أما الأول: فهو تسليم للمطلوب وأما الثاني: فهو حكم علمي لا كلام فيه كالأحكام العقلية الذهنية فينا فإنه يصح في الأزل الحكم بالامتناع على الممتنعات كما يصح الحكم بالجواز على الجائزات ثم يقال: الحركة في الأزل إما ممتنعة الإمكان العام الذي يدخل فيه الواجب وإما ممكنة فإن كانت ممتنعة فهو باطل كما تقدم وإن كانت ممكنة كان الدليل على امتناعها باطلا فبطلت الوجوه الدالة على امتناع الحركة في الأزل
ولم يرض أبو الحسن الآمدي هذا الجواب الذي ذكره الرازي بل ذكر جوابا آخر فقال: ( وجوابه أن يقال: لا يلزم من امتناع الوجود الأزلي على الحركة لذاتها امتناع الوجود الذي ليس بأزلي فإذا ما هو ممتنع غير زائل وهو الوجود الأزلي وما هو الجائز لم يكن ممتنعا )
قلت: ولقائل أن يقول: هذا يستلزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب يوجب هذا الانقلاب بما لا ينضبط لا في الوجود ولا في العقل فإن الإمكان الذاتي ثابت بالضرورة والاتفاق وما من وقت يقدر فيه الإمكان إلا والإمكان ثابت قبله لا إلى غاية فليس للإمكان ابتداء محدود
يبين ذلك: أنه قد يقال: صحة الحركة إو إمكان الحركة أو جواز الحركة وصحة الفعل أو جواز أو إمكان الفعل إما أن يكون به ابتداء وإما أن لا يكون فإن لم يكن له ابتداء لزم أنها لم تزل جائزة ممكنة فلا تكون ممتنعة فتكون جائزة في الأزل وإن كان لجوازها ابتداء فمعلوم أنه ما من وقت يقدره الذهن إلا والجواز ثابت قبله فكل ما يقدر فيه الجواز فالجواز ثابت قبله لا إلى غاية فعلم أنه ليس للجواز بداية فيكون جواز ثبوت الحركات دائما لا ابتداء له ويلزم من ثبوت الجواز عدم الامتناع
وإذا قال القائل: إن مسمى الحركة ممتنع في الأزل قيل: معنى هذا الكلام أن مسمى الحركة يمتنع أن يكون قبله حركة أخرى لا إلى أول وزوال الأزل ليس موقوفا على تجدد أمر من الأمور فإن المتجدد هو من الحوادث فتكون الحركة ممتنعة ثم صارت ممكنة من غير تجدد أمر من الأمور
فإن قيل: المتجدد هو عدم الأزل أو انقضاء الأزل أو نحو ذلك
قيل: عدم الأزل ليس شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد إذ معنى الأزل في الماضي كمعنى الأبد في المستقبل فما ليس بأزلي فهو متجدد حادث فإذا قيل ( يشترط في جواز المتجدد الحادث تجدد المتجدد الحادث ) كان المعنى أنه يشترط في إمكان الشيء ثبوته ومن المعلوم أن ثبوته كاف في إمكانه
يوضح هذا: أن القائل إذا قال: كل ما يسمى متجددا حادثا إما أن يكون ممكنا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان ممكنا بطل القول بامتناعه في الأزل وإن كان ممتنعا ثم صار ممكنا لزم انقلاب الشيء من كونه ممكنا إلى كونه ممتنعا من غير تجدد شيء أصلا وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب ممتنعا لاستلزامه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح فالقول بتجدد الإمكان والجواز أو حدوث الإمكان والجواز بلا سبب حادث أولى بالامتناع إذا كانت الحقيقة المحكوم عليها بالجواز والإمتناع هي هي بالنسبة إلى كل ما يقدر في كل وقت وقت وإذا كانت نسبة الحقيقة إلى كل ما يقدر من الأوقات كنسبتها إلى الوقت الآخر امتنع اختصاص أحد الوقتين بجواز الحقيقة فيه دون الوقت الآخر وإذا امتنع الاختصاص إلا بمخصص ولا مخصص لزم: إما الامتناع في جميع الأوقات وهو باطل بالحس والإجماع فلزم الإمكان والجواز في جميع الأوقات وهو المطلوب
وعلى هذا التقدير: فيمكن أن ينظم ما ذكروه من المعارضة بعبارة لا يرد عليها ما ذكر بأن يقال: إن قيل إن الحركة لم تزل ممكنة ثبت المطلوب وإن قيل إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة فالامتناع إما لذاتها وإما لموجب واجب بذاته وعلى التقديرين فيلزم دوام الامتناع وإن كان لا لذاتها ولا لموجب بذاته فلا بد أن يكون الامتناع لأمر واجب بغيره وحيئنذ فالكلام في ذلك المانع في غيره ويلزم التسلسل ثم يقال: تسلسل الموانع إن كان ممكنا ثبت جواز التسلسل وأمكن القول بتسلسل الحوادث وإن كان تسلسل الموانع ممتنعا بطل كون الامتناع متسلسلا وقد بطل كونه واجبا بنفسه أو بغيره فلا يكون الامتناع ثابتا في الأزل فيثبت نقيضه وهو الإمكان
وإيضاح ذلك بعبارة أخرى أن يقال: مسمى الحركة إما أن يكون ممتنعا في الأزل وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممتنعا في الأزل ثبت إمكانه فيكون مسمى الحركة ممكنا في الأزل وإن كان ممتنعا في الأزل فامتناع إما لنفسه وإما لموجب واجب بنفسه أو لازم للواجب وحينئذ فلا يزول الامتناع وإن كان لمعنى متسلسل لزم جواز التسلسل وهو يستلزم بطلان الأصل الذي بنى عليه امتناع تسلسل الحوادث
وسر هذا الدليل: أن الأزل ليس هو شيئا معينا محدودا ولكن ما من وقت يقدر إلا وقبله شيء آخر وهلم جرا وهذا هو التسلسل فيلزم من تحقق الأزل التسلسل
لكن قد يقال: تسلسل العدميات ليس كتسلسل الوجوديات بل تسلسل العدميات ممكن بخلاف تسلسل الوجوديات ويكون حدوث حدوث الحوادث موقوفا علىتسلسل العدميات فيقال: إن لم يكن تسلسل العدميات أمرا محققا فلا حقيقة له فيكون إمكان حدوث الحوادث موقوفا على ما لا حقيقة له وهذا باطل وإن كان تسلسلها أمرا محققا فقد ثبت أن تسلسل الأمور المحققة جائز وأنه أزلي مع أن كل واحد من تلك التسلسلات ليس بأزلي وهذا ينقض ما ذكروه في امتناع تسلسل الحوادث فهم بين أمرين: إما أن يقولون بالترجيح بلا مرجح وإما أن يقولون بجواز التسلسل وهذا بعينها هو الذي يلزمهم في قولهم: إنه لا بد للحوادث من ابتداء فكما أنهم في هذا يلزمهم إما الترجيح بلا مرجح وإما التسلسل فكذلك في قولهم ( إنه لا بد لإمكانها من ابتداء ) يلزمهم إما هذا وإما هذا والقول بالترجيح بلا مرجح تام ممتنع وهم متفقون على أن الترجيح بلا فاعل مرجح ممتنع لكن لا يشترطون تمام ما به يكون مرجحا بل يقولون: يحصل الترجيح التام من غير حصول الرجحان ويحصل الرجحان بدون المرجح التام بناء على أن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح إذ أن الإرادة القديمة ترجح أحد المثلين بلا مرجح والقول بجواز التسلسل يبطل القول بامتناع التسلسل فثبت بطلان قولهم على التقديرين
حدوث العالم والأجسام
قال الرازي: ( البرهان الثاني: كل جسم متناهي القدر وكل متناهي القدر محدث ) وقرر الثانية بأن ( متناهي القدر يجوز كونه أزيد وأنقص فاختصاصه له دونهما لمرجح مختار وإلا فقد ترجح الممكن لا عن المرجح وفعل المختار محدث )
معارضة الأرموي
قال الأرموي: ( ولقائل أن يمنع لزوم الترجيح لا لمرجح )
تعليق ابن تيمية
قلت: مضمونه أنه يقول: لانسلم أنه لم يكن المرجح للقدر مختارا لزم الترجيح بلا مرجح بل قد يكون أمرا مستلزما للقدر فإن المرحج أعم من أن يكون مختارا أو غير مختار فإذا قدر المرجح أمرا مستلزما لذلك القدر إما أمر قائم به أو أمر منفصل عنه حصل المرجح للقدر وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذا إذا ذكرنا اعتراضات الآمدي على هذا
البرهان الثالث للرازي
قال الرازي: ( البرهان الثالث: لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك والأزلي يمتنع زواله لما تقدم فامتنعت الحركة عليه وقد ثبت جوازها )
معارضة الأرموي له
قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: معنى الأزلي الدائم لا إلى أول فيكون معنى قولنا: لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين أنه لو كان الجسم دائما لا إلى أول لكان حصوله في حيز واحد معين دائما وهو معنى السكون وهذا ممنوع بل دائما يكون حصوله في موضع معين إما عينا وإما على البدل: أي يكون في كل وقت في حيز معين غير الذي كان حاصلا فيه قبله ) انتهى
تعليق ابن تيمية
قلت: مضمون هذا الاعتراض: أن المشار إليه بأنه هنا أو هناك لا يستلزم حيزا معينا يمتنع انتقاله عنه غاية ما يقال: إنه لا بد من حيز أما كونه واحدا بعينه في جميع الأوقات فلا وإذا استلزم نوع الحيز لا عينه أمكن كونه تارة في هذا وتارة في هذا
يوضح هذا: أن هذا الحكم لازم للجسم سواء قدر أزليا أو محدثا فإن الجسم المحدث لا بد له من حيز أيضا مع إمكان انتقاله عنه
فإن قال: لا بد للجسم من حيز معين يكون فيه إذ المطلق لا وجود به في الخارج فإذا كان أزليا امتنع زواله بخلاف المحدث
قيل: ليس الحيز أمرا وجوديا بل هو تقدير المكان ولو قدر وجودي فكونه فيه نسبة وإضافة ليس أمرا وجوديا أزليا
وأيضا فيقال: مضمون هذا الكلام: لو كان أزليا لزم أن يكون ساكنا لا يتحرك عن حيزه لأن الموجود الأزلي لا يزول
فيقال: إن لم يكن السكون وجوديا بطل الدليل وإن كان وجوديا فأنت لم تقم دليلا على إمكان زوال السكون الوجودي الأزلي وإنما أقمت الحجة على أن جنس الجسم يقبل الحركة ومعلوم أنه إذا كان كل جسم يقبل الحركة وغيرها من الصفات كالطعم واللون والقدرة والعلم وغير ذلك ثم قدر أن في هذه الصفات الوجودية ما هو أزلي قديم لوجوب قدم ما يوجبه لم يلزم إمكان زوال هذه الصفة التي وجب قدم ما يوجبها فإن ما وجب قدم موجبه وجب قدمه وامتنع حدوثه ضرورة
فإن قيل: نحن نشاهد حركة الفلك فامتنع أن يقال: لم يزل ساكنا
قيل: أولا: ليس الكلام في حدوث الفلك بعينه بل في حدوث كل جسم فإذا قدر جسم أزلي ساكن غير الفلك لم يكن فيما ذكره ولا في حركة الفلك دليل على حدوثه لا سيما عند من يقول القديم الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا كما يقوله كثير من النظار من الهشامية والكرامة وغيرهم
وقيل: ثانيا: الفلك - وإن كان متحركا - فحيزه واحد لم يخرج عن ذلك الحيز وحركته وضعية ليست حركة مكانية تتضمن نقله من حيز إلى حيز وحينئذ فقوله ( وقد ثبت جواز الحركة ) إن أراد به الحركة المكانية كان ممنوعا وإن أراد غيرها كالحركة الوضعية لم يلزم من ذلك جواز انتقاله من هذا الحيز إلى غيره
وقد سبق الآمدي إلى هذا الاعتراض فإنه قال في الأعتراض على المقدمة الأولى: ( الأزل ليس هو عبارة عن زمان مخصوص ووقت مقدر حتى يقال بحصول الجسم في الحيز فيه بل الأزل لا معنى له غير كون الشيء لا أول له والأزل على هذا يكون صادقا على ذلك الشيء في كل وقت يفرض كون ذلك الشيء فيه فقول القائل: ( الجسم في الأزل موصوف بكذا ) أي في حالة كونه متصفا بالأزلية وما من وقت يفرض ذلك الجسم فيه إلا وهو موصوف بالأزلية وأي وقت قدر حصول ذلك الجسم فيه وهو في حيز معين لم يلزم أن يكون حصوله في ذلك الحيز المعين أزليا لأن نسبة حصوله في ذلك الحيز المعين كنسبة حصولة في ذلك الوقت المعين وما لزم من كون الجسم الازلي لا يخلو عن وقت معين أن يكون كونه في الوقت المعين أزليا فكذلك الحصول في الحيز المعين ) قال: ( وفيه دقة مع ظهوره )
قلت: ويوضح فساد هذه الحجة أن قوله: ( كل جسم يجب اختصاصه بحيز معين لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك ) يجاب عنه بأن يقال: أتريد به أنه يجب اختصاصه بحيز معين مطلقا أو يجب اختصاصه بحيز معين حين الإشارة إليه؟ أما الأول فباطل فليس كل مشار إليه إشارة حسية يجب اختصاصه دائما بحيز معين فإنه ما من جسم إلا وهو يقبل الإشارة الحسية مع العلم بأنا نشاهد كثيرا من الأجسام تتحول عن أحيازها وأمكنتها
فإن قال: ( بل يجب أن يكون حين الإشارة إليه له حيز معين ) فهذا حق لكن الإشارة إليه ممكنة في كل وقت فالاختصاص بمعين يجب أن يكون في كل وقت أما كونه في كل الأوقات لا يكون إلا في ذلك المعين لا في غيره فلا والأزلي: هو الذي لم يزل فليس بعض الأوقات أخص به من بعض حتى يقال: يكون في ذلك الوقت المعين في حيز معين بل يجوز أن يكون في وقت في هذا الحيز وفي وقت آخر في حيز آخر وتمام ذلك ما تقدم ذكره من أن الأزل ليس شيئا معينا حتى يطلب له حيز معين بل هو عبارة عن عدم الأول
البرهان الرابع
ثم ذكر الرازي البرهان الرابع والخامس وليس متعلقين بهذا المكان ومضمون الرابع: أن ( كل ماسوى الواحد ممكن بذاته وكل ممكن بذاته فهو مفتقر إلى المؤثر والمؤثر لا يؤثر إلا في الحادث لا في الباقي سواء كان تأثيره فيه في حال حدوثها أو حال عدمه لأن التأثير في الباقي من باب تحصيل الحاصل )
( والمقدمة الأولى من هذه الحجة مبنية على وتوحيد الفلاسفة وهو نفي التركيب وأن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره وهو في غاية الضعف كما بسط في غير موضع
والثانية مبنية على أن علة الافتقار هي الحدوث لا الإمكان )
تعليق ابن تيمية
قلت: إنه إن أريد بذلك الحدوث مثلا دليل على أن المحدث يحتاج إلى محدث أو أن الحدوث شرط في افتقار المفعول إلى الفاعل فهذا صحيح وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقرا إلى الفاعل فهذا باطل وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على الافتقار إلى المؤثر أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقرا فهذا باطل وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر وشرطا في الافتقار إلى المؤثر
وإنما النزاع في مسألتين: أحدهما: أن الواجب بغيره هل يصح كونه مفعولا لمن يقول: الفلك قديم معلول ممكن فهذا مما ينكره جماهير العقلاء ويقولون: لا يمكن مقارنته لفاعله أزلا وأبدا ويقولون: الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا معدوما تارة وموجودا أخرى فنفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لا يحتاج إلى علة فليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لايمكن أن يكون مفارقا للذوات ولا يفتقر إلى علة وكون كل ما سوى الله فقيرا إليه محتاجا إليه دائما هو من هذا الباب فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله كما أن الغنى والصمدية أمر لازم لذات الله
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية وهو أن المحدث المخلوق هل افتقاره إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط أو هو دائما مفتقر إليه؟ على قولين للنظار
وكثير من أهل الكلام المتلقى عن جهم وأبي الهذيل يقولون: إنه لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في حال البقاء وهذا في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية القائلين بأن افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثها بل افتقاره إليه في حال بقائه أزلا وأبدا وكلا القولين باطل
وهو في أكثر كتبه ينصر خلاف ذلك ولكن نحن نقرر أن كل ما سوى الواجب فهو محدث وأن التأثير لا يكون إلا في حادث وأن الحدوث والإمكان متلازمان وهو قول جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وإنما أثبت ممكنا ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا والرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها - مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون أرسطو وسلفهم - وهو أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديما أزليا وقال: ( لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا
قلت: وابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا فتناقضى في ذلك تناقضا في غير هذا الموضع
وقد أورد هو على هذه الحجة معارضة مركبة تستلزم فساد إحدى المقدمتين وهي المعارضة بكونه تعالى عالما بالعلم قادرا بالقدرة فإن علمه إن كان واجبا لذاته وذاته واجبة أيضا فقد وجد واجبان وبطلت المقدمة الأولى وإن كان ممكنا كان واجبا بغيره لوجوب ذاته ولزم كون الأثر والمؤثر دائمين وبطلت المقدمة الثانية ولم يجب عن هذه المعارضة بل قال: ( وأما الجواب عن كونه عالما بالعلم قادرا بالقدرة فصعب )
وقد اعترض الأرموي على ما ذكره في المقدمتين أما الأولى فإن الرازي قال: ( لو وجد واجبان وجوبا ذاتيا لتشاركا في الوجوب الذاتي وتباينا بالتعيين فيلزم تركبهما مما به المشاركة والمباينة وكل مركب مفتقر إلى غيره لافتقاره إلى جزئه وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته )
قال الأرموي: ( ولقائل أن يقول: قد يكون الوجوب والتعيين وصفين عرضيين للماهية البسيطة )
قلت: تقدم الكلام على هذا في التركيب وذكر ما استدلوا به على امتناع كونه عرضيا فإن الوصف العرضي يحتاج إلى سبب منفصل عن الذات فيكون وجوب الواجب مفتقرا إلى شيء غير الواجب وأيضا فيكون وجوب الواجب وصفا عرضيا وهو ظاهر الفساد وأيضا التفريق في الصفات اللازمة للحقيقة بين الذاتي والعرضي تحكم محض
ولكن لقائل أن يقول: قول القائل: تشاركا في الوجوب الذاتي أتعني به تشاركهما في مطلق الوجوب أو أن أحدهما شارك الآخر في الوجوب الذي يخصه؟
فإن أراد الأول قيل له: وكذلك قد اشتركا في مطلق التعين فإن هذا واجب وهذا واجب وهذا معين وهذا معين والمعينات مشتركة في مسمى التعين كما أن الواجبات مشتركة في مسمى الوجوب والموجودات مشتركة في مسمى الوجود والماهيات مشتركة في مسمى الماهية والحقائق مشتركة في مسمى الحقيقة وكذلك سائر الأسماء العامة المطلقة الكلية وحينئذ فلم يتباينا في مطلق التعيين كما لم يتباينا في مطلق الوجوب
وإن قال: اشتركا في عين الوجوب
قيل: هذا ممتنع كما أن اشتراكهما في عين التعين ممتنع
وإن جاء لقائل أن يقول: هذا شارك هذا في نفس وجوبه الذي يخصه لجاز لآخر أن يقول: إن هذا شارك هذا في نفس تعينه الذي يخصه وإنما المستدل أخذ الوجوب مطلقا وأخذ التعين مقيدا وكان الواجب أن يسوي بينهما في الإطلاق والتعيين إذ هما متلازمان فإن وجوب هذا ملازم لعينه ووجوب هذا ملازم لعينه فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر
ولو عكس عاكس قوله لكان قوله مثل قوله بأن يقول: اشتركا في التعين الذاتي فإن لكل منهما تعينا ذاتيا وتباينا في الوجوب فإن لكل منهما وجوبا يخصه ومعلوم أن هذا فاسد فكذلك نظيره
وفي الجملة فالصفات المتلازمة لا يكون بعضها أخص من بعض فإذا قدر إنسانان فكل منهما له إنسانا تخصه وحيوانية تخصه وناطقية تخصه وهي متلازمة لا توجد إنسانيته دون ناطقيته ولا ناطقيته دون إنسانيته ولا توجد واحدة منهما دون عينه المعينة وإن وجد إنسانية أخرى وناطقية أخرى فتلك نظير إنسانيته وناطقيته ليست هي هي بعينها كما أن هذا الإنسان نظير هذا الإنسان ليس هو إياه بعينه إلا أن يراد بلفظ العين النوع كما يقال لمن عمل مثل ما يعمل غيره: هذا عمل فلان بعينه فالمقصود أنه ذلك النوع بعينه ليس المقصود أنه ذلك العمل المشخص الذي قام بذات ذلك الفاعل فإنه مخالف للحس فقد تبين أن الموجودين والواجبين ونحو ذلك لم تركب أحدهما من مشارك ومميز بل ليس فيه إلا وصف مختص به تميز به عن غيره وإن كانت صفاته بعضها يشابه فيها غيره وبعضها يخالف فيها غيره
فإذا قيل: لو قدر واجبان أو موجودان إن إنسانان لكان أحدهما يشابه الآخر في الوجوب أو الوجود أو الإنسانية لكان صحيحا ولكان يمكن ذلك أنه يشابهه في الحقيقة كما يمكن أن يخالفه
ثم هب أن كلا منهم فيه ما يشارك به غيره وما يتميز به عنه فقوله: ( إنه مركب مما به الاشتراك والامتياز ) إن عنى بذلك أنه موصوف بالأمرين فصحيح وإن عنى أن هناك أجزاء تركبت ذاته منها فهذا باطل كقول من يقول: إن الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية فإنه لا ريب أنه موصوف بهما وأما كون الإنسان المعين له أجزاء تركب منها فهذا باطل كما تقدم
ولو سلم أن مثل هذا يسمى تركيبا فقوله: ( كل مركب مفتقر إلى غيره ) يدخل فيه ما ركبه المركب كالأجسام المركبة من مفرداتها من الأغذية والأدوية والأشربة ونحو ذلك ويدخل فيه ما يقبل تفريق أجزائه كالإنسان والحيوان النبات ويدخل فيه ما يتميز بعض جوانبه عن بعض ويدخل فيه الموصوف بصفات لازمة له وهذا هو الذي أراده هنا
فيقال له: حينئذ يكون المراد أن كل ما كان له صفة لازمة له فلابد في ثبوته من الصفة اللازمة له وهذا حق وهب أنك سميت هذا تركيبا فليس ذلك ممتنعا في واجب الوجود بل هو الحق الذي لا يمكنه نقيضه
قولك: ( المركب مفتقر إلى غيره ) معناه أن الموصوف بصفة لازمة له لا يكون موجودا بدون صفته اللازمة له لكن سميته مركبا وسميت صفته اللازمة له جزءا وغيرا وسميت استلزامه إياها افتقارا فقولك بعد هذا ( كل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ) معناه: أن كل مستلزم لصفة لازمة له لا يكون موجودا بنفسه بل بشيء مباين له ومعلوم أن هذا باطل وذلك لأن المعلوم أن ما كانت ذاته تقبل الوجود والعدم فلا يكون موجودا بنفسه بلا لا بد له من واجب بنفسه يبدعه وهذا حق فهو مفتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجودا له يبدعه وهذا هو الغير الذي يفتقر إليه الممكن وكل ما افتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجودا بنفسه قطعا أما إذا أريد بالغير الصفة اللازمة وأريد بالافتقار التلازم فمن أين يقال: إن كل ما استلزم صفة لازمة له لا يكون موجودا بنفسه بل يفتقر إلى مبدع مباين له؟
وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع وبينا أن لفظ ( الجزء ) و( الغير ) و( الافتقار ) و( التركيب ) ألفاظ مجملة موها بها على الناس فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده وليس هذا المقام مقام بسط هذا
ونحن هذا البرهان عندنا صحيح وهو أن كل ماسوى الله ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى المؤثر لأن المؤثر لا يؤثر إلا في حال حدوثه لكن يقرر ذلك بمقدمات لم يذكرها الرازي هنا كما بسط في موصع آخر
وأما الجواب عن المعارضة بكون الرب عالما قادرا فجوابه: أن الواجب بذاته يراد به الذات الواجبة بفسها المبدعة لكل ما سواها وهذا واحد ويراد به: الموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم
وعلى هذا: فالذات واجبة والصفات واجبة ولا محذور في تعداد الواجب بهذا التفسير كما لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده وسواء كان ذاتا أوصفه لذات القديم بخلاف ما إذا أريد بالقديم الخالقة لكل شيء فهذا واحد لا إله إلا هو وقد يراد بالواجب الموجود بنفسه القائم بنفسه وعلى هذا: فالذات واجبة دون الصفات
وعلى هذا: فإذا قال القائل: الذات مؤثرة في الصفات والمؤثر والأثر ذاتان قيل له: لفظ التأثير مجمل أتعني بالتأثير هنا: كونه أبدع الصفات وفعلها أم تعني به كون ذاته مستلزما لها؟ فالأول ممنوع في الصفات والثاني مسلم والتأثير في المبدعات هو بالمعنى الأول لا بالمعنى الثاني بل قد بينا في غير هذا الموضع: أنه يمنع أن يكون مع الله شيء من المبدعات قديم بقدمه
البرهان الخامس
قال الرازي في البرهان الخامس: ( لو كان الجسم قديما لكان قدمه: إما أن يكون عين كونه جسما وإما مغايرا لكونه جسما والقسمان باطلان فبطل القول بكون الجسم قديما
إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم عين كونه جسما لأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه جسما علما بكونه قديما فكما أن العلم بكونه جسما ضروري لزم أن يكون العلم بكونه قديما ضروريا ولما بطل ذلك فسد هذا القسم
وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم زائدا على كونه جسما لأن ذلك الزائد: إن كان قديما لزم أن يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وإن كان حادثا فكل حادث فله أول وكل قديم فلا أول له فلو كان قدم القديم عبارة عن ذلك الحادث للزم أن يكون ذلك الشيء له أول وأن لا يكون له أول وهو محال )
ثم قال: ( فإن عارضوا بكونه حادثا قلنا: الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل في الحال والعدم السابق ولا يبعد حصول العلم بالوجود الحاصل مع الجهل بالعدم السابق بخلاف القديم فإنه لا معنى له إلا نفس وجوده فظهر الفرق )
ثم قال: وهذا وجه جدلي فيه مباحثات دقيقة )
قال: ( وليكن هذا آخر كلامنا في شرح دلائل حدوث الأجسام )
معارضة الأرموي
قلت: قال الأرموي: ( لقائل أن يقول: ضعف الأصل والجواب لايخفى )
تعليق ابن تيمية
قلت: قد بين في غير هذا الموضع فساد مثل هذه الحجة من وجوه وهي مبنية على أن القديم: هل هو قديم بقدم أم لا؟ فمذهب ابن كلاب والأشعري - في أحد قوليه - وطائفة من الصفاتية: أنه قديم بقدم ومذهب الأشعري - في القول الآخر - والقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي علي بن أبي موسى وأبي المعالي الجويني وغيرهم: ليس كذلك وهم متنازعون في البقاء فقول الأشعري وطائفة معه: أنه باق ببقاء وهو قول الشريف وأبي علي بن أبي موسى وطائفة وقول القاضي أبي بكر وطائفة كالقاضي أبي يعلى نفى ذلك
وحقيقة الأمر: أن النزاع في هذه المسألة اعتباري لفظي كما قد بسط في غير هذا الموضع وهو متعلق بمسائل الصفات: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ وحقيقة الأمر: أن الذات أن أريد بها الذات الموجودة بالخارج فتلك مستلزمة لصفاتها يمتنع وجودها بدون تلك الصفات وإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم فلا يمكن فرض الذات الموجودة في الخارج منفكة عن لوازمها حتى يقال: هي زائدة أو ليست زائدة لكن يقدر ذلك تقديرا في الذهن وهو القسم الثاني فإذا أريد بالذات ما يقدر في النفس مجردا عن الصفات فلا ريب أن الصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في النفس ومن قال من متكلمة أهل السنة: ( إن الصفات زائدة على الذات ) فتحقيق قوله أنها زائدة على ما أثبته المنازعون من الذات فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات ونحن نثبت صفاتها زائدة على أثبتوه هم لا أنا نجعل في الخارج ذاتا قائمة بنفسها ونجعل الصفات زائدة عليها فإن الحي الذي يمتنع أن لا يكون إلا حيا كيف تكون له ذات مجردة عن الحياة؟ وكذلك ما لا يكون إلا عليما قديرا كيف تكون ذاته مجردة عن العلم والقدرة؟
والذين فرقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا: القيام بالنفس والقدم - ونحو ذلك من الصفات النفسية - بخلاف العلم والقدرة فإنهم نظروا إلى ما لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره فجعلوه من النفسية وما يمكن تقديرها بدونه فجعلوه معنويا ولا ريب أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه ليس قائما بنفسه بخلاف ما يقدر أنه عالم فإنه يمكن ذاته بدون العلم
وهذا التقدير عاد إلى ماقدروه في أنفسهم وإلا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية فهو عالم بنفسه وذاته وهو عالم بالعلم وهو قادر بنفسه وذاته وهو قادر بالقدرة فله علم لازم لنفسه وقدرة لازمة لنفسه وليس ذلك خارجا عن مسمى اسم نفسه
وعلى كل تقدير فالاستدلال على حدوث الأجسام بهذه الحجة في غاية الضعف كما اعترفوا هم به فإن ما ذكروه يوجب أن لا يكون في الوجود شيء قديم سواء قدر أنه جسم أو غير جسم فإنه يقال: لو كان الرب - رب العالمين - قديما لكان قدمه إما أن يكون عين كونه ربا وإما زائدا على ذلك والأمران باطلان فبطل كونه قديما
أما الأول: فلأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه ربا أو واجب الوجود أو نحو ذلك علما بكونه قديما وهذا باطل
وأما الثاني: فلأن ذلك الزائد إن كان قديما يلزم أن يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وإن كان حادثا كان للقديم أول فما كان جوابا عن مواضع الإجماع كان جوابا في مورد النزاع وإن كان العلم بكونه رب العالمين يستلزم العلم بقدمه لكن ليس العلم بنفس الربوبية هو العلم بنفس القدم بل قد يقوم العلم الأول بالنفس مع ذهولها عن الثاني وقد يشك الشاك في قدمه مع العلم بأنه ربه ويخطر له أن للرب ربا حتى يتبين له فساد ذلك وقد ذكر النبي ﷺ ذلك في الحديث الصحيح في قوله: [ إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ فيقول: الله فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته ] وقد بسطت هذا في موضع آخر كما سيأتي إن شاء الله
والمقصود هنا: أن هذه البراهين الخمسة التي احتج بها على حدوث الأجسام قد بين أصحاب المعظمون له ضعفها بل هو نفسه أيضا بين ضعفها في كتب أخرى مثل المطالب العالية وهي آخر ما صنفه وجمع فيها غاية علومه والمباحث المشرقية وجعل منتهى نظره وبحثه تضعيفها
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع وبين كلام السلف والأئمة في هذا الموضع كالإمام أحمد وغيره وكلام النظار الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وغيره وأن القائل إذا قال: عبدت الله ودعوت الله وقال: الله خالق كل شيء ونحو ذلك فاسمه تعالى يتناول الذات والصفات ليست الصفات خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك بل هي داخلة في مسمى اسمه ولهذا قال أحمد فيما صفنه في الرد على الجهمية نفاة الصفات: ( قالوا: إذا قلتم الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره قلتم بقول النصارى
فقال لا نقول: الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره ولكن الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد ) فبين أحمد أنا لا نعطف صفاته على مسمى اسمه العطف المشعر بالمغايرة بل ننطق بما يبين أن صفاته داخلة في مسمى اسمه
ولما ناظره الجهمية في محنته المشهورة فقال له عبد الرحمن بن إسحاق القاضي: ما تقول في القرآن: أهو الله أم غير الله؟ يعني إن قلت ( هو الله ) فهذا باطل وإن قلت: ( غير الله ) فما كان غير الله فهو مخلوق
فأجابه أحمد بالمعارضة بالعلم فقال: ما تقول في علم الله: أهو الله أم غير الله؟ فقال: أقول في كلامه ما أقوله في علمه وسائر صفاته وبين ذلك في رده على الجهمية: بأنا لا نطلق لفظ الغير نفيا ولا إثباتا إذ كان لفظا مجملا يراد بغير الشيء ما بيانه وصارت مفارقته له ويراد بغيره ما أمكن تصوره بدون تصوره ويراد به غير ذلك
وعلم الله وكلامه ليس غير الذات بالمعنى الأول وهو غيرها بالمعنى الثاني ولكن كونه ليس غير الله بالمعنى الأول فعلى إطلاقه وأما كونه غير الله بالمعنى الثاني ففيه تفصيل فإن أريد بتصوره معرفته المعرفة الواجبة الممكنة في حق العبد فلا يعرفه هذه المعرفة من لم يعرف أنه حي عليم قادر متكلم فلا يمكن تصوره ومعرفته بدون صفاته فلا تكون مغايرة لمسمى اسمه وإن أريد أصل التصور وهو الشعور به من بعض الوجوه فقد يشعر به من لا يخطر له حينئذ أنه حي ولا عليم ولا متكلم فتكون صفاته مغايرة له بالاعتبار الثاني
وأجاب أحمد أيضا بأن الله لم يسم كلامه غيرا ولا قال: إنه ليس بغير يعني والقائل إذا قال: ماكان غير الله أو سوى الله فهو مخلوق فإن احتج على ذلك بالسمع فلا بد أن يكون مندرجا هذا اللفظ في كلام الشارع وليس كذلك وإن احتج بالعقل فالعقل إنما يدل على خلق الأمور المباينة له وأما صفاته القائمة بذاته فليست مخلوقة والذي يجعلون كلامه مخلوقا يقولون: هو بائن عنه والعقل يعلم أن كلام المتكلم ليس ببائن عنه
وبهذا التفصيل يظهر أيضا الخلل فيما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية بأن الذاتية لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديرها بخلاف المعنوية فإنه يقال لهم: أم تعنون بتقدير الذات في الذهن أو تصور الذات أو نحو ذلك من الألفاظ؟ أتعنون به اصل الشعور والتصور والمعرفة ولو من بعض الوجوه أم تريدون به التصور والمعرفة والشعور الواجب أو الممكن أو التام؟ فإن عنيتم الأول فما من صفة تذكر إلا يمكن أن يشعر الإنسان بالذات مع عدم شعوره بها وقد يذكر العبد ربه ولا يخطر له حينئذ كونه قديما أزليا ولا باقيا أبديا ولا واجب الوجود بنفسه ولا قائما بنفسه ولا غير ذلك وكذلك قد يخطر له ما يشاهده من الأجسام ولا يخطر له كونه متحيزا أو غير متحيز
وإن عنيتم الثاني فمعلوم أن الإنسان لا يكون عارفا بالله المعرفة الواجبة في الشرع ولا المعرفة التي تمكن بني آدم ولا المعرفة التامة حتى يعلم أنه حي عليم قدير وممتنع لمن يكون عارفا بأن الله متصف بذلك إذا خطر بباله ذاته وهذه الصفات: أن يمكن تقدير ذاته موجودة في الخارج بدون هذه الصفات كما يمتنع أن يقدر ذاته موجودة في الخارج بدون أن تكون قديمة واجبة الوجود قائمة بنفسها فجميع صفاته تعالى اللازمة لذاته يمتنع مع تصور الصفة والموصوف والمعرفة بلزوم الصفة للموصوف يمتنع أن يقدر إمكان وجود الذات بدون الصفات اللازمة لها مع العلم باللزوم وإن قدر عدم العلم باللزوم أو عدم خطور الصفات اللازمة بالبال فيمكن خطور الذات بالبال بدون شيء من هذه الصفات وإذا علم لزوم بعض الصفات دون بعض فما علم لزومه لايمكن تقدير وجود الذات دونه وما لا يعلم لزومه أمكن الذهن أن يقدر وجوده دون وجود تلك الصفة التي لم يعلم لزومها لكن هذا الإمكان معناه عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان في الخارج إذ كل ما لم يعلم الإنسان عدمه فهو ممكن عنده إمكانا ذهنيا بمعنى عدم علمه بامتناعه لا إمكانا خارجيا بمعنى أنه يعلم إمكانه في الخارج
وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالامتناع وكثير من الناس يشتبه عليه هذا بهذا فإذا تصور ما لا يعلم امتناعه أو سئل عنه قال: هذا ممكن وهذا غير ممتنع وهذا لو فرض وجوده لم يكن من فرضه محال
وإذا قيل له: قولك ( إنه لو فرض وجوده لم يلزم منه محال ) قضية كلية وسلب عام فمن أين علمت أنه لا يلزم من فرض وجوده محال والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل؟ وهل علمت ذلك بالضرورة المشتركة بين العقلاء أم بنظر مشترك أم بضرورة اختصصت بها أم بنظر اختصصت به؟ فإن كان بالضرورة المشتركة وجب أن يشركك نظراؤك من العقلاء في ذلك وليس الأمر كذلك عندهم وإن كان بنظر مشترك فإين الدليل الذي تشترك فيه أنت وهم؟ وإن كان بضرورة مختصة أو نظر مختص فهذا أيضا باطل لوجهين أحدهما: أنك تدعي أن هذا مما يشترك فيه العقلاء ويلزمهم موافقتك فيه وتدعي أنهم إذا ناظروك كانوا منقطعين معك بهذه الحجة وذلك يمنع دعواك الإختصاص بعلم ذلك والثاني: أن اختصاصك بعلم ذلك ضرورة أو نظرا إنما يكون لاختصاصك بما يوجب تخصيصك بذلك كمن خص بنبوة أو تجربة أو نحو ذلك مما ينفرد به وأنت لست كذلك فيما تدعي إمكانه ولا تدعي اختصاصك بالعلم بإمكانه وإن ادعيت ذلك لم يلزم غيرك موافقتك في ذلك إن لم تقم عليه دليلا يوجب موافقتك سواء كان سمعيا أو عقليا وأنت تدعي أن هذا من العلوم المشتركة العقلية وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على هذا الأصل الذي نشأ منه التنازع أو الاشتباه في مسأئل الصفات من هذا الوجه وتفريق هؤلاء المتلكمين في الصفات اللازمة للموصوف بين ما سموها نفسية وذاتية وما سموها معنوية يشبه تفريق المنطقيين في الصفات اللازمة بين ما سموه ذاتيا مقوما داخلا في الحقيقة وما سموه عرضيا خارجا عن الذات مع كونه لازما لها وتفريقهم في ذلك بين لازم الماهية ولازم وجود الماهية كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وبين أن هذه الفروق إنما تعود عند الحقيقة إلى الفرق بين ما يتصور في الأذهان وهو الذي قد يسمى ماهية وبين ما يوجد في الأعيان وهو الذي قد يسمى وجودها وأن ما يتصور في النفس من المعاني ويعبر عنه بالألفاظ: له لفظ دل عليه بالمطابقة هو الدال على تلك الماهية وله جزء من المعنى هو جزء تلك الماهية واللفظ المذكور دال عليه بالتضمن وله معنى يلزمه خارج عنه فهو اللازم لتلك الماهية الخارج عنها واللفظ يدل عليه باللالتزام وتلك الماهية التي في الذهن هي بحسب ما يتصوره الذهن من الصفات الموصوف تكثر تارة وتقل تارة وتكون تارة مجملة وتارة مفصلة وأما الصفات اللازمة للموصوف في الخارج فكلها لازمة له لا تقوم ذاته مع عدم شيء منها وليس منها شيء يسبق الوصوف في الوجود العيني كما قد يزعمونه من أن الذاتي يسبق الموصوف في الذهن والخارج وتلك الصفات هي أجزاء الماهية المتصورة في الذهن كما أن لفظ كل صفة جزء من تلك الألفاظ إذا قلت: جسم حساس نام مغتذ متحرك بالإرادة ناطق وأما الموصوف الموجود في الخارج كالإنسان فصفاته قائمة به حالة فيه ليست أجزاء الحقيقة الموجودة في الخارج سابقة عليها سبق الجزء على الكل كما يتوهمه من يتوهمه من هؤلاء الغالطين كما قد بسط في موضعه
وقول هؤلاء المتكلمين في الصفات اللازمة ( إنها زائدة على حقيقة الموصوف ( يشبه قول أولئك ( إن الصفات اللازمة العرضية خارجة عن حقيقة الموصوف ) وكلا الأمرين منه تلبيس واشتباه حاد بسببه كثير من النظار الأذكياء وكثر بينهم النزاع والجدال والقيل والقال وبسط هذا له موضع آخر
وإنما المقصود هنا التنبيه على ذلك والله أعلم وأحكم وإن كان قد بسط الكلام على ضعفها في غير هذا الموضع مع أن هذا الذي ذكره مستوعب لما ذكره غيره من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم في ذلك
طريقة الآمدي في الاستدلال على حدوث العالم
وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق بل بين ضعفها واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف وهو أن الأجسام لا تنفك عن الأعراض والأعراض لا تبقى زمانين فنكون حادثة وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهذا الدليل مبني على مقدمتين: على أن كل عرض في زمان فهو لايبقى زمانين وجمهور العقلاء يقولون: إن هذا مخالف للحس والضرورة وعلى امتناع حوادث لا أول لها وقد عرف الكلام في ذلك والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي وهو متقدم على الأرموي
فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر أو أن يكون الآرموي والآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره وهذا الاحتمال أرجح فإن هذين وأمثالهما وقفوا على كتبه التي فيها هذه الحجج مع أن تضعيفها مما سبق هؤلاء إليه كثير من النظار ومن تكلم من النظار ينظر ما تكلم به من قبله فإما أن يكون أخذه عنه أو تشابهت قلوبهم
وبكل حال فهما - مع الرازي ونحوه - من أفضل بني جنسهم من المتأخرين فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه يعرف بها الحق من الباطل في ذلك بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسالك وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره وليس هذا موضع استقصاء ذكر من قدح في ذلك وإنما المقصود القدح في هذه المسالك التي يسمونها براهين عقلية ويعارض بها نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف ثم إن نفس حذاقهم قدحوا فيها
مسلك الآمدي على إثبات حدوث الأجسام
فأما المسلك الأول الذي ذكره الرازي فقال الآمدي: ( المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا في الدلالة على إثبات حدوث الأجسام وهو أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل: إما أن تكون متحركة أو ساكنة ) وساق المسلك إلى آخره ثم قال: ( وفيه وفي تقريره نظر وذلك أن القائل يقول: إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا تكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان في حيز آخر وليس ساكنا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا محيص عنه
فإن قيل: الكلام إنما هو في الجسم في الزمن الثاني والجسم في الزمن الثاني ليس يخلو عن الحركة والسكون بالتقسير المذكور فهو ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام في الجسم إنما هو في الزمن الثاني من وجود الجسم فالزمن الثاني ليس هو حالة الأزلية وعند ذلك لا يلزم أن يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون )
قال: ( وإن سلمنا الحصر فلم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية؟ وما ذكروه من الوجه الأول في الدلالة فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى يكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات المشخصة حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى أنها متعاقبة إلى غير النهاية )
قال: ( وما ذكروه في الوجه الثاني باطل أيضا فإن كل واحدة من الحركات الدورية وإن كانت مسبوقة بعدم لا بداية له فمعنى اجتماع الأعدام السابقة على كل واحدة من الحركات في الأزل: أنه لا أول لتلك الأعدام ولا بداية ومع ذلك فالعدم السابق على كل حركة وإن كان لا بداية له فيقارنه وجود حركات قبل الحركة المفروضة لا نهاية لها على جهة التعاقب ) أي: يعاقبه وجود حركات لا نهاية لها قبل الحركة المفروضة ( وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وعلى هذا فيكون الكلام في العدم السابق على حركة حركة وعلى هذا فحصول شيء من الموجودات الأزلية مع هذه الأعدام أزلا على هذا النوع لا يكون ممتنعا إذ ليس في مقارنة للمسبوق على ما عرف )
قال: ( وفيه دقة فليتأمل )
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا هو الاعتراض الذي ذكره الأرموي وقد ذكره غيرهما والظاهر أن الأرموي تلقى هذا عن الآمدي وهم يقولون: اجتماع الأعدام لا معنى له سوى أنها مشتركة في عدم البداية والأولية وحينئذ فعدم كل حركة يمكن أن يقارنه وجود أخرى وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وهذا الذي قالوه صحيح لكن قد يقال: هذا الاعتراض إنما يصح لو كان احتج بأن في ذلك مقارنة السابق للمسبوق فقط وهو لم يحتج إلا بأن العدمات تجتمع في الأزل وليس معها شيء من الموجودات إذ كان معها موجود لكان هذا الموجود مقارنا لتلك العدمات المجتمعة منها عدمه فاقترن السابق والمسبوق فعمدته اجتماعها في الأزل
وقد قالوا له: إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا فهو ممنوع لأنه من من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها وهو يقول: أنا لم أعن باجتماعهما في حين حادث ليلزمني انتهاء واحد منها وإنما قلت: هي مجتمعة في الأزل
وفصل الخطاب أن يقال: العدم ليس بشيء وليس لعدم هذه الحركة حقيقة ثابتة مغايرة لعدم الأخرى حتى يقال: إن أعدامها اجتمعت في الأزل أو لم تجتمع بل معنى حدوث كل منها أنهاكانت بعد أن لم تكن وكون الحوادث كلها مشتركة في أنها لم تكن لا يوجب أن يكون عدم كونها حقائق متغايرة ثابتة في الأزل
يوضح ذلك أن يقال: أتعني بكونها مسبوقية بالعدم أن جنسها مسبوق بالعدم أو كل واحد منها مسبوق بالعدم؟ أما الأول فهو محل النزاع وأما الثاني فإذا قدر أن كل واحد كان بعد أن لم يكن - والجنس لم يزل كائنا - لم يجز أن يقال: الجنس كائن بعد أن لم يكن ولا يلزم من كون كل من أفراده مسبوقا بعدم أن يكون الجنس مسبوقا بالعدم إلا إذا ثبت حدوث الجنس وهو محل النزاع وعدم الحوادث هو نوع واحد ينقضي بحسب الحدوث فكلما حدث حادث انقضى من ذلك العدم ذلك الحادث ولم ينقض عدم غيره فالأزلي حينئذ عدم أعيان الحوادث كما أن الأزلي عند من يقول بأنه لا أول لها هو جنس الحوادث فجنس وجودها أزلي وعدم كل من أعيانها أزلي ولا منافاة بين هذا وهذا إلا أن يثبت وجوب البداية وهو محل النزاع
إيراد أحد المتكلمين الدليل على وجه آخر
وبهذا يظهر الجواب عما ذكره بعضهم في تقرير هذا الوجه فإن بعضهم لما رأى ما أوردوه على ما ذكره الرازي حرر الدليل على وجه آخر فقال: القول بكون كل من الحركات الجزئية مسبوقا بأخرى لا إلى أول يستلزم المحال فيكون محالا
بيان الأول: أن كل واحد منه من حيث إنه حادث يقتضي أن يكون مسبوقا بعدم أزلي لأن كل حادث مسبوق بعدم أزلي فهذا يقتضي أن تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل ومن حيث إنه ما من جنس يفرض إلا وجب أن يكون فرد منها موجودا يقتضي ألا تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل وإلا لزم أن يكون السابق مقارنا للمسبوق ولا شك أن اجتماعهما في الأزل وعدم اجتماعهما فيه متناقضان فالمستلزم له محال
فيقال لمن احتج بهذا الوجه: العدم الأزلي السابق على كل من الحوادث إن جعلته شيئا ثابتا في الأزل متميزا عن عدم الحادث الآخر فهذا ممنوع فإن العدم الأزلي لا امتياز فيه أصلا ولا يعقل حتى يقال: إن هناك أعداما ولكن إذا حدث حادث علم أنه انقضى عدمه الداخل في ذلك النوع الشامل لها وليس شمول جنس الموجودات لها كشمول جنس العدم للمعدومات فإن الموجودات لها امتياز في الخارج فشخص هذا الموجود متميز في الخارج عن شخص الآخر وأما العدم فليس بشيء أصلا في الخارج ولا امتياز فيه بوجه من الوجوه
ولكن هذا الدليل قد بني على قول من يقول: المعدوم شيء ولا يبعد أن يكون الرازي أخذ هذا الوجه من المعتزلة القائلين بهذا فإنهم يثبتون المعدوم شيئا فيكون هذا الحادث في حال عدمه شيئا وهذا الحادث في حال عدمه شيئا وحينئذ فللحوادث أعدام متميزة ثابتة في الأزل
وهؤلاء القائلون بهذا يقولون ذلك في كل معدوم ممكن سواء حدث أو لم يحدث فإذا قال القائل: ( للحوادث أعدام أزلية ثابتة في الأزل متميزة ) لم يتوجه إلا على قول هؤلاء وهذا القول قد عرف فساده وبتقدير تسليمه فيجاب عنه بما ذكره هؤلاء وهو أن اجتماعه في الأزل بمعنى غير انتفاء البداية ممتنع وعدم البداية ليس أمرا موجودا حتى يعقل فيه اجتماع
وعلى هذا فيقال: لا نسلم أن الأزل شيء مستقر أو شيء موجود وليس للأزل حد محدود حتى يعقل فيه اجتماع بل الأزل عبارة عن عدم الابتداء وما لا ابتداء له فهو أزلي وما لا انتهاء له فهو أبدي وما من حين يقدر موجودا إلا وليس هو الأزل ففي كل حين بعضهما موجود وبعضها معدوم فوجود البعض مقارن لقدم البعض دائما وحينئذ فاجتماعها في الأزل معناه اشتراكهما في أن كل واحد ليس له أول وعدم اجتماعها فيه معناه أنه لم يزل في كل حين واحد منها موجودا وعدمه زائلا ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء ووجود أشخاصها دائم إلا إذا قيل: يمتنع جنس الحوادث الدائمة
وقد اعترض المستدل بهذا على ما ذكره الآمدي والأرموي في الوجه الأول
قال: فإن قلت: الأزلي الحركة الكلية بمعنى أن كل فرد منها مسبوق بالآخر لا إلى أول لا أفرادها الموجودة التي تقتضي المسبوقية بالغير
ثم قال: قلت: فحينئذ ما هو المحكوم عليه بالأزلي غير موجود في الخارح لامتناع وجود الحركة الكلية في الخارج وما هو موجود منها في الخارج فهو ليس بأزلي
ولقائل أن يقول: هذا غلط نشأ من الإجمال الذي لفظ الكلي وذلك أنه إنما يمتنع وجود الكلي في الخارج مطلقا إذا كان مجردا عن أفراده كوجود إنسان مطلق وحيوان مطلق وحركة مطلقة لا تختص بمتحرك ولا بجهة ولون مطلق لا يكون أبيض ولا أسود ولا غير ذلك من الألوان المعينة فإذا قدر حركة مطلقة لا تختص بمتحرك معين كا ن وجودها في الخارج ممتنعا وأما الحركات المتعاقبة فوجود الكلي فيها هو وجود تلك الأفراد كما إذا وجد عدة أناسى فوجود الإنسان الكلي هو وجود أشخاصه ولا يحتاج أن يثبت للكلي في الخارج وجودا غير وجود أشخاصه بل نفس وجود أشخاصه هو وجوده
ومعلوم إنه إذا أريد بوجود الكلي في الخارج وجود أشخاصه لا ينازع فيه أحد من العقلاء وإن كانوا قد يتنازعون في أن الكلي المطلق لا بشرط وهو الطبيعي: هل هو موجود في الخارج أم لا؟ وحيئنذ فمرادهم بوجود الحركة الكلية في الخارج هو وجود أفرادها المتعاقبة شيئا بعد شيء فكل فرد مسبوق بالغير وليس هذا الجنس المتعاقب الذي يوجد بعضهم شيئا فشيئا بمسبوق بالغير
وإن شئت قلت: لا نسلم أن الكلي لا يوجد في الخارج ولكن نسلم أنه لا يوجد في الخارج كليا وهذا هو الكلي الطبيعي وهو المطلق لا بشرط كمسمى الإنسان لا بشرط فإنه يوجد في الخارج لكن معينا مشخصا وتوجد أفراده إما مجتمعة وإما متعاقبة كتعاقب الحوادث المستقبلة فوجود الحركات المعينة كوجود سائر الأشياء المعينة ووجود مسمى الحركة كوجود سائر المسميات الكلية والمحكوم عليه بالأزلية هو النوع الذي لا يوجد إلا شيئا فشيئا لا يوجد مجتمعا
فإن قال القائل ( مسمى الحركة ليس بموجود في الخارج على وجه الاجتماع كما يوجد من أفراد الإنسان ) فقد صدق وإن قال ( إنه لا يوجد شيئا فشيئا ) فهذا ممنوع وم قال ذلك لزمه أن لا يوجد في الخارج حركة أصلا لا متناهية ولا غير متناهية وهذا مخالف للحس والعقل وقد تفطن ابن سينا لهذا الموضع وتكلم في وجود الحركة بكلام له وقد نقله عنه الرازي وغيره وقد تكلمنا عليه وبينا فساده فيما سيأتي إن شاء الله
قال الآمدي: ( وباقي الوجوه في الدلالة ما ذكرناه في امتناع حوادث غير متناهية في إثبات واجب الوجود وقد ذكرت فلا حاجة إلى إعادتها )
وهو قد ذكر قبل ذلك في امتناع ما لا يتناهى أربعة طرق فزيفها واختار طريقا خامسا الأول: التطبيق وهو أن يقدر جملة ( فلو كا ما قبلها لا نهاية له فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة ولتكن الزيادة عشرة مثلا فالجملة الأولى: إما أن تكون مساوية لنفسها مع فرض الزيادة عليها أو أزيد أو أنقص والقول المساواة والزيادة محال فإن الشيء لا يكون مع غيره كهو لا مع غيره ولا أزيد وإن كانت الجملة الأولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية فمن المعلوم أن التفاوت بينهما إنما هو بأمر متناه وعند ذلك فالزيادة لا بد أن يكون لها نسبة إلى الباقي بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي على المتناهي
ومحال أن يحصل بين ما ليس بمتناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين
وأيضا فإنه إذا كانت إحدى الجملتين أزيد من الأخرى بأمر متناه فليطبق بين الطرفين الآخرين بأن تأخذ من الطرف الأخير من إحدى الجملتين عدوا مفروضا ومن الأخرى مثله وهلم جرا فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فيلزم منه مساواة الانقص للأزيد في كلا طرفيه: وهو محال وإن قصرت الجملة الناقصة في الطرف الذي لانهاية له فقد تناهت والزائدة إنما زادت على الناقصة بأمر متناه وكل ما زاد على المتناهي بأمر متناه فهو متناه )
قال: ( وهذا لا يستقيم لا على قواعد الفلاسفة وعلى قواعد المتكلمين )
أما الفلاسفة فإنهم قضوا بأن كل ما له ترتيب وضعي كالأبعاد والامتدادات أو الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معا كالعلل والمعلولات فالقول بعدم النهاية فيه مستحيل وما سوى وذلك فالقول بعدم النهاية فيه غير مستحيل وسواء كانت آحاده موجودة معا كالنفوس بعد مفارقة الأبدان أو هي على التعاقب والتجدد كالأزمنة والحركات الدورية فإن ما ذكروه - وإن استمر لهم فيما قضوا فيه بالنهاية - فهو لازم لهم فيما قضوا فيه بعدم النهاية وعند ذلك فلا بد من بطلان أحد الأمرين: إما الدليل إن كان اعتقادهم عدم النهاية حقا وإما اعتقاد عدم النهاية إن كان الدليل حقا لاستحالة الجمع )
قال: ( وليس لما يذكره الفيلسوف من جهة الفرق بين العلل والمعلولات والأزمنة والحركات قدح في الجمع وهو قوله: إن ما لا ترتيب له وضعا ولا آحاده موجودة معا - وإن كان ترتيبه طبيعيا - فلا يمكن فرض جواز قبوله الانطباق وفرض الزيادة والنقصان فيه بخلاف مقابله لأن المحصل يعلم أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الأضلاع وفيما له الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معا ليس إلا من جهة إفضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان بين ما ليس بمتناهيين وذلك إنما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض أو وحدة ما من العدد المفروض وعند ذلك فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات والنفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها مستعملة في صورة الإلزام مع اتحاد صورة القياسية من غير فرق
وأيضا فليس كل جملتين تفاوتتا بأمر متناه تكونان متناهيتين فإن عقود الحساب مثلا لا نهاية لأعدادها وإن كانت الأوائل أكثر من الثواني بأمر متناه وهذه الأمور - وإن كانت تقديرية ذهنية - فلا خفاء أن وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في الأمور الموجودة بالفعل فلا تتوهمن الفرق واقعا من مجرد هذا الاختلاف
والقول بأن ما زادت به إحدى الجملتين على الأخرى لابد وأن تكون له نسبة إلى الثاني غير مسلم ولا يلزم من قبول المتناهي لنسبة المتناهي إليه قبول غير المتناهى لنسبة المتناهى إليه )
درء تعارض العقل والنقل | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 |