كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

قال الخطابي: ( وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي وجعلوا المعلومات قسمين: قسم يمكن استدراكه وتثبيته حقيقة وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب وقوله سبحانه: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } يجعلون الوقف عند قوله: { إلا الله } ويستأنفون الكلام فيما بعده وهو مذهب الصحابة وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعائشة وابن عباس قالوا: وقد حجب عنا أنواع من العلم كعلم قيام الساعة وكعلم الروح حين يقول: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقال تعالى: { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وقال: { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }

قلت: قد ذكرنا معنى لفظ ( التأويل ) في غير هذا الموضع وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به: حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله كما قال مالك: ( الاستواء معلوم والكيف مجهول )

ويراد به التفسير وهو كقوله: ( الاستواء معلوم ) فإنه تفسيره ومعناه معلوم ) ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه كتأويلات الجهمية مثل تأويل من تأول: استوى بمعنى استولى وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه ومثل هذا لا يقال فيه: لا يعلمه إلا الله بل يقال: إنه باطل وتحريف وكذب ولكن في القسم الأول يقال: لا يعلمه إلا الله وأما القسم الثاني فيعلمه الله وقد يعلمه الراسخون في العلم

قال الخطابي: ( فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر والتعديل والتجويز وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم شيئا كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها ولا فائدة فيها فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور وخافوا فتنتها والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه: من الأقوال الشنعة والمذاهب الفاسدة ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين وتوقيف الشريعة )

قلت: فقد ذكر الخطابي في الكلام المذموم ما لا يد ركه الإنسان بعقله وما لا فائدة فيه وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم بلا علم والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده ومن باب العلم الذي لا ينفع وقد استعاذ النبي من علم لا ينفع

ولهذا يقال: العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية فيقول: ( هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها - ونعوذ بالله من علم لا ينفع - وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم فالأول كالعلم بدقائق الهيئة وحركات الكواكب وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان وتعذيب الحيوان والثاني كالعلم بأحكام النجوم التي غلبها ظنون لا تغني من الحق شيئا والخطأ فيها أكثر من الصواب والكذب فيها أكثر من الصدق )

وهذان النوعان غير ما ذكر أولا ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه فما كان كذبا غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه بخلاف ما فيه عسر وهو حق فإن هذا وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه آخر بخلاف ما لا يدركه الإنسان أو ما لا فائدة فيه فإن هذا قد يقال: إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع أو من جنس البطالة وتضييع الزمان لكن متى أفضى بصاحبة إلى اعتقاد الباطل حقا والكذب صدقا كان من القسم المذموم بنفسه وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه وهو باطل قطعا

وأما قوله: ( وتكلموا في الروح والقدر والتعديل والتجوير والعقل والنفس ) فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقا وليس كذلك بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم وإنما يذم الكلام الباطل والكلام بلا علم والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته كما قال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم

قال الخطابي: ( ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج الناس إليه نصا وتسمية فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص من طريق المعاني والمعقول من النصوص فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب - ثم السنة - بالزجر عنه وعن الخوض فيه وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين )

قال: ( وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام وعابه من مذاهب المتكلمين وبما زجر عنه من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال فعلمنا أن زجر عنه ليس هو الذي أمر به وتبينا أن له في الأصول مذهبا ثالثا ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام والخائضين في أوديته وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول الدين التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها )

قال: ( ونحن لم نعد فيما أوردنا من الكلام في كتاب شعار الدين هذه الجملة وإن كان الذي عبناه في مسألة الغنية عن الكلام هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له وهو مذهب الغلو والأفراط وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد ولا يقول بحجج العقول فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والأفراط والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال وهو ما نختاره ونذهب إليه )

قال: ( وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع فلا يكون ذلك منا مناقضة وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع وكراهته في موضع آخر والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات: القول بالحس حسب وهو مذهب الدهرية فإنهم قالوا بما يدركه الحس لم يقولوا بمعقول ولا خبر وقال قوم بالحس والمعقول حسب ولم يقولوا بالخبر وهو مذهب الفلاسفة لأنهم لا يثبتون النبوة وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر الأثر وهو جماعة المسلمين وهو قول عمائنا وبه نقول )

قلت: تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوسا وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل والفلاسفة أيضا لا تنكر جنس الخبر بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء وهم قد يعظمون الأنبياء - صلوات الله عليهم - ويوجبون اتباع شرائعهم ويأمرون بقتل من يخرج عنها لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء

وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور وحقيقة قولهم هو ما ذكره الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقا إلى العلم وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد من المنتسبين إلى المسلمين ما تبين به هذا الأصل وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه

وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية قائمة في الذهن لا حقيقة لها في الخارج وما يثبتونه من المجردات العقليات بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك يعود إلى هذا ومن هنا استطال عليهم إخوانهم الفلاسفة الطبيعية والدهرية فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه والفريقان جميعا كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا فأولئك هم سعداء في الآخرة

كما قال تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

وأما الصابئة المشركون الذين يعبدون الكواكب والأوثان ونحوهم من الفلاسفة المشركين فهؤلاء كفار كسائر المشركين

والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان وفي مقالاتهم حق وباطل كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين وهذا مبسوط في موضعه

وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصا فهذا كلام في القياس العلمي الشرعي وهو مبسوط في موضعه

والناس في هذا بين إفراط وتفريط كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري

فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص بل إنما تعلم بالقياس وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط ويردون قياس الأولى وفحوى الخطاب والعلة المنصوصة ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال

وكل من الطائفتين مخطئة غالطة فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما وقصرت في معرفتهما وفهمهما واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي تغنى من شيئا أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله

وكثيرا ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك من غير دليل يدله على ذلك بل بمجرد اشتباه قام في نفسه أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد التي متى حوقق عليها سقط بناؤه وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب فضلا عن أن يكون من كلام المعصوم وقد يتمسكون بما يظهر له من ألفاظ المعصوم ولا تكون داله على ما فهموه

وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله - في زعم أحدهم - مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها ويفرق بين المتماثلين تفريقا لا يأتى به عاقل فضلا عن نبي معصوم وتجمد على ما تراه ظاهر النص من خطائها في فهم النص ومراد قائله وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل والرجل العاقل

والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة التي نطق بها الكتاب والسنة وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه والاجتهاد في عدل الشخص المعين والنفقه بالمعروف للمرأة المعينة والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين المثل الواجب في إتلاف المال المعين وصلة الرحم الواجبة ودخول أنواع من المسكرات في اسم الخمر وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه

فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء وهو ضروري في كل شريعة فإن الشارع غاية ما يمكنه بان الأحكام بالأسماء العامة الكلية ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان

وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة وجزاء الصيد وعدل الشخص ونحو ذلك وهذا لا حجة فيه فإن مثل هذا لا نزاع فيه وهو ضروري لا بد منه ولا يمكن إثبات حكم النوع - أو عين - إلا بمثل هذا

ونفاة القياس لا يسمونه قياسا وإن سماه المسمي قياسا كان نزاعا لفظيا والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب هو من قياس الشمول وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض هو من قياس التمثيل لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم وإن سماه الممي قياسا كليا بل هو عمدتهم وعصمتهم هو واستصحاب الحال فهذا نوع ومن نازع في القياس والعموم جميعا - كما فعل ذلك من فعله من الرافضة - فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط وهي داخلة فيه وليس كذلك فإن هذه فيها نزاع

وهنا نوع ثان يسمى تنقيح المناط وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها بل يتناولها وغيرها فيحتاج أن ينقح مناط الحكم أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم بحيث لا يزداد عليه ولا ينقص منه

وهذا كأمره للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة ثم لما أتى العرق قال: أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن وأمره لمن سأله عمن أحرم بعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بخلوق أن ينزع عنه الجبة ويغسل الخلوق ويصنع في عمرته ما كان صانعا في حجته وأمره لمن ابتاع صاعا جيدا من التمر بصاعين من الرديء أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيدا ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار ومثل رجمه لماعز والغامدية وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما وأمثال ذلك

فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي ليس مخصوصا بتلك الأعيان بل يتناول ما كان مثلها لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم

وهذا قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا فالظاهر: مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن وسبب القطع هو السرقة والخفي: مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع أو لعموم الإفطار وهل وجبت لنوع من الإفطار أو لجنسه؟ وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان أو لوقاع في صوم واجب في رمضان؟ سواء كان صحيحا أو فاسدا؟ كما يجب في الإحرام الواجب سواء كان صحيحا أو فاسدا فهذه مما تنازع فيه الفقهاء

وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة والسمن ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان فلا بد من إثبات حكم عام وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس أو أكثرهم وكثير من الفقهاء لا يسميه قياسا بل يثبتون به الكفارات والحدود وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس فإنه هنا قد علم يقينا أن الحكم ليس مخصوصا بمورد النص فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها إلا بدليل يدل على ذلك ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات ظهر خطاؤهم يقينا فإن الشارع - صلوات الله عليه - لم يعلق الحكم في خطابه بفأره وقعت في سمن ولكن السائل سأله عن ذلك والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة أو نوع باسمه لم يجب أن يكون الحكم معلقا مختصا بما سأل عنه السائل بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلا في حكم عام كما إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصا بتلك العين ولا فرق بين أن يسأل عن عين أونوع فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال فهذا من أعظم الغلط

وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة دل على فهمه لمراد الرسول مثل أن يقول القائل: الحكم هنا ليس متعلقا بمجرد الميتة بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه: { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فإن الميتة وإن شاركت الخنزير والدم في التحريم فقد شمل الجميع اسم الخبيث فالتحريم متناول للوصف العام ليس مخصوصا بنوع من الأنواع وكلام الرسول ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك - وهو الخبث - فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة سواء كان دما أو ميتة متجسدة ونحو ذلك ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك ثم يبقى النظر: هل يفرق بين الماء وسائر المائعات؟ أو يسوي بينهما؟ وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما؟ وهل يفرق بين القليل والكثير أو يسوى بينهما؟ هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء

والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس وكذلك العلة المنصوصة وكذلك القياس في معنى الأصل وقياس الأولى وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة فهذا محل اجتهاد ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة ومنهم من يقول بالمؤثر وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتا لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر وأما إذا لم يكن مؤثرا فهو الذي يسمونه المناسب الغريب وفيه قولان مشهوران فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة

ومن تدبر الأدلة الشرعية: منصوصها ومستنبطها تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلا فإن الرسول بعث بالعدل فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقضي تلك التسوية ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح كما لا يتناقض معقول صريح ومننقول صحيح بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس كان أحد الأمرين لازما: إما أن القياس فاسد وإما أن النص لا دلالة له

ومع هذا فالكتاب والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العامة لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب لإدخال كل معين تحت نوع وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول

وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع وتناولها الاعتبار الصحيح وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العموم الذي يرجع إلى تحقيق المناط وهو في معنى قياس الشمول البرهاني والاعتبار الصحيح تناولها بطريق قياس التمثيل الذي يتضمن التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه وكما أن القياس الشمولي والتمثيلي يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا مع فسادهما أو فساد أحدهما فكذلك الخطاب العام والاعتبار الصحيح يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا لفساد دلالتهما أو أدلة أحدهما

وهذا تنبيه على مجامع نظر الأولين والآخرين في جميع استدلالهم ومن تبصر في ذلك وفهمه وعلم ما فيه من الأحاطة وبين له أن دلائل الله تعالى لا تتناقض وأن ما جاء به الرسول هو الحق الموافق لصرائح المعقول وأن ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد وإن فهم - مع ذلك - مسألة التحسين والتقبيح العقلي وارتباطها بمسألة المناسبات ورجوع جنس التحسين والتقبيح إلى حصول المحبوب ودفع المكروه - هو المعروف والمنكر - كما يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم وإن هذا يرجع إلى الحق النافع وفي مقابلته الباطل الذي لا ينفع وهذا يرجع إلى الحق الموجود وفي مقابلته المعدوم - تبين به أيضا تناسب جميع العلوم الصحيحة والموجودات المعتدلة والشرائع الإلهية وأعطى كل ذي حق حقه: { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وإذا أحسن الاعتبار تبين له ما في منطق اليونان وفلسفتهم من الصواب والخطأ في الحد والبرهان لت سيما في مواد القياس والبرهان وتبين له كثير من خطأهم في التفريق بين المتماثلين والتسوية بين المختلفين مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية وليس الأمر كذلك وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية كما قد ذكر في غير هذا الموضع فهذا لمعة من كلام علماء الكلام وغيرهم في طريقة الأعراض ونحوها

كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

وأما كلام الفلاسفة في هذا الباب فقال القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد في كتابه المعروف بالأصول في العقائد: ( قد رأيت أن أفصح في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه: إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ما عرض لهم من الضلال عن مقصد فهم الشريعة

وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة: الطائفة التي تسمى بالأشعرية والتي تسمى بالمعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذا الطوئف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها في تلك الاعتقادات وزعم كل منهم أن اعتقاده هو الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو: إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشرع ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة

وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع الذي لا يتم الإيمان إلا به وأتحرى في ذلك مقصد الشارع دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز

ونبتدي من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر آراء تلك الفرق المشهورة فنقول: أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا: إن طريق معرفة وجود الله سبحانه هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانا كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه )

قال: ( وهذه الفرقة الظاهر منها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تبارك وتعالى )

تعليق ابن تيمية

قلت: ليس المقصود هنا الكلام علىكل ما يقوله هذا الرجل فإن حصره للمسلمين في هذه الطوائف الأربعة تقصير منه إذ السلف والأئمة وخيار المسلمين ليس منهم واحد من هذه الطوائف فإن المعتزلة قد عرفت بدعتهم عند المسلمين والأشعرية جاءوا بعدهم وما كان في كلامهم من حق فهو قول السلف والأئمة وما كان فيه من باطل فهو مما أحدث كأقوال المعتزلة وغيرهم

وأما الباطنية فهم أبعد عن السلف والأئمة من هؤلاء وهؤلاء

وأما الذي سماهم بالحشوية فهذا الذي ذكره عنهم إن يريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفي فيه مجرد إخبار من لم يعلم صدقه بعد فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول فضلا عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول أو قول سلف الأمة وأئمتها ولكن غاية ما قد يقال: إن الجزم بوجود الرب تعالى يكفي في الأيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك

وقد تنازع الناس في الجزم: هل يمكن أن يكون يغير علم أم لا؟ وهل يحصل الإيمان بدون العلم به أم لا؟ وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل بعد ذلك طلب العلم به أم لا؟

وتنازعوا في العلم به: هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسبا؟ ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها

وكذلك العلم بصدق رسول الله أو غيره من المخبرين له طرق متنوعة ليس هذا موضعها فغير الرسول إذا أخبر بشيء قد يعلم صدقه بوجوه متنوعة فالرسول أولى أن يعلم صدقه كذلك وقد يفرق في التصديق بين شخص وشخص فهذا وأمثاله مما يقوله من يتكلم في العلم

فهؤلاء قد يقولون: العلم بوجود الرب هو فطري ضروري لا يتوقف على النظر والعلم بصدق الرسول مع ما يقترن برسالته من آيات الصدق التي تحصل أيضا بالضرورة

وإذ حصل العلم بالصانع تعالى وبالرسول بعلوم ضرورية أمكن بعد هذا أن يعلم تفصيل المعرفة بالله وصفاته وغير ذلك بطريق السماع من الرسول

ومما يبين هذا أن الذين خاطبهم الرسول كان عامتهم مقرين بالصانع وكانت آيات رسالته وأعلام نبوته أظهر عند طالب الحق من أن تخفى على عاقل

وأيضا فقد يقال: إن من الناس من يحصل له العلم بحال الرسول وأنه عالم صادق فيما يذكره من العلوم الإلهية والمعارف الدينية ثم يعرف من الرسول هذه العلموم كما قد يسلكه أبو حامد وهذا الرجل وغير واحد في العلم بالنبوة - فيقولون نعلم أن هذا نبي كما نعلم أن هذا الطبيب وأن هذا شاهد عدل وأن هذا أمين وسائر الصناعات فإنه إذا علم وجود النوع كان العلم بأن هذا الشخص من أهل هذا النوع له طرق متنوعة فهذا طريق تعرف به نبوة النبي قبل العلم بتفصيل العلوم الإلهية والدينية

وبالجملة فالعلم بنبوة النبي لها طرق كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع فالذين يسلكون في معرفة الله تعالى طريق السماع والخبر المجرد يعرفون صدق النبي أولا ثم يعلمون بخبره ما أخبر به

ولعلم بصدق النبي ليس موقوفا على إثبات المقدمات التي يذكرها كثير من أهل الكلام كالمعتزلة ومن تبعهم لما سلكوا في ذلك طريق إثبات حدوث الأجسام بما ادعوه من التركيب وبما اتصفت به من الاختصاص وبما قام بها من الأعراض والحوادث وظنوا أنه لا طريق إلى العلم بصدق الرسول إلا هذه - أخذوا يشنعون على من لم يسلك هذه الطرق أو قال ما يناقض مقدماتها وقد عرف بطلان طريقهم شرعا وعقلا ولهم ولنحوهم من أهل الكلام الباطل تشنيعات على أهل الجماعة

وقد تقدم من كلام أبي سليمان الخطابي وغيره في الغنية عن الكلام وأهله وبيان طريق المعرفة بهذا الموضع ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسملين فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام كالمعتزلة ونحوهم ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم ويسمونهم حشوية فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المتعتزلة ونحوهم رووا عن عمر بن عبيد أنه قال: عبد الله بن عمر حشويا وهم يسمون العامة الحشو كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو فما كان السلف والأئمة يردونهم إلى الشرع وظنوا هم أن الشرع لا يدل إلا بمجرد خبر رسول الله قالوا بطريق الإلزام فيلزم أن يكون وجود الصانع تعالى يكفي فيه مجرد خبر الرسول بوجوده وكان هذا من تقصيرهم في معرفة الشرع فإن الشرع يتضمن بيان الدلائل العقلية التي يحتاج إليها وينتفع لها في هذا الباب

وقد اعترف بذلك أئمة طوائف الكلام والفلسفة الذين يقولون: لا تعرف إلا بالعقل بل الذين يقولون بأن وجوب المعرفة والنظر ثابت في العقل كما سنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم في ذلك فإن الكتاب - والرسول - وإن كان يخبر أحيانا بخبر مجرد كما يأمر أحيانا بأمر مجرد فهو يذكر مع إخباره عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد ما يبين الطرق التي يعلم لها ثبوت ذلك وما يهدي القلوب ويدل العقول على معرفة ذلك ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه فضلا عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه

ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد - طريقا عقليا يعرف به وجود الصانع أو شيء من أحواله - من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء

تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

مما يبين أصل الكلام في هذا المقام أنه قد تنازع الناس في أصل المعرفة بالله: هل تحصل ضرورة في قلب العبد؟ أو لا تحصل إلا بالنظر؟ أو تحصل بهذا تارة وهذا تارة؟

القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

فذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الطوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم إلى أنها لا تحصل إلا بالنظر وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد: هل هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة؟ وقد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم

والنزاع لفظي فإن النظر واجب وجوب الوسيلة من باب ما لا يتم الوجب إلا به والمعرفة واجبة وجوب المقاصد فإول واجب وجوب الوسائل هو النظر وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر وهو أيضا نزاع لفظي فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة وحكى عن أبي هاشم أنه قال: أول الواجبات الشك وقال كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم: إن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العقلاء البالغين من غير سبب يتقدم وغير نظر وبحث وأنها تقع ضرورة ويذكر ذلك عن صالح قبة وفضل الرقاشي وغيرهما وعن الجاحظ أنه قال: معرفة الله ضرورية وأنها تقع في طباع نامية عقب النظر والاستدلال وأن العبد غير مأمون بها ويذكر نحو ذلم عن ثمامة بن أشر

وذكروا عن الجهم أنه قال: معرفة الله واقعة باختيار الله لا باختيار العبد لأن العبد لا يفعل شيئا

وقال جمهور طوائف المسلمين: يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر بل قال كثير من هؤلاء: إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة فالذين جوزوا وقوعها ضرورة هم عامة أهل السنة وسائر المثبتين للقدر كالأشعري وغيره

وتنازع نظارهم: هل ذلك بطريق خرق العادة أو هو معتاد؟ على قولين ومن هؤلاء القائلين بأنها تحصل تارة بالضرورة وتارة بالنظر أبو حامد والرازي والآمدي وغيرهم

ولهذا لما أوردوا عليهم في مسألة وجوب النظر: أن المعرفة قد تحصل بغير الحس والخبر والنظر بطريق تصفية النفس وأنها طريق الصوفية وأنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية بخلاف أصحاب النظر فإنه قد لا يحصل لهم هذا الجزم

وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى تحصيل معرفة الله فلا أقل من أن تكون هي من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله تعالى

كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

فقال الرازي في كتابه الكبير نهاية العقول في الجواب: العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية وإما أن لا تكون فإن كانت ضرورية فلا كلام لنا فيها فإنا قد نسلم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية أو يلزم فإن لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية فلا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد توجد لأصحاب الرياضة من المبطلين من اليهود والنصارى والدهرية )

كلام الآمدي في الأبكار

وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجوب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع: ( إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال بل أمكن حصولها بطريق آخر إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه كالمؤيد بالمعجزات الصادقة وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى تعليم وتعلم )

وقال في الجواب: ( قولهم: لا نسلم توقف المعرفة على النظر قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله بغير النظر وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر في حقه غير واجب )

وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون: بإيمان العامة: إما لحصول المعرفة لهم ضرورة وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم

كلام أبي الحسن الطبري الكيا

وممن ذكر ذلك أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا في كتابه في الكلام أو بعض نظرائه من أصحاب الأستاذ أبي المعالي قال: ( فإن قيل: إذا قلتم: إن النظر واجب والمعرفة واجبة فما قولكم في العوام وسائر الناس الذين لا ينظرون ولا يعرفون؟ أهم مؤمنون أم كافرون؟ قلنا: اختلف في هذا علماء الأصول أما أبو هاشم رأس القدرية فإنه ركب الأبلق العقوق في هذا وقال: من لا يعرف الله فهو كافر غير مؤمن وقال: المعرفة واجبة فإذا لم تحصل فضدها النكرة والنكرة كفر وقرره بأن هؤلاء العامة يقولون: إنهم مخيرون في المذاهب أم غير مخيرين؟ فإن قلتم: إنهم مخيرون بين الرفض والاعتزال والقدر والتجسيم والتشبيه وغير ذلك من المذاهب فهذا خطأ وعناد وإن قلتم: لا يخيرون بل يتبعون بعض المذاهب فلا يمكن اختيار بعض المذاهب إلا بدليل وذلك هو العلم والنظر )

قال: ( وأما علمائنا فكلهم مجمعون على أن العامة مؤمنون وأنهم حشو الجنة إلا أنهم اختلفوا في ذلك فقال قائلون: إنهم عالمون بالله تعالى عارفون بالأدلة إلا أن عبارتهم غير مفصحة بالألفاظ المصطلح عليها وإلا فالأدلة في طي عقولهم ونشر نفوسهم وإذا رأى أحدهم خضرة تفوه يقول: سبحان الله وما هذا نظر منه وقالوا: لا معنى للعلم إلا اعتقاد المعلوم على ما هو عليه وهذا موجود في حق العامة ثم أنهم قالوا في العلوم النظرية: ما قولكم فيها؟ أتجيزون وجودها ضرورة أم لا تجوزوا ذلك فقد أبعدتم وإن جوزتم ذلك فألا قلتم مثله ههنا؟ ويكون التكليف الوارد في حقهم قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله وتكون المعارف ضرورية )

قال: ( وقال قائلون من علمائنا: هم مؤمنون غير عالمين لأن العلم حقيقة فإن وجدت حكمنا بإنهم عالمون وإلا فلا والعلم معرفة المعلوم على ما هو به على وجه لا يمكن الانحلال عنه ولا الانفكاك منه وإذا طرأت علية شبهة لا يرتاع لها ولا يتشكك

وهذا العلم بناؤه على طريق يفيد العلم ولا يوجد هذا في حق العامة فإنهم وإن اعتقدوا المعلوم على ما هو به إلا أنهم يعرضه التشكك إذا ذكرت لهم شبهة أذ لا يقدرون على دفعها بطريق يستند العلم إليه لأنهم يدفعون الشبه باتباع الآباء والتعصب الذي نشأوا عليه وهذا لا يحصل به العلم وإذا قال: إن العم حصل بغير اتباع الآباء والتقليد فهذا عالم حقيقة كسادات الصوفية فإن المعارف في حقهم ضرورة )

قال: ( وأما قوله بأن العامة ينظرون قلنا: لعمري ذاك كله مبادىء النظر وما وصلوا إلى غاية النظر وهو وقوف منهم على أحد شطري الشيء لأنهم يقولون: العالم حادث ويجوز أن يكون حادثا ويجوز أن يكون قديما مثلا فيعتقد حدوثه لا ينظر إلى الجانب الآخر والعالم يستعرض المسالك ويشرحها بالمدارك وينهي النظر إلى الغاية القصوى )

قال: ( فإن قيل: كيف يكونون مؤمنين وليسوا بعارفين؟ قلنا: لأن الله تعالى أوجب عليهم هذا القدر ولم يوجب عليهم العلم وهذا معلوم بضرورة العقل مستندا إلى السمع فإن الرسول كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع علمنا بقصور علمهم عن معرفة النظر والأدلة بل يجب عليهم نفي الشك عنهم فإذا كانوا قد نفوا الشك واللبس عنهم وعقائدهم مستقرة فهم مؤمنون ولا نقول: يجب العلم بل لو زال الشك عنهم بخبر التواتر ظاهرا أو قول بعض المشايخ أو منام هائل في حق الخصوم ثم سكنت قلوبهم إلى اعتقادهم صح ذلك فإن لم يزل عنهم الشك إلا بالعلم فعند ذلك لا بد منه )

قال: ( وفي القرآن حجاج وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج غير أن العامي يكتفي له كقوله تعالى: { أفعيينا بالخلق الأول } وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء وكذلك قوله تعالى: { ويجعلون لله ما يكرهون } { ألكم الذكر وله الأنثى } وليس هذا يدل على نفي الولد قطعا فمبادىء النظر كافية لهم فإن قيل: فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس فهل يجب على الآحاد؟ قلنا: أجل يجب في كل عصر أن يقول به آحاد الناس وهو فرض من فروض الكفايات كالجهاد وتعلم القرآن وغير ذلك من فروض الكفايات فأما عامة الناس فلا يتعين عليهم العلم بل الاعتقاد الصحيح يكفيهم )

تعليق ابن تيمية

قلت: المقصود أن الطائفة الأولى الذين قالوا: إن العامة عليهم العلم قالوا: إنه قد يحصل لهم ضرورة وقد يحصل بالنظر والطائفة الثانية الذين اكتفوا بالاعتقاد اعترفوا بأن من الناس من يحصل له المعرفة ضرورة كسادات الصوفيه وأما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل وما بعث به الرسول حتى قد يقول بعضهم: إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقلية

وقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول مع مخالفتهم لصحيح المنقول ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإلهية مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل وذلك أن الله تعالى ليس مماثلا لشيء من الموجودات فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع فإنه سبحانه لا مثل له وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى مثل أن يقال: كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه لأنه سبحانه واجب الوجود فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه ولأنه مبدع الممكنات وخالقها فكل كمال لها فهو منه وهو معطيه والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال كما يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة

وكان المشركون يقولون: إن الملائكة بنات الله كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } وهم مع هذا يجعلون البنات نقصا وعيبا ويرون الذكر كمالا فقال لهم: كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم؟ فهذا احتجاج عليه بطريق الأولى في بطلان قولهم: إن له البنات ولهم البنين لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقا كما يقول من يفتري على القرآن

قال تعالى: { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون } { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } إلى قوله تعالى: { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون }

فبين سبحانه وتعالى أنهم يفضلون أنفسهم على ربهم ويجعلون له ما يكرهون ويقولون بوصفهم الكذب أن لهم الحسنى وأنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون وأن ما جعلوا لله نظيره إذا بشر به أحدهم ظل وجه مسودا يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون فبين سبحانه أن هذا الحكم حكم سىء

كما قال تعالى في الآية الأخرى: { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } أي قسمة جائرة وقال في الآية الأخرى: { وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } فقال تعالى مقيما للحجة مخاطبا باستفهام الإنكار المبين لبطلان ما أنكره وامتناعه وأن ذلك مستقر في الفطر: { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } فإنه لوقدر على سبيل الفرض أن يتخذ ولدا أكان يتخذ مما يخلق بنات ويصفيكم بالبنين؟ ! أي يجعل البنين صافين لكم لا يشرككم في اتخاذ البنين بل تكونون أنتم مخصوصون بخير الصنفين وهو سبحانه مخصوص بالصنف المنقوص؟ !

ثم ذكر عنهم ما يبين فرط نقص البنات عندهم فقال: { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } وهن الإناث كما ذكر ذلك في سورة النحل أي بالذي جعله مثلا للرحمن وهن البنات اللاتي جعل للرحمن مثلهن فضربه للرحمن مثلا أي جعله له مثلا حيث مثل به الملائكة الذين جعلهم بنات الله فجعلهن يماثلن البنات اللاتي جعل الرحمن مثلهن فضرب للرحمن - أي جعل له - مثلا يماثل البنات اللاتي إذا بشر أحدهم بها ظل وجهه مسودا وهو كظيم

ثم بين نقص النساء فقال: { أو من ينشأ في الحلية } وهن النساء تربين في الحلية: { وهو في الخصام غير مبين } وهي المرأة لا تكاد تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها فبين أنهم من نقصهن يكملن بالحلية التي تزينهن في أعين الرجال وهي لا تبين في الخصام

وعدم البيان صفة نقص فإن الله ميز الإنسان بالنطق والبيان الذي فضله به على سائر الحيوان كما قال تعالى { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } وقال: { اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم }

وأهل المنطق يقولون: الإنسان هو الحيوان الناطق ولما كان هذا أظهر صفاته قال تعالى: { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } وقد قال تعالى: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } وهذه هي الأصنام الكبرى التي كانت بمدائن الحجاز فإنه كانت اللات لأهل المدينة والعزى لأهل مكة ومناة الثالثة الأخرى لأهل الطائف

وهذه كلها مؤنثة كما قال في الآية الأخرى: { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا }

وهذه جعلوها شركاء له تعبد من دونه وسموها بأسمائه مع التأنيث كما قيل: إن اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من مني يمنى إذا قدر وكانوا يسمونها الربة وهم سموها بهذه الأسماء التي فيها وصفها لها بالإلهية والعزة والتقدير والربوبية وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان أي من كتاب وحجة فإن الله تعالى لم يأمر أحدا بإن يعبد أحدا غيره ولم يجعل لغيره شركاء في إلهيته

كما قال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }

وهو سبحانه دائما ينزه نفسه في كتابه العزيز عن الشريك والولد كما ذكره في سورة النحل حيث قال: { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم } الآية وما بعدها

وقال: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا }

وقال تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك }

وقال تعالى: { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد }

وقال تعالى: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون }

وقالت الجن: { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا }

وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقا لم يذكر هذه الحجة التي لن يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج وظن هو وأمثاله من أهل الضلال أن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين

بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب كقوله تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }

وقال تعالى: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم }

والكلام على هذه الآيات وما فيها من الأسرار مذكور في غير هذا الموضع وقد بين هناك أن هؤلاء الآيات تضمنت إبطال قول المبطلين من المشركين والصابئين وأهل الكتاب وتضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب وما يقوله النصارى وما يقوله مشركو الصابئة وفلاسفتهم الذين يقولون بتولد العقول أو العقول والنفوس عنه

ومن أراد الجمع بين كلامهم وبين النبوات سماها ملائكة ويقول: العقل كالذكر والنفس كالأنثى فهؤلاء خرقوا له بنين وبنات بغير علم

ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض والإبداع خلق الشيء على غير مثال بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما

والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته مع استقلال الخالق له وعدم شريك له والتولد لا يكون إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه

تعليق ابن تيمية

وقال تعالى: { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله: { ولم تكن له صاحبة } فإن التولد لا يكون إلا من أصلين وليس في الموجودات ما يكون وحده مولدا لشيء بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون: لا يصدر عن الواحد إلا واحد حتى قالوا: إن الواجب لم يصدر عنه أولا إلا العقل ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك

وهذا الكلام وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة كما قد بسط في موضعه فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات بل هذا الواحد لا حقيقة له

وأيضا فإنه لا يعرف في الوجود واحد صدر عنه بمجرده شيء وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الإحراق والتسخين والماء لا يصدر عنه إلا التبريد والشمس يصدر عنها الشعاع ونحو ذلك كلها حجج عليهم فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين: أحدهما: النار أو الشعاع أو الحركة فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة والثاني: محل قابل لذلك كبدن الحيوان والنبات ونحو ذلك وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار

وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع

وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن الأول الواجب الوجود الذي يسمونه العلة هو ذات بسيطة ليس له نعت من النعوت وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضا لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة وهنا كل ما سوى الأول فهو معلول له ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك كاشتراك الشمس والمطارح القابلة واشتراك النار والموارد القابلة

فقوله تعالى: { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحب له فكيف يكون له ولد

وهذا القدر لما كان مستقر في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولدا ونتاجا إنما يكون عن أصلين فالأمور التي تسمى متولدات - كالشبع والري ونحو ذلك - إنما حدثت عن أصلين: فعل العبد والأسباب الأخر المعاونة له

وكذلك النظار يقولون: النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من الحيوان لأن هذين أصلان في التوليد وهذين أصلان في التولد

ثم قال تعالى: { وخلق كل شيء } وذلك بيان لأنه إذا كان خالقا لجميع الأشياء فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه؟ والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد

كما قال تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا }

وقال تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه فلا يكون عبده من هذه الآية لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد

وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى كما في الصحيح [ أن النبي مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال: لعل صاحبها يلم بها؟ قالوا: أجل قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له؟ ]

فبين أنه إذا وطىء تلك الحبلى وسقى ماءه زرع غيره فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين يصير شريكا له في التولد وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده ولا أن يجعله موروثا عنه كما يورث ماله فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره فكيف بالولد الذي انعقد منه؟

وكذلك قوله تعالى: { وهو بكل شيء عليم } كما قال في الآية الأخرى: { لقد أحصاهم وعدهم عدا } فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه لا ينفردون عنه بشيء كما ينفرد الولد عن والده والشريك عن شريكه

وقوله في الآية الأخرى: { بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته وأنها منقادة له فإذا قال له: كن كانت وهذا مناف للتوليد بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة ( كن )

وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له: كن فيكون؟

وأما ما ذكره من قوله تعالى: { أفعيينا بالخلق الأول } وقول ذلك القائل: من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الأول فيقال له: مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن كان فيه الدلالة على جهله وضلاله ما لا يقدر على وصفه الإنسان

وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من دلائل المعاد وبراهينه ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق

فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان وبطريق الاعتبار والبرهان والأول أعظم الطريقين فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع

كما قال تعالى في سورة البقرة: { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية

وقال في قصة البقرة: { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون }

وقال في الذين خرجوا من ديارهم: { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس } الآية - وهي قصة معروفة

وقال تعالى: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام وموت حماره ومعه طعامه وشرابه ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات

وذكر بعد ذلك قول إبراهيم: { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلا مضروبا لاختلاط الأخلاط الأربعة ثم أحيى الأطيار وميز بين هذا وهذا وجعلهن يأتين سعيا إجابة لدعوة الداعي فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل

فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين وقصة في إحياء البهائم وقصة في إبقاء الطعام والشراب وقصة في إحياء الطير وذلك في غير هذا موضع إحياء المسيح للموتى وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياما لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا

وقال في القصة: { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها }

فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول وإخبارهم بها من أعلام نبوته كما قد بسط في موضع آخر

وأما الصنف الثاني وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارة بخلق النبات ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على إنبات النبات وتارة يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى

وتارة يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور }

وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان

وقال تعالى: { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم

وقال تعالى: { ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج }

وقال تعالى: { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور }

وقال تعالى: { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون }

وقال تعالى: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم }

وقال تعالى: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }

وقال تعالى: { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه }

وقد بين سبحانه من حجج منكري المعاد والجواب عنها وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه كما في قوله: { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } إلى آخر الآيات وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه

فأما الآية التي ذكرها القائل التقدم وهي قوله: { أفعيينا بالخلق الأول } فإن العرب تقول: عي وعيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه ويقول الرجل: عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه وأعياني هو

وقال الشاعر :

عيوا بأمرهم كما... عييت ببيضتها الحمامة

فالعيي بالأمر يكون عاجزا عنه مثل أن لا يدري ما يفعل فيه فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه وأن ذلك معلوم عند المخاطب: { أفعيينا بالخلق الأول } فلم نكن عالمين بما نصنع فيه ولا قادرين عليه؟ أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا وأتنيا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا؟

وهذا نظير قوله: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }

تعليق ابن تيمية

ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل أفلا يكون ذلك دالا على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعي بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأخرى؟

ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية فظن أن قوله: { ولم يعي بخلقهن } وهو من الإعياء: الذي هو النصب اللغوب وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول فكيف نتعب في الثاني؟ فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن ولا يفرقون بين عيي وأعياء فقد أوتي من جهة جهله بالعقل والسمع

وهؤلاء المبتدعين يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول لتبينوا أنه الجامع لكل خير

وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب

وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث فجعلوا القديم الأزلي داخلا في مسمى الممكن وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم مع تناقضهم في ذلك

وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلا على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح كما قد بسط في موضعه ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات فكثير من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول: إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات

ومآل القولين واحد وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود فمن جعله هو الوجود الواجب أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك كان منكرا للصانع ثم إذا كان هذا الوجود الواجب كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه كما بينا ذلك في غير هذا الموضع

فمن جعله وجود كل موجود كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها ويوقعهم في شر مما منه فروا

والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال: { أفعيينا بالخلق الأول } لم يرد الإعياء الذي هو التعب وإيما أراد العي كما تقول العرب: عيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه ومن كان خالقا لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى

والملاحدة المنكرون للعماد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته ونفي العي يثبت هذه الصفات فتنتفي أصول شبههم فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر والعلم - رهط الفارابي وابن سينا وأمثالهما - عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات لا يختلف فعلها فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك

وهؤلاء في كلامهم من نفي قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقا للمحدثات

وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة دل على الخالق العليم القدير الحكيم علم فساد قول هؤلاء فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها فلا يكون مفعولا لها ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها لأن القول في تلك العلة كالقول في هذه ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له لأن الممكن لا يكون موجودا بنفسه بل لا بد له من موجد - سمي علة أو لم يسم - ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه لأن كون ذلك الممكن محدثا لها أمر ممكن محدث

فلا بد له من محدث فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل

ووجه الحصر أن يقال: محدث الحوادث: إما أن يكون هو الواجب بنفسه بوسط أو بغير وسط أو غير الواجب بنفسه وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن والممكن إما أن يكون له موجد وإما أن لا يكون والثاني ممتنع والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن فلا بد له من موجد

فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث يكون واجبا بنفيه ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها وهذا يبطل أصل قولهم

وهذا قول حذاقهم - كابن سينا وأمثاله - الذين يقولون: إنه صدر عن موجب بالذات ويحكى هذا القول عن برقلس وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئا ولا يفعل شيئا بل الفلك يتحرك للتشبه به - وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك

وإنما المقصود هنا التنبيه على أن قوله تعالى: { ولم يعي بخلقهن } فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى وبسط ذلك يطول

ومما يبين خذلان الله لأهل البدع والمخالفين للكتاب والسنة أن هذين الأصلين: أمر الولادة وأمر المعاد هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم الذين يقولون: إن العقول تولدت عن الله وينكرون إحياء الله الموتى

وفي الصحيح عن النبي أنه قال: [ يقول الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ] وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي من حديث أبي هريرة وابن عباس

وهؤلاء الملاحدة شتموه بما ذكروه من تولد الموجودات عنه وكذبوه بقولهم: لن يعيدنا كما بدأنا وضاهوا في ذلك أشباههم من ملاحدة العرب

قال تعالى: { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } إلى قوله: { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } إلى قوله تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }

فذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد وعلى من قال: إنه اتخذ ولدا كما جمع النبي بينهما في الحديث

وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله

ولهذا كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى لا على البرهان الذي تستوي أفراده أو يماثل فرعه أصله

قال تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } بعد قوله: { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم }

وقال تعالى في الآية الأخرى: { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن } أي بما ضربوه للرحمن مثلا والمثل الذي ضربوه له هو البنات وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب

فقال تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } ومن قال: إنه ولد الملائكة أو قال: إنه ولد العقول أو النفوس فإنه لا يؤمن بالآخرة فله مثل السوء

والله تعالى له المثل الأعلى فلا يضرب له المثل المساوي إذا لا كفو ولا ند فضلا عن أن يضرب له المثل الناقص ولا يكتفي في حقه بالمثل العالي بل له المثل الأعلى إذ هو الأعلى سبحانه والعلم به أعلى العلوم وذكره أعلى الأذكار وحبه أعلى الحب

والذي يبتغي وجه ربه الأعلى هو أعلى إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله كما قال تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال تعالى: { وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى }

ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } يقول تعالى: إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله بحيث يخاف ذلك المملوك كما يخاف السادة بعضهم بعضا فكيف تجعلون لي شريكا هو مملوكي وتجعلونه شريكا فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني؟

ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضا ملك ناقص فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه لا يملك عينه وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته وملك المستأجر بعض منافع أجيره ولهذا يشبه النكاح بملك اليمين كما قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته

وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى: { وألفيا سيدها لدى الباب } فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكا للمالك فكيف بالملك الحق التام لكل شيء؟ ملك المالك للأعيان والصفات والمنافع والأفعال الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه ولا لغيره ملك مفرد ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه كيف يسوغ في مثل هذا أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه؟

والشرك نوعان: أحدهما: شرك في الربوبية والثاني شرك في الإلهية فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله كمن يجعل الحيوان مستقلا بإحداث فعله ويجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية أو العقول أو النفوس أو الملائكة أو غير ذلك مستقلا بشيء من الإحداث فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به وجوده وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره فلا يتم به حدوث حادث ولا وجود ممكن

وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنما كان من النوع الثاني فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس

والثاني الشرك في الإلهية وضده هو التوحيد في الإلهية وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع ويستدفعون بها المضمار ويتخذونها وسائل تقربهم إليه وشفعاء يستشفعون بها إليه

وهؤلاء خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعا ولا ضرا إلا بإذنه فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل

بل قد قال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }

قال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }

وقال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }

وهذا المعنى كثير في القرآن: يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره ولا إذن في ذلك بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربا فاعلا يمتنع أن يكون إلها معبودا

وإذا كان جعل المملوك شريكا في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك يرهب منه كما يرهب من المالك - ممتنعا يوجب الفساد فجعل المملوك المخلوق شريكا لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزم الفساد

وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره فإذا كان يعلم أنه لا يضره إلا بإذن الله سبحانه كان الله تعالى هو الذي يجب أن يخاف وكذلك الذي يرجوه إذا كان إنما يرجو نفعه وهو لا ينفعه إلا بإذن الله كان الله هو الذي يجب أن يرجى إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله بخلاف مملوك البشر فإنه - وإن كان لا يترف في المال إلا بإذن سيده ولا يمنع من أذن له سيده - فقد يمكنه معصية سيده وإن كان في معصيته نوع من الفساد

والخالق تعالى لا يمكن أحدا أن يفعل شيئا إلا بمشيئته وقدرته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه من عجز المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده ومعصية المخلوق لأمره الذي أرسل به رسله أعظم فسادا من معصية المملوك لأمر سيده

قال تعالى في قصة الخليل ومناظرته لقومه: { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون }

قال تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }

وقال تعالى: { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم }

ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل وهما متلازمان كان من سلك الطريق العقلي دله على الطرق السمعي وهو صدق الرسول ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية كما بين ذلك القرآن وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا

كما قال أهل النار: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }

وقال تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }

ولهذا نفى سبحانه عن الشرك الطريق السمعي والعقلي ونفى شرك الإلهية والربوبية في مثل قوله: { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } فطالبهم أولا بالطريق العقلي وثانيا بالطريق السمعي

ونظيره قوله: { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } وهذا باب واسع قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه اللطيف على بعض ما في القرآن من تقرير المعاد ونفي الولد والشريك إذ كان هذا فصلا معترضا في هذا المقام

فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة كما هو قول الكلابية والأشعرية وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية والنجارية والجهمية وغيرهم وهو قول طوائف أهل السنة من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفه ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم

وإنما ينازع في ذلك من ينازع من القدرية كالمعتزلة ونحوهم مع أنهم متنازعون في ذلك بل كثير من أهل الكلام بل وجمهور العلماء يقولون: إن الإقرار بالصانع حاصل لعامة الخلق بطريق الضرورة

ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

كما ذكر الشهرستاني في كتابه المعروف بنهاية الإقدام في قاعدة التعطيل قال: ( قد قيل: إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى: منها: تعطيل الصنع عن الصانع ومنها: تعطيل الصانع عن الصنع ومنها: تعطيل الباري عن الصفات الأزلية الذاتية ومنها تعطيل الباري عن الصفات الأزلية القائمة بذاته ومنها: تعطيل الباري عن الصفات والأسماء أزلا ومنها: تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها )

ثم قال أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أراها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية: أنهم قالوا: كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل منها العالم بشكله الذي تراه عليه ودارت الأكوار وكرت الأدوار وحدثت المركبات )

قال: ( ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو معترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق احترازا عن التعطيل فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت - بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها - على صانع حكيم قادر عليم: أفي الله شك { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم }

قال: وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء: { دعوا الله مخلصين له الدين } { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه }

ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفي الشريك { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا } { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا }

قال: ( وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان ويدعي كل واحد من جهة الاستدلال ضرورة وبديهة )

قال: ( وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه بعد تقديم المقدمات ودون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتجاج ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج

{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه } { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } { ومن يرزقكم من السماء والأرض } { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده }

قال: ( وعن هذا المعنى قال : [ خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها ] فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها من تسويلات الشياطين فإنهم الباقون على أصل الفطرة وما كان له عليهم من سلطان: { فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى } { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى }

ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث يرجع إلى نفسه أدنى رجوع فيعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه: { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لم يتعطل عن الصانع الحكيم العالم القدير تعالى وتقدس )

وقال أيضا في أول كتابه: ( قد أشار إلي من إشارته غنم وطاعته حتم أن أجمع له مشكلات الأصول وأحل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهايات مسارح النظر وفزت بغايات مطارح الفكر ولعله استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم

لعمري لقد طفت المعاهد كلها... وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر... على ذقن أو قارعا سن نادم

فلكل عقل مسرى ومسرح هو سدرته المنتهى ولكل قدم محط ومجال هو غايته القصوى إذا وصل إليها ووقف دونها فيظن الناظر أولا أن ليس وراء مرتبته مطاف لطيف الخاطر ولا فوق درجته مطرح لشعاع الناظر ويتيقن آخرا أن مطار الأفكار إنما يتعلق بذوات المقدار وجناب العزة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )

إلى أن قال: ( وإذا كان لا طريق إلى المطلوب من المعرفة إلا الاستشهاد بالأفعال ولا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد كان اليقين أوفر وآكد: { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } لا جرم: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه }

والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخا في القلب من المعارف التي نتائج الأفكار في حال الاختيار )

تعليق ابن تيمية

قلت: فهذا كله كلام الشهرستاني وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر

وأما ما ذكره من أن إنكار الصانع ليس مقالة معروفة لصاحب مقالة فإنه وإن لم يكن مذهبا مشهورا عليه أمة من الأمم المعروفة لكنه مما يعرض لكثير من الناس ويقوله بعض الناس: إما ظاهرا دون الباطن - كحال فرعون ونحوه - وإما باطنا وظاهرا كما ذكر الله مناظرة إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه للذي حاجه في ربه ومحاجة موسى صلوات الله عليه وسلامه لفرعون

لكن هذا لا يمنع أن تكون المعرفة به مستقرة في الفطرة ثابتةبالضرورة فإن هذا نوع من السفسطة حال يعرف لكثير من الناس: إما عمدا وإما خطأ وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية والمعارف الفطرية في الحسيات والحسابيات وكذلك في الإلهيات ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس في العلوم الطبيعية والحسابية رأى عجائب وغرائب وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات فإنهم جنس عظيم التفاوت ليس في المخلوقات أعظم تفاضلا منه خيارهم خير المخلوقات عند طائفة أو من خيرها عند طائفة وشرهم شر المخلوقات أو من شرها

قال تعالى: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }

وقال تعالى: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } وقال تعالى: { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال }

وقال تعالى: { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص }

ونظير هذا كثير وكما تنازع النظار في المعرفة: هل تحصل ضرورة أو نظرا أو تحصل بهذا وهذا على ثلاثة أقوال فكذلك تنازعوا في مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال فقالت طائفة من الناس: إنه يجب على كل أحد وقالت طائفة: لا يجب على أحد وقال الجمهور: إنه يجب على بعض الناس دون بعض فمن حصلت له المعرفة او الإيمان عند من يقول: إنه يحصل بدون المعرفة بغير النظر لم يجب عليه ومن لم تحصل له المعرفة ولا الإيمان إلا به وجب عليه

كلام ابن حزم في الفصل

وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف ب الفصل في الملل والنحل فقال في مسألة: ( هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مسلما إلا من استدل؟ )

قال: ( وذهب محمد بن جرير والأشعرية إلا أبا جعفر السمناني إلى أنه لا يكون مسلما إلا من استدل وإلا فليس مسلما )

قال: ( وقال الطبري: من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال أو النساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال: وقال إنه أذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك )

قال: ( وقالت الأشعرية: لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ ) قال: وقال سائر أهل الإسلام: كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه وقال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبرىء من كل دين سوى دين محمد فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك

تعليق ابن تيمية

قلت: القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم ولهذا قال أبو جعفر السمناني: القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر لا سيما القدرية منهم فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم بل هم متنازعون في ذلك

درء تعارض العقل والنقل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55