مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى


سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى

سئل شيخ الإسلام عن الغلاء، والرخص: هل هما من الله تعالى أم لا؟

فأجاب:

جميع ما سوى الله من الأعيان وصفاتها وأحوالها مخلوقة لله، مملوكة لله، هو ربها وخالقها ومليكها ومدبرها، لا رب لها غيره، ولا إله سواه، له الخلق والأمر، لا شريك له في شيء من ذلك، ولا معين، بل هو كما قال سبحانه: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1.

أخبر سبحانه أن ما يدعي من دونه، ليس له مثقال ذرة في السماوات، ولا في الأرض، ولا شرك في ملك، ولا إعانة على شيء، وهذه الوجوه الثلاثة، هي التي ثبت بها حق الغير، فإنه إما أن يكون مالكًا للشيء مستقلا بملكه، أو يكون مشاركًا له فيه نظير، أو لا ذا ولا ذاك، فيكون معينًا لصاحبه، كالوزير والمشير، والمعلم والمنجد والناصر، فبين سبحانه أنه ليس لغيره ملك لمثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا لغيره شرك في ذلك لا قليل ولا كثير، فلا يملكون شيئًا، ولا لهم شرك في شيء، ولا له سبحانه ظهير، وهو المظاهر المعاون، فليس له وزير ولا مشير ولا ظهير.

وهذا كما قال سبحانه: {وَقُلْ الْحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} 2، فإن المخلوق يوالي المخلوق لذله؛ فإذا كان له من يواليه؛ عز بوليه والرب تعالى لا يوالى أحدًا لذلته تعالى، بل هو العزيز بنفسه و{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلله الْعِزَّةُ جَمِيعًا} 3، وإنما يوالي عباده المؤمنين لرحمته، ونعمته، وحكمته وإحسانه، وجوده، وفضله وإنعامه.

وحينئذ، فالغلاء بارتفاع الأسعار، والرخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببًا في بعض الحوادث، كما جعل قتل القاتل سببًا في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار، قد يكون بسبب ظلم العباد، وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس، ولهذا أضاف من أضاف من القدرية المعتزلة وغيرهم الغلاء والرخص إلى بعض الناس، وبنوا على ذلك أصولا فاسدة.

أحدها: أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى.

والثاني: إنما يكون فعل العبد سببًا له يكون العبد هو الذي أحدثه.

والثالث: أن الغلاء والرخص إنما يكون بهذا السبب.

وهذه الأصول باطلة، فإنه قد ثبت أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، ودلت على ذلك الدلائل الكثيرة، السمعية والعقلية، وهذا متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها، وهم مع ذلك يقولون: إن العباد لهم قدرة ومشيئة، وإنهم فاعلون لأفعالهم ويثبتون ما خلقه الله من الأسباب، وما خلق الله من الحكم.

ومسألة القدر، مسألة عظيمة، ظل فيها طائفتان من الناس طائفة أنكرت أن يكون الله خالقا لكل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما أنكرت ذلك المعتزلة، وطائفة أنكرت أن يكون العبد فاعلا لأفعاله، وأن تكون لهم قدرة لها تأثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره، وأن يكون الله خلق شيئًا لحكمة، كما أنكر ذلك الجهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة الذي نسب كثير منهم إلى السنة، والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع أخر.

والأصل الثاني: وهو إنما كان فعل العبد أحد أسبابه، كالشبع الذي يكون بسبب الأكل، وزهوق النفس الذي يكون بالقتل، فهذا قد جعله أكثر المعتزلة فعلا للعبد، والجبرية لم يجعلوا لفعل العبد فيه تأثيرًا بل ما تيقنوا أنه سبب، قالوا: إنه عنده لا به، وأما السلف والأئمة فلا يجعلون العبد فاعلا لذلك، كفعله لما قام به من الحركات، فلا يمنعون أن يكون مشاركًا في أسبابه، وأن يكون الله جعل فعل العبد، مع غيره أسبابا في حصول مثل ذلك.

وقد ذكر الله في كتابه النوعين بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ الله أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، والإنفاق والسير هو نفس أعمالهم القائمة بهم، فقال فيها: إلا كتب لهم، ولم يقل إلا كتب لهم به عمل صالح، فإنها نفسها عمل، فنفس كتابتها يحصل به المقصود، بخلاف الظمأ والنصب والجوع الحاصل بغير الجهاد، بخلاف غيظ الكفار بما نيل منهم، فإن هذه ليست نفس أفعالهم، وإنما هي حادثة عن أسباب منها أفعالهم؛ فلهذا قال تعالى: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} 5.

فتبين أن ما يحدث من الآثار عن أفعال العباد لهم بها عمل، لأن أفعالهم كانت سببًا فيها، كما قال : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

والأصل الثالث: أن الغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض، بل قد يكون سببه قلة ما يخلق، أو يجلب من ذلك المال المطلوب، فإذا كثرت الرغبات في الشيء، وقل المرغوب فيه، ارتفع سعره، فإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره، والقلة والكثرة قد لا تكون بسبب من العباد، وقد تكون بسبب لا ظلم فيه، وقد تكون بسبب فيه ظلم، والله تعالى يجعل الرغبات في القلوب. فهو سبحانه كما جاء في الأثر، قد تغلوا الأسعار والأهواء غرار، وقد ترخص الأسعار والأهواء فقار.


هامش

  1. [سبأ: 22، 23]
  2. [الإسراء: 111]
  3. [فاطر: 10]
  4. [التوبة: 120، 121]
  5. [التوبة: 120]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن
كتاب القدر | فصل في قدرة الرب عز وجل | سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك | سئل عن أقوام يقولون المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل | سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره | سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين | سئل عن الباري سبحانه هل يضل ويهدي | سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | سئل هل أراد الله تعالى المعصية من خلقه | سئل عن قول علي: لا يرجون عبد إلا ربه | سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون | فصل في اللام التي في قوله: ليعبدون | فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله | فصل في قوله تعالى: ادعوني أستجب لكم | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة | قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس | سئل عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان | سئل عن الخير والشر والقدر الكوني، والأمر والنهي الشرعي | قوله في معنى قول علي: إنما أنفسنا بأيديينا | سئل عن القصيدة التائية في القدر | فصل في أصناف القدرية | سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر | فصل احتجاجهم بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | فصل قول القائل: ما لنا في جميع أفعالنا قدرة | فصل قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا | فصل من قال: إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن | فصل احتجاجهم بحديث من قال لا إله إلا الله دخل الجنة | سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة | لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير | فصل تكليف ما لا يطاق | فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر | فصل الصواب في قصة آدم وموسى | فصل آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببا في مصيبتهم | فصل الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو | فصل في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله | فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله | فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها | سئل عن أفعال العبد الاختيارية | سئل عن أفعال العباد هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان | فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن | فصل مسألة تحسين العقل وتقبيحه | سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا | سئل عن أبيات في الجبر | فصل السلف على أن العباد مأمورون منهيون | فصل أن العباد لهم مشيئة وقدرة وفعل | فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله | فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها | فصل قول الناظم السائل لأنهم قد صرحوا أنه على الإرادات لمقسور | قول السائل ولم يكن فاعل أفعاله حقيقة والحكم مشهور | قول السائل ومن هنا لم يكن للفعل في ما يلحق الفاعل تأثير | فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله | قول السائل وكل شيء ثم لو سلمت لم يك للخالق تقدير | قول السائل أو كان فاللازم من كونه حدوثه والقول مهجور | قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور | قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور | سئل عن المقتول هل مات بأجله أم قطع القاتل أجله | سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى | سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم | فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب | فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا | سئل عن الرزق هل يزيد أو ينقص وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد | فصل والرزق يراد به شيئان | سئل عن الرجل إذا قطع الطريق وسرق هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له | سئل عن الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال | سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق | سئل عن قول: أبرأ من الحول والقوة إلا إليه