مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك


سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك

وسئل رحمه الله عن تفصيل الإرادة والإذن والكتاب والحكم والقضاء والتحريم وغير ذلك، مما هو ديني موافق لمحبة الله ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية؟

فأجاب:

الحمد لله، هذه الأمور المذكورة، وهي الإرادة والإذن والكتاب والحكم والقضاء والتحريم وغيرها، كالأمر والبعث والإرسال ينقسم في كتاب الله إلى نوعين:

أحدهما: ما يتعلق بالأمور الدينية التي يحبها الله تعالى ويرضاها، ويثيب أصحابها، ويدخلهم الجنة، وينصرهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وينصر بها العباد من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين وعباده الصالحين.

والثاني: ما يتعلق بالحوادث الكونية التي قدرها الله وقضاها مما يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأهل الجنة وأهل النار وأولياء الله وأعداؤه، وأهل طاعته الذين يحبهم ويحبونه، ويصلي عليهم هو وملائكته، وأهل معصيته الذين يبغضهم ويمقتهم ويلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.

فمن نظر إليها من هذا الوجه شهد الحقيقة الكونية الوجودية، فرأى الأشياء كلها مخلوقة لله، مدبرة بمشيئته، مقهورة بحكمته، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، لا معقب لحكمه ولا راد لأمره، ورأى أنه سبحانه رب كل شيء ومليكه، له الخلق والأمر، وكل ما سواه مربوبًا له، مدبر مقهور لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، بل هو عبد فقير إلى الله تعالى من جميع الجهات، والله غني عنه، كما أنه الغني عن جميع المخلوقات، وهذا الشهود في نفسه حق، لكن طائفة قصرت عنه، وهم القدرية المجوسية، وطائفة وقفت عنده وهم القدرية المشركية.

أما الأولون، فهم الذين زعموا أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله ومشيئته وخلقه، كأفعال العباد، وغلاتهم أنكروا علمه القديم، وكتابه السابق، وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة، فرد عليهم الصحابة وسلف الأمة، وتبرؤوا منهم.

وأما الطائفة الثانية، فهم شر منهم، وهم طوائف من أهل السلوك والإرادة والتأله والتصوف والفقر ونحوهم، يشهدون هذه الحقيقة ورأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد ومريد جميع الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتد ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبئ، ولا ولي لله ولا عدو، ولا مرضى لله ولا مسخوط، ولا محبوب لله ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر والعقوق، ولا بين أعمال أهل الجنة وأعمال أهل النار، ولا بين الأبرار والفجار، حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات وعموا عن الفارق بينهما، وصاروا ممن يخاطب بقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 1، وبقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 2، وبقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} 4، ومنه قول النبي : «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر من شر ما خلق وذَرَأ وبَرَأ، ومن شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن»، فالكلمات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ليست هي أمره ونهيه الشرعيين، فإن الفُجَّار عَصَوْا أمره ونهيه، بل هي التي بها يكون الكائنات، وأما الكلمات الدينية المتضمنة لأمره ونهيه الشرعيين، فمثل الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وقال تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا} 5، وقال : «واستحللتم فروجهن بكلمة الله»، وأما قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} 6 فإنه يعم النوعين.

وأما البعث بالمعنى الأول، ففي مثل قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} 7، والثاني في مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} 8، وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} 9، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 10.

وأما الإرسال بالمعنى الأول، ففي مثل قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} 11، وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} 12.

وبالمعنى الثاني، في مثل قوله تعالي: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 13، وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} 14، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} 15، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} 16، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 17، وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا. فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} 18.


هامش

  1. [القلم: 35، 36]
  2. [ص: 28]
  3. [الجاثية: 21]
  4. [الأعراف: 137]
  5. [التوبة: 40]
  6. [الأنعام: 115]
  7. [ الإسراء: 5]
  8. [الجمعة: 2]
  9. [البقرة: 129]
  10. [النحل: 36]
  11. [مريم: 83]
  12. [الحجر: 22]
  13. [نوح: 1]
  14. [البقرة: 119]
  15. [الزخرف: 45]
  16. [النساء: 64]
  17. [الأنبياء: 25]
  18. [المزمل: 15، 16]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن
كتاب القدر | فصل في قدرة الرب عز وجل | سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك | سئل عن أقوام يقولون المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل | سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره | سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين | سئل عن الباري سبحانه هل يضل ويهدي | سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | سئل هل أراد الله تعالى المعصية من خلقه | سئل عن قول علي: لا يرجون عبد إلا ربه | سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون | فصل في اللام التي في قوله: ليعبدون | فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله | فصل في قوله تعالى: ادعوني أستجب لكم | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة | قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس | سئل عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان | سئل عن الخير والشر والقدر الكوني، والأمر والنهي الشرعي | قوله في معنى قول علي: إنما أنفسنا بأيديينا | سئل عن القصيدة التائية في القدر | فصل في أصناف القدرية | سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر | فصل احتجاجهم بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | فصل قول القائل: ما لنا في جميع أفعالنا قدرة | فصل قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا | فصل من قال: إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن | فصل احتجاجهم بحديث من قال لا إله إلا الله دخل الجنة | سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة | لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير | فصل تكليف ما لا يطاق | فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر | فصل الصواب في قصة آدم وموسى | فصل آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببا في مصيبتهم | فصل الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو | فصل في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله | فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله | فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها | سئل عن أفعال العبد الاختيارية | سئل عن أفعال العباد هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان | فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن | فصل مسألة تحسين العقل وتقبيحه | سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا | سئل عن أبيات في الجبر | فصل السلف على أن العباد مأمورون منهيون | فصل أن العباد لهم مشيئة وقدرة وفعل | فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله | فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها | فصل قول الناظم السائل لأنهم قد صرحوا أنه على الإرادات لمقسور | قول السائل ولم يكن فاعل أفعاله حقيقة والحكم مشهور | قول السائل ومن هنا لم يكن للفعل في ما يلحق الفاعل تأثير | فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله | قول السائل وكل شيء ثم لو سلمت لم يك للخالق تقدير | قول السائل أو كان فاللازم من كونه حدوثه والقول مهجور | قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور | قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور | سئل عن المقتول هل مات بأجله أم قطع القاتل أجله | سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى | سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم | فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب | فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا | سئل عن الرزق هل يزيد أو ينقص وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد | فصل والرزق يراد به شيئان | سئل عن الرجل إذا قطع الطريق وسرق هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له | سئل عن الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال | سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق | سئل عن قول: أبرأ من الحول والقوة إلا إليه