مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق


سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق

سئل الشيخ رحمه الله عن قول الشيخ عبد القادر: نازعت أقدار الحق بالحق للحق.

فأجاب:

الحمد لله، جميع الحوادث كائنة بقضاء الله وقدره، وقد أمرنا الله سبحانه أن نزيل الشر بالخير بحسب الإمكان. ونزيل الكفر بالإيمان والبدعة بالسنة، والمعصية بالطاعة من أنفسنا ومن عندنا، فكل من كفر أو فسق أو عصى فعليه أن يتوب، وإن كان ذلك بقدر الله، وعليه أن يأمر غيره بالمعروف، وينهاه عن المنكر بحسب الإمكان، ويجاهد في سبيل الله، وإن كان ما يعمله من المنكر والكفر والفسوق والعصيان بقدر الله، ليس للإنسان أن يدع السعي فيما ينفعه الله به متكلا على القدر، بل يفعل ما أمر الله ورسوله، كما روى مسلم في صحيحه عن النبي أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف. وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان».

فأمر النبي أن يحرص على ما ينفعه، والذي ينفعه يحتاج إلى منازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قدر من الشر بما قدره الله من الخير. وعليه مع ذلك أن يستعين بالله فإنه لا حول ولا قوة إلا به. وأن يكون عمله خالصا لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وهذا حقيقة قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والذي قبله حقيقة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1 فعليه أن يعبد الله بفعل المأمور وترك المحظور، وأن يكون مستعينًا بالله على ذلك، وفي عبادة الله وطاعته فيما أمر إزالة ما قدر من الشر بما قدر من الخير، ودفع ما يريده الشيطان، ويسعى فيه من الشر قبل أن يصل بما يدفعه الله به من الخير.

قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ} 2 كما يدفع شر الكفار والفجار الذي في نفوسهم والذي سعوا فيه بالحق كإعداد القوة ورباط الخيل، وكالدعاء والصدقة الذين يدفعان البلاء كما جاء في الحديث: «إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض» فالشر تارة يكون قد انعقد سببه وخيف فيدفع وصوله، فيدفع الكفار إذا قصدوا بلاد الإسلام، وتارة يكون قد وجد فيزال وتبدل السيئات بالحسنات وكل هذا من باب دفع ما قدر من الشر بما قدر من الخير. وهذا واجب تارة، ومستحب تارة.

فالذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله.

والمقصود من ذلك أن كثيرًا من أهل السلوك والإرادة يشهدون ربوبية الرب، وما قدره من الأمور التي ينهى عنها فيقفون عند شهود هذه الحقيقة الكونية، ويظنون أن هذا من باب الرضا بالقضاء والتسليم، وهذا جهل وضلال قد يؤدي إلى الكفر، والانسلاخ من الدين. فإن الله لم يأمرنا أن نرضى بما يقع من الكفر والفسوق والعصيان، بل أمرنا أن نكره ذلك وندفعه بحسب الإمكان، كما قال النبي : «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

والله تعالى قد قال: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 3 وقال: {وَالله لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 4 فكيف يأمرنا أن نرضى لأنفسنا مالا يرضاه لنا، وهو جعل ما يكون من الشر محنة لنا وابتلاءً كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} 5، وقال تعالى بعد أمره بالقتال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ الله لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} 6، وفي صحيح مسلم عن النبي أنه قال: «والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».

فالمؤمن إذا كان صبورًا شكورًا، يكون ما يقضي عليه من المصائب خيرًا له، وإذا كان آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في سبيله، كان ما قدر له من كفر الكفار سبب للخير في حقه، وكذلك إذا دعاه الشيطان والهوى كان ذلك سببًا لما حصل له من الخير، فيكون ما يقدر من الشر إذا نازعه ودافعه، كما أمره الله ورسوله سببًا لما يحصل له من البر والتقوى وحصول الخير والثواب وارتفاع الدرجات.

فهذا وأمثاله مما يبين معنى هذا الكلام. والله أعلم.


هامش

  1. [الفاتحة: 5]
  2. [البقرة: 251]
  3. [الزمر: 7]
  4. [البقرة: 205]
  5. [الفرقان: 20]
  6. [محمد: 4]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن
كتاب القدر | فصل في قدرة الرب عز وجل | سئل عن تفصيل الإرادة والإذن وغير ذلك | سئل عن أقوام يقولون المشيئة مشيئة الله في الماضي والمستقبل | سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره | سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين | سئل عن الباري سبحانه هل يضل ويهدي | سئل عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | تابع مسألة حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام | سئل هل أراد الله تعالى المعصية من خلقه | سئل عن قول علي: لا يرجون عبد إلا ربه | سئل عن قوله تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون | فصل في اللام التي في قوله: ليعبدون | فصل فيما ورد من الأخبار والآيات في الرضا بقضاء الله | فصل في قوله تعالى: ادعوني أستجب لكم | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة أم لا | سئل عن الأقضية هل هي مقتضية للحكمة | قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس | سئل عمن يعتقد أن الخير من الله والشر من الشيطان | سئل عن الخير والشر والقدر الكوني، والأمر والنهي الشرعي | قوله في معنى قول علي: إنما أنفسنا بأيديينا | سئل عن القصيدة التائية في القدر | فصل في أصناف القدرية | سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر | فصل احتجاجهم بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | فصل قول القائل: ما لنا في جميع أفعالنا قدرة | فصل قول القائل: الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا | فصل من قال: إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن | فصل احتجاجهم بحديث من قال لا إله إلا الله دخل الجنة | سئل عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة | لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير | فصل تكليف ما لا يطاق | فصل في قوله فحج آدم موسى لما احتج عليه بالقدر | فصل الصواب في قصة آدم وموسى | فصل آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببا في مصيبتهم | فصل الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو | فصل في استطاعة العبد هل هي مع فعله أم قبله | فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله | فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها | سئل عن أفعال العبد الاختيارية | سئل عن أفعال العباد هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان | فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن | فصل مسألة تحسين العقل وتقبيحه | سئل عن العبد هل يقدر أن يفعل الطاعة إذا أراد أم لا | سئل عن أبيات في الجبر | فصل السلف على أن العباد مأمورون منهيون | فصل أن العباد لهم مشيئة وقدرة وفعل | فصل في إثبات الأمر والنهي والوعد والوعيد لله | فصل قول القائل كيف يكون العبد مختارا لأفعاله وهو مجبور عليها | فصل قول الناظم السائل لأنهم قد صرحوا أنه على الإرادات لمقسور | قول السائل ولم يكن فاعل أفعاله حقيقة والحكم مشهور | قول السائل ومن هنا لم يكن للفعل في ما يلحق الفاعل تأثير | فصل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله | قول السائل وكل شيء ثم لو سلمت لم يك للخالق تقدير | قول السائل أو كان فاللازم من كونه حدوثه والقول مهجور | قول السائل ولا يقال علم الله ما يختار فالمختار مسطور | قول السائل والجبر إن صح يكن مكرها وعندك المكره معذور | سئل عن المقتول هل مات بأجله أم قطع القاتل أجله | سئل عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى | سئل عما قاله أبو حامد الغزالي في الرزق المضمون والمقسوم | فصل من السالكين طريق الله من يكون مع قيامه بما أمره الله عاجزا عن الكسب | فصل قول القائل: إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقا | سئل عن الرزق هل يزيد أو ينقص وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد | فصل والرزق يراد به شيئان | سئل عن الرجل إذا قطع الطريق وسرق هل هو رزقه الذي ضمنه الله تعالى له | سئل عن الخمر والحرام هل هو رزق الله للجهال | سئل عن قول: نازعت أقدار الحق بالحق للحق | سئل عن قول: أبرأ من الحول والقوة إلا إليه