مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير
لو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير
وهنا سؤال يعرض لكثير من الناس وهو: أنه إذا كان المكتوب واقعًا لا محالة فلو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير؟ وهذا السؤال يقال في مسألة المقتول، يقال: لو لم يقتل، هل كان يموت؟ ونحو ذلك.
فيقال: هذا لو لم يعمل عملا صالحًا لما كان سعيدا، ولو لم يعمل عملا سيئًا لما كان شقيًا، وهذا كما يقال: إن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف كان يكون، فإن هذا من باب العلم والخبر بما لا يكون لو كان كيف يكون، كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا} 1، وقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} 2، وقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} 3، وقوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} 4، وأمثال ذلك، كما روى أنه يقال للعبد في قبره حين يفتح له باب إلى الجنة وإلى النار، ويقال: هذا منزلك، ولو عملت كذا وكذا أبدلك الله به منزلا آخر.
وكذلك يقال: هذا لو لم يقتله هذا لم يمت بل كان يعيش إلا أن يقدر له سبب آخر يموت به، واللازم في هذه الجملة خلاف الواقع المعلوم والمقدور، والتقدير للممتنع قد يلزمه حكم ممتنع ولا محذور في ذلك.
ومما يشبه هذه المسألة أن النبي ﷺ خرج يوم بدر فأخبر أصحابه بمصارع المشركين فقال: «هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلانَ»، ثم إنه دخل العريش، وجعل يجتهد في الدعاء، ويقول: «اللهم انجز لي ما وعدتني»؛ وذلك لأن علمه بالنصر، لا يمنع أن يفعل السبب الذي به ينصر، وهو الاستغاثة بالله.
وقد غلط بعض الناس هنا وظن أن الدعاء الذي علم وقوع مضمونه كالدعاء الذي في آخر سورة البقرة لا يشرع إلا عبادة محضة، وهذا كقول بعضهم: إن الدعاء ليس هو إلا عبادة محضة؛ لأن المقدور كائن دعا أو لم يدع.
فيقال له: إذا كان الله قد جعل الدعاء سببًا لنيل المطلوب المقدر، فكيف يقع بدون الدعاء؟ وهو نظير قولهم: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟
ومما يوضح ذلك: أن الله قد علم وكتب أنه يخلق الخلق ويرزقهم ويميتهم ويحييهم، فهل يجوز أن يظن أن تقدم العلم والكتاب مغن لهذه الكائنات عن خلقه وقدرته ومشيئته، فكذلك علم الله بما يكون من أفعال العباد، وأنهم يسعدون بها، ويشقون كما يعلم مثلا أن الرجل يمرض أو يموت بأكله السم أو جرحه نفسه ونحو ذلك.
وهذا الذي ذكرناه مذهب سلف الأمة وأئمتها، وجمهور الطوائف من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم، وإنما نازع في ذلك غلاة القدرية، وظنوا أن تقدم العلم يمنع الأمر والنهي، وصاروا فريقين:
فريق أقروا بالأمر والنهي والثواب والعقاب، وأنكروا أن يتقدم بذلك قضاء وقدر وكتاب، وهؤلاء نبغوا في أواخر عصر الصحابة، فلما سمع الصحابة بدعهم تبرؤوا منهم كما تبرؤوا منهم، ورد عليهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الأسقع وغيرهم، وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم.
والفريق الثاني: من يقر بتقدم علم الله وكتابه، لكن يزعم أن ذلك يغني عن الأمر والنهي والعمل، وأنه لا يحتاج إلى العمل، بل من قضى له بالسعادة دخل الجنة، بلا عمل أصلا، ومن قضى عليه بالشقاوة شقى بلا عمل، فهؤلاء ليسوا طائفة معدودة من طوائف أهل المقالات، وإنما يقوله كثير من جهال الناس، وهؤلاء أكفر من أولئك وأضل سبيلا، ومضمون قول هؤلاء: تعطيل الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى بكثير، وهؤلاء هم الذين سأل السائل عن مقالتهم.
وأما جمهور القدرية، فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم، لكن ينكرون أن الله خلق أفعال العباد، وإرادة الكائنات، وتعارضهم القدرية المجبرة الذين يقولون: ليس للعبد قدرة ولا إرادة حقيقية ولا هو فاعل حقيقة، وكل هؤلاء مبتدعة ضلال.
وشر من هؤلاء من يجعل خلق الأفعال وإرادة الله الكائنات مانعة من الأمر والنهي كالمشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 5، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، ومضمون قولهم: تعطيل جميع ما جاءت به الرسل كلهم من الأمر والنهي.
ثم قولهم متناقض، معلوم الفساد بالضرورة لا يمكن أن يحيى معه بنو آدم لاستلزامه فساد العباد، فإنه إذا لم يكن علي العباد أمر ونهي، كان لكل أحد أن يفعل ما يهواه، كما قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} 6، فإذا قيل: إنه يمكن كل أحد مما يهواه من قتل النفوس وفعل الفواحش وأخذ الأموال وغير ذلك؛ كان ذلك غاية الفساد؛ ولهذا لا تعيش أمة من بني آدم إلا بنوع من الشريعة التي فيها أمر ونهي، ولو كانت بوضع بعض الملوك مع ما فيها من فساد من وجوه أخرى.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه يبين أن تقدم علم الله وكتابه بالسعادة والشقاوة وغير ذلك من الأمور لا يمنع توقف ذلك على الأعمال والأسباب التي جعل الله بها تلك الأمور، وذلك يبين أن ذلك لا يمنع أن يكون العبد عاملا للعمل الصالح الذي به يسعده الله، وأن يكون قادرًا على ذلك مريدًا له، وإن كان ذلك كله بتيسير الله للعبد وإن تنازع الناس في تسمية ذلك جبرًا لكن هل يكون العبد قادرًا على غير الفعل الذي فعله، الذي سبق به العلم والكتاب؟ فهذا مما تنازع فيه الناس، كما تنازعوا في أن الاستطاعة هل يجب أن تكون مع الفعل أو يجب أن تتقدمه؟ فمن قال من أهل الإثبات: إن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، يقول العبد: لا يستطيع غير ما يفعله، وهو ما تقدم به العلم والكتاب، ومن قال: إن الاستطاعة قد تتقدم الفعل، وقد توجد دون الفعل، فإنه يقول: إنه يكون مستطيعًا لما لم يفعله، ولما علم وكتب أنه لا يفعله.
وفصل الخطاب: أن الاستطاعة جاءت في كتاب الله على نوعين:
الاستطاعة المشترطة للفعل، وهي مناط الأمر والنهي كقوله تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 7، وقوله: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} 8، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}الآية 9، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} 10، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 11، وقول النبي ﷺ لعمران بن حصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب». فإن الاستطاعة في هذه النصوص لو كانت لا توجد إلا مع الفعل؛ لوجب ألا يجب الحج إلا على من حج، ولا يجب صيام شهرين إلا على من صام، ولا القيام في الصلاة إلا على من قام، وكان المعنى: على الذين يصومون الشهر طعام مسكين، والآية إنما أنزلت لما كانوا مخيرين بين الصيام والإطعام في شهر رمضان.
والاستطاعة التي يكون معها الفعل، قد يقال: هي المقترنة بالفعل الموجبة له، وهي النوع الثاني، وقد ذكروا فيها قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} 12، وقوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} 13، ونحو ذلك قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} 14.
فإن الاستطاعة المنفية هنا سواء كان نفيها خبرًا أو ابتداء ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي، فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحمد والذم، والثواب والعقاب، ومعلوم أن هؤلاء في هذه الحال مأمورون منهيون موعودون متوعدون، فعلم أن المنفية هنا ليست المشروطة في الأمر والنهي المذكورة في قوله: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} 15.
لكن قد يقال: الاستطاعة هنا كالاستطاعة المنفية في قول الخضر لموسى: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} 16، فإن هذه الاستطاعة المنفية، لو كان المراد بها مجرد المقارنة في الفاعل والتارك؛لم يكن فرق بين هؤلاء المذمومين وبين المؤمنين، ولا بين الخضر وموسى، فإن كل أحد فعل أو لم يفعل لا تكون المقارنة موجودة قبل فعله، والقرآن يدل على أن هذه الاستطاعة إنما نفيت عن التارك لا عن الفاعل، فعلم أنها مضادة لما يقوم بالعبد من الموانع التي تصد قلبه عن إرادة الفعل وعمله، وبكل حال فهذه الاستطاعة منتفية في حق من كتب عليه أنه لا يفعل، بل وقضى عليه بذلك.
وإذا عرف هذا التقسيم، أن إطلاق القول: بأن العبد لا يستطيع غير ما فعل، ولا يستطيع خلاف المعلوم المقدر، وإطلاق القول بأن استطاعة الفاعل والتارك سواء، وأن الفاعل لا يختص عن التارك باستطاعة خاصة عرف أن كلا الإطلاقين خطأ وبدعة.
ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور طوائف أهل الكلام على أن الله قادر على ما علم وأخبر أنه لا يكون، وعلى ما يمتنع صدوره عنه لعدم إرادته، لا لعدم قدرته عليه، وإنما خالف في ذلك طوائف من أهل الضلال من الجهمية والقدرية والمتفلسفة الصابئة الذين يزعمون انحصار المقدور في الموجود، ويحصرون قدرته فيما شاءه وعلم وجوده، دون ما أخبر أنه لا يكون كما رجحه النظام والأسواري، وكما يقوله من يزعم: أنه ليس من المقدور غير هذا العالم، ولا في المقدور ما يمكن أن يهدي به الضال، وقد قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 17 مع أنه سبحانه لا يسوى بنانه، وقال تعالي: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} 18.
وقد ثبت في الصحيح عن جابر: أنه لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال النبي ﷺ: «أعوذ بوجهك»، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك»، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هاتان أهون»، وقال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 19.
ومن حكى من أهل الكلام عن أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن العبد ليس قادرًا على غير ما فعل الذي هو خلاف المعلوم، فإنه مخطئ فيما نقله عنهم من نفي القدرة مطلقًا، وهو مصيب فيما نقله عنهم من نفي القدرة التي اختص بها الفاعل دون التارك، وهذا من أصول نزاعهم في جواز تكليف ما لا يطاق.
فإن من يقول: الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فالتارك لا استطاعة له بحال، يقول: إن كل من عصى الله فقد كلفه الله مالا يطيقه، كما قد يقولون: إن جميع العباد كلفوا مالا يطيقون، ومن يقول: إن استطاعة الفعل هي استطاعة الترك، يقول: إن العباد لم يكلفوا إلا بما هم مستوون في طاقته وقدرته واستطاعته، لا يختص الفاعل دون التارك باستطاعة خاصة، فإطلاق القول: بأن العبد كلف بما لا يطيقه؛ كإطلاق القول: بأنه مجبور على أفعاله، إذا سلب القدرة في المأمور نظير إثبات الجبر في المحظور، وإطلاق القول: بأن العبد قادر مستطيع على خلاف معلوم الله ومقدوره.
وسلف الأمة وأئمتها ينكرون هذه الإطلاقات كلها، لا سيما كل واحد من طرفي النفي والإثبات على باطل، وإن كان فيه حق أيضا، بل الواجب إطلاق العبارات الحسنة وهي المأثورة التي جاءت بها النصوص، والتفصيل في العبارات المجملة المشتبهة، وكذلك الواجب نظير ذلك في سائر أبواب أصول الدين أن يجعل ما يثبت بكلام الله عز وجل ورسوله وإجماع سلف الأمة هي النص المحكم، وتجعل العبارات المحدثة المتقابلة بالنفي والإثبات المشتملة في كل من الطرفين في حق وباطل من باب المجمل المشتبه المحتاج إلى تفصيل الممنوع من إطلاق طرفيه.
وقد كتبنا في غير هذا الموضع ما قاله الأوزاعي، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من الأئمة من كراهة إطلاق الجبر ومن منع إطلاق نفيه أيضا.
وكذلك أيضا القول بتكليف مالا يطاق، لم تطلق الأئمة فيه واحدًا من الطرفين. قال أبو بكر عبد العزيز، صاحب الخلال في كتاب القدر الذي في مقدمة كتاب المقنع له، لم يبلغنا عن أبي عبد الله في هذه المسألة قول فنتبعه، والناس فيه قد اختلفوا، فقال قائلون: بتكليف ما لا يطاق، ونفاه آخرون ومنعوا منه، قال: والذي عندنا فيه أن القرآن شهد بصحة ما إليه قصدناه، وهو أن الله عز وجل يتعبد خلقه بما يطيقون وما لا يطيقون. ثم قال في آخر الفصل: ولعل قائلا أن يعارض قولنا فيقول: لو جاز أن يكلف الله العبد مالا يطيق جاز أن يكلف الأعمى صنعة الألوان، والمقعد المشي، ومن لا يد له البطش وما أشبه ذلك فيقال: له: قد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ} 20: هو مشيهم على وجوههم، وسقط السؤال في كل ما سألوا عنه على جواب ابن عباس في المشي على الوجوه.
ثم قال: وقد أبان أبو الحسن يعني الأشعري فيما قدمنا ذكره عنه في هذه المعاني بما
فيه كفاية، قال القاضي أبو يعلي: لما حكى كلام أبي الحسن يعني أبا الحسن الأشعري قد فصل بين ما يقدر على فعله لا لاستحالته فيجوز تكليفه، وما يستحيل لا يجوز، قال: وظاهر كلام أبي الحسن الأشعري الاحتمال فيما يستحيل وجوده هل يصح تكليفه أم لا؟ قال: والصحيح ما ذكرناه من التفصيل، وهو أن ما لا يقدر على فعله لاستحالته كالأمر بالمحال، وكالجمع بين الضدين وجعل المحدث قديمًا، والقديم محدثِا، أو كان مما لا يقدر عليه للعجز عنه كالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام، فهذا الوجه لا يجوز تكليفه.
والوجه الثاني: ما لا يقدر على فعله لا لاستحالته ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، كالكافر كلفه الإيمان في حال كفره؛ لأنه غير عاجز عنه ولا مستحيل منه، فهوكالذي لا يقدر على العلم لاشتغاله بالمعيشة، فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى هو قول جمهور الناس من الفقهاء والمتكلمين وهو قول جمهور أصحاب الإمام أحمد، وذكر القاضي المنصوص عن الأشعري فيما ذكره القاضي عنه وقد ذكر أن أبا بكر عبد العزيز، ذكر كلام أبي الحسن في ذلك كما يذكر المصنف كلام أبي الحسن في ذلك، وكما يذكر المصنف كلام موافقيه وأصحابه؛ لأنه كان من جملة المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كما ذكر ذلك في كتبه.
وأما أتباع أبي الحسن فمنهم من وافق نفس الذي ذكره القاضي كأبي علي ابن شاذان وأتباعه، ومنهم من خالفه كأبي محمد اللبان، والرازي وطوائف، قالوا: إنه يجوز تكليف الممتنع كالجمع بين الضدين والمعجوز عنه.
والقول الثالث: الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز وهو أنه يجوز تكليف كل ما يمكن وإن كان ممتنعًا في العادة كالمشي على الوجوه، ونقط الأعمى المصحف.
وذكر أبوعبد الله بن حامد شيخ القاضي أبي يعلى في أصوله قولي التفريق والإطلاق عن أصحاب أحمد فقال:
فصل
لأنه ما وجد في الأمر ولو وجد بالفكر وهذا مثل مالم ترد الشريعة به كأمر الأطفال ومن لا عقل له والأعمى البصر، والفقير النفقة، والزمن أن يسير إلى مكة، فكل ذلك ما جاءت به الشريعة، ولو جاءت به لزم الإيمان به والتصديق فلا يقيد الكلام فيه. قال: وذهبت طائفة من أصحابنا إلى إطلاق الاسم من جواز تكليف ما لا يطاق من زمن وأعمى وغيرهم، وهو مذهب جهم وبرغوث.
الوجه الثاني: سلامة الآلة، لكن عدم الطاقة لعدم التوفيق والقبول، وذلك يجوز وجها واحدًا في معنى هذا أنه يجوز التكليف لمن قدر علم الله فيه أنه لا يفعله، وأبي ذلك المعتزلة والدليل عليه قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 21، وقوله: {أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآيات 22، فأمر وقد سبق من علمه أنه لا يقع منه فعله، فكان الأمر متوجهًا إلي ما قد سبق من علم الله أنه لا يطيقه.
القول الثاني: منقول عن أبى الحسن أيضا، وزعم أبو المعالي الجويني أنه الذي مال إليه أكثر أجوبة أبي الحسن، وأنه الذي ارتضاه كثير من أصحابه، وقد توقف أبو الحسن عن الجواب في هذه المسألة في الموجز، وكان أبو المعالي يختاره أولا، ثم رجع عنه وقطع أن تكليف مالا يطاق محال، وهذا القول الأول قول ابن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي عبد الله الرازي وغيره، وهذا الثاني هو مذهب أبي إسحاق الإسفرائيني وأبي بكر بن فورك، وأبي القاسم الأشعري، والغزالي، وادعى أبو إسحاق الإسفرائيني أنه مذهب شيخه أبي الحسن، وأنه مذهب أهل الحق، فأما القاضي أبو بكر فقد قال: بجوازه في بعض كتبه، وأكثر كلامه على التفريق بين تكليف العاجز، وبين تكليف القادر على الترك، كما هو قول الجمهور.
وفي المسألة قول ثالث: وهو الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز أنه يجوز تكليف كل ما يمكن وإن كان ممتنعًا في العادة كالمشي على الوجه، ونقط الأعمى المصحف دون الممتنع كالجمع بين الضدين.
وفصل الخطاب في هذه المسألة: إن النزاع فيها في أصلين:
أحدهما: التكليف الواقع الذي اتفق المسلمون علي وقوعه في الشريعة وهو أمر العباد كلهم بما أمرهم الله به ورسوله من الإيمان به وتقواه هل يسمى هذا أو شيء منه تكليف ما لا يطاق؟ فمن قال: بأن القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: إن العاصي كلف مالا يطيقه، ويقول: إن كل أحد كلف حين كان غير مطيق، وكذلك من زعم أن تقدم العلم والكتاب بالشيء يمنع أن يقدر على خلافه، وقال: إن كلف خلاف المعلوم فقد كلف ما لا يطيقه، وكذلك من يقول: إن العرض لا يبقى زمانين، يقول: إن الاستطاعة المتقدمة لا تبقى إلى حين الفعل.
وهذا في الحقيقة ليس نزاعًا في الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها، هل يتناولها التكليف؟ وإنما هو نزاع في كونها غير مقدورة للعبد التارك لها وغير مقدورة قبل فعلها، وقد قدمنا أن القدرة نوعان، وأن من أطلق القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فإطلاقه مخالف لما ورد في الكتاب والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كإطلاق القول بالجبر وإن كان قد أطلق ذلك طوائف من المنتسبين إلى السنة في ردهم على القدرية من المنتسبين إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كأبي الحسن، وأبي بكر عبد العزيز، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم، فقد منع من هذا الإطلاق جمهور أهل العلم كأبي العباس ابن سريج، وأبي العباس القلانسي، وغيرهما، ونقل ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وهو مقتضى قول جميع الأمة.
ولهذا امتنع أبو إسحاق بن شاقلا من إطلاق ذلك، وحكى فيه القولين: فقال: - فيما ذكره عنه القاضي أبو يعلى: الاستطاعة مع الفعل أو قبله، حجة من قال: إن الصلاة والحج والجهاد، لا يجوز أن يأمر به غير مستطيع، وحجة من قال: إن الفعل خلق من خلق الله عز وجل، فإذا خلق فيه فعلا فعله.
وهذا كما أن من قال: إنه ليس للعبد إلا قدرة واحدة يقدر بها على الفعل والترك، وأنه مستغن في حال الفعل عن معونة من الله تعالى يفعل بها، وسوى بين نعمته على المؤمن والكافر والبر والفاجر، فهو مبطل وهم من القدرية الذين حاد منهم في الأيام المشهورة حيث كان قولهم: إن العبد لا يفتقر إلى الله تعالى حال الفعل بالبر عما وجد قبل الفعل وأنه ليس لله تعالى نعمة أنعم بها على من آمن به وأطاعه أكبر من نعمته علي من كفر به وعصاه، فهذا القول خطأ قطعًا؛ ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على تضليل صاحب هذا القول.
ثم النزاع بينهم بعد ذلك في هذه الأمور كثير: منه لفظي، ومنه ما هو اعتباري، كتنازعهم في أن العرض هل يبقى أم لا يبقى، وبنوا على ذلك بقاء الاستطاعة، ولكن أحسن الألفاظ والاعتبارات ما يطابق الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمتها والواجب أن يجعل نصوص الكتاب والسنة هي الأصل المعتمد الذي يجب اتباعه ويسوغ إطلاقه، ويجعل الألفاظ حتى تنازع فيها الناس نفيًا أو إثباتًا موقوفة على الاستفسار والتفصيل، ويمنع من إطلاق نفي ما أثبته الله ورسوله، وإطلاق إثبات ما نفى الله ورسوله.
والأصل الثاني: فيما اتفق الناس على أنه غير مقدور للعبد، وتنازعوا في جواز تكليفه، وهو نوعان: ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران ونحو ذلك، وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، فهذا في جوازه عقلا ثلاثة أقوال كما تقدم، وأما وقوعه في الشريعة وجوازه شرعًا فقد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة، وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد منهم أبو الحسن بن الزاغوني فقال:
هامش
- ↑ [الأنبياء: 22]
- ↑ [الأنعام: 28]
- ↑ [ التوبة: 47]
- ↑ [الأنفال: 23]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [المؤمنون: 71]
- ↑ [آل عمران: 97]
- ↑ [التغابن: 16]
- ↑ [النساء: 25]
- ↑ [المجادلة: 4]
- ↑ [البقرة:184]
- ↑ [الكهف: 101]
- ↑ [هود: 20]
- ↑ [يس: 8، 9]
- ↑ [التغابن: 16]
- ↑ [الكهف: 67، 72، 75]
- ↑ [القيامة: 3، 4]
- ↑ [الأنعام: 65]
- ↑ [السجدة: 31]
- ↑ [الإسراء: 97]
- ↑ [ص: 75]
- ↑ [الأعراف: 12]