مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها
فصل في دعاء: اللهم بقدرتك التي قدرت بها
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
حدثني بعض ثقات أصحابنا، أن شيخنا أبا عبد الله محمد بن عبد الوهاب، عاد شيخنا أبا زكريا بن الصرمي وعنده جماعة فسألوه الدعاء.
فقال في دعائه: اللهم بقدرتك التي قدرت بها أن تقول بها للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا، قالتا أتينا طائعين. افعل كذا وكذا. قال أبو عبد الوهاب: ولم أخاطبه فيه بحضرة الناس حتى خلوت به وقلت له: هذا لا يقال لو قلت: قدرت بها علي خلقك جاز، فأما قدرت بها أن تقول، فلا يجوز؛ لأن هذا يقتضي أن يكون قوله مقدورًا له مخلوقًا، وذكر لي الحاكي وهو من فضلاء أصحاب الشافعي أنه بلغ الإمام أبا زكريا النواوي فلم يتفطن لوجه الإنكار في هذا الدعاء حتي تبين له فعرف ذلك.
قلت: هذه المسألة مثل مسألة المشيئة، وهو قولنا: يتكلم إذا شاء، فإن ما تعلقت به المشيئة تعلقت به القدرة، فإن ما شاء الله كان ولا يكون شيء إلا بقدرته، وما تعلقت به القدرة من الموجودات تعلقت به المشيئة، فإنه لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته، وما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة، وكذلك بالعكس، وما لا فلا؛ ولهذا قال: {إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1، والشيء في الأصل مصدر شاء يشاء شيئًا كنال ينال نيلا، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول فسموا المشيء شيئًا، كما يسمى المنيل نيلا، فقالوا: نيل المعدن، وكما يسمى المقدور قدرة، والمخلوق خلقا، فقوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي على كل ما يشاء، فمنه ما قد شيء فوجد، ومنه ما لم يشأ لكنه شيء في العلم بمعنى أنه قابل لأن يشاء وقوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}، يتناول ما كان شيئًا في الخارج والعلم، أو ما كان شيئًا في العلم فقط، بخلاف مالا يجوز أن تتناوله المشيئة وهو الحق تعالى وصفاته، أو الممتنع لنفسه، فإنه غير داخل في العموم؛ ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفسه ليس بشيء، وتنازعوا في المعدوم الممكن:
فذهب فريق من أهل الكلام من المعتزلة والرافضة، وبعض من وافقهم من ضلال الصوفية، إلي أنه شيء في الخارج لتعلق الإرادة والقدرة به وهذا غلط، وإنما هو معلوم لله ومراد له إن كان مما يوجد، وليس له في نفسه لا موت ولا وجود ولا حقيقة أصلا، بل وجوده وثبوته وحصوله شيء واحد، وماهيته وحقيقته في الخارج هي نفس وجوده، وحصوله وثبوته ليس في الخارج شيئان، وإن كان العقل يميز الماهية المطلقة عن الوجود المطلق.
إذا عرف ذلك فهذه المسألة مبنية على مسألة كلام الله، ونحو ذلك من صفاته، هل هي قديمة لازمة لذاته لا يتعلق شيء منها بفعله وبمشيئته ولا قدرته؟ أو يقال: إنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، وإنها مع ذلك صفات فعليه؟ وهذا فيه قولان لأصحابنا وغيرهم من أهل السنة. قلت: وهذا الدعاء الذي دعا به الشيخ أبو زكريا مأثور عن الإمام أحمد، ومن هناك حفظه الشيخ، والله أعلم. فإنه كان كثير المحبة لأحمد وآثاره، والنظر في مناقبه وأخباره وقد ذكروه في مناقبه. ورواه الحافظ البيهقي في مناقب أحمد وهي رواية الشيخ أبي زكريا عن الحافظ عبد القادر الرهاوي إجازة، وقد سمعوها عليه عنه إجازة، قال البيهقي: وفيما أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة. حدثني أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس، حدثني أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي، حدثنا أبو جعفر محمد ابن يعقوب الصفار قال: كنا عند أحمد بن حنبل فقلنا: ادع الله لنا، فقال: اللهم إنك تعلم أنا نعلم أنك لنا على أكثر ما نحب، فاجعلنا نحن لك علي ما تحب، قال: ثم جلست ساعة، فقيل له: يا أبا عبد الله زدنا، فقال: اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر فنطغى، ولا تقل علينا فننسى، وهب لنا من رحمتك، وسعة من رزقك تكون بلاغًا في دنياك وغنى من فضلك. قلت: هذا على المعنى المتقدم موافق لقوله: يتكلم إذا شاء، فجعله معلقًا بالقدرة والمشيئة. وإن جعل القول هنا عبارة عن سرعة التكوين بلا قول حقيقي، فهذا خلاف ما احتج به أحمد في كتاب الرد على الجهمية في هذه، فإنه احتج بهذه الآية على أن الكلام لا يقف على لسان وأدوات.
هامش
- ↑ [البقرة: 20]