مقالات مجلة المنار/القرآن ونجاح دعوة النبي عليه الصلاة والسلام
ألّف القسيسون وأعوانهم من المتعصبين للنصرانية كتبًا في القرون المتوسطة يمثلون بها الإسلام في أقبح صورة ينتزعها خيال الكاتب منهم على حسب تمكنه في الكذب والبهتان، ولما ارتقت العلوم والفنون في أوربا وضعف التعصب الأعمى على المخالف بقدر ذلك كثر الباحثون من علماء الإفرنج في شئون الشرق بالإنصاف، فتغير لذلك اعتقادهم في الإسلام والمسلمين، وألفوا في بيان مزايا هذا الدين التي كانت مجهولة، وفضائل أهله التي كانت مهضومة كتبًا كثيرة. ومن هؤلاء المؤلفين: البرنس كايتاني الإيطالي فإنه ألف كتابًا في تاريخ الإسلام يقال إنه كتبه بحرية وإنصاف بحسب ما وصل إليه علمه.
وقد زار مصر في هذا الشتاء فاحتفى به نادي المدارس العليا، وأكرم مثواه، وأثنت عليه جرائد المسلمين ثناءً حسنًا. وقد ترجم المؤيد في أوائل هذا الشهر تقريظ جريدة التيمس لتاريخ البرنس كايتاني ومنه هذه العبارة:
( ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله بدليل سبق إهماله حتى الآن، وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر من إفادة القرآن أو أي حمية دينية ) اهـ نص ترجمة المؤيد لعبارة التيمس.
وهذا الذي قاله هو اعتقاد الإفرنج العارفين بنشأة الإسلام، وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي إنهم يعتقدون أن النبي - ﷺ - قام بما قام به بحنكته وسياسته، لا بتأييد الله تعالى له بوحيه وعنايته، ولولا هذا لما كان لهم مندوحة عن الدخول في الإسلام، ومثل الإفرنج في هذا الرأي كل من لا يدين بالإسلام من علماء المشرق. فدعوى أن نجاح النبي ﷺ كان بسياسته وحنكته - أي تجاربه - هي أكبر شبههم على الإسلام.
ومن الشواهد على ذلك من كلام علماء بلادنا غير المسلمين الأسطر والأبيات الآتية التي كتبها إليّ الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور بعدم التدين. حمله عليها قراءة المنار، وهي:
إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار:
أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيمًا، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد ( الدين أو المبدأ الديني ) على طرفي نقيض، فالجامع بيننا: العقل الواسع، والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة.
من صديقك الدكتور شميل
الحق أولى أن يقال
دع من محمد في سدى قرآنه ** ما قد نحاه للحمة الغايات 1
إني وإن أك قد كفرت بدينه ** هل أكفرنَّ بمحكم الآيات
أو ما حوت في ناصع الألفاظ من ** حكم روادع للهوى وعظات
وشرائع لو أنهم عقلوا بها ** ما قيدوا العمران بالعادات
نعم المدبر والحكيم وإنه ** رب الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة والدَّها ** بطل حليف النصر في الغارات
ببلاغة القرآن قد خلب النهى ** وبسيفه أنحى على الهامات
من دونه الأبطال في كل الورى ** من سابق أو لاحق أو آت
( المنار)
عدلكتب الدكتور إليَّ بهذا لا لينشر بل ليقرأ على أنه خواطر جاشت في صدره، ثم بعد أن نشر المؤيد ما نشره عن التيمس، ورددت عليه في الجريدة استأذنت الدكتور بنشر ما كتبه فأذن، وهو كما يرى القارئ أكثر من البرنس كايتاني تعظيمًا للنبي ﷺ، وكذا للقرآن الحكيم الذي لم يدرك البرنس كايتاني تأثيره؛ لأنه لا يفهمه كالدكتور شميل.
ونحن-على كوننا نشكر لشميل ما اعترف به من مزايا نبينا وكتابنا، ونسأل الله أن يهديه للباقي منها وهو المهم الأعظم - لا نقول: إنه اعترف بنبوته ولا بحقية كون كتابه إلهيًّا. وننكر عليه أشد الإنكار قوله: إن النبي ﷺ من حيث كونه رجلا أعظم منه من حيث كونه نبيًّا على أنهم لا يعنون بمثل هذا التعبير الذي قاله شميل وكايتاني أنه نبي وسياسي وأن نبوته أقوى من سياسته. بل يعنون أنه نجح بسياسته لا بنبوته التي ادعاها، ولكن المؤيد غفل عن هذا وادعى أن ما قاله كايتاني حق، ولو كان حقًّا لكان هو وجميع علماء أوروبا وعلماء أهل الكتاب والوثنيين العارفين بتاريخ الإسلام كلهم على الحق، واستلزم ذلك كون المسلمين على غير الحق فيما يتعلق بأصل دينهم؛ لأنهم يقولون بخلاف هذا القول!!
نبهت ( الجريدة ) المؤيد إلى هذه الهفوة، وقالت: إن ما ترجمه عن التيمس من قول كايتاني كفر ما كان لصاحب جريدة تفتخر بأنها إسلامية أن ينقله ويقره. فرد عليها صاحب المؤيد بقوله الآتي نقلا عن عدده الذي صدر في 3 المحرم، والعنوان منا فقط:
رأي المؤيد في القرآن
عدلأمّا نحن، فنقول للجريدة: إننا نقلنا عبارة البرنس كايتاني عن التيمس، ونحن نعتقد أنها ليست كفرًا فلا نلام إذا لم نرد عليها، وأمّا الجريدة فقد نقلتها وهي تعتقدها كفرًا، ولم ترد عليها فهي المقصرة والملومة.
إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر، وهو الإعجاب بأخلاق النبي ﷺ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له.
والله تعالى يقول في كتابه الكريم: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم: 4 )، فلم يُرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم، وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت عن النبي ﷺ، بل القرآن نفسه يقول: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 ) فجعل مناط قوة ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه من العيوب المنفرة.
فلو كان فظًّا غليظ القلب ما نفعه قرآن، ولا حمية دينية. وهذا كلام يقوله كل مسلم يعقل، ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني.
( وليس المقام مقام مقارنة بين القرآن والنبي صلى الله عليه، وأيهما أفضل؛ لأن هذا لا يؤخذ من عبارة البرنس كايتاني ولا هو غرض مؤرخ كبير كهذا، بل هذه المباحث العقيمة الآن تليق بجريدة مثل ( الجريدة ) لا يذوق محررها طعمًا لكلام مؤلف، ولا يعرف وزنًا لقيمة رأي مؤرخ ).
أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي ﷺ حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام الحقيقية كانت في عهد النبي ﷺ. وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله عز وجل للنبي ﷺ، وهل أخلاقه الفائقة إلا موهوبة من عند الله، وهي معجزة من معجزاته؟ فهل يكون كافرًا بالله من قال: إن قوة هذه المعجزة بخصوصها كان لها دخل في فتوحات الإسلام على عهد النبي ﷺ أكثر من كل معجزة دينية أخرى.
إن للقرآن الكريم وظيفة أخرى لا يشاركه فيها مشارك وهي كونه شريعة إلهية، جمعت بين مصالح الدين والدنيا، ففاق بهذه المزية كل الكتب الإلهية الأخرى كما فاقها في الأسلوب والبيان، فهل ينقص من فضل القرآن ومزيته أن يقال: إن أخلاق النبي ﷺ كانت فوقًا تأثيرًا في فتوحاته وبسطة سلطانه.
هذا ما أردنا بيانه، ونترك للجريدة المشاغَبة واللغط والوثوب من خطأ إلى غلط ). اهـ كلام المؤيد.
( المنار )
عدلإن المؤيد جرى في الرد على الجريدة في هذه المسألة على طريقة المراء المعتاد في المناقشات السياسية، فحرف كلام كايتاني عن موضعه، وجعله من باب الإعجاب بالأخلاق التي أكرم الله بها نبيه وتفضيل تأثيرها على القرآن، وإنما كلام كايتاني في غير ذلك إذ زعم أن جُلَّ نجاح النبي ﷺ أَوْ كله بسياسته وحنكته - أي تجاربه - لا أخلاقه الموهوبة من الله، كما قال فيه الدكتور شميل: إِنه رب السياسة والدهاء.
وكان للمؤيد مندوحة عن تأييد شبهة كايتاني وتقويتها، بأن يقول للجريدة: إنه سكت عليها؛ لأنه لا يطالب غير المسلم بأن يقول في الإسلام أكثر من ذلك، مع العلم بأن المسلمين لا يأخذون عقيدتهم عن مؤرخ نصراني. ولكنه لم يوفق لذلك؛ فاضطررنا إلى كشف الشبهة بالمقالة الآتية في الجريدة:
يقول المنكرون لنبوة نبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - سواء كانوا من الأوربيين أو غيرهم: إن ما تم على يديه من جمع كلمة العرب وكذا وكذا مما ثابت في التاريخ إنما كان بالدهاء والسياسة وسمو الأفكار وعلو الأخلاق الذي يكون عادة لكثير من الرجال كالبرنس بسمارك و نابليون الأول. وإن ما ادعاه من النبوة، وما جاء به من القرآن لا تأثير لهما في نفسهما، وإنما التأثير له هو بنفسه وبهما؛ لأنه استخدمها في تنفيذ سياسته { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبا } ( الكهف: 5 ).
ويعتقد المسلمون أن النبي ﷺ بشر كسائر البشر لا يمتاز على غيره إلا بالنبوة وما تستلزمه كما هو نص قوله تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } ( الكهف: 110 ) الآية. وقوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِم } ( يوسف: 109 ).
ويعتقدون أن النبي ﷺ قضى سن الشباب وبلغ الأربعين ولم يعمل عملا اجتماعيًّا ولا سياسيًّا، وأن ما تم على يديه بعد ذلك إنما كان بالنبوة التي اختصه الله بها وبالقرآن الذي أوحاه إليه، فكان روحًا أحياه به حياة جديدة، وأحيا به من اتبعه فكان اهتداء الجميع بالقرآن لا بتأثير صفات النبي الشخصية كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا } ( الشورى: 52 )، فالله تعالى هو الذي هدى المؤمنين بكتابه، ولم يكن النبي ﷺ هو الذي هداهم بصفاته البشرية وكفاءته الشخصية؛ ولذلك أنزل الله عليه قوله: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ( القصص: 56 )، وقوله: { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ( الأنفال: 63 ).
بل يعتقد المسلمون أن النبي ﷺ كان يرتقي في أفكاره وأخلاقه بالقرآن نفسه فكلما أنزل الله عليه شيئًا منه ازداد كمالا به؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها لِمَنْ سألها عن أخلاقه: ( كان خلق رسول الله ﷺ القرآن ) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما.
ومما هَدَاه الله تعالى إليه بكتابه مشاورة أصحابه في الأمر، فكان يستشيرهم، ويعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد، وكانوا يسألونه إذا أشار بأمر: هل هو وحي فيُطاع بلا بحث ولا تردد أم هو الرأي؛ ليذكروا ما عندهم، فإذا قال: هو الرأي. ذكروا ما عندهم كما كان يوم بدر. وقد ترك ﷺ رأيه إلى رأيهم.
فمن هذه العجالة يعلم أن القرآن هو الأصل في هداية الرسول ﷺ وهداية أصحابه عليهم الرضوان إلى ما تم على يديه وأيديهم معه وبعده مما أدهش التاريخ إذ لم يجد له نظيرًا، ولو شئنا لأتينا بأكثر مما أتينا به من الشواهد على ذلك من الآيات والأحاديث، ووقائع السيرة النبوية، وتاريخ الراشدين، ولكن ما جئنا به كافٍ في التذكير بما يؤمن به كل مسلم.
هذا هو اعتقادنا نحن السلمين، وذلك الذي ذكرنا في أول المقال هو اعتقاد من ينكر صحة ديننا ونبوة نبينا ﷺ، ويزعمون أن الإسلام وما فيه من المزايا، وما تم له من النجاح كان منشؤه سياسة النبي ﷺ وحنكته كما يعهد من الرجال العظام عادة.
وقد نقل المؤيد في يوم الأحد الماضي عن جريدة التيمس عبارة للبرنس كايتاني الإيطالي مؤلف تاريخ الإسلام في ذلك الاعتقاد الذي يراد به هدم الإسلام، وهي: ( ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله بدليل سبق إهماله حتى الآن وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر من إفادة القرآن وأي حمية دينية ).
نقل المؤيد هذه العبارة وأقرها فأنكرت عليه الجريدة أن ينقل الكفر ويقره على فخره بكون جريدته إسلامية وكونه من أبناء الأزهر. فبماذا أجاب المؤيد على هذا الإنكار؟
أجاب بأنه يعتقد أن تلك العبارة ( التي تنيط نجاح عمل النبي ﷺ بالحنكة والسياسة لا بالنبوة ) ليست كفرًا وبين ذلك بما هو العجب العجاب. قال في العدد الذي صدر أمس ( يوم الأربعاء ثالث المحرم ) ما نصه:
( إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر، وهو الإعجاب بأخلاق النبي ﷺ، واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له والله تعالى يقول في كتابه الكريم: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم: 4 ) فلم يرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم، وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت عن النبي ﷺ، بل القرآن نفسه يقول: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 )، فجعل مناط قوة ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه من العيوب المنفرة، فلو كان فظًا غليظ القلب ما نفعه قرآن ولا حمية دينية، وهذا كلام يقوله كل مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي ﷺ وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني ).
ونحن نقول له: إنه لا يوجد مسلم يعقل ويعرف ما هو الإسلام يقول ما يزعم صاحب المؤيد أن كل مسلم يقوله. وإنما يقول كل مسلم: إن روح الإسلام هو القرآن الذي به بلغت أخلاق من أنزل عليه تلك الدرجة العالية - كما قالت عائشة - وهذه هي العقيدة التي صرح بها القرآن في الآية التي أوردناها آنفًا وهي: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِّنْ أَمْرِنَا } ( الشورى: 52 )، ولولا القرآن لَمَا اجتمع حوله ﷺ أحد، وَلَمَا فعل شيئًا، ولَمَا فداه المؤمنون بالنفس والمال، فقد صرح الله تعالى بأن كل عمل له كان بالقرآن، فهل نتبعه أم نتبع كايتاني وأضرابه الذين يقولون: إن كل ذلك كان بمزاياه الشخصية البشرية؟
كاد يقع بين الأوس والخزرج العدوان وتصلى نار الحرب لِمناظرة وقعت؛ فنزل قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا } ( آل عمران: 103 ) الآيات، فرجعوا وتابوا وأنابوا، وحبل الله هو القرآن، ولم يقل: إن سياسة النبي وحنكته وأخلاقه هي التي ألفت بين قلوبهم. على أن أخلاقه هي القرآن فهو أصل كل شيء.
قال صاحب المؤيد بعد ذلك في الاستدلال على عدم كون القرآن هو منبع قوة المسلمين: ( أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي ﷺ حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام كانت في عهد النبي ﷺ؟ وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله عز وجل للنبي ﷺ؟ ).
ونقول في دفع هذه الشبهة: إن المسلمين كانوا في قوة وعزة ما كانوا عاملين بالقرآن، ففي عهده ﷺ كانوا أشد استمساكًا بحبله المتين وعُرْوَته الوُثْقَى لا لصفات النبي الشخصية البشرية، بل لنبوته وما لها من المزايا، وللقدوة به قي تَمَسُّكهِ بالقرآن التي عاتبه الله تعالى على مبالغته فيها بمثل قوله: { طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى } ( طه: 1-2 )، ثم كانوا في زمن أبي بكر وعمر مقربة من ذلك، ثم صاروا يتدلون بترك القرآن. ويعتقد كل مسلم عاقل عارف بحقيقة الإسلام أنهم إذا عادوا إلى الاعتصام به تعود إليهم قوتهم وعزتهم فهم ليسوا حجة على الإسلام ( يا صاحب السعادة ) بل القرآن حجة عليك وعليهم.
فأدعوك إلى التوبة والرجوع عمّا كتبت في تأييد أقوى الشبهات على الإسلام والقرآن والنبوة، وأن تعلن توبتك في جريدتك، وتصرح بأنك تؤمن بأن القرآن هو روح الإسلام وبوحيه إلى النبي ﷺ واهتدائه به عمل بعناية الله ما عمل، وبرد قول كايتاني إن حنكته وسياسته أكثر فائدة من القرآن ومن كل حمية دينية. حباه الله هو ومن اتبعه إياها فإن ذلك كفر وهدم للإسلام. السيد محمد رشيد رضا د رضا صاحب المنار
وقد أجاب المؤيد عن هذه المقال بما يأتي بنصه نقلا عن عدد المؤيد الذي صدر في سادس المحرم وهو: ماعدا مما بدا
قال اللورد كرومر أمس: ( إن الجامعة الإسلامية تستلزم السعي في القرن العشرين في إعادة مبادئ وضعت منذ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية في حالة الفطرة والسذاجة، وهذه المبادئ منها ما يجيز الرق، ومنها ما يتضمن سُنَنًا وشرائِعَ عن علاقات الرجال والنساء مناقضة لآداب أهل هذا العصر، ومنها ما يتضمن أمرًا أهم من ذلك كله وهو إفراغ القوانين المدنية والجنائية والملية في قالب واحد لا يقبل تغييرًا ولا تحويرًا وهذا ما وَقَّفَ تَقَدُّمَ البلدان التي دان أهلها بدين الإسلام ).
وقال البرنس كايتاني اليوم: ( إن مزية النبي هي في كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه! إن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر من إفادة القرآن أو أية حمية دينية ).
فلماذا اتسع صدرنا لعبارة اللورد، ورأينا من اللياقة وحسن الأدب تأويلها - مع أنها كادت تكون صريحة في أن الدين الإسلامي دين وضعي - ولم يتسع صدرنا لما قاله البرنس، مع أن عبارته تُشْعِر بأنه معترِف للنبي ﷺ بأنه نبي موحى إليه وأن قرآنه مفيد؟
إذا كان هناك بواعثُ حملت الشيخ رشيد على التفرقة بين الاثنين، وتشنيع إحدى العبارتين، فإن الحق الذي لا تتلاعب به البواعث يشهد بأن عبارة البرنس لا توجب اللوم ولا التعيير بله التضليل والتكفير!!
بل الإنصاف يتقاضانا الثناء على جناب البرنس والإعجاب بحرية ضميره؛ لاعترافه بصدق النبوة كما أشرنا إليه آنفًا.
أمَّا كون البرنس جعل التأثير في تأييد سلطة النبي ﷺ للمزايا التي انطوت عليها نفسه الشريفة أولا، ثم القرآن ثانيًا كما هو نص عبارته، فهذا لا يقدح في قوله ولا يجعله من باب الكفر. نعم إذا كان للبرنس رأي خاص في النبي ﷺ كآراء بعض رجال أوربا فيه على ما أشار إليه الشيخ رشيد في مقدمة كلامه فهذا لا يلزمنا مناقشته فيه ما دام أنه مستور في نفسه، بل نراه قد صرح بِضِدِّهِ في عبارته حيث قال: إنه ( نبي موحى إليه ) فهل لا تكون تلك العبارة قرينة على أن البرنس ليس على رأي أولئك المُنْكِرينَ لنبوته ﷺ؟.
وإذا راجعنا ما قاله المفسرون في تفسير آية { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 ) رأيناهم يفسرونها بكلام يأتلف مع ما قاله البرنس كايتاني. فلم تكن عبارة البرنس إذًا كُفْرًا بل هي الحقيقة الدينية التي علم بها القرآن الكريم.
( قال الطبري في تفسير هذه الآية: احتملت يا محمد أذى من نالَكَ منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجُرْم منهم جرمه، وأغضيتَ عن كثير ممن لو جفوته وأغلظت عليه لتركك فيفارقك ولم يتبعك. ولا ( أي ولم يتبع ) ما بعثت به من الرحمة ) فقوله الأخير نص في أن مزايا النبي الذاتية كانت السبب في أن يتبعه العرب ويصدقوا بالقرآن الذي أتى به. وقال الألوسي: ( لانفضوا مِن حولك ) أي: لتفرقوا عنك، ونفروا منك، ولم يسكنوا إليك، وتردوا في مهاوي الرَّدَى، ولم ينتظم أمر ما بعث به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط ) فعدم فظاظته وغلظته اللتين لو كانتا فيه لَذَهَبَتَا بكفاءته وحنكته وسياسته هو السبب الأول في انتظام أمر بعثته.
وقال بعض المفسرين ما هو أصرح من كل ذلك كله قال: ( وكل واحد من الأمرين ( أي: الفظاظة والغلظة ) لا يليق بمنصب النبوة؛ لأن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه، وسكون نفوسهم لديه، وهذا لا يتم إلا إذا كان رحيمًا بهم كريمًا يتجاوز عن ذنوبهم ويعاملهم بالبر والشفقة )، فلولا كفاءته الذاتية التي هي عبارة عن مجموع مواهبه ومزاياه وَخِصاله الكريمة لَمَا تَمَّ أمْر البعثة، فلم يلتفوا حَوَالَيْهِ ﷺ، ولم يَعُوا القرآن الكريم الذي أنزل عليه؛ فالكفاءة إذن هي العامل الأول في تأييده أو تأييد سلطته الذي أراده البرنس.
فهل تكون بعد هذا كله عبارة البرنس كفرًا وطعنًا في الدين إلى حد لا تَسعه صدورنا كما وسعت كلام اللورد، ويكون المصريون مخطئين في إقامة الاحتفال له وإعلان الثناء عليه، أم لا يكون شيء من ذلك وإنما للشيخ رشيد حكمة من وراء صنيعه هذا يعلمها هو والواقفون على أطواره وخفي أسراره. اهـ كلام المؤيد.
وقد رددنا هذا التمويه والمغالطة بمقالة أخرى نشرناها في عدد الجريدة الذي صدر في اليوم السابع من المحرم وهي:
جواب المؤيد عن شبهته (على القرآن )
عدللا يترك المؤيد شنشنته في الجدال، فهو يشاغب ويكابر في أصول الدين وعقائده كما يفعل في المناقشات السياسية والشخصية، فقد أنكرنا عليه ما كتبه في قيام الإسلام وثبات سلطته، وعزوه إياه إلى المسلمين، وقوله: إنه اعتقادهم. وهو أن السبب الأول والعُمْدة فيه هو - كما يقول البرنس كايتاني - سياسة النبي ﷺ وحنكته، أي ما أفادته إياه التجارب. أنكرنا عليه هذه الدعوى، وَبَيَّنَا له بالآيات البَيِّنات أن ذلك كان بما آتاه الله من النبوة، وأنزل عليه من القرآن.
فرد علينا أمس بأننا أَوَّلْنَا طعْن لورد كرومر في الإسلام، فلماذا ننكر على البرنس كايتاني، ونشنع عليه ونُخَطِّئ المصريين الذين قاموا له بالاحتفال، فحاصل جواب الشيخ علي يوسف عما أنكرناه عليه هو أننا فعلنا فيما مضى فعلا كان يجب علينا أن نعيده الآن، وأننا شنعنا على البرنس كايتاني وذلك يتضمن تخطئة المصريين الذين احتفلوا به.
ولقد رأى القراء أنه ليس في عبارتنا تشنيع على كايتاني، وأكثر ما يفهم من ردنا على صاحب المؤيد أن ما قرره عن البرنس كايتاني مخالف لعقيدة المسلمين في القرآن والنبي عليه الصلاة والسلام، وليس هذا بتشنيع عليه؛ لأنه ليس بمسلم، فيطالب بأن يكون كلامه مُطابقًا لعقيدة المسلمين.
وأمَّا احتفال المصريين به فلم يَأْتِ له ذكر في كلامنا لا تصريحًا ولا تلويحًا، وهم لم يحتفلوا به لأنه مسلم؛ بل لأنه كتب تاريخًا صرح فيه باعتقاده من غير تحامل ولا تعصب. وقد صرح لورد كرومر بانتقاده، فرأيت كما رأى المؤيد أن كلامه كاد يكون طعنًا في أصل الإسلام فكتبت إليه كتابة كان أثرها أنه كتب يبرئ القرآن والسنة من الطعن. وقد صرح صاحب المؤيد يومئذ بأن ما كتبه لي اللورد هو رجوع عما كتب في تقريره. فأنا الآن أطلب من صاحب المؤيد كما طلبت من اللورد تبرِئة القرآنَ مما كتبه؛ فعسى أن لا يكون لورد كرومر خيرًا منه في الرجوع إلى الحق بعدما تبين له.
وغرض صاحب المؤيد مما كتبه ظاهر وسببه بين وهو أنه عجز عن رد الحجج التي دمغنا به دعواه في القرآن وصعب عليه الاعتراف بالحق الذي طالبناه به، فانتقم منا بتحريض من احتفلوا بالبرنس علينا، وهم أعلى فَهْمًا وآدابًا من أن ينخدعوا بمثل ما كتب. ولم يذكر إنكارنا عليه حتى لا يدري به من يقرأ المؤيد ولم يكن اطلع على الجريدة يوم الخميس الماضي.
تلك شنشنته، وذلك مبلغه من العلم ولولا أنه عاد إلى تأييد قوله الأول بأن أخلاق النبي ﷺ فوق كل قوة دينيه كانت له؛ أي: فوق اصطفاء الله له بالنبوة وتأييده بالقرآن، وأن العُمْدة في نفوذه هي السياسة والحنكة، واحتج بقوله تعالى: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 ) لَمَا كتبنا اليوم شيئًا في إعادة دعوته إلى التوبة مما كتب والرجوع عنه كتابة في المؤيد.
أقمنا الدليل في المقالة الأولى على ما قلنا: إنه اعتقاد المسلمين. وأيدناه بالآيات والأحاديث، ومنه أن أخلاق النبي ﷺ العليا وسياسته المثلى مستمدة من القرآن، فصرف الشيخ علي نظره عن ذلك، وعاد ينقل لنا ما قاله بعض المفسرين في قوله تعالى: { وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران: 159 )، ولم يذكر الآية بتمامها؛ لأنها حجة عليه فكان مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَنِ استدل على تحريم الصلاة بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ } ( النساء: 43 ) وسكت عن قوله: { وَأَنْتُمْ سُكَارَى } ( النساء: 43 ) إلخ. هذا نص الآية: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ } ( آل عمران: 159 )، فهل تدل هذه الآية على أن تلك الأخلاق العالية والمعاملة الحسنة كانت بتأييد الله إياه وتأديبه له بالقرآن كما نعتقد نحن المسلمين أم كانت بسياسته وحنكته؛ أي: تجاربه ﷺ كما يقول الشيخ علي يوسف تأييدًا لكلام البرنس كايتاني؟.
ألم يصرح جهابذة المفسرين بأن قوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ } ( آل عمران: 159 ) يفيد أن هذا كان برحمة الله وتوفيقه إياه، وأن تأكيد السببية هنا بلفظ ( ما ) يدل على الحصر كما في الكشاف، ومعنى هذا أنه لم يكن ذلك بكسبه واجتهاده ولا سياسته وتجاربه وإنما هو بتأييد الله وتوفيقه. وذلك من آثار النبوة التي هي غير مكتسبة بالتجارب والسياسة؟ ويؤيد ذلك بقية الآية وبامتثالها بمعونة تلك الرحمة كان رءوفًا رحيمًا لا فظًّا ولا غليظًا. ويدعم ذلك قوله في آخرها: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ( آل عمران: 159 ) ولم يقل: توكل على سياستك وتجاربك.
ومن أمثلة هذا في القرآن قوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى } ( عبس: 1-2 ) الآيات وسببها معروف ملخصه أن النبي ﷺ كان يدعو عظماء قريش إلى الإسلام في أول الإسلام فجاءه عبد الله بن أم مكتوم الأعمى - وهو من السابقين الأولين - يسأله أن يعلمه، فعبس ﷺ، وأعرض عنه؛ لئلا ينفر من إقباله عليه أولئك الكبراء، وكان من اجتهاده ﷺ يومئذ أن الكبراء إذ دخلوا في الإسلام أولا لا يلبث أن يتبعهم الناس، فعاتبه الله على ذلك عتابًا شديدًا، ونهاه عن مثل ما فعل فقال: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ } ( عبس: 1-11 ) فعمل ﷺ بهذا التأديب والتعليم الإلهي من أول الإسلام، فكان ذلك عونًا على استمرار دعوته التي كان روحها والمؤثر الأكبر فيها هو القرآن لا السياسة والحنكة كما يَدِّعِي الشيخ علي يوسف.
أما الدلائل النقلية على تأثير القرآن في جذب العرب إلى الإسلام فهي كثيرة، وأذكر لسعادة صاحب المؤيد منها إسلام عمر رضي الله عنه، وهو الذي أعز الله به الإسلام كما ورد. كان عمر في الجاهلية فظًّا غليظًا، ولمَّا سمع بإسلام أخته وختنه ( زوجها ) عظم عليه الأمر، فجاءها وضربها حتى أَدْمَاهَا، وكانت تقرأ هي وزوجها صُحفًا من القرآن الكريم، فأخفتها عنه فما زال حتى أخذها وقرأها فجذبته إلى الإسلام جذبًا، وكان بعد ذلك من رحمته أنْ كان يطوف بالليل يتفقد المحتاجين؛ وقصته في حمل الدقيق ليلا إلى موضع تلك المرأة البائسة وطبخه مشهورة.
وحَسْبُك من تأثير القرآن أن كان الغالون في العناد والجحود من كفار قريش يهربون من سماعه لئلا يجذبهم إلى الإسلام بقوة تأثيره { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } ( فصلت: 26 ).
فأدعو سعادة الشيخ علي يوسف بعد هذا البيان إلى الرجوع عما كتبه مِن قَبْلُ والتصريح بأن قوة النبي الدينية كانت فوق كل قوة له بشرية، وكل سياسة وحنكة عادية، وأن القرآن الحكيم هو منشأ آدابه وأخلاقه وسياسته عليه الصلاة والسلام، وأن سيادته ونجاحه كانا بذلك قبل كل شيء وفوق كل شيء والسلام على من اتبع الهدى.
السيد محمد رشيد رضا
منشئ المنار
وبعد أن نشرنا في الجريدة ما تقدم رأينا كثيرًا من أهل العلم والغيرة مرتاحين مسرورين مما كتبناه، وقالوا: إن هذا الرد من فروض الكفاية قمت به فسقط الحرج عن كل عالم قادر عليه. وكتب إلينا عبد الله أفندي الأنصاري مدرس العلوم العربية في المدرسة التوفيقية ما يأتي:
حضرة العلامة المفضال صديقنا الصادق في الله تعالى السيد محمد رشيد رضا:
السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد، فلقد اطلعت في صحيفة المؤيد على ما نشرته من رأي البرنس كايتاني في محمد ﷺ، ومجادلتها عنه، وعلى ما جاء في الجريدة عن ذلك، وردكم هو الحق الصراح، والنور الوضاح، والبيان الفضاح لدسائس الملحدين لنور رب العالمين، فجزاكم الله خيرًا عن الإسلام وأهليه، والشرع وحامليه، ولما رأيت مجادلة صاحب المؤيد عن ذلك الرأي، وإصراره على عدم رَتْقِ هذا الفَتْقِ، والانصياع إلى سلطان الحق محاباة في الرد، ومداراة للقصد اختلست ساعة من أوقاتي المملوءة بالأشغال المدرسية - كما لا يخفى - لتحرير هذه المقالة تأييدًا لِرأيكم الأصيل، وتسديدًا لقولكم النبيل، فأرجو نشرها إن استحسنتم في مناركم الرفيع، والسلام عليكم أولا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا. من أخيكم عبد الله الأنصاري.
وهذه هي مقالة الأنصاري المفيدة بنصها:
لا هوادة في الدين
عدللقد جاء انتقاد الجريدة وردودها على ما نشرته صحيفة المؤيد من رأي البرنس كايتاني في مبلغ الرسالة الإسلامية، وإعجابها به مطفئًا لِمَا اتَّقَدَ في صدور ذوي الغيرة على الدين بنفثات الذين يريدون المحاباة في الإسلام، والتساهل الذي قد اتخذه كثير من دعاة المدنية العصرية من المسلمين وسيلة إلى إحداث شأن جديد في الدين عِندَ مَنْ أكبرتهم نفوسهم ممن لا تروج لديهم بضائع أهل الملل والأديان، ولا يروق في نظرهم أن ينسبوا ما جاء في الشرائع الإلهية، وعلم من آداب الأديان السماوية، إلا إلى مجرد فطنة ودهاء، واضعها بصفة كونهم ساسة عقلاء لا رُسلا وأنبياء.
ذلك ما يقرع الأسماع كثيرًا من بعض المخالفين في كنه العقيدة الإسلامية، وما القصد من ذلك إلا أن يغيض اعتقاد المسلمين في قرآنهم القائم بين أيديهم إلى الآن، وتنفصم عراه من قلوبهم فلا يتمسكون به حتى يضعوا أيديهم في يد أهل المدنية الغربية، ولو آلَ الأمْرُ إلى المجازاة في مثل ذلك الرأي ونبذ عقيدة أن الدين وضع إلهي وأن الكتاب وحي سماوي لم يكن للرسل فيه ولا للالتفاف الناس حولهم إلا التبليغ والتبيين { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرا } ( طه: 113 ) هوَّن ذلك التساهل على سعادة صاحب المؤيد أن ينشر على ملأ المسلمين ذلك الرأي بصورة رائقة ويجادل عنه وكله كما لا يخفى على بصير مغامز مخالفة لصريح القرآن، هادمة لمبنى الإيمان، إذ يجعل نجاح الدعوة المحمدية بما كان له ﷺ من كمال الأخلاق البشرية والحنكة - التي ربما يقولون بَعْدُ: ( إنها كما تكون له تكون لغيره من البشر قبله وبعده من العقلاء المجربين، والساسة المحنكين ) أكثر من كونه نبيًّا مرسلا، وصاحب كتاب منزل.
هكذا قال أُبَاةُ الحق من العرب ومكابروهم فيه، وقد خصهم الله وألزمهم الحجة، وانتهى الأمر باعتراف المؤمن وغير المؤمن بسمو مكانة القرآن الكريم عند من يدرك معناه ويتصور مبناه من حين نزوله إلى اليوم. أمّا الآن وقد مضى على التنزيل أكثر من ثلاثة عشر قرنا فقد أصبحنا نُرَوِّج هذه الدعوى ونرضاها على لسان المسيو كايتاني؛ لِيُقالَ إنَّا متساهلون متسامحون، أو متنورون متمدنون.
لست أقصد رمي سعادة صاحب المؤيد بما رمته به الجريدة من المروق لنشر هذا المعتقد وترويجه بين المسلمين، وإنما أقول أولا: لا نصدق أن سعادته لا يصل ذهنه إلى أعماق هذا الرأي وما وراءه، ولا نُسِيءُ الظن فيه بكونه يرضاه عقيدةً له؛ فلم يكن هناك إلا ذلك التساهل الذي ما ساق كثيرًا من الناس إليه الآن إلا إعظام كل ما جاء على ألسنة متنقصينا من موافق ومخالف، والزهد فيما لدينا من تالد وطارف، وإلا فليس ما رضيه الشيخ اليوم عن كايتاني بأهون مسًّا ولا أخف وخزًا في أحشاء الإسلام من ذلك الرأي الغابر الذي أرهف له قلمه وجرده يقطر غيرة وحمية، أم هي الأهواء تقبح وتحسن ما تشاء.
ما أخسرنا وأضيعنا في كل حال لو بذلنا في أغراضنا ومقاصدنا الدنيوية إسلامنا وطوحنا بقرآننا في مهاوي التساهل الماحي، والتسامح الماحق لدرك كلمة تقال فينا، أو جذب عاطفة تشهد لنا بأننا ترقينا وأدركنا من شأو المتقدمين ما تشرئب إليه الأعناق، وما نحن ببالغي ذلك منهم ولو صرنا لعبادتهم خاضعين.
نشأ محمد ﷺ أُميًّا بين أميين ليسوا أهل ملك وسياسة حتى بلغ الأربعين ولم يكن له من شئون دنياه في أكثر حالاته إلا الاشتغال بعبادة ربه، والانقطاع عما فيه الناس حينئذ، فهو إلى ذلك الحين أبعد عن مجاري السياسة، وموالج حيل الرئاسة حتى صدع بالدعوة بلا هوادة فيها، وسار بها من أول أمرها وفي جميع أطوارها برعاية ربه وعناية مُرْسِلِهِ سيرًا حثيثًا كان له فيه الغلب من أوله إلى آخره بين جدال وجلاد، وبلاء واجتهاد، والقرآن لا غير مصدره ومورده، ومرشده ومعتمده في كل شيء.
ولقد كان يُرْجِئ الأمر حتى يتلقى فيه قرآنًا ونحن نخاطب بذلك من يتصورون أطوار الرسالة المحمدية، ويتخيلون حالة الأمة العربية حينئذ، ويمضون في فهم كتاب الله ويقدرونه قدره، وما كان عليه العرب من النزول على حكم البيان الذي بلغ في القرآن مبلغ الإعجاز، فكان عليه وحده في الهداية ونجاح الدعوة المعول أكثر من كونه ﷺ على خُلُق عظيم أو ذا سياسة وحنكة. لى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } ( الشورى: 52-53 ).
لم يَذُقْ أحد من نبغاء المسلمين اليوم ولا قبل اليوم بقرون - فضلا عن المسيو كايتاني حتى سعادة الشيخ علي يوسف - ما ذاق أصحاب النبي في عهده من القرآن. وهم في حجور الوثنية، وأحضان الهمجية، فانتشلهم، وطَهَّرَهم، فكان موقع القرآن منهم موقع الزُّلال من ذِي الغُلَّةِ، والدواء من ذي العِلَّةِ، وإلا فما كان يفعل محمد ﷺ بدون تأييد الوحي المنزل الذي هو حجته الكبرى، وآيته العظمى القائمة عند مَنْ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فلا يقال حينئذ: وإلا فالقرآن بين أيدينا ولم يعمل عمله فينا { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ( العنكبوت: 51 ).
لم يرتض أصحاب رسول الله ما قاله أبو سفيان، وقد أقبلت جموع الفتح قبيلةً قبيلةً وهو قائم بين جمع من الصحابة وفيهم العباس أحد أعمام النبي ﷺ حتى أقبل مع أبي بكر وعمر في كتيبته الخصراء يقولون: الحمد لله وحده صدق وعده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فقال أبو سفيان لعثمان: صار لابن أخيك مُلْكٌ عظيم. فقال: مَهْ يا أبا سفيان، إنما ذلك الوحي والرسالة. فكيف نرضى أو نقبل أن يكون ما وصل إليه نبينا مِنَ الظَّفَرِ والغَلَبِ في أمْر دعوته إلى الله بسياسته وحنكته أكثر من نبوته ورسالته؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا براءة الحق من الباطل. فليصن سعادة صاحب المؤيد غيرته على الإسلام من أن يغمض طَرْفه على أَذًى فيه فَرُبَّ تلميح أنكأ من تصريح، ومدح آلم من تجريح، وليحفظ مكانته في قلوب أهل مِلَّته مِن أنْ يُحَابِيَ في دينهم على مرأى ومسمع منهم، فإنه لا هوادة في الدين. أخيكم عبد الله الأنصاري
( المنار )
عدلهذا وإن الموضوع يتسع لإطالة القول وإيراد الشواهد الكثيرة من الآيات الكريمة والسيرة النبوية، وإنما اكتفينا بما كتبناه على عَجَلٍ في إدارة الجريدة؛ لأننا نقصد به تذكير المسلمين، لا إقامة الحجة على المخالفين، وقد سَكَتَ صاحب المؤيد بعد نشرنا المقالة الثانية، ويغلب على ظننا أنه ندم على ما فرط منه، ولكن كان يجب عليه أن ينشر حقيقة العقيدة الإسلامية في ذلك بالمؤيد لِيَطَّلِعَ عليها من قرءوا كتابته الأولى إِذْمَا كُلُّ مَن يقرأ المؤيد يقرأ الجريدة ( وبالعكس ) ولو فعل لَمَا نشرنا شيئًا من هذا البحث في المنار.
هامش
- ↑ يريد بالغايات معناها اللغوي، وهي المقاصد، يَعْنِي الدينية، ويعني بالأمر بتركها تركه البحث فيها؛ أي: إنه يبحث في القرآن من حيث هو كتاب اجتماعي لا من حيث هو كتاب ديني كما قال لنا مشافهة
- ↑ كتبنا هذه المقالة في إدارة الجريدة على عَجَلٍ، ولم يكن في يدنا مصحف نراجع فيه عدد السور والآيات للشواهد التي أوردناها فيها فوضعنا الأعداد الآن، ولم نَزِدْ في المقالة شيئًا سِوَاهَا، بل نقلت عن الجريدة بحروفها.