مقالات مجلة المنار/نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية/5
فائدة بعثة عيسى والفرق بين صورته في القرآن وصورته في الأناجيل
فإن قيل: إذا كانت هذه العقائد التي امتازت بها المسيحية عن الإسلام واليهودية باطلة؛ فما فائدة بعثة عيسى إذًا، ولِمَ فتن الله الناس به حتى اتخذوه إلهًا؟ قلت: لا شك أن عيسى كان نبيًّا كبيرًا ورسولا عظيمًا جعله الله مثالا حسنًا للناس ليهتدوا بهديه وليقتدوا به في أخلاقه وأعماله وأقواله وسيرته الطاهرة، وقد اشتهرت تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة والرأفة والزهد في الدنيا كما قال القرآن الشريف: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } (الحديد: 27) وذاع إصلاحه في الأرض منذ وجوده للآن رغمًا عن كل ما طرأ على دينه من التحريف والتبديل مع كثرته.
ومن فوائد بعثته أيضا أن الله تعالى جعله دليلا على قدرته على البعث والقيامة الأخروية، فإن الناس كانت قد ضعفت فيهم أو تلاشت من بينهم تقريبًا هذه العقيدة الكبرى لدرجة جعلت الصدوقين من اليهود وهم الأمة التي اشتهرت بكثرة الوحي فيها والأنبياء ينكرون البعث يوم القيامة (مت 22: 23 وأع 23: 8 ) وكان يوجد من النصارى أيضا من تبعهم في ذلك كبعض أهل كورنثوس كما يفهم من رسالة بولس الأولى إليهم (15: 12) وتجد أسفار العهد القديم خالية من التصريح بهذه العقيدة اللهم إلا بعض إشارات طفيفة كما في سفر التثنية (32: 19 - 43) ولعل السبب في ذلك وجودهم بين المصريين مدة (430) سنة (خر12: 40) واقتباسهم منهم هذه العقيدة التي كانت عالقة كثيرًا بأذهان المصريين 1 فانتقلت منهم إلى بني إسرائيل وأصبحت عندهم من الأمور التي لا يترددون في قبولها فلذا لم يحتاجوا للتذكير بها كثيرًا فاكتفت كتبهم بالإشارة إليها أحيانًا، ولا تنس أن بني إسرائيل كانوا من أشد الأمم ميلا للتقليد وخصوصًا للأمم الغالبة، فلذا انتقلت إليهم هذه العقيدة من المصريين وانتشرت بينهم، أو كان السبب في قلة ذكر كتبهم لها أن الناس كانوا في تلك الأزمنة قصيري الإدراك بلداء الشعور، وخصوصا اليهود ذوي الرقاب الصلبة (خر32: 9) فلذا ما كانوا يتأثرون ولا تنفعل نفوسهم بالمواعيد الآجلة انفعالها بالمواعيد العاجلة التي كثرت كتبهم من ذكرها لهم لغلظ قلوبهم وقساوتها فلما كَثُرَ بين الناس الشك في هذه العقيدة وارتقى إدراكهم ورق شعورهم عن ذي قبل جاء عيسى لتبيين هذه العقيدة العظمى، واشتهر بالتصريح بها أكثر من جميع من سبقه من أنبياء بني إسرائيل، وقد بين قدرة الله تعالى على البعث والنشور بمعجزاته العظيمة كإحياء الموتى وخلقه من الطين طيرا وبوجوده هو نفسه بدون أب خلافا لما اعتاده الناس فالله تعالى الذي أجرى على يديه كل هذه الآيات البينات (أع 2: 22 ) لا شك أنه قادر على إحياء الموتى يوم القيامة 2 .
فإصلاح الأخلاق وتذكير قومه بكلام الله القديم الذي كانوا هجروه وإرشادهم إلى حقيقة الشريعة وروحها والدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر والزهد في الدنيا؛ لشدة انغماس الناس في زمنه في الماديات هي أهم ما جاء عيسى به، وهي أعظم ما عرف عنه بين جميع أتباعها، واشتهر به على اختلافهم في الآراء والمعتقدات ولو أنهم جعلوا نعيم الآخرة روحانيًّا فقط، مع اعترافهم بالبعث الجثماني بل والعذاب الجسداني أيضا 3 بسبب تأثير أقوال بعض فلاسفة اليونانيين فيهم كأرسطو حتى أولوا أقوال المسيح نفسه الدالة على عكس ما ذهبوا إليه تقليدًا لهم كما في (متى 26: 29 ولوقا 22: 30 ).
ولكن من المجمع عليه أن أكثر تعاليم عيسى وشغله الشاغل كان في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والسلم والتمسك بروح الدين 4 وجوهره الإيمان باليوم الآخر والعمل على نشر ذلك كله بين العامة والخاصة من قومه، ولكنه قل أن تعرض للإلهيات لعدم حاجة اليهود إليها بل أحالهم فيها إلى ناموسهم؛ إذ فيه الكفاية منها، وبين أن التوحيد هو أول كل الوصايا (راجع مثلا مرقس 12: 28 - 34) كما كان معلومًا لديهم من قبل وقد استفاد العالم من تعاليمه كثيرًا منذ زمنه إلى الآن.
وأما افتتان الناس به ودعواهم له الألوهية، وإن كان هو تبرأ من إطلاق لفظ الصالح عليه كما سبق (مت 19: 17) فذلك لا يطعن في انتفاعهم العظيم به عليه السلام، وفي أنه كان إمامًا ورحمة لهم وآية للعالمين كما أنه لا يطعن في فائدة نزول الغيث كونُه قد يصيب بعض البيوت مثلا فيهدمها على أهلها، ولا يطعن في نفع النار وغيرها أنها كثيرًا ما تؤذي الإنسان وتهلكه، وهي أقوى ما يستعمله الإنسان للتدمير في الحروب وغيرها.
فهذه سنة الله في خلقه؛ إذ يندر أن يوجد شيء في العالم خال من الضرر في جانب نفعه الكبير فكذلك بعثة عيسى وإن أفادت الناس كثيرًا إلا أنها لم تخل من الأضرار بضعاف العقول الذين ألَّهوه وعبدوه من دون الله، تعالى عما يشركون.
فالاعتراض على بعثته بسبب ذلك كالاعتراض على جميع ما خلق الله مما لا يخلو من ضرر، ولذلك أيد الله تعالى - كما قال القرآن - أتباع عيسى مع ضعف إيمانهم وفساد بعض عقائدهم حتى نشروا دينه على علاته في الأرض، وأصبحوا فيها ظاهرين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } (الصف: 14) أي: قل يا محمد كما قال عيسى لأصحابه ما ذكر، والحكمة في قول القرآن ذلك بدل أن يقول: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله، أنهم لم يكونوا في دينهم على ما يرام كما يفهم من قوله: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ } (آل عمران: 54) لأن يهوذا باعتراف النصارى كان منهم وكذلك بطرس الذي سماه المسيح شيطانًا، وغيرهما كان ضعيف الإيمان أو عديمه كما سبق بيانه (راجع صفحة 52 و88 و92) وقال القرآن أيضا: { إِذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } (المائدة: 112) الآية، وقال: { فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } (مريم: 37) الآية.
وإذا كان الله أيدهم مع ضعفهم هذا وفساد بعض عقائدهم بسبب أن في دينهم أشياء أخرى كثيرة صالحة للبشر، وهي أكثر مما ألحق به من المفاسد فمن باب أولى يؤيد الله المؤمنين الصادقين الخالي دينهم وعقائدهم من التحريف والتبديل؛ لذلك ضرب الله الحواريين مثلا للمؤمنين؛ لبيان كرمه وحلمه وتفضله على عباده بالخير الكبير، ولو لم يستحقوه كله؛ ليعلموا أنهم إن نصروا الله، ولو قليلا، نصرهم هو كثيرًا كما فعل بأصحاب عيسى، ولم يضرب المثل بغيرهم من الأمم السابقة المؤمنة؛ لأنهم لم يبق لهم ملك في الأرض مشاهد كاليهود، أو أنهم انقرضوا كمؤمني قوم صالح و هود.
هذا وقد بين القرآن الشريف تاريخ عيسى كما بيناه هنا فقال الله تعالى فيه: { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } (الزخرف: 59) 5 { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ 6 لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ 7 } أي كاختلاف اليهود (الزخرف: 60-63) في القيامة لعدم صراحتها في كتبهم: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } (الزخرف: 63-65) لاحظ العطف هنا بالفاء { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } (الزخرف: 65-66) والآيات في بيان فضائل المسيح ومزاياه وأعماله بالثناء عليه عديدة شهيرة 8
فانظر إلى آداب القرآن العالية في المسيح فهو يصوره دائمًا بغير الصورة التي تفهم من الأناجيل وفيها كثير من المسائل تؤدي إلى الطعن الفظيع فيه كما أدت كثيرين إلى ذلك في أوروبة.
فنحن وإن كنا نبرأ إلى الله من مطاعنهم هذه نشير هنا 9 إلى بعضها ولا نتعرض للبحث فيها طويلا بمثل ما تعرضوا به من المبالغة في الطعن إجلالا لمقامه السامي عندنا بسبب شهادة القرآن له ليس إلا، فمما عابوه به:
(1) مسألة تردده وهو شاب عزب جميل على بيت مريم و مرثا أختها وهما عاهرتان (قارن لوقا 7: 36 - 39 بيوحنا 11: 1-3 و12: 1-8 وحبه لهما يو 1: 5) والأكل في بيتهما والمبيت عندهما ودلك مريم قدميه ومسحه بشعرها ودهن رأسه بالطيب (لو 10: 38 - 42 ومت 21: 17 و26: 6 - 13) وكثرة اختلاط غيرهما من النساء به وبتلاميذه ومصاحبتهن لهم في كل مكان وخدمتهن له من أموالهن (لو 8: 1-3) إلى غير ذلك مما يحرم علينا الإسلام الخوض به وسوء الظن بالمسيح بسببه، فإن لم يفتتن هو أو تلاميذه بهن فكيف لا تفتتن مثل هؤلاء النساء بهم وأكثرهن عزبات؟ ومن أراد الاطلاع على بعض ما يقوله علماء الإفرنج في مثل هذه المسألة فليقرأ الفصل السابع من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة، تأليف فيلب سدني Philip Sidney.
(2) وجود المسيح في عرس يشرب الناس فيه الخمر بحضرته ويسكرون (يو 2: 10) وهو لا ينكر عليهم ذلك بل ساعدهم على المنكر وحول لهم الإناء خمرًا، فكأنه زاد الطين بلة (يو 2: 1-11) حتى رماه المعاصرون له من اليهود بأنه شريب خمر محب للخطاة والعشارين (لو 7: 33 و34) ومن كلامه في لوقا (5: 37 -39 ومتى 9: 17) يفهم أنه كان له دراية بالخمر وأحوالها.
(3) اختصاصه أحد تلاميذه يوحنا بحبه، واتكاء هذا في حضنه والتدلل عليه، وكان يوحنا إذ ذاك فتى صغيرًا، وعدم تجاسر التلاميذ الآخرين على سؤاله إلا بواسطة هذا التلميذ المحبوب وحده (يو 13: 23 - 25) وتجرد عيسى عن ثيابه أمامهم بعد العشاء بدون مناسبة مما يوهم أنه سكر بكأس العشاء (يو 13: 4 و5 ومت 26: 29).
(4) قولهم: إنه كذب مرة على إخوته وغشهم (7: 8 و10) راجع حاشية صفحة (12 و13) من هذه الرسالة في النسخة المطبوعة على حدتها.
(5) أمره تلاميذه بشراء السيوف وحملها للدفاع عنه فضرب أحدهم بالسيف عبد رئيس الكهنة ليقتله فأفلتت الضربة وأصابت أذنه فقطعتها (لو 22: 36 - 38 و50) مع أنه كان في أول الأمر يحض الناس على محبة الأعداء (مت 5: 44) وهو أمر مغاير للطباع البشرية حتى لم يقدر عليه هو نفسه فخالف بذلك وصيته، وكان أول من نقضها بعمله هذا 10 راجع أيضا رسالة الصلب ص (122 و123).
(6) عدم احترامه لأمه مريم وإهانتها مرارًا أمام الناس (يو 2: 4 و19: 26 ومت 12: 46 -50) ومخالفته بذلك قول الله (تث 5: 16): (أكرم أباك وأمك) ثم دعواه أنه ما جاء لينقض الناموس (مت 5: 17) مع أنه نقضه في أعظم أركانه وأكبر دعائمه وهي الوصايا العشر 11 .
(7) إيجاده التقاطع والتفريق بين الناس وحضهم على بغض أهليهم وأقاربهم حتى آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأخواتهم (لو 14: 26 ومت 10: 34 - 37) وهو الداعي في أول أمره إلى السلم ومحبة الأعداء كما سبق.
وقوله المشار إليه هنا وهو: ( لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته من أحب أبًا أو أمًّا أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني).
وقوله (لو 12: 49): ( جئت لألقي نارًا على الأرض ليتها قد اضطرمت أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض كلا أقول لكم بل انقسامًا ). كل ذلك ينطبق بأن إلقاء الحرب في الأرض وإيجاد التفريق والانقسام وعداوة الأهل والأبناء سيكون صادرًا من جانبه وجانب أتباعه لا من جانب خصومهم كما هو صريح هذه العبارات، وإن أَوَّلَهَا المبشرون تعسفًا بغير ما ذكرنا فلا نعبأ بتأويلهم لتكلفه وتعسفهم فيه، ولذلك قال (لو 14: 26): ( إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضا، فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا).
فكيف يقول المبشرون بعد ذلك: إن البغض والعداوة والحرب ستكون من جانب الناس لهم لا من جانبهم للناس والمسيح نفسه يقول: إنهم هم الذين يجب عليهم أن يحبوا أهلهم وأولادهم أكثر منه بل يبغضونهم، فهم البادئون بالتفريق وبالعداء لا المبدءون به كما يزعمون 12 .
الدكتور
محمد توفيق صدقي لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ الظاهر أن المصريين أتتهم هذه العقيدة من طريق الوحي إليهم وإلا لما سبقوا اليهود بها، وكانوا يعتقدون أن قلب الإنسان سيوزن يوم القيامة لمعرفة إن كان يستحق الرحمة أو العذاب، ولعل مرادهم من ذلك هو كمراد القرآن عند المحققيين مما ذكره مشابها لذلك مثل (21: 47) أي المبالغة في بيان دقة الحساب وكمال العدل الإلهي في دينونة الخلائق كأن أعمالهم أو قلوبهم توزن وزنًا بحيث لا تظلم شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها الله، وعامل الإنسان بحسبها، ولوجود عقيدة البعث عند المصريين تجد أن يوسف كما في القرآن الشريف لما تكلم مع الفتيين اللذين حبسا معه في مسائل الدين لم يحثهما على الإيمان باليوم الآخر كما حثهما على التوحيد، فإن ذلك كان من أكبر عقائدهم حتى من قبل يوسف راجع سورة يوسف (12: 39 و40) وترى أن عزيز مصر لما وجد امرأته خاطئة قال لها: ( وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ ) (يوسف: 29) ولولا اعتقادهم بالدينونة في اليوم الآخر ما قال لها ذلك.
- ↑ لذلك ترى أن أكثر معجزات عيسى هي مما له علاقة بإحياء الميت كخلقه هو نفسه بدون أب أو كإحياء الموتى على يديه وكتحويل الطين طيرًا ليدل بذلك كله على قدرة الله التامة على البعث فإن الذي خلقه بدون استيفاء أهم الشروط المعتادة في خلق الأحياء الراقية وأحيا على يديه الموتى بل الجماد لا شك أنه قادر على بعث الخلائق يوم القيامة مهما طرأ عليهم من الفساد والانحلال والتغير، ومهما فقد من الشروط المعتادة أو اللازمة للحياة في هذه الدنيا، لذلك قال تعالى في عيسى: ( وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ ) (مريم: 21) وجاء عن لسانه مكررًا في موضع واحد (3: 49 و50) وقوله: ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) (آل عمران: 49) إلى قوله: ( وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) (آل عمران: 50) أي إذا علمتم مما جئتكم به من الآيات أن الله موجود وأنه سيبعثكم للحساب يوم القيامة كان واجبًا عليكم - إن كنتم تعقلون - أن تتقوه كمال التقوى وتطيعوني، أما في زمن البعثة المحمدية وقد ارتقى الناس في الجملة عن ذي قبل، فكانوا يرون أو يمكنهم أن يروا ما لا يراه القدماء إلا نادرًا من أن آيات الكون الحاصلة أمامهم كل يوم تكفي لإثبات أن الله قادر على البعث؛ لأنه تعالى يخلق فعلا في كل وقت الأحياء النباتية والحيوانية من الجماد كما هو مشاهد لجميع الناس، ولا شك أن إعادة الخلق أهون من بدئه كما قال القرآن الشريف (30: 27) لذلك اكتفى القرآن بتنبيههم إلى هذه الآيات الكونية في أكثر من سورة وناقشهم فيها مناقشة عقلية منطقية كما هو معلوم لمن يتدبر آياته، راجع مثلا سورة الحج (22: 5-7) وما زال يرشدهم إليها ويذكرهم بها ويجادلهم فيها حتى اقتنع العرب اقتناعًا عقليًّا صحيحًا بقدرة الله على البعث وتبعتهم الأمم الداخلة في الإسلام إلى اليوم، فالناس، وإن كفتهم الحجة العقلية في زمن البعثة المحمدية وبعدها إلا أن أكثر الأمم أو كلهم قبل ذلك ما كانت تكفيهم هذه الحجة أو لا تؤثر فيهم تأثيرها في الناس بعد الإسلام؛ فلذا جاء عيسى وغيره لقومهم بالمعجزات الحسية، والغالب أن الأمم القديمة ما اقتنعت بهذه العقيدة اقتناعًا عقليًّا جازمًا، وإنما سلموا بعد أن رأوا من أنبيائهم ما رأوا من المعجزات الحسية ونحوها لا بالحجج العقلة كأهل الإسلام وربما كان اقتناعهم بها بعد ذلك أقل درجة من اقتناع المسلمين، ألا ترى إلى قول إبراهيم وهو أبو النبيين ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (البقرة: 260) فإذا كان هذا حال إبراهيم فما بالك بغيره من الناس؟ والحق أن استعمال الحجج العقلية لإثبات المسائل الدينية لم يعرف بين أكثر الأمم قبل الإسلام ومن عرف عندهم لم يبلغ مبلغه بين المسلمين كما لا يخفى على المطلعين الباحثين في أحوال البشر وعقائدهم، والفضل في ذلك كله للقرآن الذي نهض بالعقل البشري نهضة لم يسبقه بها كتاب، إن في ذلك لآيات لأولي الألباب.
- ↑ من غرائب عقول النصارى أنهم مع تسليمهم بقيامة الأموات والبعث الجسماني (1 كو 15: 12 - 45) وبالعذاب الجسداني أيضا، كما قلنا في المتن، الدائم إلى أبد الآبدين (مت 5: 29 و8: 12 و13: 42 ورؤ 19: 20 و20: 10) يعودون فينكرون النعيم الجثماني ويسخرون من المسلمين؛ لأنهم يقولون به، فلا أدري لماذا يقبلون تعذيب الجسد بالنيران وغيرها ولا يقبلون تنعيمه بما يليق به من أكل وشرب وجماع وغير ذلك مع الأدب والكمال، وإذا كان الله قضى بحصول هذه الأشياء في الدنيا للإنسان والحيوان فأي استبعاد إذًا للقول بحصولها أيضا في الآخرة على نحو أكبر وأبهى وأفضل؟ نعم، إن الجماع شهوة بهيمية ولكنه هو كالأكل والشرب الذي قالت كتبهم بحصوله في الآخرة (لو 22: 30) لذلك سميت دار النعيم عندهم أيضا بالفردوس (لو 23: 43) أي البستان بالفارسية لما فيها من الأشجار والأثمار ونحوها، وإذا استعمل الجماع في محله مع الاحتشام والأدب فلا عيب فيه ما دام الإنسان في الآخرة لم يخرج باعترافهم عن كونه حيوانًا جسدانيًّا، وأي فرق حقيقي بين اللذة الروحية واللذة الجسدية؟ وكلتاهما لا تصل إلى الإنسان ولا تكون عادة إلا بطريق الجسد، وإن كانت الأولى خيرًا وأبقى من الثانية، ولكن في الآخرة ستكون الاثنتان باقيتين، هذا ولم يقل أحد من المسلمين: إن لذة الآخرة كلذة الدنيا ولا إن الآخرة خالية من النعيم الروحاني، وكيف يقول أحد منهم ذلك والقرآن يقول: (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) (التوبة: 72) ويقول: ( وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (القيامة: 22-23)، ( وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ) (فاطر: 34-35) وقال: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ) (عبس: 38-39) و ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ) (الغاشية: 8-10) وغير ذلك كثير، (راجع كتابنا الإسلام ص50 و51 منه) وإذا اقتصر القرآن على ذكر اللذات الروحية أيكون لكلامه من التأثير على عامة البشر ما كان له بذكر اللذتين؟ ومَن مِن العامة يدرك اللذة الروحية أو يقدرها قدرها، أو تنفعل نفسه لها؟ هذا وسيرضى كلٌّ في الآخرة بما قسم له من النعيم كما يرضى الصغير بثوبه الصغير والكبير بثوبه الكبير بحيث إذا أعطي للكبير ثوب الصغير لغضب وعد ذلك استهزاء به، وكذلك العكس كما قال المسيح عليه السلام في إنجيل برنابا (176: 1-16) ولذلك قال تعالى في القرآن الشريف: ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) (الحجر: 47) ولما كان الرجل في الدنيا أقوى وأفضل وأعقل من المرأة وأكبر شهوة منها فلا عجب أن كان ثوابه في الآخرة أكبر؛ لأن أعماله أعظم والذي فضله في الدنيا هو الذي سيفضله في الإخرة بسبب عمله ولا يثير ذلك حقد المرأة عليه كما بينا هنا.
- ↑ لذلك وضع عن اليهود شيئًا من إصر التوراة وأغلال الناموس كما فعل في يوم السبت حيث خفف شدة حكمه (راجع يو 5: 10 - 12 وخر 20: 10 وعد 15: 32 - 36) فلذا قال الله تعالى في القرآن الشريف عن لسانه: ( وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) (آل عمران: 50).
- ↑ فإنه مرسل إليهم أولا وبالذات فإن رفضوا ولم يؤمنوا به دعي حينئذ غيرهم من الأمم، وإلا فلا (مت 22: 1-14 و أع 13: 46 و18: 6 ورومية 1: 16) وأما محمد ﷺ فمرسل للناس كافة سواء قبله العرب أو رفضوه، ولكن يجب أن يبدأ بدعوتهم ليستعين بهم على دعوة غيرهم، هذا إذا تساهلنا معهم في فهم عبارات كتبهم المتناقضة حتى في هذه المسألة الهامة، وسنتكلم معهم قليلا في ذلك قريبًا بغير هذا التساهل.
- ↑ أي سبب للعلم بها فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث، وهذه العبارة في الآية مجاز مرسل علاقته المسببية، فإنه أطلق المسبب وهو العلم وأراد السبب وهو عيسى ومعجزاته كقولك: أمطرت السماء نباتًا أي مطرًا يتسبب عنه النبات وقرئ أيضا ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ)(الزخرف: 61) بفتحتين أي أنه كالجبل الذي يُهْتَدَى به إلى معرفة الطريق ونحوه فبعيسى عيله السلام يهتدى إلى طريقه إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها كما بينا في المتن.
- ↑ إنما لم يقل: ولأبين لكم كل ما تختلفون فيه؛ لأنه لم يفعل ذلك بل ترك بيان كثير من الأشياء كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم للبارقليط محمد الذي يأتي بعده لعدم استعداد الناس في زمنه لقبول كل شيء منه كما قال هو نفسه (يو 16: 12 و13) وخصوصًا إذا تعرض للطعن في كتبهم وهي رأس مالهم الوحيد وتراث أجدادهم، ولو فعل ذلك لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون فتضيع الفائدة من بعثته التي بيناها في المتن وهي التي بعث لأجلها، وأما قول الله تعالى عن لسانه: ( وَمُصَدِّقا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) (آل عمران: 50) فالمراد بمثل هذا التعبير أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه وبه صحت وصدقت، وكلمة التوراة تطلق على كل كتب العهد القديم كما بيناه في كتاب دين الله (ص65) فالمعنى أن مجيء عيسى كان وفق ما أنبأنا به النبيون عنه من قبل، ولولاه لما صدقت تلك النبوات فإنها لا تنطبق إلا عليه، وليس المراد أن عيسى يقر كل ما في التوراة كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية وإلا لما قال بعدها مباشرة: ( وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) (آل عمران: 50) فكيف يقرها وهو قد جاء ناسخًا لبعض ما فيها، فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويفسرون ما لا يفهمون!! هذا إذا سلمنا ما في هذه الأناجيل من أن المسيح عليه السلام لم يطعن في كتب اليهود الموجودة في زمنه ولم يبين لهم ما فيها من الفساد ولكن كيف يثق المسلم بما في هذه الأناجيل بعد الذي كتبناه فيها؟ فيجوز أن المسيح بيَّن لهم فساد كتبهم كله أو بعضه المهم؛ ثم إنهم أهملوا أغلب أقواله هذه تدريجيًّا حتى نسوها لعدم موافقتها لأهوائهم، ولما شبوا وربوا وشابوا عليه وورثوه عن آبائهم كما أهملوا أقواله في التوحيد الحقيقي وخالفوا نصائحه ووصاياه في مسائل كثيرة مما بيناه، وتغالوا في شأنه شيئًا فشيئًا حتى جعلوه إلهًا وهو - لا شك - بريء من هذه الدعوى، ولا يخفى أن تلاميذه - وهم ضعاف من وجوه كثيرة - ولو كانوا أكثروا من الطعن في كتب اليهود وترديد أقوال المسيح فيها لنفروا اليهود منهم ومن دينهم ومسيحهم؛ ولزاد اليهود في احتقارهم وإيذائهم فلذا تحاشوا ذلك وخصوصًا؛ لأنه لا يمكنهم إقناعهم بصحة مسيحية عيسى إلا بهذه الكتب فاستمروا على قبولها والتعويل عليها مجاملة وخوفًا من باقي أمتهم اليهود واستمالة لهم لإدخالهم في دينهم بها، وربما أنهم حرفوا بعض أقوال المسيح التي نقلوها في هذه المسألة وجعلوها قاصرة على ذم المسيح اليهود باتباع تقاليدهم الموضوعة لا بتحريف كتبهم المقدسة كما هو الظاهر مما في إنجيل مرقس مثلا. (7: 6-13) (راجع أيضا كتاب دين الله صفحة 81 - 84) على أن بعض فرق النصارى الأقدمين في القرن الأول والثاني قد أنكروا العهد القديم كله أو أكثره كالأبيونيين و الماركيونيين وغيرهم، ويبعد كل البعد أن تنكر هذه الفرق هذه الكتب من غير أن يستندوا على شيء رووه عن المسيح نفسه في أمرها، وقد كانوا قريبي العهد به عليه السلام فتكون روايتهم أصح من رواية هذه الأناجيل التي لم يعرف لها سند إلا في أواخر القرن الثاني وما خلت من التحريف بعد ذلك كما بينا، وجاء في إنجيل برنابا أن المسيح نص على تحريف اليهود لكتبهم (راجع مثلا الإصحاح 44: 3) منه وهو من الأناجيل القديمة، وإن يكابروا فيه ويكذبوا وما يدرينا أنه كان يوجد في الأناجيل الأخرى التي رفضوها وأضاعوها مثل ما في إنجيل برنابا أيضا، ولا تنس أن أناجيلهم هذه الحالية لا تشمل جميع أعمال المسيح وأقواله طبعًا باعتراف مؤلفيها (يو 21: 25).
- ↑ ) من أكبر آيات إخلاص النبي ﷺ وصدقه في دعواه أن القرآن الذي عظم جميع الأنبياء تعظيمًا كبيرًا، وأثنى على كل من ذكره باسمه منهم فردًا فردًا، وبرأهم من كل ما رامهم به أهل دينهم من الكبائر والفضائح قلَّ أن اختص محمدا بمدح أو بفضل أو مزية دون غيره من إخوانه الأنبياء عليهم جميعًا الصلاة والسلام، بل كثيرًا ما يذكر محمدا مع شيء من اللوم له أو العتاب أو الإرشاد والتأديب ونحو ذلك مما يعرفه المطلعون على القرآن الكريم، ولو كان محمد من الكاذبين لما سجل على نفسه شيئا من هفواته في القرآن الكريم (راجع مثلا 17: 73 - 75 و33: 37) وغير ذلك، ولخصَّ نفسه بالمدح والتعظيم والتبجيل والإكرام في أغلب القرآن، ولرفع منزلته فوق كل منزلة، ولنصَّ على أنه أفضل النبيين وأقرب المقربين من رب العالمين، بل لادعى البراءة من كل عيب ونقص وخطأ، ولنسب لنفسه العصمة من كل زلل أو سهو أو نسيان، ولما أمر في القرآن بطلب الرحمة والغفران من الله ولما ألزم نفسه الفرائض الكثيرة والنوافل العديدة الشاقة في صلواته وصيامه وقيامه بالليل لعبادة الرحمن (راجع كتاب دين الله ص70 و71) ولادَّعى الكمال المطلق في كل شيء، ولقال: إن العالم خلق لأجله ومن نوره وأنه أول موجود كما يقول عامة المسلمين الآن فيه تقليدًا للنصارى في عيسى، بل لقال عن نفسه أكثر مما قال يوحنا في إنجيله عن المسيح، ولما نهى عليه السلام الناس، وبالغ في النهي، عن إطرائه كما أطرت النصارى عيسى أو لعدَّد على الأقل في قرآنه جميع أعماله وأتعابه ومناقبه ومفاخره أو لأعجب بنفسه ومدحها كثيرًا كما فعل بولس في رسائله على ما سبق بيانه في صفحة (80 - 82) ولكن أين ذلك الكبر الباطل والغرور والإعجاب بالذات من تلك الروح العالية، والنفس الطاهرة الكبيرة، روح الصدق والإخلاص والتواضع والانكسار لله تعالى؟ وفوق ما تقدم كله لم يذكر في القرآن حادثة من حوادث حياته إلا عرضًا ولغرض غير مجرد تدوين أخباره وسيرته، فإن الرغبة في ذلك لم تكن منه مطلقًا وإلا لو أرادها لكانت (راجع أيضا كتاب دين الله ص68 - 71) زد على هذا أنه لم يضع للمسلمين موسمًا أو عيدًا أو نحو ذلك لتذكر شيء ما من حوادث حياته الشخصية كيوم ولادته أو هجرته أو إسرائه أو غير ذلك مما ابتدعه الناس بعده، ولو شاء لجعل كثيرًا من أمم الأرض تعبده، أو على الأقل تذكره كل سنة بأعياد عديدة ومواسم متكررة، فأين هذا ممن كان يطلب بنفسه من الناس أن يمدحوه ويظهر رغبته في ذلك كما فعل بولس (2 كو 12: 11) بل قد نهى ﷺ فوق هذا كله مرارًا عن تعظيم قبره أو اتخاذه وثنًا أو عيدًا حتى قال العلماء: إن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة أو موضوعة لا يصح الاعتماد على شيء منها؛ ولهذا لم يروها أهل الصحاح والسنن (راجع كتاب التوسل والوسيلة لابن تيمية صفحة 82 - 86) فأي تواضع أكبر من ذلك؟ وأي إنكار للذات أعظم منه؟ لذلك كله ترك القرآن الحكم على هذه النفس العالية العجيبة نفس محمد وتقديرها قدرها للزمان، ولعقلاء الرجال المفكرين، الذين نبذوا التعصب والتقليد وراء ظهورهم وتركوه خلفهم نسيًا منسيًّا، فظهر لهم - ولله الحمد - بعد أن نظروا في أعمال النبي ﷺ وإصلاحه في الأرض ودينه وشريعته وقارنوا ذلك بغيره من الأديان أنه أكبر مصلح قام في الأرض وأعظم من يسميهم المِلِّيُّونَ أنبياء وأخلص المخلصين، وأصدق الصادقين، وهذا الحكم عليه ليس صادرًا من المسلمين، بل من كبار المفكرين، والعلماء في العالم المتمدن من ملحدين ومؤمنين، أحرارًا ومتعصبين (انظر مثلا: نشوء القرآن التاريخي للقس إدوارد سل ص184) كما يعرف ذلك المطلعون على كتبهم: وأكمل منك لم تر قطُّ عيني ** وأعظم منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب ** كأنك قد خلقت كما تشاء
- ↑ تنبيه: نظري إلى المسيح في العبارات الآتية هو ليس من الوجهة الاعتقادية بل من الوجهة التقليدية فقط بحسب روايات النصارى عنه فهو نظر تاريخي محض بقطع النظر عن اعتقاد المسلمين فيه، وفي جميع الأنبياء العصمةَ والكمالَ وبقطع النظر عن اعتقاد النصارى فيه الألوهية فليتنبه لذلك القارئ، فإن جوزت عليه شيئًا من النقص البشري فليس ذلك لاعتقادي فيه ذلك، حاشا وكلا، بل هو لأجل مناقشة الخصوم فيما رووه عنه بأنفسهم، وعقيدتي في المسيح هي عقيدة القرآن أي أنه من أعظم الأنبياء ومن أكرم الرسل مصلحي الأنام وهداة البشر وهي العقيدة التي يلزمنا القرآن الشريف بها ولولاه لما عرفناه قدره بسبب ما يرويه نفس أتباعه عنه من النقائص كما سنبينه، فما يأتي هنا لم أقله عن لساني، وإنما هو عن لسان ملحديهم، وناقل الكفر ليس بكافر، وأنا معذور في ذلك؛ لأن النصارى هم البادئون بالاعتداء علينا وعلى ديننا وقد طغوا وبغوا فوجب علينا أن نوقفهم عند حدهم بسيف الحجة والبرهان وأن نرد كيدهم في نحرهم لعلهم يرجعون.
- ↑ لذلك كله ولغيره استباح بعض الإفرنج أو جميعهم الكذب في السياسة ونحوها، وإخلاف العهود فيها، وشرب الخمور والسكر، وتبرج النساء وإبداء زينتهن الفاتنة لجميع الناس، والخلوة بهن، والرقص معهن، ووطء غير المتزوجات من النساء ولم يعدوه من الزنا المحرم، والحروب الكثيرة العنيفة لأقل الأسباب والتغلب على الضعفاء والحقد على كل من خالفهم إلخ إلخ، فيجوز أن أسلافهم وكتبة الأناجيل كانوا من الرومانيين وغيرهم الإباحيين والاشتراكيين الذين كان كل شيء عندهم مشتركًا بينهم (انظر أع 2: 44 و45) فما كانوا ينظرون إلى هذه الأشياء نظرنا إليها نحن الآن؛ فلذا نسبوا للمسيح - بلا حياء - ما بيناه هنا في المتن ليظهروا أن كل شيء قد أبيح لهم وأصبحوا غير مقيدين بشرع أو ناموس وما أسرع انتشار مثل هذه المبادئ الإباحية والاشتراكية بين الناس وخصوصًا متبعي أهوائهم والفقراء، وهم الذين يتألف منهم الجزء الأعظم من كل أمة، فمن العجيب بعد ذلك - لأول نظرة - أن المسيحية لم تصر الدين الرسمي للدولة الرومانية إلا بعد ثلاثة قرون من زمن مؤسسها، فهذا شيء من مدنيتهم التي يقولون: إنها من آثار المسيحية فيهم، والمسيحية الحقيقية براء منها، وكذلك المسيح عليه السلام كما يعلم ذلك من تعاليمه الأخرى العالية الطاهرة التي بقيت بعض آثارها في الأناجيل إلى اليوم، وإن كانت مختلطة بغيرها مما أفسده الناس اتباعًا لأهوائهم وشهواتهم، ولولا تعاليم المسيح هذه الحقيقية الشريفة التي حافظ عليها بعض فرق النصارى الأقدمين لكانت المسيحية أسرع انتشارًا بين الرومانيين مما كان، غير أنها ما كانت تسود ولا تدوم بين البشر إلى الآن.
- ↑ قارن أعمال المسيح هذه مع أمه على ما في الأناجيل بقول القرآن (3: 14 و15): ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (لقمان: 14-15) (وقوله 17: 23 و 24): ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا ) (الإسراء: 23) إلى قوله: ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيما * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا ) (الإسراء: 23-24) أما القرآن الشريف فقد كذب الأناجيل في هذه الدعوى أيضا، ونص على أن المسيح كان بارًّا بوالدته ولم يكن جبارًا شقيًّا كما في سورة مريم (19: 32) أي لم يكن عاقًّا لها ولا قاسيًا على أحد بخلاف ما يفهم من الأناجيل كما ستعرف.
- ↑ إذا كانت هذه الذنوب كلها، وغيرها مما سيأتي، منسوبة للمسيح بشهادة كتبهم فكيف بعد ذلك يكون شفيعًا للمذنبين (1 يو 2: 1) وكيف يكون موته مكفرًا عن خطيئاتهم جميعًا؟ وأين إذًا قداسته وعصمته؟ وأين قداسة إلههم الذي يقبل خطا كهذا ليكون وسيطًا بينه وبين الناس المساكين الضعفاء (1 تي 2: 5) وهل يريد الله أن يكون الناس أقدر على ضبط أنفسهم من المسيح نفسه، وهو لم يضبطها مع أنه إله كما يزعمون؟.