مقالات مجلة المنار/بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد/5
(1) ما يدرينا أنه وبخهم ولم يصل إلينا ذلك مع العلم بأن نفس كتَّاب الأناجيل اعترفوا بأنهم لم يكتبوا كل ما قاله المسيح أو ما فعله فقال يوحنا: إنه لم يكتب كل ما فعله المسيح، وأن أعماله كثيرة جدًّا لا يسعها العالم، فلا بد أن كثيرًا من أقواله التي قالها حين فعل هذه الأعمال لم تكتب أيضا ( يو21:25 ).
على أن المسيح صدق ما فيها من الشرائع والنبوات فقط كما في إنجيل متى 5: 17 و18، ولم يتعرض للتاريخ الذي فيها بشيء كهذا الذي في إنجيل متى، فإن كثيرًا من هذا التاريخ غير صحيح وبعضه خرافي لا يمكن أن يقره المسيح كقصة شمشون ودليلة ( قض 16: 4 - 22 ) ووقوف الشمس ليشوع ( يش 10: 13 ) وغير ذلك كثير.
(2) لماذا لم يوبخ المسيح اليهود على الكتب الأبوكريفية ( الكاذبة ) التي كانت في الترجمة السبعينية وقتئذ، وكانت مسلَّمة عند اليهود والنصارى كما هي مسلَّمة عند الكاثوليك والأرثوذكس إلى اليوم؟ فإن قيل: إنهم ربما لم يكونوا يعتقدون أنها ملهمة من الله في ذلك الوقت، قلت: وربما أنهم أيضا لم يعتقدوا صحة نسبة هذه الكتب إلى موسى - عليه السلام - وإذا كانوا يسمونها ( كتب موسى ) فذلك لأن أهم ما فيها هو تاريخه وتاريخ أمته عليه السلام كما يسمى تاريخ المسيح وتعاليمه إنجيله ( غل 1:7 ) مع أنه لم يكتبه بنفسه، فيجوز أنهم ما كانوا يعتقدون أنها إلهامية، ويجوز أنهم ما كانوا يضمونها إلى سفر التثنية في مجلد واحد، وقد يكون هذا الضم وهذا الاعتقاد في إلهامها وصحتها إنما نشأ بعد المسيح - عليه السلام - في أواخر القرن الأول، فبدأوا حينئذ يعتقدون أن موسى هو كاتبها لا غيره، ثم تبعهم النصارى في ذلك وجاروهم ليستميلوهم لدينهم ولأنهم كانوا منهم.
(3) لماذا لم يبين المسيح للمرأة السامرية التي سألته عن اختلاف اليهود والسامريين في جبلي عيبال و جرزيم - لم يبين لها بيانًا صريحًا المحق من المبطل ولِمَ لَمْ يذم المحرف منهما ويشهّر به؟؟ 1 ( يو4: 21 )
(4) إن المسيح - عليه السلام - وبخهم على إبطال شريعة موسى بتقاليدهم وأنهم يعلمون تعاليم ليست من الله بل من الناس، وأنهم يفعلون أمورًا كثيرة مثل هذه ( مرقص 7: 6-13 ) فما المانع من أنه يريد بقوله: ( أمورًا كثيرة مثل هذه ) وقوله: ( تعاليم هي وصايا الناس ) أنهم يكتبون أشياء وينسبونها إلى موسى - عليه السلام - مدعين أنها من الله وهي ليست منه، بل هي من اختراعاتهم، وقد سبق أننا قلنا: إن ما عدا سفر التثنية من أسفار موسى الأخرى لم يكتبه هو بل تعتبر من التقاليد ( الأحاديث ) المروية بالرواية الشفوية، ثم كتبت بعدُ فلعل ذلك هو المراد بقول المسيح: ( مر 7: 13 ) ( وأمورًا كثيرة مثل هذه تفعلون ) على أن المسيح - عليه السلام - لم ينبههم إلى ما وقع في نفس سفر الشريعة ( التثنية ) من الخطأ العلمي الصريح كالقول باجترار الأرنب الجبلي ( تث 14: 7 ) لما ذكرناه هنا في الحاشية من أن هذه الشرائع كانت مؤقتة وأنها زائلة بالإسلام 2 ، وأن محمدا سيبين لهم كل شيء كما قال عيسى عليه السلام ( يو16: 12 و13 ) لعدم استعدادهم في زمن المسيح لقبول ذلك.
هذا وقد اعترف بطرس في رسالته الثانية بأن الناس كانوا يحرفون الرسائل والكتب، فقال 3: 16 ( كما في الرسائل كلها أيضا متكلمًا فيها عن هذه الأمور، التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضا لهلاك أنفسهم ) والتحريف هنا يشمل المعنوي واللفظي أيضا، وتخصيصه بالمعنوي لا دليل عليه، فإذا كانوا يحرفون الأشياء العسرة الفهم في كتبهم في زمن الرسل أنفسهم كما يدل عليه هذا القول فما بالك بغير زمنهم بعد أن ماتوا وذهبوا؟ وقال بولس أيضا غل 1: 7 ( إنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحوِّلوا - يحرفوا - إنجيل المسيح )، وهو يدل على أن رغبة الناس في تحريف الإنجيل كانت قديمة منذ نشوء المسيحية، ولا ندري أي إنجيل من الأناجيل الكثيرة كان محبوبًا عند بولس ويسميه ( إنجيل المسيح ) ولعله كان أحد الأناجيل التي رفضوها وسموها بالأناجيل الكاذبة.
وجملة القول في هذه المسألة: أن المسلم لا يمكنه أن يثق بشيء مما يسمونه الآن التوراة والإنجيل، اللهم إلا جل الشريعة الموسوية كما في سفر التثنية وبعض أقوال المسيح ومواعظه كالتي في الإصحاح 5 و6 و7 من إنجيل متى، فإننا نرجح أنها صحيحة غير محرفة، والقرآن الذي ثبتت صحته بالبراهين القاطعة هو الميزان الذي توزن به هذه الكتب، فما صدقه منها كان حقًّا وما كذبه كان باطلا { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (المائدة: 48) 3 .
تذييل لهذا الفصل الثالث
عدلوفيه مسألتان:
( المسألة الأولى: في كلمات الله، وفي تسمية المسيح بالكلمة )
عدليزعم بعض النصارى أن كتبهم المقدسة لا يمكن تحريفها ولا تبديلها لقوله تعالى: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَما وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلا لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } (الأنعام: 114-115).
أما كون كتب النصارى واليهود محرفة فهذا لا شك فيه كما سبق بيانه، وأما كون التوراة والإنجيل منزلين من عند الله لهداية الناس فهذا أيضا لا شك فيه، وأما زعم أن القرآن لم يقُل بتحريفهما اعتمادًا على مثل الآيتين السابقتين فهو قول باطل لأن القرآن نص على تحريفهما في عدة آيات: منها قوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (البقرة: 75) وقوله: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة: 79) وقوله: { يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } (المائدة: 41) وقوله: { يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ } (المائدة: 13)، وقوله: { قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ } (المائدة: 15) وغير ذلك كثير وهو دالٌّ على وقوع التحريف والتبديل في هذه الكتب والزيادة عليها والنقص منها، وقد أثبتنا ذلك كله في هذا الفصل ولا يزال الإنسان يطلع - كما قال تعالى - على خائنة منهم إلى اليوم.
أما الآية السابقة التي تمسكوا بها في عدم تبديل كلمات الله فهاك معناها:
قال تعالى: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَما وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ } (الأنعام: 114)، فهم يعلمون ذلك لكثرة ما في كتبهم من البشائر بمحمد ﷺ ودينه وأمته، ووضوح ذلك فيه بحيث لا يمكن انطباقه على أحد سواه، وسيأتي بيان ذلك في فصل البشائر، ثم قال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } (الأنعام: 115) أي تحقق وعده بمجيء محمد - عليه السلام - وقد ورد هذا اللفظ ( تمت ) بهذا المعنى أيضا في قوله تعالى في آخر سورة هود: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } (هود: 119) وقوله بعد ذلك: { صِدْقا وَعَدْلا } (الأنعام: 115): أي تحقق هذا الوعد وظهر صدقه وكان ما حدث من مجيء محمد وشريعته مطابقًا لما أخبر به من قبل تمامًا بلا زيادة ولا نقصان، فإن معنى ( العدل ) المساواة كما في قوله تعالى: { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاما } (المائدة: 95) أي: ما يساويه من الصوم، فوعْد الله بمحمد تحقق بغاية الدقة والضبط، وقد حدث كل ما أخبر به عنه في الكتب السابقة ولم يتخلف منه شيء، فإن وعد الله لا يمكن أن يتبدل أو يتغير وليس لأحد أدنى قدرة على إخلاف ما أنبأ به تعالى، ومصادمة الحوادث وتغييرها حتى لا توافق وعده فإن كل ما قضاه تعالى لا بد أن يكون ولو حالت السموات والأرض والجبال دونه؛ ولذلك قال تعالى: { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } (الأنعام: 115) أي لا مغير لقضائه ولا مخلف لوعده، فليس المراد بالكلمات هنا نفس الألفاظ والعبارات، بل كل ما قضاه الله تعالى وحكم به وقدَّره فلا يمكن لأحد أن يمنعه من تنفيذه، وقد ورد مثل هذا المعنى في قوله تعالى: { سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } (الفتح: 15) فالمخلفون لم يريدوا قط أن يبدلوا نفس ألفاظ قول الله، وإنما أرادوا أن يعملوا بخلاف ما أمر به وقضاه، فسمى ذلك تبديلا لكلام الله أي تبديلا لأمره وقضائه، بأن لا يخرجوا للقتال مع رسول الله ﷺ.
فكلمات الله تطلق على عدة معانٍ، فقد ترد بمعنى كتبه وشرائعه وقد ترد بمعنى قضائه وقدره كما بينا هنا، وقد ترد أيضا بمعنى مخلوقاته تعالى؛ لأنها خلقت بكلمة ( كن ) فكانت، فهي توجد بمجرد صدور هذا الأمر منه بلا تباطؤ ولا تأخير، قال تعالى لمريم: { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } (آل عمران: 47)، فبكلمته تعالى خلقت السموات والأرض، كما قال داود في أحد مزاميره: ( مز 33: 6 ) ومن ذلك تسمية المسيح بكلمة الله، فإنه خُلق بدون أب؛ ليكون آية للعالمين دالة على كمال قدرة الله تعالى على سائر الممكنات، ولتنبيه البشر إلى عدم الاغترار بمعلوماتهم وأفكارهم، وإظهار أنهم لا يزالون عاجزين عن الإحاطة بأسرار نواميس هذا الكون العظيم وسنن الله فيه، وأنه تعالى قادر على خرق العادات ونقض ما يتوهمونه ناموسًا لا يمكن نقضه لقصر عقولهم ونقص معلوماتهم التي اغتروا بها، وظنوا أن الخالق تعالى مقيد بها، وخصوصًا في ذلك الزمن زمن انتشار الفلسفة اليونانية القائلة -مثلا- باستحالة الخرق على الأجرام السماوية وغير ذلك من أوهامهم الباطلة، التي كانت عقبة في سبيل العقل البشري تحول دون ارتقائه وتوسعه في العلم والعرفان والإبداع والاختراع.
فمما كان الناس يعدونه من المستحيلات خلق الحيوان بدون أب، فأظهر الله تعالى لهم بمسألة المسيح أن الأمر ليس كذلك، فاستعدت العقول للبحث والتنقيب حتى هدى الله الباحثين في المخلوقات إلى أمثال لذلك كثيرة، فشاهدوا في بعض أنواع الحيوانات الصغيرة: كقمل النبات مثلا (Aphides) ما يسمونه بالتولد البكري (Parthenogenesis) وذلك أن الأنثى تلد بدون تلقيح الذكر، ويتكرر ذلك في عدة أجيال من نوعها، وبعد ذلك يحتاج الجيل الأخير للتلقيح، ومن العلماء المتأخرين من يقول الآن بجواز حصول ذلك في الإنسان أيضا وغيره من الحيوانات الراقية قياسًا على ما شهدوه من أن ما يحصل في بعض أنواع الحيوانات على سبيل القاعدة، قد يحصل مثله على سبيل الشذوذ في غيرها، ومن الجنون أن يتخذ مثل هذا الشذوذ في المخلوقات دليلا على ألوهيتها كمن يتخذ المرأة التي لها أكثر من ثديين إلهة، ويعبدها لأنه لم يَرَ امرأة أخرى مثلها أو لم يسمع بذلك، وكمن يعبد امرأة أحصنت فرجها عن الزنا ولكنها حملت وهي عذراء من زوج لها عنِّين لم يمسسها بالجماع المعتاد بين صحيحين، بل بالاحتكاك الخارجي فقط مع الإنزال، فظن العابد لها أن ذلك مستحيل مع أن الأمر ليس كذلك بل هو واقع مشاهد.
فليس المسيح - عليه السلام - وحده آية دون سائر المخلوقات، بل هو فقط من أعجب العجائب وأكبر الآيات { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (الجاثية: 4) وكما أنه سُمي ( بكلمة الله ) كذلك سائر المخلوقات سميت بكلمات الله قال تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (لقمان: 25-28) الآيات، وقال أيضا للدلالة على عظم نعيم الجنة وسعته وبقائه: { قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدا } (الكهف: 109) فالمراد بكلمات الله في هذه الآيات مخلوقاته تعالى كما يدل على ذلك السياق فيها، وسمي ( المخلوق ) بالكلمة من باب تسمية الشيء بسببه على سبيل المجاز المرسل: كإطلاق اليد على النِّعمة في قول القائل: ( عظمت يد فلان عندي ) أي نعمته التي سببها اليد، فكذلك مخلوقات الله لما كونت بكلمات الله سميت ( بالكلمات ) فآدم والمسيح وسائر البشر هم كلمات الله، وإنما اشتهر المسيح بين المسلمين بالكلمة دون آدم مثلا لإيضاح كيفية خلقه لينفي عنه اعتقاد النصارى بألوهيته واعتقاد اليهود بأنه ابن زنا 4 ولأنه أحدث من آدم عهدًا بالنسبة إلينا، ونعلم من أخباره وأحواله ما لا نعلمه عن آدم، فهو آية لنا قريبة وله من المعجزات العظيمة ما يجعله أولى بهذا الاسم من سواه، فإنه فضلا عن كونه خلق بدون أب، تكلم في المهد، وخَلق من الطين طيرًا، وأحيا الموتى، وأبرأ الأكْمه والأبرص بإذن الله، فلاجتماع هذه الأشياء كلها فيه كانت تسميته بالكلمة أظهر من تسمية غيره، وإن كان الناس كلهم كلمات الله كما تقدم، انظر مثلا خالد بن الوليد فإنه سُمي ( سيف الله ) لشجاعته العظيمة ولإهلاكه أعداء الله، فهل اشتهاره بهذا الاسم يدل على أن غيره غير جدير به؟ وكما أن الله أباد بخالد كثيرًا من أعدائه فسمي ( سيفه ) كذلك المسيح خلقه الله خلقًا عجيبًا وأجرى على يديه معجزات عظيمة وآيات كبيرة، وبه ظهرت قدرة الله تعالى للناس فسماه لذلك كلمته مبالغة وإكرامًا له، كأنه هو نفس الكلمة التي فعل الله بها هذه الأشياء على يديه، كما أن خالدًا شبه بالسيف الذي يقطع الله به الأشرار، وفي الحقيقة ليس لله كلمة ملفوظة عند إرادة الخلق ولا له سيف محسوس، وإنما هي مجازات معهودة في اللغات كلها، ولمثل ذلك سمي المسيح أيضا روح الله؛ لأنه يحيي النفوس والجماد والموتى.
ومن هذه المجازات نشأ غلط النصارى لظنهم أن ( الكلمة ) شيء موجود ممتاز عن الله امتياز الأشخاص بعضها عن بعض، وأن هذه الكلمة هي التي أوجدت جميع المخلوقات، فزعموا أن المسيح هو الخالق لكل شيء غلوًّا منهم وإفراطًا، مع أن الكلمة ليست شيئًا ممتازًا، بل لا وجود لها في الحقيقة إلا إذا أريد بها القدرة، وهي إحدى صفات الله تعالى وليس من المعقول أن الصفات تكون أشخاصًا ( أو أقانيم ) ممتازة بعضها عن بعض قائمة بذاتها، بل هي صفات لا تقوم إلا بالذات العلية، والفرق بينها وبين الذات الإلهية في الكنه والماهية كالفرق بين الجوهر والعرض والصفة والموصوف، فكيف إذًا يكون الآب ( وهو الله ) مثل الكلمة والروح؟ ولماذا لم تجعل الصفات الأخرى لله تعالى ( وهي أكثر من ثلاثة ) أقانيم أيضا: كالعلم والإرادة والسمع والبصر وغيرها؟
وإذا كان الابن خالقًا لكل شيء فما وظيفة الأب إذًا؟ وأي شيء خلقته روح القدس إذا كانت هي المرادة بقول داود 33: 6 ( بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها ) كما يزعمون؟ فما هي الجنود التي صنعتها الروح إذا صح أن كل شيء بالابن كان وبغيره لم يكن شيء مما كان، كما قال يوحنا: ( 1: 3 )؟
ومن المجاز أيضا إطلاق كلمة ( وحي ) على ( المُوحى ) كما في أشعياء ( 13:1 ) وإطلاق كلمة ( الخلق ) على ( المخلوق ) والإرادة على الشيء المراد كما في قول المسيح لو22: 42 ( إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ) أي ليكن الشيء الذي تريده أنت لا ما أريده أنا، وبمثل تعبيرنا نقل هذا القول مرقص في إنجيله ( 14: 36 ).
ومن المبالغة المعتادة تسمية الشيء الجميل بالجمال والحَسَن بالحُسْن ونحو ذلك كثير، ومن الناس من سُمي ( رحمة الله ) و( نعمته ) و( حزيئيل ) أي بصرُ الله و( عزري ) أي عون الله، وقد سمي أحد أنبياء بني إسرائيل ( بحزقيال )، ومعناه ( قوة الله ) وهو أبلغ في الدلالة على القدرة على الخلق من تسمية المسيح ( بكلمة الله ) فإن الكلمة تطلق على معانٍ أخرى منها - كما قلنا - أحكام الله وشريعته، ولذلك سميت الوصايا العشر بالكلمات العشر ( تث 10: 4 ) فهل يصح أن يقال من أجل ذلك: إن ( قوة الله ) أو قدرته تجسمت حقيقة، ونزلت إلى الأرض، وظهرت للناس كما قال يوحنا في حق المسيح؛ لأنه سمي بكلمة الله؟ ( يو1:14 ) ولماذا اختص حزقيال بهذا الاسم دون سائر الأنبياء؟ وأي فرق بينه وبين تسمية المسيح بالكلمة؟ الحق أن النصارى أخذت مذهبها في ( الكلمة ) من مذهب الرواقيين فيها فإن مذهبهما واحد، والرواقيون هم أتباع الفيلسوف ( زينون ) اليوناني الذي عاش من سنة 340 إلى 260 قبل الميلاد، وكان يعلِّم فلسفته في رواق شهير بأثينا، وكان يعتقد أن الكلمة (Logos) هي الشيء العامل في الكون والخالق له والكائن فيه، ومن ذلك نشأ مذهب النصارى في القرون الأولى، فقالوا: إن الكلمة صارت جسدًا وحلت بين الناس، وكانت موجودة في الأزل، وهي التي خلقت كل شيء!! وبذلك تقربوا من الرومانيين حتى دخلوا في دينهم أفواجًا أفواجًا؛ لأن الفلسفة اليونانية كانت هي السائدة على عقولهم ومعتقداتهم؛ ولذلك ترى أن المسيحية أدخلت فيها أشياء كثيرة من أفكار اليونانيين والرومانيين حتى أن تعظيم يوم ( الأحد ) بدل ( السبت ) مأخوذ عنهم كما ستعلم.
ويجوز أن المسيح ما كان يسمى بالكلمة في عصره، وإنما سمي بذلك فيما بعد في إنجيل يوحنا أخذًا عن الفلسفة اليونانية، ولما جاء القرآن أخذ هذا الاسم عن النصارى وأراهم كيف يمكن تحويل المراد منه عندهم إلى معنى صحيح غير ما يفهمونه، يناسب عقيدة القرآن في المسيح - عليه السلام - من أنه عبد الله ورسوله المخلوق بكلمة الله وقدرته، فيكون ذلك من ضمن أسباب تسميته على انفراد بالكلمة في القرآن.
هذا واعلم أن امتياز المسيح أو غيره ببعض الأشياء أو اختصاصه بها لا يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء، كما أن امتياز إبراهيم بكونه خليل الله وموسى بكونه كليم الله وبكثرة الآيات والمعجزات وعظمها ووضوحها لا يدل على أنه أفضل من المسيح مثلا، بل إن اشتهار الخليل بهذا الاسم لا يدل على أن ليس هناك لله خليلا مثل إبراهيم، أرأيت إذا فاق أحد التلاميذ في علم ما من العلوم جميع أقرانه فهل يستلزم ذلك أنه أعلمهم في كل شيء وأولهم وأرقاهم؟ كلا!!
( المسألة الثانية: في نقض النصارى ناموس الله )
عدلمن العجيب أن النصارى تركوا قول المسيح بعدم نقضه الناموس ( متى 5:17 ) واتبعوا أهواءهم وأقوال بولس وأضرابه حتى أبطلوا لأجلها جميع شرائع التوراة، ولم يعملوا بواحدة منها كما أمروا في أسفار موسى، فتراهم مثلا تركوا تعظيم اليوم السابع الذي باركه الله وقدسه ( تك 2: 3 ) وأمرهم بحفظه ( تث 5: 14 وخر 13: 15 و35: 2 و3 ) وجعله فرضًا أبديًّا عليهم ( خر 31: 15 - 17 ) وأوجب عليهم أن لا يعملوا أي عمل فيه وأن لا يشعلوا نارًا في مساكنهم، وأن يقتلوا كل من خالف هذه الأوامر ( خر 35: 2 و3 ) فاستبدلوا اليوم الأول ( الأحد ) باليوم السابع، ومع ذلك لم يحفظوه أيضا كما كان يحفظ السبت موسى وعيسى والأنبياء.
ففي أى موضع من الأناجيل أبدل المسيح ( أو تلاميذه ) يوم السبت بالأحد وأجاز لهم العمل فيه ومخالفة أوامر التوراة؟ ولماذا لم يقم عليه السلام من الموت في اليوم السابع ( السبت ) حتى يتفق سبت النصارى مع سبت اليهود الذي قدسه الرب قديمًا؟ أو لماذا لم يقدس الله يوم الأحد منذ البدء ويجعله هو يوم الراحة للأمم ليكون ذلك إشارة إلى قيامة المسيح المزعومة في ذلك اليوم الذي لم يعرف تعظيمه في الكتب الإلهية القديمة، بل كان يعظمه بعض الوثنيين الذين خصصوه لعبادة الشمس - أعظم آلهتهم - ولذلك سموه، ويسمى عند بعض الأمم للآن ( يوم الشمس ) ( Sunday ) فالنصارى تركوا أوامر الله التي في التوراة واتبعوا الوثنيين وعظموا يومهم!!
وكذلك تركوا الختان وهو فرض عليهم في الشريعة الموسوية ( لاويين 12: 3 ) وجعله الله علامة عهد أبدي بينه وبينهم، وأوجب قتل كل من نكث هذا العهد ولم يختن في لحم غُرلته ( تك 17: 9-14 ) وقد ختن عيسى - عليه السلام - نفسه ( لو2: 21 ) ولكن بولس - وهو لم ير المسيح في حياته - قال لهم: ( غلا 5: 2 ) ( إن إختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا ) وقال: ( كو2: 16 ) فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت. فهم لذلك تركوا جميع أحكام الناموس ولم يبالوا بها، مع أن المسيح لم يأت لينقضها - كما قال - ولكنهم رجحوا أقوال بولس هذه على أقوال الله ورسله وتمسكوا بتأويلات ضعيفة ركيكة مضحكة؛ ليعتذروا بها عن إبطال تعظيم اليوم السابع والختان في لحم الغرلة وغيرهما من أحكام الله، مع أن حكمهما كان عليه فرضًا أبديًّا كما بينا، فلا أدري كيف إذًا أبطلوه وإذا كانوا هم أنفسهم لا يعملون بأحكام هذه الكتب فما فائدة إيمانهم بها؟ ولماذا يريدون أن يعمل المسلمون بهذه الشرائع التي هجروها وأبطلوها؟! وما الداعي إلى المناقشة بيننا وبينهم في هذه الكتب والحال أنهم قد نقضوها ولم يعبأوا بها؟
ومن أغرب أمورهم أن كل كلام لم يوافق أهواءهم لجأوا إلى تأويله، وباب التأويل عندهم واسع جدًّا، يدخل فيه كل مكابرة وتحريف للأصل، ولا أدري أي كلام كان يمكن لموسى أو غيره أن يقوله لهم حتى يوقف سير تأويلاتهم هذه الفاضحة المخزية، وحتى يعترفوا بأنهم مكابرون معاندون لله ولشرائعه؟
فانظر مثلا إلى تأويلهم في مسألة حفظ اليوم السابع ( السبت ) ومسألة الختان الجسداني تَرَ العجب العُجاب الذي تضحك منه الثكلى، فما أعجب عقولهم وما أغرب أفهامهم، والله لولا أننا نراهم بأعيننا ما صدقنا بوجود أمثالهم بين البشر.
وقد غرَّ طائفة المبشرين ما وصلت إليه أوربة من العلم والمدنية مع أنها ما وصلت إلى ذلك بمثل هذه الأفكار القسيسية ولا بعقائدهم الدينية المصادمة للبداهة العقلية، بل وصلت إلى ذلك باتباع أحكام العقل والحس والوجود والدرس والبحث، وبعد أن نبذت الخزعبلات والجمود وهذا الدين وراءها ظِهْريًّا، وإلا فقل لي بأبيك في أي شيء يتفق الدين الذي يأمر بالابتعاد عن الدنيا وزخرفها مع تلك المدنية الأوربية المادية؟ وأي شيء تعمله دول أوربة اليوم وفق تعاليم الدين المسيحي؟ الحق أنه لا يوجد بينهم وبين المسيحية علاقة تذكر إلا بالاسم فقط كما لا يخفى على أهل البحث والنظر، ولا تنس أن أكثر أهل العلم في أوربة ماديون ملحدون، فكان الواجب على جماعة المبشرين أن يهدوهم إلى دينهم ويحثوا أممهم على العمل به قبل أن يأتوا إلى المسلمين، وبعد ذلك يعمل هؤلاء المبشرون أنفسهم بناموس موسى ثم يدعون المسلمين للأخذ بهذه الكتب المهجورة من جميع أصناف الناس حتى أتباعها.
فإن قيل: إذا كان بعض الشرائع حكمها أبديًّا في شريعة موسى فكيف إذا نسخ في شريعتنا الإسلامية؟
فالجواب:
(1) نحن لا نسلم بجميع ألفاظ هذه الكتب؛ إذ يجوز عندنا أن بعضها زيد أو تحرَّف سهوًا أو قصدًا - كما بينَّا - ولا يخفى أن اليهود كانوا يظنون أنهم وحدهم شعب الله الخاص، وأن دينهم وملكهم باقٍ إلى الأبد، فلا عجب إذا دخل في كتبهم شيء من هذه الأفكار المتعلقة بدوام ملكهم ودينهم ومدينتهم ( أورشليم ) إلى الأبد كما قيل عنها في كتاب أرمياء: ( 31: 38 - 40 ) ( لا تقلع ولا تهدم إلى الأبد )، وليلاحظ القارئ أن لفظ الأبد بالنسبة للأحكام يندر وجوده في سفر التثنية وهو السفر الذي نرجح سلامته من الفساد الكبير كما سبق.
(2) لعل دوام دينهم كان مشروطًا باستقامتهم وحفظهم له ولعهد الله، فإذا نقضوا عهد الله نقض الله أيضا عهدهم وأبطل دينهم كما فعل بملكهم الذي علق دوامه على صلاحهم وتقواهم - كما بيناه سابقًا - ولذلك قال في أرميا ( 33: 20 و21 ) ( إن نقضتم عهدي...... فإن عهدي أيضا مع داود عبدي ينقض فلا يكون له ابن مالكًا على كرسيه ومع اللاويين الكهنة خادمي ) أي يبطل ملكهم وشريعتهم ( راجع أيضا 2 أي 7: 19 - 22 ولا 26 وتث 28 وغير ذلك ).
أما إذا استقاموا وكان الله -حقيقة- وَعَدَهم ببقاء بعض أحكام شريعتهم إلى الأبد فمن الجائز أن الله تعالى ما كان لينسخ هذه الأحكام، ويبقيها في الشريعة الإسلامية كما هي أو مع بعض تحوير فيها لا يغير جوهرها ويزيد عليها ما شاء ويُنقص منها ما لم يكن حكمه أبديًّا.
لكن الله تعالى علم أنهم لن يستقيموا ولا بد أن ينقضوا عهده، فقضى في علمه الأزلي أن يبعث رسولا من إخوتهم بني إسماعيل بشريعة غير شريعتهم، وأخبرهم بذلك وأوجب عليهم اتباعه حينما يبعث ( تث 18: 15 - 21 ) وقد ظهر تمردهم وعصيانهم في زمن موسى نفسه حتى سماهم ( شعبًا صلب الرقبة ) لشدة عنادهم ( تث 6: 6 ) وأنذرهم بالإبادة إذا عبدوا غير الله وعصوا أوامره ( تث 8: 19 و20 ) وقد كان ذلك كله فعصوا الله فأبادهم ونسخ دينهم بدين الإسلام، وأعطى أرضهم التي كانوا وعدوا بها إلى الأبد ( تث 4: 40 ) للمسلمين الذين قال فيهم المسيح لليهود: ( متى 21: 43 ) ( إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ) ولا يصح أن يراد بذلك أمة الرومان فإن الأرض المقدسة كانت إذ ذاك خاضعة لهم، ولم تكسبهم المسيحية شيئًا جديدًا في تلك الأرض التي بقيت في أيديهم مؤقتًا حتى أخذها الإسلام منهم ولا تزال تابعة له إلى اليوم.
فكأن الرومانيين أخذوها من اليهود ونزعوها منهم لا لأنفسهم بل ليسلموها للمسلمين ( العرب ) أصحاب الحق فيها بعد اليهود، فإن الله تعالى وعد إبراهيم بأن تكون هذه الأرض له ولنسله ملكًا أبديًّا ( تك 17: 8 ) فوهبها أولا لإسحاق ( تك 17: 21 وخر 6: 4 ومز 105: 9 - 11 ) ولما نزعها من يد نسله - لعدم وفائهم بعهد الله - أعطاها لبني إسماعيل ( العرب ) الذين جعلهم الله أمة كبيرة ( تك 17: 20 ) وصارت يدهم على الكل ( تك 16: 12 ) وبذلك أبقى أرض الموعد في نسل إبراهيم إلى الأبد كما وعد تعالى.
أما الرومانيون فهم ليسوا من نسله وليسوا أهلها، بل كانوا كالمحتلين لها مؤقتًا إلى زمن العرب أربابها بوعد الله، فامتلأت بهم للآن وستبقى كذلك إلى الأبد كما وعد الرحمن ( انظر أيضا دا 2: 44 و7: 18 و27 ) وهم قديسو العلي كما سماهم دانيال.
(3) لعل المراد ( بالأبد ) الأبد النسبي كقولك لشخص: ( افعل ما أمرتك به دائمًا أبدًا ) فالمراد أنه يفعله ما دام حيًّا، فإذا مات فلا معنى لامتثال هذا الأمر، فكذلك قول الله لهم: ( افعلوا كذا وكذا إلى الأبد ): معناه أن يستمروا على فعله ما داموا أمة حية قوية ذات وجود ممتاز، فإذا ضعفت أمتهم وتبددت وماتت فلا يمكنهم أن يمتثلوا هذه الأوامر بعد أن يتلاشى وجودهم المستقل.
فاتباع الشريعة الموسوية كان واجبًا على اليهود إلى أن تلاشى استقلالهم ومُحيت مدينتهم وهيكلهم بعد المسيح، وتبددوا في الأرض واندمجوا في الأمم الأخرى، ولم يبق لهم وجود ممتاز حتى صاروا كالشخص الذي مات وتفرقت أجزاؤه، ولذلك قال المسيح قبل أن يحصل ذلك: إنه ما جاء لينقض شريعتهم بل ليكملها، وأنه لا يزول حرف واحد منها حتى يكون أو يكمل الكل ( متى 5: 17 و 18 ) أما إذا أُكملت هذه الشريعة وتبددت الأمة اليهودية وزالت دولتهم ولم يبق من مدينتهم حجر على حجر ( مت 24: 2 ) فحينئذ يكون تكليفهم بهذه الشريعة كتكليف الميت بأي عمل بعد موته.
فالإسلام لم يأت إلا بعد أن أكمل الناموس وبعد أن ماتت الأمة اليهودية موتًا تامًّا، حتى لم تتم شريعة القرآن إلا بعد أن محي كل أثر من القوة كان لليهود في بلاد العرب التي تحصَّن فيها بعضهم بعد تشتتهم. فمجيء محمد ﷺ بالإسلام كان إذًًا دليلا على فناء الأمة اليهودية وانمحاء شريعتها وناموسها، ولذلك قال يعقوب لبنيه إنباءً عما سيحدث في آخر الزمان ( تك 29: 1 و10 ) ( لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون 5 وله يكون خضوع شعوب ) فإذا جاء ( شيلون ) وهو الإسلام ( أو السلام كما قالوا ) زال ملكهم وشرعهم أما المسيح فما جاء ليزيل شريعتهم ولا علماءها.
ومما يدلك على أن ( الأبد ) في التشريع هو الأبد النسبي قول الناس: ( فلان حكم عليه بالسجن المؤبد )، ويريدون السجن مدة الحياة. على أن الأبد المطلق لا يمكن أن يكون مرادًا في الشريعة الموسوية بأي حال من الأحوال؛ لأنه من المعلوم لجميع الأنبياء أن الوجود في هذه الأرض ليس مستمرًّا إلى الأبد، بل سينقطع بقيام الساعة، فلا يمكن أن يكلفوا البشر بشيء إلى الأبد المطلق، لأن يوم القيامة سيزيل كل ذلك، وعليه فالأبد هو قطعًا الأبد النسبي 6 ولا فرق بين حمله على يوم القيامة ( الساعة العامة ) أوعلى موت الأمة وفنائها وانمحاء كل مشخصاتها ومميزاتها ( في الساعة الخاصة ) فإن من مات فقد قامت قيامته كما ورد في الأثر.
هذا هو جوابنا على هذا الإشكال، أما النصارى فلا يمكن أن يجيبوا عن هذه الأحكام المؤبدة في الشريعة الموسوية بمثل هذا الجواب؛ لأنهم:
( أولا ) لا يسلمون بتحريف هذه الكتب ولا بدخول بعض الأفكار الشائعة بين اليهود فيها، كما دخل في العهد الجديد بعض خرافات ذلك العصر المنتشرة بين الناس مثل مسألة دخول الشياطين في الإنسان 7 وخروجهم منه إلى غيره وإلى الحيوانات الأخرى وتكلمهم فيه وتسببهم في بعض أمراضه الجسدية والعقلية.
( وثانيًا ) أنهم لا يقولون بجواز نسخ الشرائع الإلهية عمومًا.
( وثالثًا ) أن المسيح لم يأت لينقض الناموس خصوصًا بل ليكمله، فيجب عليهم إذًا اتباع كافة أحكام الشريعة الموسوية وعدم تبديل حرف واحد من حروفها، وأن يتركوا آراء بولس وفلسفته العجيبة التي تركوا لأجلها حكم الله!!
أما المسلمون فإنهم يقولون بتحريف هذه الكتب وعدم التعويل على كل لفظ من ألفاظها كما بيناه وبنسخ بعض أحكامها، كما قال تعالى: { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة: 79)، وقال في حق محمد ﷺ: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف: 157)، وقال: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا } (المائدة: 48) { إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ } (النحل: 124)، وقال: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّما عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَما مَّسْفُوحا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( الأنعام: 145 - 146 ) 8 .
فالمسلمون إنما تركوا شريعة الله الموسوية لأوامر صريحة في كتابهم الإلهي وأما النصارى فتركوها لغير أقوال المسيح نفسه القائل: إنه لم يأت لينقضها بل ليكملها.
ومما يزيدك يقينًا بأن قول المسلمين بالتحريف في نفس مسألة الأبد 9 هذه وفي غيرها ليس أمرًا نظريًّا ظنيًّا بل هو حقيقة واقعية، ما جاء في رسالة بطرس الأولى قال فيها 1: 23: ( مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد )، فقوله: ( إلى الأبد ) لا يوجد باعترافهم في أقدم النسخ وأصحها التي عثروا عليها، راجع الترجمة العربية المطبوعة سنة 1909 ميلادية في المطبعة الأمريكانية في بيروت، تجد أن هذه العبارة موضوعة فيها بين قوسين للدلالة على ما قلنا كما ذكروا في مقدمة هذه النسخة، وهذه إحدى التحريفات التي يزعمون أنها لا تتعلق بمسائل هامة فما أكبرهم من مكابرين!!
وكيف بعد ذلك يمكننا أن نثق بأي شيء من نقلهم أو من كتبهم إذا كان التحريف فيها من العادات الملازمة لقدمائهم؟ وكيف نأمن عليها من تلاعبهم وإفسادهم لها في غير هذه المواضع التي ظهرت لنا؟ وهل لا يدل انتشار مثل هذه التحريفات في نسخها على صحة قولنا: إن هذه الكتب في الأزمنة القديمة كان يسهل على أصحابها تبديلها وتحريفها؟
ومن العجيب أنك ترى النصارى بعد ذلك يدعون المسلمين لترك دينهم واتباع آرائهم وأهوائهم المخالفة لما جاء به موسى وعيسى وسائر أنبياء بني إسرائيل!! فأي محاربة لله ولرسله ولكتبه أكبر من ذلك؟ وهل بعد ذلك يعقل أنهم به مؤمنون؟ وقد بينا لك فيما سبق أن عقائدهم لم يأت بها النبيون وأنهم فيها لأحكام العقل هادمون، وقد أريناك هنا أنهم لشريعة الله محاربون ولكتبه محرفون!! فبأي شيء من دين الله بعد ذلك يتمسكون وإليه يدعون؟ وبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟ (يتلى)
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ حاشية: مما قاله عيسى - عليه السلام - لهذه المرأة السامرية كما في إنجيل يوحنا 4: 21 (يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب)، وهذه العبارة تتضمن الإشارة إلى الديانة الإسلامية التي تجيز السجود لله في كل مكان، والقبلة فيها إلى مكة لا إلى أورشليم ولا إلى غيرها، واليهود والسامريون الذين أسلموا صاروا يعبدون الله متجهين إلى الكعبة، وهذه القصة السامرية تدلنا على السبب الحقيقي الذي جعل عيسى لا يبالي بالتصريح ببيان المكان الذي ينبغي أن يسجد فيه؛ لأنه علم أن الشريعة الموسوية في هذه المسألة زائلة، والشريعة الباقية التي ستأتي يسجد بحسبها الناس في كل مكان وإلى غير أورشليم ولغير جبل السامريين، وهذا السبب بعينه هو الذي حمل عيسى على عدم بيان الكتب الأبوكريفية وغيرها التي يتخبط في شأنها النصارى إلى الآن؛ لأنه علم أن جميع هذه الكتب ستستبدل بكتاب (الفارقليط) الذي قال فيه يو16: 12 و13: (إن لى أمورًا كثيرة أيضا لا قول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متَى جاء ذاك الروح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية) ولا يصح حمل هذه العبارة على (روح القدس) كما تدعي النصارى؛ لأنه هو عين الله تعالى كما يزعمون ولا معنى حينئذ لقول المسيح: (لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به) ولم يأتهم روح القدس بشيء لم يكن في زمن عيسى أو كان حمله شاقًّا عليهم، فمحمد ﷺ هو الذي كان يتكلم بما يسمع من وحي الله إليه [ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ] (النجم: 3-4) وهو الذي بين للناس الحق من الباطل في أمر هذه الكتب وقال قرآنه: [ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ] (البقرة: 79) وقال: [ يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ] (المائدة: 15) وشرع للناس شرائع كثيرة فكأن عيسى - عليه السلام - لما علم أن هذه الكتب سيحل محلها القرآن الذي قرب مجيئه وجاء هو مبشرًا به، وأنها ليست باقية إلى الأبد بل سيستعاض عنها قريبًا بالقرآن الذي سيبين أمرها، لم يهتم كثيرًا بتبيين صحيحها من فاسدها بل أفرغ جهده كله في تبيين حقيقة الدين وروحه وجوهره، وفي أن الله لا يبالي بالصور والظواهر بل بالقلوب والنفوس، وبالغ في إيضاح هذه المسائل حتى يردّ اليهود عن غلوهم في اعتبار ظواهر الدين وقشوره (أو طقوسه ورسومه كما يعبرون) ليعد النفوس لقبول الشريعة الإسلامية المتوسطة بين الإفراط والتفريط، والتي جمعت بين مطالب الروح والجسد وبين الظواهر والبواطن كما قال تعالى: [ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ] (البقرة: 143) وقد ترك عيسى - عليه السلام - بيان ما حل بهذه الكتب من الفساد لعلمه أنها كادت تنتهي وظيفتها، وأنها زائلة قريبًا، وأن العبرة بجوهر الدين لا بقشوره كما ترك الإفصاح عن الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه واختلف فيه اليهود والسامريون؛ لكونه يعلم أن الشريعة الآتية الباقية ستعين موضعًا آخر غير موضع اليهود والسامريين، وأن أمثال هذه الاختلافات الجزئية ستزول بطبيعة الحال، ويكفي أن يأخذ أتباعه بلب الدين وجوهره ولا يضيعوا أوقاتهم في الخلاف في جزئياته وقشوره حتى تنطبع نفوسهم على الأخذ بالروح والحقيقة، لا بالظواهر التي كانوا قد أهملوا كل شيء في سبيل العمل بها، ومتى استعدت النفوس لقبول الحق وإيفاء الروح والجسد مطالبهما من غير إفراط ولا تفريط جاء محمد - عليه السلام - بالشريعة الوسطى، وأرشد الخلق لجميع الحق، كما بشرهم عيسى - عليه السلام - من قبل فتختم به حينئذ النبوة (دا 9: 24)، ويحفظ الله دينه إلى الأبد (دا 2: 44) ولو كان عيسى- عليه السلام - يعلم أن كتب اليهود ستبقى إلى الأبد لما ترك الناس حيارى في شأنها، ولوجب عليه تبيين صحيحها من فاسدها حتى لا يبقى أتباعه في أمرها إلى الآن ضالين، فيرفض بعضهم ما يأخذ به الآخرون ويعتقدون اليوم بكتاب منها أو بإصحاح، فيظهر لهم غدًا أنهم كانوا مخطئين، فهم يتلمسون الحقيقة ولا يجدونها إلا بالأخذ بالإسلام، وحينئذ يستريحون من عنائهم في هذه الكتب المجهول أصلها، هداهم الله إلى سواء السبيل. هذا ولما كان مجيء الساعة التي يسجد فيها الناس لغير قبلة أورشليم وقِبلة جبل السامريين محققًا وأمرًا مقضيًّا من الله ولا بد من وقوعه قال المسيح يو4: 23: (ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب) فكأن الساعة موجودة بالفعل وقت الكلام لتحقق إتيانها، ولذلك قال: (وهي الآن) وهذا يشبه قوله تعالى: [ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ] (النحل: 1)، وورد أيضا في كتاب حزقيال مثل هذا فقال 39: 1-8: (وأنت يا ابن آدم تنبأ على جوج وقل هكذا قال السيد الرب - إلى قوله - ها هو قد أتى وصار يقول السيد الرب هذا هو اليوم الذي تكلمت عنه)، مع أن هذا اليوم لم يكن وقتئذ أتى ولا صار فيه شيء مما أنبأ به، وإنما قال ذلك لتحقق حصوله فكذلك قول المسيح - عليه السلام - السابق، وقد قال مثل ذلك أيضا في يوم القيامة كما في إنجيل يوحنا هذا 5: 25 و28 فورد فيه ما يأتي (الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون)، إلى قوله: فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فقوله (وهي الآن) لتحقق إتيانها ولقربه بالنسبة لما مضى من الأزمان، وكذلك قول متى 26: 64: (وأيضا أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا على يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء)، مع أنه إلى زمننا هذا لم يأتِ المسيح على سحاب السماء.
- ↑ حاشية: جاء الأمر بالإسلام لله في أقدم كتبهم فقال في سفر أيوب: (ويظن أنه كان قبل إبراهيم) 22: 21 (تعرف به وأسلم)، وفي العبري وشلام أي كن مسلمًا وهذا مصدق لقوله تعالى: [ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ] (البقرة: 132).
- ↑ حاشية: المهيمن هوالرقيب والشاهد، فالقرآن المنزل من عند الله الرقيب على كل شيء يشهد على هذه الكتب بما فيها من الحق والباطل، وبما يدخلها من الفساد، فيقرر ذلك لنا ويعترف به اعتراف الشاهد الذي رأى وعلم بما يقرره فهو عليها رقيب شهيد، يحق حقها ويبطل باطلها، وكذلك الأمة الإسلامية تشهد وستشهد على من سبقها من الأمم الأخرى في الدنيا والآخرة بما أخبرنا الله تعالى من أحوالهم مع أنبيائهم، فالمسلمون وكتابهم رقباء شهداء على غيرهم وعلى كتبهم بما أعلمهم الله تعالى كالشهيد الذي يرى، فيقرر ويعترف بما يوقن به، ولذلك قال تعالى: [ لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا ] (البقرة: 143)، فالشهادة هي الإقرار والاعتراف بما يرى أو يعلم باليقين كأنه مشاهد ومن ذلك قول المسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله).
- ↑ راجع كتابنا (الخلاصة البرهانية على صحة الديانة الإسلامية) المطبوع لأول مرة سنة 1316 هجرية
- ↑ راجع بحث لفظ (شيلون) في فصل البشائر الآتى.
- ↑ مما يدل على أن (المؤيد) قد يكون مؤقتًا قوله تعالى في القرآن الشريف: [ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ] (الممتحنة: 4) وعليه فجميع الأحكام المؤيدة في الشريعة الموسوية هي مؤقتة بمجيء محمد ﷺ، كأن الله قال لهم: (افعلوا كذا وكذا أبدًا حتى يأتيكم رسولي الذي أخبرتكم به فأطيعوه) أعني أن المراد بالأبد الدهر الطويل أو الأبد النسبي كما في المتن.
- ↑ حاشية: قول القرآن الشريف: [ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ] (البقرة: 275) لا يقتضي وجود ذلك بالفعل في الخارج فإن من المشبه به ما لا وجود له إلا في الذهن والخيال، كقوله تعالى: [ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ] (الصافات: 65) وكقول الشاعر: أيقتلني والمشرفيّ مُضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال فكذلك قول القرآن هذا فإن المشبه به فيه هو من متخيلات العرب وسائر الأمم، ويراد به التشنيع والتقبيح، ومثله يوجد في أعظم الكتب العلمية في أية لغة كانت، ولا يستفاد منه أن الشيطان له هذا التأثير في الإنسان ولذلك قال تعالى: [ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ] (الحجر: 42) ونحوه كثير في القرآن، ومن العجيب أن القرآن يذكر معجزات المسيح مرارًا وتفصيلا ومع ذلك لم يذكر منها (إخراج الشياطين) وجميع الأناجيل مفعمة بها حتى الأبوكريفية وأذهان الأمم ممتلئة بها فكيف سلم القرآن من هذه الخرافات الشائعة بين جميع الناس حتى أهل الكتاب لولا أنه وحي الله؟
- ↑ حاشية: يفهم من هذه الآية الشريفة حِلّ بعض أجزاء من الشحم لليهود، ولكن الذي يفهم من سفر اللاويين (3: 16 و17 و7: 23 - 25) هو تحريم كل جزء من أجزاء الشحم فلا بد أن يكون هذا من تحريف الكهنة ليأخذوا كل الشحم من الناس بدعوى إيقاده على المذبح (كما في لا 3: 11) ثم يبقوا منه شيئًا لأنفسهم، أو يكون هذا الحكم نسخ فيما بعد في زمن موسى أو غيره من أنبياء بني إسرائيل (انظر نحميا 8: 10) كما حرموا استرقاق العبراني مطلقًا بعد موسى بسنين عديدة وكان مباحًا لهم في زمنه (تث 15: 12 - 18) أو أنه حصل خطأ في هذه الشريعة أثناء نقلهم لها في تلك العصور المظلمة الطويلة، أو أثناء ارتدادهم عنها لعبادة الأصنام مرات عديدة في سنين كثيرة، ولو أراد أنبياؤهم إصلاح ذلك حينما يرجعون إليها لعارضهم الكهنة وغيرهم لمصلحتهم الشخصية ولسفكوا دماءهم فإنهم كثيرًا ما قتلوا الأنبياء والمرسلين (انظر متى 23: 30 - 37) كلما أرادوا إصلاح أحوالهم وأمورهم ولا يستبعدنّ القارئ وقوع مثل هذا الخطأ في هذه الكتب مع كثرة الأنبياء فيهم، فقد وقع فيها غيره سهوًا أو قصدًا مما بيناه ومما لم نبينه كمسألة اجترار الأرنب الجبلي (لا 11: 6) ومسألة برص الثياب وبرص البيوت (لا 13 و14) ولعل هذه المسألة الأخيرة هي أيضا من وضع الكهنة لمصلحة لهم فيها، ولم يتمكن الأنبياء من إزالتها كما لم يمكنهم منعهم عن عصيان الرحمن وعبادة الأوثان والذي يدلك على أن بعض الشحم أحل لهم كما قال القرآن، وأن النص على تحريم الكل إما أنه محرف أو منسوخ قول سفر التثنية:( وهو أصح هذه الأسفار على مذهبنا ) في نعم الله على بني إسرائيل بعد خروجهم من أرض مصر ما يأتي تث 32: 10 (وجده) أي إسرائيل والمراد بنيه) في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب - 12 هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي 13 أركبه على مرتفعات الأرض، فأكل ثمار الصحراء وأرضعه عسلا من حجر وزيتًا من صوان الصخر 14 وزبدة بقر ولبن غنم مع شحم خراف وكباش وتيوس مع دسم لب الحنطة ودم العنب شربته خمرًا)، فإذا كان كل الشحم محرمًا عليهم كما في سفر اللاويين فكيف إذًا يمن الله عليهم في سفر التثنية وهو آخر الأسفار الموسوية وأصحها بإطعامهم وهم في البرية شحم الخراف والكباش والتيوس؟ ألا يدل ذلك على صحة قول القرآن الشريف في هذه المسألة وخطأ كتبهم الأخرى فيها؟ وإلا فكيف يمكنهم التوفيق بينها لإزالة هذا التناقض؟ والعبارة الأخيرة من سفر التثنية وكذا غيرها (تث 18: 4) تدل على حل الخمر لهم، وإن كان شربها حرِّم على الكهنة فقط عند دخولهم خيمة الاجتماع (لا 10: 8 - 11) وكذلك المسيحية فيها ما يدل على حلها للناس (راجع يو2: 1 - 11 ولو22: 14 - 23) ولذلك فإنا نفخر بأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حرم الخمر تحريمًا باتًّا، وكذلك سائر الخبائث، وأحل الطيبات جميعًا ولولا النصارى لما انتشر شربها بين المسلمين فإنهم هم الذين حملوها إلينا مع ما حملوه من موبقات مدنيتهم الأخرى: كالانتحار والقمار والربا والرقص والخلاعة والفسق والفجور أما لفظ السَّكر (بفتح السين) الوارد في القرآن في سورة النحل (16: 67) فالأصح أنه سُكْر الفاكهة (بضم السين) المسمى عند الإفرنج (Laevulose)، أوهو لغة في السكر (بضم السين) مطلقًا، فإن كلا اللفظين معرب من كلمة (شكر) الفارسية بإبدال الشين سينًا كما هو المعتاد في تعريب بعض اللغات الأخرى الشرقية: كموشى العبرية وموسى العربية وغير ذلك، وقيل: السكر الخل، وإذا سُلِّم أن السكر (بفتح السين) هنا هو السكر فقوله تعالى بعده: [ وَرِزْقا حَسَنا ] (النحل: 67) يدل على أن السكر ليس رزقًا حسنًا لأن الأصل في العطف أن يفيد المغايرة، وهذه الآية المشار إليها هنا نزلت قبل التحريم البات، فإن الخمر حرمت تدريجيًّا لحكمة لا تخفى على المفكر، والتحريم التدريجي شيء والنسخ شيء آخر فلا منافاة بين ذلك وبين مذهبنا في (الناسخ والمنسوخ).
- ↑ حاشية: جاء في سفر الخروج 2: 6 (ويثقب سيده أذنه بالمثقب، فيخدمه إلى الأبد) والمراد أن العبد يخدم سيده إلى الممات، وهو عين ما قلناه آنفًا في معنى الأبد وبهذا المعنى أيضا ورد في سِفر صموئيل الأول 1: 22.