مقالات مجلة المنار/تطور الاعتقاد بألوهية المسيح
قد سبق لنا نشر بعض مباحث بعض رجال الكنيسة الإنكليكانية في هذه العقيدة التقليدية، وجزم بعضهم بأن المسيح عليه السلام ما ادعى الألوهية قط، والآن قد جاءنا من بعض قراء الجرائد الإفرنسية اللغة في هذا الموضوع ما يأتي:
إن جريدة ( جورنال دوجنيف ) التي تصدر في جنيف هي من الجرائد المشهورة بالتعصب للمسيحية البروتستانتية حتى لا تُقَاس بها جريدة أخرى في هذا الباب إلا إذا كانت جريدة ( غارت دولوزان ) وإنما كانت الأولى أعلى مقامًا بين الجرائد.
وكلتا هاتين الجريدتين لا تدع فرصة نتحامل فيها على الإسلام إلا توردتها مع هذا ليتأمل القارئ المقالة التي نشرتها جريدة ( جورنال دوجنيف ) في تاريخ الأحد 27 يناير سنة 1929 الحاضرة تحت عنوان ( ألوهية يسوع المسيح ) قالت: ( إن مشكلة طبيعة المسيح هي قديمة بمقدار قدم المسيحية، فمنذ القرون الأولى للكنيسة ثارت على هذه المسألة المجادلات الكبرى اللاهوتية ( أي الكلامية ) واختلفت المجامع وأحدثت أعظم الانشقاقات التي عرفتها الكنيسة في صدر النصرانية.
ولا تزال هذه المسألة كما كانت منذ عشرين قرنًا شغلا شاغلا لأفكار المتدينين، ولا تزال الكنائس كلها كاثوليكية كانت أم بروتستانتية تدين بألوهية المسيح، وتبني على هذه المقدمة جميع علم اللاهوت المسيحي.
على أنه إذا كان المسيح إلهًا تكون إذًا المسيحية عابدة إلهين، ولا تكون حينئذ ديانة توحيد، وهذا هو الاعتراض العظيم الذي يوجهه عليها المسلمون، فالاعتقاد بألوهية المسيح يستلزم نظرية عقلية فيما يتعلق بعلاقات الأب والابن، ونرجع حينئذ إلى المجادلات الأولى، فهل يا ترى تقررت هذه النظرية بشكل جازم إلى الأبد بموجب قرارات المجامع؟ الجواب: نعم هكذا تقول الكنيسة الأرثوذكسية، وهل يحكم بذلك البابا بصورة معصومة من الغلط؟ الجواب: هذا هو قول الكنيسة الرومانية.
فما مركز البروتستانتية في هذه المسألة الجلى؟ كم هم البروتستانتيون الذين يعلمون هذا جيدًا؟ لا شك أن هذه المسألة قد تلونت وتحولت، وأنه لا يوجد بروتستانتي معتصم بدينه يقدر أن يعطي على هذه المسألة جوابًا قاطعًا غير قابل للتغيير، فالإيمان يستند إلى التوراة وإلى أعمال الرسل والتاريخ، ومقرَّرات المجامع هي عناصر مهمة يتكون منها الإيمان، ولكن الإيمان هو قبل كل شيء مسألة شخصية، ويجب أن يطبق على احتياج الأشخاص أي على احتياج أهل أوربة.
فهذا التأليف بين الضرورات المقارنة للحقائق الأبدية والاحتياجات الروحية المتحولة هو من أشد المسائل إشكالا في اللاهوت البروتستانتي.
فالأستاذ أوغست لومتر LEMAITRE AUGUST الذي سيحاضر مساء الأربعاء 30 يناير بدعوة جمعية أصدقاء الفكرة البروتستانتية فيتكلم عن هذه المعضلة المحزنة هو ضد الإفراط في الفكرة العصرية المحتقرة للسلام، كما أنه ضد الجمود السهل والرجوع إلى الصيغ القديمة، فكيفية البحث في جوهر الإله وكيفية فهم كُنْه المسيح كما هو في التاريخ تتحولان بمرور الأعصار، فمن الجائز أن العلاقة بين المسيح والإله لا يقال عنها كلمة جازمة الآن، ولا في وقت من أوقات التاريخ، ويحسن المصير إلى تعديل دساتير الإيمان عصرًا بعد عصر مع مراعاة التقليد تمامًا لكن مع إرادة تامة بتسهيل المناسبات الحقيقية بين هذا التقليد والعصر الحالي.
وإن شخصية الأستاذ لومتر الذي يدرس الديانة في معهد اللاهوت كفيلة لسامعي محاضرته بساعة تتجلى فيها الآراء الدينية الصائبة والأفكار العقلية العالية اهـ. مترجمًا بالحرف.
والحقيقة أن هذه الجمل المبهمة التي تحاول بها الجريدة والمحاضر المذكور تسهيل الانتقال من طور إلى طور لا يمكنها أن تغير جوهر الموضوع، فالعصر الحاضر أصبح برقيّ العلم وانتشار المعرفة لا يمتزج بوجه من الوجوه مع القول بألوهية المسيح... وإن كثيرًا من الأوربيين قد نفضوا أيديهم من الدين المسيحي بتاتًا بسبب هذه العقيدة.
فكثير من المسيحيين البروتستانتيين يقصدون إلى دعم المسيحية العصرية بالاعتقادات المعقولة خوفًا على الدين المسيحي من الانهيار التام، وقد بدأوا في إنكلترة حتى بين الأساقفة والقسوس يبحثون في إلغاء القول بألوهية سيدنا عيسى عليه السلام، وطالعنا في مجلاتهم الدينية كلامًا صريحًا في ذلك.
وهنا الأستاذ لومتر وجريدة جورنال دوجنيف يريدان أن يقولا: إنه إذا كانت بعض الأعصر الغابرة قد تلقت عقيدة تأليه المسيح بالقبول - لعوامل سياسية، وقد كان تقرير هذه العقيدة في المجامع بأكثرية الآراء على حين أن الأكثرية لا شأن لها في أمور عقلية فلسفية كهذه - فالعصر الحالي لا يقدر أن يقبلها ولذلك كان يجب أن يكون لكل عصر مسيح حَرِيٌّ به لائق بدرجة مداركه.
ونحن نقول لهما: لولا الملوك والسياسة كانت الأعصر السالفة أخذت بقول آريوس أيضا، وآمنت بأن المسيح رسول الله كما يعتقد المسلمون.
وستتغلب هذه العقيدة في أوربة وأمريكا بالتدريج وتقبلها الكنائس بصورة رسمية.
( المنار )
عدلوحينئذ يعلم هؤلاء وغيرهم أن القرآن قد بيَّن على لسان محمد النبي الأمي ﷺ ما خفي على أهل الكتاب من حقيقة دين المسيح، وأصله الذي هو التوحيد وكونه كان نبيًّا رسولا، وما غشي هذه العقيدة من تحريف وتبديل، وتأويل وتحويل، قال تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ( فصلت: 53 ).
على أن المستقلين في الفهم والمحققين في العلم من رجال الكنائس كلها يعلمون أن ما جاء بالإسلام من تصحيح العقائد المسيحية في التوحيد ونبوة المسيح عليه السلام هو الحق، وأن عقيدة التثليث والعشاء الرباني لا يقبلهما عقل، ولم يتواتر بهما عنه نقل، ولكنهم يخشون أن يصرِّحوا بذلك فتنفصم عُرَى الكنيسة وتنحل كل جامعة نصرانية، ويصير جميع النصارى أحرارًا في اعتقادهم فيدخل الباحثون منهم في الإسلام أفواجًا، وقد نقلنا أصل هذه المسألة عن لاهوتي كاثوليكي كبير في سورية طردته الكنيسة البابوية من رعيتها لحرية رأيه وعلمه في الدين.
هامش