مقالات مجلة المنار/شبهات المسيحيين على الإسلام وحجج الإسلام على المسيحيين/1
نبذة ثالثة تابعة لما في الجزء الخامس والجزء العاشر
بيَّنا في الجزئين الخامس والعاشر المراد بالتوراة والإنجيل عند المسلمين، وهما اللذان يشهد لهما القرآن الكريم، وبيَّنا أنه لا تنهض للمسيحيين حجة على إثبات دينهم وكتابيهما، ونبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، إلا من القرآن ولا يكون القرآن حجة إلا إذا كان من عند الله تعالى، فعليهم أن يؤمنوا به ويأخذوا بإصلاحه ليكونوا معنا موحدين لله تعالى، نعبده وحده من دون البشر كالمسيح وغيره، وندعو سائر الوثنيين إلى هذا الإيمان الذي هو غاية ارتقاء العقل البشري، وفيه السعادة والنجاة في الآخرة مع العمل الصالح الذي يستلزمه، وقد بيَّنا بالدليل المعقول نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكون ما جاء به وحيًا في درس التوحيد الذي نشر في الجزء الماضي وسنزيده بيانًا في الدروس الآتية إن شاء الله تعالى، هؤلاء المبشرون يدعوننا إلى البحث في الدين، أو يدعوننا أن نؤمن بأن بعض الأنبياء إله كامل وإنسان كامل، وأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة حقيقة، وإن كان العقل ينكر ذلك ويحيله وهو محل الإيمان، وأن ننكر بعض الأنبياء ونجحد نبوته بالمرة وإن قام عليها أقوى البراهين، فإن كانوا يبحثون لإظهار الحق لأجل اتباعه فليجعلوا العقل أصلا ويحكِّموه في الدلائل، وإلا فبماذا يميز بين الحق والباطل؟
إن قالوا: كتب الدين، نقول ( أولا ): بماذا تثبت هذه الكتب؟ فإن قالوا: بالعقل، نقول: لزمكم أن العقل هو الأصل، ولا يتأتى أن يحكم بصحة كتاب يشتمل على ما هو مستحيل عنده، و ( ثانيًا ): إذا كانت كتب الأديان التي تناظرون فيها متفقة فالدين واحد، وإلا فبماذا يرجح بعضها على بعض؟ أليس بالعقل الذي يبين أيها أهدى وأنهض بما يحتاج إليه البشر من الدين.
للدين ثلاثة مقاصد: تصحيح العقائد التي بها كمال العقل، وتهذيب الأخلاق التي بها كمال النفس، وحسن الأعمال التي تُناط بها المصالح والمنافع وبها كمال الجسد، فإذا حكَّمنا عاقلا لم يسبق له تقليد المسلمين ولا تقليد النصارى في الدين، وكلَّفناه أن ينظر أي الدينين وفَّى هذه المقاصد الثلاثة حقها بحسب العقل السليم فبماذا يحكم؟
يرى المسلمين مجمعين على أن العقائد لا بد أن تكون أدلتها يقينية؛ لأن كتابهم يقول في الظن الذي هو دون مرتبة اليقين في العلم { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا } ( يونس: 36 ) ويقول في الذين احتجوا على شركهم بمشيئة الله تعالى { هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } ( الأنعام: 148 ) ويقول { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ( البقرة: 111 ) ويقول عند ذكر الآيات التي يقيمها على العقائد إن { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ( الرعد: 4 ) { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى } ( طه: 54 ) أي العقول، ويرى المسيحيين مجمعين على أن أصل اعتقادهم فوق العقل، وأنه يحكم باستحالته وعدم إمكان ثبوته، ولا شك أنه هذا العاقل يحكم بأن عقائد المسلمين هي الحقة الصحيحة، ولا يلتفت إلى قول صاحب أبحاث المجتهدين وغيره: إن ذلك بحث في كنه ذات الله تعالى، ولا يعرف كنه الله باتفاق المسلمين وغيرهم؛ لأن فرقًا عظيمًا بين ما يثبته العقل بالدليل؛ ولكنه لا يعرف كنهه، وبين ما ينفيه ويجزم بعدم إمكان تحققه، ومثال ذلك أننا نثبت المادة بصفاتها وخواصها وآثارها، ولا نشك في وجودها؛ ولكننا لا نعرف كنه حقيقتها، بل لم يصل العقل إلى معرفة كنه شيء من هذه المخلوقات؛ وإنما عرف الظواهر والصفات، كذلك التوراة تصف الله تعالى بصفات يرفضها العقل كقوله في الباب السادس من سفر التكوين ( فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال: امحوا عن وجه الأرض الإنسان الذي عملته ) وهذا يدل على أنه كان جاهلا وعاجزًا تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ثم ينظر هذا العاقل والحكم العادل في المقصد الثاني، وهو تهذيب الأخلاق، فيرى التعاليم الإسلامية فيه قائمة على أساس العدل والاعتدال من غير تفريط ولا إفراط، مع استحباب العفو والصفح والإحسان لقول كتابه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ( النحل: 90 ) فسَّر البيضاوي الفحشاء بالإفراط في قوة الشهوة البهيمية، والمنكر بالإفراط في قوة الغضب الوحشية، وقوله: { وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ( البقرة: 237 ) وقوله: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما } ( الفرقان: 67 ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة عامة وخاصة، ويرى التعاليم المسيحية مبنية على التفريط والإفراط يقول كتابهم: ( أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم ) كما في إنجيل متَّى ( 5: 44 ) وهذا إفراط في الحب لا يقدر عليه البشر؛ لأن قلوبهم ليست في أيديهم، ويقول في إنجيل لوقا ( 19-27 ): أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أحكم عليهم فائتوا بهم إلى هنا واذبحوهم تحت أقدامي ) وفي الباب 14 من إنجيل لوقا 25: ( وقال لهم إن كان أحد يأتي إليَّ، ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضا، فلا يصلح أن يكون لي تلميذًا ) وهذا تفريط في الحب إفراط وغلو في البغض ومثل هذا كثير، ولا شك أن هذا العاقل يحكم لدين الاعتدال على دين التفريط والإفراط؛ لأن الأول يرقي البشرية ويعزها كما قال تعالى: { وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ( المنافقون: 8 ) والآخر يدليها ويذلها كما قال: ( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر ) وغير ذلك مما في معناه.
وأما المقصد الثالث، وهو الأعمال الحسنة التي ترقي النوع الإنساني في روحه وجسده، فيرى أن في الإسلام كل عبادة منها مقرونة بفائدتها، ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكون الصيام يفيد التقوى وكون العبادة في الجملة ترضي الله تعالى لقوله: { وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } ( الممتحنة: 1 ) إلى غير ذلك مما يزكي النفس ويرقي الروح، ولا يرى مثل هذا في كتب الآخرين، وإنما يرى في التوراة - التي هي كتاب الأحكام المسيحية؛ ولكن المسيحيين يؤمنون بها قولا لا فعلا - أن أحكام العبادات معللة بالحظوظ الدنيوية كقولها في الباب الرابع من سفر التثنية ( 40: واحفظ فرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك ) وكتعليل مشروعية الأعياد في الباب 23 من سفر الخروج من العدد 14- 16 بالحصاد والزراعة، وبالخروج من مصر، فأين هذا من بيان حكمة عيد الفطر في قوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ( البقرة: 185 ).
يرى أحكام المعاملات الإسلامية مبنية على أساس قاعدة درء المفاسد وجلب المنافع باتفاق المسلمين، وأن كليات هذه الأحكام خمس يسمونها الكليات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، ويرى أن الشريعة الإسلامية ساوت في الحقوق بين من يدين بها وغير من يدين بها ويراها تأمر بكشف أسرار الكون واستخراج منافعه بمثل قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مِّنْهُ } ( الجاثية: 13 ) ويرى التوراة والإنجيل لم يجمعا هذه المنافع في أحكامها، بل يخالفانها كثيرًا، فالوصية التاسعة: ( لا تشهد على قريبك بالزور ) فأين هذا التقييد بالقريب من أمر القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيا أَوْ فَقِيرا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } ( النساء: 135 ) وغير ذلك من الآيات، وفي الباب الرابع عشر من سفر تثنية الاشتراع إباحة المسكر وسائر الشهوات على الإطلاق ونصه: ( وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والمسكر، وكل ما تطلب منك نفسك وكُلْ هناك أمام الرب وافرح أنت وبيتك ) وفي الباب السادس من إنجيل متى ( 25: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون ) وفي موضع آخر: ( لا تشتغلوا من أجل الخبز الذي يفنى ) يأمرهم بهذا مع أن الخبز أهم المهمات عندهم حتى أمروا أن يطلبوه في صلاتهم بقوله: ( خبزنا بأكفافنا أعطنا اليوم ) فما هذا التناقض.
لا تأمر هذه الكتب بترك الأعمال للدنيا فقط، بل ليس للأعمال الصالحة فيها قيمة ولا منفعة مطلقًا قال بولس في رسالته إلى أهل رومية ( 14 - 4: أما الذي يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين ( 5 ) وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرِّر الفاجر فإيمانه يحسب له برًّا ) هذا والله يقول في القرآن: { لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ } ( البقرة: 177 ) الآية، فهل تنجح الأمم بهذه الأعمال أم بإيمان لا قيمة للعمل معه؟
وأثبت هذا المعنى بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية حيث ذكر أن أعمال الناموس تحت لعنة، وأنه لا يتبرر أحد عند الله بالناموس، وأن الناموس لا لزوم له بعد مجيء المسيح، والمسيح نفسه يقول: ( ما جئت لأنقض الناموس وإنما جئت لأتمم )؛ ولكن المسيحيين عملوا بقول بولس فتركوا التوراة وأحكامها بالمرة، وقد أباح لهم الرسل جميع المحرمات ما عدا الزنا والدم المسفوح والمخنوق والمذبوح للأصنام ( أعمال 15: 28 و29 ) وكأنهم رأوا أن شريعة التوراة لا تصلح للبشر كما قال حزقيال في الباب العشرين عن الرب أنه لما غضب على بني إسرائيل قال: ( 23 ورفعت أيضا يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم وأذريهم في الأراضي 24 لأنهم لم يصنعوا أحكامي، بل رفضوا فرائضي ونجسوا سبوتي، وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم 25 وأعطيتهم أيضا فرائض غير صالحة وأحكامًا لا يحيون بها ) وصرح حزقيال قبل هذا بأن بني إسرائيل عبدوا الأصنام بعد ما أنجاهم الله من مصر، فليعتبر بهذا ذلك المبشر المسيحي، وذلك اليهودي اللذان أنكرا عليَّ ما كتبته في العدد العاشر من طلب بني إسرائيل عبادة الأصنام، وزعما أنه لم يقل بذلك إلا القرآن.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش