مقالات مجلة المنار/نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية/8
فصل في رد ما يستدلون به من القرآن على عدم تحريف كتبهم
قد يقول بعض القارئين: إذا صح قولك فيما سبق بضياع جزء عظيم من الإنجيل واختلاط الحق بالباطل فيما بقي منه حتى فسد تقريبًا فما معنى قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } ( البقرة: 101 )، وقوله: { وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ( يونس: 37 ) وكيف مدح الله التوراة والإنجيل وحثَّ أهل الكتاب على إقامتها في مثل قوله في سورة المائدة: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانا وَكُفْرا فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } (المائدة: 68 ) وغير ذلك؟
قلت: أما قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } ( البقرة: 101 ) فمعناه أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل يعني أن أحواله جميعًا توافق البشائر المخبرة بمجيئه تمام الموافقة، ولا تختلف عنها في شيء كما بيناه في كتاب دين الله.
وهناك فرق بين قولك: جئت مصدقا لقول فلان، وقولك: أنا مصدق بقوله. فمعنى الأول أن فلانًا أخبر بمجيئك فجئت مصدقًا لإخباره عنك، ومعنى الثاني أن تؤمن بقوله وتصدقه، ولم يرد في القرآن أنه قال إنه هو أو محمد ﷺ جاء مصدقًا بما معهم. ( راجع أيضا صفحة 176 من هذه الرسالة ).
وإذا سلمنا أنه لا فرق بين قول القرآن: { مُصَدِّقا لِّمَا مَعَهُمْ } ( البقرة: 91 ) وبين أن يقول: مصدقا بما معهم، فليست العبارة نصًّا على أنه مصدق بكتبهم هذه التي معهم؛ إذ لم يذكر فيها لفظ الكتب، ولا يجوز أن يكون القرآن مصدقًا بجميع ما معهم من دينهم؛ لأنه رد عليهم في كثير منه. فتعين إذًا أن يكون المراد أنه مصدق ببعض ما معهم، وهذا حق، فإن القرآن يوافق دينهم في كثير من عقائده وآدابه وتعاليمه، فدين الإسلام أقرب الأديان إليهم ومع ذلك هم نفروا منه ورفضوه بأشد ما يرفضون الوثنية كما هو مشاهد حتى هذا اليوم، ويجوز أن يكون المراد مصدق بأن أصل ما معهم من الله وأن فيه أشياء كثيرة صالحة للناس ونافعة لهم وموروثة بينهم عن أنبيائهم.
وأما قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ( يوسف: 111 ) فالمراد به أن قصص القرآن ليست مخترَعة ولا مفتراة بدليل وجود أمثالها بين الناس قبل نزوله، فهي وإن اختلت قليلا في بعض التفاصيل أو الجزئيات عما يرويه الناس إلا أنها توافقها في الجملة وتصدقها في الجوهر، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتب تجدوا أنها معروفة بينهم ومروية في كتبهم، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل لا يضعف حجته كما يتوهم المبشرون، بل هو من أعظم ما يصدقه ويؤيده؛ ولذلك ترى القرآن نفسه يستدل بها على كونه من عند الله؛ لأن النبي لم يطلع على كتب أهل الكتاب.
ولا يستنتجن القارئ من هذه الآية أن قصص القرآن يجب أن لا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما، كلا إذ لو كان هذا الاستنتاج صحيحًا لما قال تعالى: { إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (النمل: 76 ) فقصصه قد تختلف عما عندهم وتبين لهم حقه من باطله. فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة، ومخالفته لها في بعض الجزئيات كما قلنا.
ويجوز أن يكون المراد بقوله: { تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ( يونس: 37 ) تصديق الحق الذي عندهم لا كل الذي عندهم وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها مما جاء القرآن لإزالته ومحقه، ويستحيل أن يكون مصدقًا لما جاء لإبطاله، فتنبه لذلك ولا تكن من الغافلين.
أما استدلالهم على عدم تحريف كتبهم بما في سورة المائدة ونحوها من مدح التوراة والإنجيل، وأمر أهلهما بالحكم بهما. فهاك بيان ما اشتبه عليهم من آيات هذه السورة: قال تعالى: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ } ( المائدة: 44 ) وهي شريعة موسى { فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } ( المائدة: 44 ) وهو أمر لا ننكره ونؤمن به، ولكنه لا يفيد المبشرين شيئًا في إثبات دعواهم { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ } ( المائدة: 44 ) وهم معلمو شريعة اليهود وعلماؤهم، يحكمون ويفتون ويقضون { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ } ( المائدة: 44 ) بما طلب منهم المحافظة عليه من التوراة، وفيه دليل على أن بعض أحكام التوراة كانت مؤقتة ولم يطلب منهم المحافظة عليها فهم إنما يحكمون بما لم ينسخ منها { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } ( المائدة: 44 ) أي رقباء يعلمون أنه لم يحرف لشهرته بينهم وتواتره، فمعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها لشيوعه وتداوله وتواتره بين الناس بالعمل به.
ولما كانت شريعتهم صالحة لزمنهم ونافعة لهم قال الله تعالى لهم: { فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } ( المائدة: 44 ) إلخ؛ وذلك لأن كثيرًا منهم كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرفونها، ويقاومون المصلحين، ويقتلون النبيين ( عب 11: 37 ) ويشركون ويرتدون، ولولا علم موسى ذلك عن طباعهم ما قال لهم ما قال (راجع مثلا سفر التثنية إصحاح 28 - 31 ) ثم قال الله تعالى: { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ } ( المائدة: 46 ) وكما قال تعالى لأتباع موسى { فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } ( المائدة: 44 ) الآية قال أيضا لأتباع عيسى: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ } ( المائدة: 47 ) وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة كما يزعمون وليست شريعته باقية لكل زمان. وقد بينا أن بعثة عيسى كانت خاصة بالأمة اليهودية في صفحة ( 193 و194 ) وحذف لفظ القول في القرآن كثير كما في قوله تعالى: { لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ } ( غافر: 16 ) وقوله: { فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ } ( يوسف: 45-46 ) وغير ذلك مما يعرفه المطلعون على أساليبه وتراكيبه، فكذلك هنا حذف لفظ ( قلنا ) قبل لفظ ليحكم وفي قراءة حمزة، وهي من القراءات السبعة المتواترة بين المسلمين، وليحكم، بكسر اللام وفتح الميم، والمعنى آتينا عيسى الإنجيل ليحكم به أهله وهم الذين بعث إليهم من بني إسرائيل { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ } ( المائدة: 48 ) أي شاهدًا على ما فيه من الحق والباطل، ولا يدل ذلك على أنه يمنع تحريفه كما زعم بعضهم فإن الشاهد على أي شيء كالجرائم ونحوها ليس من شأنه أن يمنع مرتكبيها منها وإنما هو يقرر أمام القضاة ما علمه عنها.
وقد توسعنا في بيان ذلك في كتاب دين الله في حاشية صفحة ( 84 و85 ) فراجعه إن شئت { فَاحْكُم بَيْنَهُم } ( المائدة: 48 ) يا محمد { بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ } ( المائدة: 48 ) بأن تعمل في كتبهم فإنهم كتبوها كما شاءوا وشاءت أهواؤهم وأبقوا فيها من شرائع الله ما وافق أميالهم وأغراضهم حتى اختلط الحق بالباطل.
زد على ذلك أننا { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا } ( المائدة: 48 ) فإننا وضعنا لكل أمة سابقة ولاحقة طريقة وشريعة توافق مصلحتها وقد تخالف مصلحة غيرها فلا تعمل إلا بما أنزلناه إليك فإن شريعتهم، حتى السالمة من التحريف والتبديل، فيها ما لا يوافق أمتك ولا يناسب حالها { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } ( المائدة: 48 ) أي لتسارع كل أمة من السابقين واللاحقين في طريق الطاعات وعمل الخيرات، وهذا الكلام كما قيل لنا قيل أيضا لكل الأمم الغابرة، فإن الجميع طولبوا بعمل الطيبات الصالحات والمبادرة إلى طاعة الله تعالى والتسابق فيها مع الأمم الأخرى المعاصرة لهم أو بعضهم مع بعض { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ( المائدة: 48 ) بعضكم مع بعض أو بعض الأمم السابقة بمن أدركوه من الأمم اللاحقة. ثم قال تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } ( المائدة: 49 ) فأي شيء في هذه الآيات يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل مع أنها صريحة في عكس ذلك، وفي نسخهما والأمر بعدم الالتفات إليهما بعد القرآن؟ ألا إن الغرض يعمي ويصم.
وأما قوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } ( المائدة: 68 ) الآية فمعناها هكذا: { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } ( المائدة: 68 ) يصح أن يقال له دين أو يعتد به { حَتَّى تُقِيمُوا } (المائدة: 68 ) أي تعملوا طبق الواجب بأحكام { التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } ( المائدة: 68 ) وتحيوا شرائعهما وتطيعوا أوامرهما وتنتهوا بنواهيهما، فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه كإقامة الصلاة مثلا أي فعلها على الوجه اللائق بها، ولا يدخل في ذلك القصص التي في التوراة والإنجيل ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية.
والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته، وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة، فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفًا. وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة، ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها لا تزال فيها أشياء كثيرة لا عيب فيها ونافعة للبشر وفيها هداية عظمى للناس فهي مما يدخل تحت قوله تعالى: { وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ } ( آل عمران: 3-4 ) فإذا أقام أهل الإنجيل أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به، ويصح أن يسمى دينًا، وإذا لم يقيموها وجروا على خلافهما كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى دينًا وكانوا مشاغبين معاندين وبدينهم غير مؤمنين إيمانًا كاملا.
وهذه قضية صحيحة لا يشك فيها عاقل، وهي المعنى المتبادر من الآية، فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل على وجودهما عند أهلهما كاملين وخصوصًا بعد قوله تعالى كما سبق في اليهود والنصارى { وَنَسُوا حَظا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } ( المائدة: 13 ) فالآية تشبه قوله تعالى: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( المائدة: 43 ) أي { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } ( المائدة: 43 ) وهم لا يعتقدون صدقك وصحة نبوتك { وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } ( المائدة: 43 ) في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي، وهو حكم الله بحسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة، ووجود هذا الحكم الخاص فيها لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة فيها محرفة، وسماها التوراة إما باعتبار عرفهم، كما نسميها نحن الآن، وكما نسمي معبودات الوثنيين بـ ( آلهتهم ) ودعاة النصرانية بـ ( المبشرين )، أو باعتبار أصلها أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية، ولولا ذلك ما صح أن نسمي هذه الكتب بالتوراة والإنجيل مع اعتقادنا بتحريفها وتبديلها وعدم صحة كثير من أجزائها وكتبها { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } ( المائدة: 43 ) بعد أن حكمت لهم بعين الحكم الذي عندهم في توراتهم التي يدعون الإيمان بها ويعتقدون صحتها: { وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( المائدة: 43 ) بك ولا بكتابهم، وإنما هم مشاغبون معاندون متلاعبون مستهزئون لا يخافون الله ولا يخشون عقابه في الدنيا والآخرة؛ لقساوة قلوبهم وخلوها من الإيمان الصحيح، ولذلك لا يبالون بما خالف أهواءهم ولو كان في كتبهم المقدسة عندهم.
ولنا أن نقول أيضا: إن معنى تلك الآية { لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } ( المائدة: 68 ) الحقيقيين، وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقدًا علميًّا عقليًّا تاريخيًَّا صحيحًا حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان كما يفعل علماء الإفرنج الآن، ونتيجة ذلك العناء كله أن يكونوا على شيء من الدين الحق، وهذا أمر لا شبهة فيه.
ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا ولكنهم كما قال تعالى لا يزيدهم القرآن إلا طغيانًا وكفرًا، وحسدا وعنادًا، فلا يؤمنون به ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب، فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك، فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبء ثقيل جدًّا من البحث والتمحيص وبعد ذلك يكونون على شيء من الحق لا على الحق كله، ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلا لعدم وجودهما على حقيقتهما؟ فهم ليسوا على شيء مطلقًا ولا يمكن أن يكونوا عليه، فإن كتبهم قد صارت خلقة بالية، لذلك قال رسول الله لعمر حينما رأى ورقة من التوراة بيده: (ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي ) ( انظر كتاب: انتقاد كتاب تاريخ التمدن الإسلامي صفحة 56 و57 ).
فإن قيل: وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم ومنه ما جاء القرآن ناسخًا له؟ قلت: لا شك أن كل عاقل مهما كان دينه يقول كما قال القرآن، فإنه خير لأهل الكتاب ولنا وللعالم أجمع أن يعملوا بشرائع دينهم فإنهم حينئذ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنا وغير ذلك مما يعمله الناس لولا اتباع الدين؛ ولذلك يقول العقلاء جميعا: ثق بالمتدين ولو كان على غير دينك. فمراد القرآن - على التفسير الأول للآية - حثهم إن أصروا على عدم الإيمان به 1 على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبي وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم. ولكن هل بعد العمل بدينهم يكونون على الدين الحق الكامل أم لا؟ فالذي يفهم من الآية أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه فإن ذلك لا يكون إلا بالإسلام { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } ( آل عمران: 83 ).
الدكتور محمد توفيق صدقي
هامش
- ↑ كما ينبئ عنه قوله في آخر الآية { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانا وَكُفْرا فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } (المائدة: 68).