مقالات مجلة المنار/سوريا والإسلام/3
( 8 )
مسيحو سوريا في أيام الدولة العربية
عدلزعم الكاتب المتحمس أن المسلمين لما استولوا على سوريا ابتدؤوا يسومون السوريين الذل والهوان، قال: ( ولو أن المسلمين حكماء كباقي الفاتحين الذين اكتسحوا سوريا أو بالحري كالسلوقيين والرومانيين الذين لم يكونوا يتعرضون للسوريين بما يمس عوائدهم وعواطفهم دينيًّا وأدبيًّا، بل كانوا يكتفون بحفظ سيطرتهم السياسية عليهم؛ لو كانوا حكماء، ولم يصنعوا بهم ما صنعوه؛ لما كانوا لاقوا من السوريين إلا الملاطفة والطاعة.
ثم طفق يسرد الألفاظ التي يعرفها من اللغة تدلّ على الظلم والاستعباد، والتي لا تدل أيضا؛ ليعظم الأمر، ويهيج تعصب نصارى سوريا على مسلميها، وإن كان هذا التعصب يضرّ قومه أكثر مما يضر المسلمين، وهو لا يدري لسكره بخمرة حرية أمريكا التي سمحت له بأن يشتم الإسلام والمسلمين بما شاء قال:
( ولا يظن القارئ أن تعصب المسلمين ضد المسيحين في أيام الدولة العربية كان بسيطًا كما نفهمه اليوم؛ كلا، بل كان استبدادًا مطلقًا واستعبادًا. تصور أيها القارئ حالة أمة يهجم عليها في منازلها وكنائسها، ويقتل بعضها ويسبي البعض الآخر. تصور حالة أمة يحكم عليها تارة بهدم معابدها وأخذ عشر بيوتها، وطورًا بأخذ أحسن دورها ومنازلها لتجعل جوامع أو بيوتًا للقضاء، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تعلق على أبواب منازلها صور الشياطين تمييزًا لها عن بيوت المسلمين، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تقفل مكاتبها ويمنع أولادها وصغارها من تعلم القراءة، تصور حال أمة لم يكن يقبل أحد من أفرادها في دواوين الحكومة المتسلطة عليها، تصور حال أمة لم يكن يسمح لها بأن تظهر صلبانها في الأسواق ولا بأن تدق جرسًا. تلك هي حالة المسيحيين في سوريا في أيام الدولة العربية. ولقد حدثت هذه وجرى هذا الضغط في أيام جميع الخلفاء الأمويين والعباسيين، وكان في الأكثر أيام جعفر المتوكل على الله في سنة 849 هـ أو بِالحَرِيّ عندما ابتدأت العربية أن تشعر بضعفها وانحطاطها.
وجوابنا عن هذا كله كلمة فذة نضطر أن نصرح بها مع الأسف، وهي أن هذا اختراع محض، فلا هجوم على البيوت والكنائس ولا صور شياطين، ولا منع من تعليم، فإن العرب كانوا أرحم الدول الفاتحة وأعدلها، وكانت سيرتهم نقيض ما قال هذا المتعصب بشهادة عدول المؤرخين، حتى من الإفرنج الذين أوجدوا الغلوَّ في التعصب الديني في الأرض، ثم طفق بعضهم يذمّه في هذا الزمان. ومن شاهد ما تعامل به دولهم المسلمين وغيرهم في مثل بلاد جاوه؛ لشاهد ما تقشعر منه الأبدان، وهو فوق ما اخترعته مخيلة رفول سعادة، وألصقته بالعرب، وقد تقدم في رد النبذة السابعة السابقة ما يؤيد قولنا هذا في العرب وسنزيده بيانًا.
أما السلوقيون فقد كانت أيامهم كلها حروبًا داخلية وخارجية من أول عهدها إلى آخره، وكان فيها من الفظائع ما فيها، ومن أقبحها ضغط الملك أنطوخيوس الثاني على اليهود، ونهب هيكلهم، وإسرافه في قتلهم، ونهب أموالهم في القرن الثاني قبل المسيح، وقد سَلَّم هذا الملك الفاجر الذي لقب نفسه باسم ( الله ) زمام حكومته لنسائه وندمائه؛ فأسرع الخراب والدمار بسوء سيرتهن وسيرتهم إلى سوريا، ولم تنطف من بعده نيران الثورات والفتن في سوريا. ولما ولي أنطيخوس الثالث المُلْك انبرى لإخماد ثورة مولو القائد السوري الذي استقل في جهة نهر الفرات فانتهز الفرصة أخيوس، وخرج عليه، وادعى الملك لنفسه وهو من بيت سلقوس مؤسس المملكة، فشغله ذلك عن محاربة مصر زمنًا ثم عاد إليها بعدما تولاها بطليموس الخامس وهو صغير السن، وكان استولى على فلسطين و فينيقية وسوريا السفلى. ثم زوج بطليموس ابنته، ووعده بأن يعطيه فلسطين وسوريا السفلى مهرًا لها، ولكنه لم يصدق. وبعد محاربة الرومانيين إياه وثورة أرمينيا عليه نهب هياكل آسيا ومعابدها فاحتوى جميع كنوزها وخزائنها، ثم طالبه ملك مصر بما وعد به أبوه من مهر ابنته وهو فلسطين وسوريا السفلى، فأغار على مصر حتى إذا كاد يظفر صده الرومانيون، فعاد ينتقم من اليهود بما جنى غيرهم؛ فهجم على بيت المقدس ونهب الهيكل، وعاث فيه فسادًا ولطخه بالنجاسة. ولم تكن حال من بعده بأمثل من حاله، فهذا نموذج من سيرة السلوقيين الذين فضلهم هذا المتعصب الغالي على العرب الذين كانوا أفضل الفاتحين في الأرض وأرفقهم وأعدلهم. إن سوريا لم يستقر لها في أيامها قرار، ولم تكنها مع الأمان دار، حتى إن السوريين سئموا الحياة في آخر عهدهم، ودعوا طغرانيس ملك أرمينية فولوه عليهم فأمنت البلاد، واطمأن العباد، فأين مثل هذه الثورات والفتن في أيام العرب؟ لقد استولى على سوريا كثير من الفاتحين الغرباء فلم يمتزج السوريون بأحد امتزاجهم بالعرب، وحسبك أنهم استعربوا فلم تعد تعرف لهم جنسية غير العربية. فاعتبر بتعصب هذا الكاتب الذي أراه بغض المسلمين النور ظلمة، والسعادة شقاءً، والخير شرًّا، والحق باطلا، وانظر هل يتيسر لنا جمع كلمة السوريين، وفيهم مثل هذا يكتب وينشر ويفرق ويمزق، ويقنع المسلمين بأن سيرة سلفهم توجب عليهم عداوة النصارى، ولا يجد له من أبناء ملته مفندًا ولا رادعًا، حتى كأن الجميع معه في آرائه مع علمهم بخطأه واختلاقه.
أما الرومانيون فتاريخهم معروف، وعتوهم وجورهم غير مجهول، ومؤرخو النصارى يعترفون بما قاسى السوريون منهم عامة، وما قاسى اليهود منهم خاصة، لا سيما بعد ما دخل الرومانيون في النصرانية. ولقد تنصر معظم أهل سوريا، ولكن لم يتجنسوا بالجنسية الرومانية، ولم يكن حكامهم يعاملونهم على اتفاقهم معهم في الدين معاملة المساواة؛ لذلك أدهشهم عدل الإسلام، ومساواته فكانوا عونًا للمسلمين على الروم في حربهم، ولولا ذلك لم يتم للعرب فتح سوريا في تلك المدة القصيرة. قال البلاذري في فتوح البلدان:
حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: ( قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم ) فقال أهل حمص: ( لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظُّلم والغَشَم، ولندفعنَّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حِمص إلا أن نغلب ونجهد؛ فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صُولحت من النصارى واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنَّا عليه وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.
وقال في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين، ومسير أبي عبيدة من حمص: ( فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنَّا أخذنا منهم فإنه لا ينبغي لنا إذ لا نمنعهم ( أي نحميهم ) أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنَّا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا أموالكم لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم، ولا نمنع بلادكم ( أي نحميها )، فلما أصبح أمر الناس بالمسير إلى دمشق، ودعا حبيب بن مَسْلَمَة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال؛ فأخذ يرده عليهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل البلد يقولون: ردَّكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن - والله - لو كانوا هنا ما ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ماقدروا عليه من أموالنا ) اهـ، وقد أورد هذين الشاهدين الشيخ شبلي النعماني في رسالة الجِزْيَة والإسلام، واستدل بهما وبغيرهما على أن الجِزْية جزاء الحماية والدفاع ( راجع ص 356 من السنة الأولى ).
التعدي على الكنائس وجعلها مساجد لم يكن مما يستحله المسلمون كما يعلم من له أدنى اطلاع من مسألة عمرو بن العاص مع العجوز القبطية في مصر. وهؤلاء بنو أمية أظلم العرب قد اقترفوا هذا الإثم مرة، والقصة تدل على كونها من الظلم على عدل العرب، وبعدهم عن مثل هذا الاعتداء، قال البلاذري في فتوح البلدان ما نصه:
قالوا: ولما ولي معاوية بن أبي سفيان أراد أن يزيد كنيسة يوحنا في المسجد بدمشق؛ فأبى النصارى ذلك فأمسكه، ثم طلبها عبد الملك بن مروان في أيامه للزيادة في المسجد، وبذل لهم مالا فأبوا أن يسلموها إليه. ثم إن الوليد بن عبد الملك جمعهم في أيامه، وبذل لهم مالا عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا، فقال: لئن لم تفعلوا لأهدمنها، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، إن من هدم كنيسة جُنَّ، أو أَصَابته عَاهة. فَأَحْفَظَهُ قَوْلُهُ ودعا بمعول، وجعل يهدم بعض حيطانها بيده، وعليه قباء خز أصفر، ثم جمع الفعلة والنقاضين فهدمها في المسجد. فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم، فكره أهل دمشق ذلك، وقالوا: نهدم مسجدنا بعد أن أَذنا فيه وصلينا، ويُرَدُّ بِيعَةً؟ وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يُعْطَوْا جميع كنائس الغوطة التي أخذت عُنوة، وصارت في أيدي المسلمين على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها فرضوا بذلك وأعجبهم، فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه. اهـ
فهذه الحادثة على ما فيها من خروج الوليد عن نهج الشرع لفسقه المشهور، تدل على شدة محافظة العرب على الكنائس، وحقوق الذمّة فإن ملكهم اضطر إلى كنيسة ليوسع بها مسجدًا رأى أن يكون أثرًا من آثاره، وموضعًا لفخاره، بعدما عجز عنه سلفه حُرْمة للذمة، فجاء بنفسه يسترضي النصارى، ويبذل لهم المال الكثير، وهم يأبون عليه ويهددونه بالوقوع في العاهات، ويخاطبونه بكلمة (الجنون)، فهل يصح أن يكون هذا شأن رعية مظلومة مضطهدة مع الفاتحين القاهرين، أم هو إدلال من عوملوا بالعدل والمساواة، والحِلم والإناة، ولم يتعودوا أن يهضموا حقًّا، ولا أن يسلبوا رزقًا.
قال البلاذري: حدثني هشام بن عمار أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يُجْرَى عليهم القوت. وقال هاشم: سمعت الوليد بن مسلم يذكر أن خالد بن الوليد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد شرطًا في خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سُلَّمًا صعد عليه، فأنفذه لهم أبو عبيدة. ولما فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك، فطلب أهلها الأمان والصلح فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم:
( بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم داخل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلا، ولا ينزلوا قرية عامرة؛ فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم؛ فله ما لنا وعليه ما علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدًا ).
أرأيت الفاتح الذي يصالح خصمه مثل هذا الصلح اللين يقال فيه: إنه قاس يهدم الكنائس ويأخذ المنازل. وقد أسلفنا في النبذة الماضية أنهم كانوا يَدعُون لهم أملاكهم حتى ما يأذنون للمسلمين أن يشاركوهم فيها ولو بحق!!!
أما الدواوين التي زعم المتعصب أن نصارى سوريا كانوا محرومين منها فقد كانت في الحقيقة في أيديهم خاصة، فإن عمر لما دَوَّنَ الدواوين؛ كانت دواوين بلاد الشام بالرومية لكثرة الكتاب في الروم وقلتهم في العرب، مع عدم عناية المسلمين باحتكار أعمال الدولة، ومن المشهور أنها ظلت على ذلك إلى عهد عبد الملك بن مروان، وانظر ما قاله المؤرخون في سبب نقلها إلى العربية. ونختار عبارة البلاذري لقدمه وتحريه في الرواية، قال:
( قالوا: ولم يزل ديوان الشام بالرومية حتى وَلِي عبد الملك بن مروان، فلما كانت سنة 18 أمر بنقله، وذلك أن رجلا من كُتَّاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا فلم يجد ماءً فبال في الدواة؛ فبلغ ذلك عبد الملك فأدبه، وأمر سليمان بن سعد بنقل الديوان فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل ذلك؛ فلم تنقض السنة حتى فرغ من نقله. وأتى به عبد الملك فدعا بسرجون كاتبه، فعرض ذلك عليه فغمه، وخرج من عنده كئيبًا، فلقيه قوم من كُتَّاب الروم، فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.
فانظر هذا؛ تجد أنه لم يكن التعصب الديني مانعًا للعرب من جعل جميع رجال الدين من الروم يكتبون بلغتهم ما شاءوا حتى أساءوا، ووجد عبد الملك أنه ينبغي للدولة العربية أن تكون دواوينها عربية ففعل. ولم يمنع ذلك غير المسلمين أن يكونوا عمّالا لهم بعد تعلم العربية، ولا سيما في دولة بني العباس، بل كان مثل إبراهيم الصابي يرتقي إلى أن يكون وزير القلم، ولسان الخليفة العباسي، وكم ارتقى مثله من سائر الطوائف ( راجع مقالات الإسلام والنصرانية في المجلد الخامس ).
وإنك لتجد الكاتب مع تعصبه قد تفلت منه القلم، فأومأ إلى الفرق بين أول عهد العرب وآخره، ولا شك أن أول عهدهم خير؛ لأنهم كانوا أشدّ تمسكًا بالإسلام وعملا به، وهذا يثبت أن الإسلام نفسه علّة للعدل؛ لأنه يأمر به. قال تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة: 8 ) أي لا تحملنَّكم عداوة بعض الناس لكم على عدم العدل فيهم، بل اعدلوا مع العدو وغيره.
( للرد بقية )
هامش