مقالات مجلة المنار/التعصب الديني في أوربا
تتهم أوربا أهل الشرق عامةً والمسلمين خاصةً بالغلو في التعصب الديني، الذي يفضي إلى إيذاء المخالف في الدين أو المذهب، وغمط حقوقه. وقد كتبنا في المجلد الأول من المنار مقالات بينا فيها أن مهد التعصب هو أوربا، وأن الشرقيين عامة والمسلمين خاصة لا يبلغون مُدّ أوربا ولا صاعها، ولا يردها ولا مترها في التعصب. وحسبك أنها أكرهت جميع من كان فيها من الوثنيين ثم من المسلمين على النصرانية، إلا من هاجر وترك أرضه وماله. من حيث بقيت جميع الأديان في الشرق لا سيما الممالك الإسلامية منه. ثم إنها سفكت من الدماء الغزيرة؛ لأجل الخلاف في المذاهب النصرانية نفسها، ما لم يعرف له نظير في الشرق. وقد انقلبت فيها طبيعة الاجتماع بالعلوم والأعمال الدنيوية وكثر الملحدون، وأعطت أكثر الحكومات الأوربية الحرية حقها في كل شيء، ولم يقو ذلك كله على التعصب الديني، لا من مثل روسية التي لا تزال حكومتها نفسها متعصبة فقط، بل من مثل إنكلترا العريقة في الحرية. وقد نقل إلينا البرق والبريد في هذا العام أن الحكومة الإنكليزية لم تمكن الكاثوليك من القيام بتقاليدهم الدينية في عيد الفصح. وجاء البرق في هذه الأيام بأن تلاميذ المدارس البروتستانت والكاثوليك في ليفربول، قد تشاجروا فيها تشاجرًا أدى إلى إقفال الحكومة خمسين مدرسة منها، وأن أمهاتهم شاركنهم في هذا الجهاد الديني، وقد نشر في جريدة الأخبار أحد الكتاب مقالة في ذلك فكهة، هذا نصها:
التعصب الديني الإنكليزي: هل الصغار غير الكبار
جاء في نبأ برقي من لندن أنه أقفلت خمسون مدرسة في ليفربول؛ لوقوع مشاجرات بين أولاد البروتستانت والكاثوليك، اشتركت أمهاتهم فيها.
فإذا فرضنا أن في كل مدرسة من هذه المدارس 100 تلميذ نصفهم متساهلون والنصف متعصبون، فيكون عدد الذين اشتركوا في هذه المعركة على أقل تقدير: ألفي تلميذ من صميم الناشئة الأنكلوساكسونية. أما أسلحتهم، فأولها: ( البوكس ) الإنكليزي. وثانيهما: ( الرفس ) بالجزم الإنكليزية. وثالثها: ( المضاربة ) بأدوات المدارس، من ألواح الإردواز والبراجل والمقاشط والمساطر، وغيرها مما لا تخلو منها جعبة تلميذ.
ولا بد أن حضرات الأمهات المتدينات المتعبدات المتقيات من طائفة البروتستانت حملن معهن إلى هذه المعركة ما وجدنه أمامهن من أحذية قديمة، وأرجل كراسي، ومقشات، وزجاجات فارغة، كما حملت بعض الكاثوليكيات الأيقونات والصلبان تبركًا وذخيرة لهذه الحرب الدينية المقدسة.
ومع أن النبأ البرقي لم يأتنا بتفصيل واف عن أسباب هذه الحركة الصبيانية الملّية التعصبية، فإنه لا شبهة في أنها نشأت إما عن نفار مذهبي، أو عن جدال ديني احتدم بين هؤلاء الصغار، فازدرى به المدرسون؛ لما هو مشهور عن أكثرهم من التباعد عن التداخل في كل أمر غير الفرض المدرسي.
أما الأمهات المصونات؛ فالراجح أنهن أتين لمساعدة أولادهن وإنقاذهن من خطر الملاكمة، ثم رأين الحاجة داعية إلى المداخلة الفعلية فتضاربن.
ولو لم يكن الخطب جللا لما أقفلت 50 مدرسة دفعة واحدة، حتى لا يعود التلاميذ إلى المخاصمة فالمقاتلة، وربما كانت العودة داعية إلى اشتعال نيران الحقد الديني بين غيرهم من تلاميذ المدارس التجهيزية، فالجامعة الذي يبلغ عدد طلبتها 790 طالبًا؛ لأن الكل منقسمون إلى: بروتستانت وكاثوليك، وما أثر في التلاميذ الصغار يؤثر فيهم، وبذلك يعيد الإنكليز أيام الحروب الدينية، ويبرهنون لنا على أن ذاك الرقي المدني الهائل، وحفظ أشعار شكسبير، وامتلاك المستعمرات التي لا تغيب عنها شمس، لم ينفع في تربية الأخلاق. وأن دعوى اللورد كرومر بأن بلاد الشرق عامة ومصر خاصة مهبط التعصب الديني دعوى يكذبها اليوم فعل أبناء ليفربول الذين تجمعهم الجامعة الوطنية، وتضمهم مدرسة واحدة، ولم يحضر منهم أحد إلى مصر؛ ليتلقى دروس التعصب من المسلمين والأقباط.
وإذا كان صغار الأمة عنوان كبارها وصورة لأخلاقهم، فلا مراء في أن هؤلاء الإنكليز يحملون لبعضهم من الأحقاد الدينية أثقالا مثقلة؛ لأن تربيتهم البيتية والمدرسية متشابهة، وما يتعلمونه مع شاي ليبتون ووسكي بوكانان هنا وهناك مساو تمامًا لما يتلقنه صغار ليفربول الذين لم يكادوا يشبون عن الطوق، حتى عرفوا كيف يتعصب فريق منهم للوثير، وفريق للقديس بطرس، والفضل في ذلك راجع إلى السيدات المهذبات اللائي لا يكتفين بحقوقهن، بل يطالبن بأن يكن مساويات للرجال في حق الانتخابات السياسية.
ولا يقتصر التعصب على هؤلاء الإنكليز من الأمم التي نظنها أرقى منا طبائع، وأفضل أخلاقًا، بل يشترك فيها الفرنسوي والإيطالي والألماني والروسي - بنوع أخص - فإذا درست أخلاق أحدهم، تجده يقطر تعصبًا دينيًّا جنسيًّا، وإن لم يكن متدينًا؛ وذلك بحكم المعاشرة والروابط الاجتماعية والبيتية.
فالتعصب صفة من صفات الإنسانية، لم يقو العلم ولا التربية على استئصال شأفتها من النفوس. وربما متنا ومات أبناؤنا وأحفادنا قبل أن نصل إلى درجة ننسى فيها التعصب.
أحد المتعصبين
هامش