مقالات مجلة المنار/شبهات المسيحيين وحجج المسلمين/3
النبذة السابعة
ذكرنا في النبذة السادسة أن صاحب كتاب الأبحاث أورد سبع آيات من القرآن العزيز وحرَّفها عن مواضعها لإثبات كتب اليهود والنصارى، وإلزام المسلمين باعتقادها والأخذ بها، وبيَّنّا فيها تحريفه وكون الآيات حجة للمسلمين على اليهود والنصارى لا العكس بالكلام على ثبوت آيات منها، وفي هذه النبذة نتكلم على باقيها.
قال: ( والرابعة تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالتوراة والإنجيل إيمانه بالقرآن ) ونقول: إن الآية الرابعة هي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } ( النساء: 136 ) والمسلمون يعتقدون أن نبيهم جاء بالحق وصدَّق المرسلين، وأمرنا بأن نؤمن برسل الله وكتبه السابقة؛ ولكن لم يكلفنا بالعمل بتلك الكتب لأنه أغنانا عنها بكتاب أهدى منها لا نحار في روايته، ولا نضل في درايته، مشتمل على جميع ما فيها من صحيح الاعتقاد، معصوم من التحريف والتبديل، محفوظ من الضياع والنسيان، حاوٍ لما لا يوجد فيها من المعارف الإلهية كما سنبينه بعد إن شاء الله تعالى، خالٍ من الإضافات التاريخية والآراء البشرية التي ألحقت بما بقي من الكتب السماوية.
على أن هذه الآية قد اختلف المفسرون في المخاطبين بها، فقيل هم المنافقون المؤمنون في الظاهر، المرتابون أو الجاحدون في الباطن، كأنه يقول لهم أيها المدَّعون الإيمان بالله وكتابه ورسوله وسائر كتبه ورسله بأفواههم وظواهرهم، عليكم أن تؤمنوا بقلوبكم وتطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب لما روي من أن ابن سلام وأصحابه قالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة و عزير ونكفر بما سواه فنزلت الآية، وقيل: هم المسلمون مطلقًا ولا يَعْتَدُّ المسلمون بإيمان مسلم إذا أنكر الإيمان بالأنبياء السابقين أو كذَّب كتبهم؛ ولكنهم لا يكلفونه بالبحث عنها والعمل بها؛ لأن الله تعالى أغنانا كما قلنا ولأنه قد ضاع بعضها ونسي كما قال تعالى: { فَنَسُوا حَظا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } ( المائدة: 14 ) وحرّف بعضها كما قال سبحانه: { يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } ( المائدة: 41 ) وكيف نأخذ بكتاب نسي حظ عظيم منه، ربما كان مبينًا ومفسرًا للباقي، أو فيه ما ليس فيه مما لا بد منه فيكون أخذنا به على غير وجهه، أو يكون ديننا ناقصًا ويصدق علينا قوله تعالى في أهل الكتاب: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ( البقرة: 85 ) الآية؟ ونكتفي هنا بالاستدلال على نسيان أهل الكتاب حظًّا منه بالقرآن الكريم؛ لأن كلامنا مع الخصم في دلالة القرآن على صدق الكتب، وسنثبته بعد بشهادة تلك الكتب وأقوال رؤساء الديانة النصرانية.
قال: ( والخامسة تبيّن أن أهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل كما كانوا يعرفون القرآن ) ونقول إن هذه الآية هي قوله تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ( سبأ: 31 ) ولا دلالة فيها على ما ذكر حتى على تقدير أن المراد بالذي بين يديه الكتب المتقدمة؛ لأن سبب رفضهم الإيمان هو دعوة القرآن ومن جاء به إلى ذلك الإيمان، أي أنهم قالوا: إننا لا نؤمن بالكتاب الذي جئت به يا محمد وقلت إنه من عند الله، ولا نؤمن بالكتب التي قلت إنها جاءت قبلك من عند الله، فأين الدليل في هذا على أن أهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل بذاتهما ويتدارسونهما وهم أميون لا يوجد فيهم، بل ولا في العرب كافة من يكتب إلا أفراد لا يبلغون طرف جمع القلة - قيل إنهم كانوا ستة نفر - والوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: { وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ( سبأ: 31 ) أنه يوم القيامة وما يتلوه من الثواب والعقاب وهو الأظهر.
قال: ( والسادسة تبين إقرار محمد بصحة الكتاب ومساواته إياه بالقرآن ) ونقول إنه أورد الآية السادسة هكذا: ( قل فأتوا بكتاب هو أهدى منهما - القرآن والإنجيل - أتبعه ) فانظروا أيها المنصفون إلى أمانة هؤلاء الناس في النقل، وإلى تحريفهم في المعنى وهم يخاطبون المسلمين ويعرفون حرصهم على القرآن العظيم وقد أنزل الله تعالى الآية هكذا: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ( القصص: 49 ) أي أهدى من القرآن والتوراة لا الإنجيل كما زعم مصنف كتاب الأبحاث، والدليل على ذلك قوله تعالى قبل هذه الآية: { وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } ( القصص: 47-48 ) ( وفي قراءة ساحران ) وحكمة إسناد الكفر بموسى إليهم بيان طبائع الأمم وتشابه أطوار البشر حتى كأن الحاضر عين الماضي، ولذلك قال الحكماء: التاريخ يعيد نفسه، والآيات حجة على المكابرين وبرهان قاطع لألسنة المعاندين، وليس فيها ما يدل على المساواة بين القرآن والتوراة في كل شيء فإن تعجيز المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله أهدى مما جاء به موسى ومما جاء به محمد لا يقتضي أن ما جاء به أحدهما مساوٍ لما جاء به الآخر، أرأيت لو قيل لجاهل بعلم المنطق ينكر على علمائه وكتبه: ألف لي كتابًا فيه يكون خيرًا من كتاب إيساغوجي وكتاب ( البصائر النصيرية ) أتقول: إن هذا القول يدل على أن الكتابين متساويين من كل وجه؟
قال: ( والسابعة تبيّن الإقرار الصريح على أن التوراة صحيحة سالمة فيها حكم الله، وأن متبعها ليس في حاجة إلى أن يُحكِّم أحدًا سواها )، ونقول: إن الآية السابعة هي قوله تعالى: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } ( المائدة: 43 ) هذا ما أورده المصنف منها وتتمتها { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( المائدة: 43 ) وهي لا تدل على ما قاله لما نبينه هنا تبيينًا.
الآية واردة في التعجيب من حال اليهود الذين يحكِّمون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض أمرهم، وهم غير مؤمنين به كالذين طلبوا حكمه فيمن زنى من أشرافهم، وقالوا: إن حكم بالجلد أخذنا بحكمه، وإن حكم بالرجم فلا نأخذ به. مع أن حكم الزاني منصوص عندهم في التوراة؛ ولكنهم يريدون اتباع الأسهل والأخف ووجه التعجيب أن هؤلاء القوم ليس لهم ثقة بدينهم ولا إذعان لكتابهم، فهم يحكِّمون صاحب شريعة غير شريعتهم، وشريعتهم التي يقولون إنها من عند الله وفيها حكمه بين أيديهم، ومن العجيب أنهم لا يقبلون حكمه إذا هو وافق ما عندهم، وهذا نهاية البعد عن الإيمان الصحيح الخالص بكتابهم، ولذلك قال تعالى بعد استفهام التعجب من تحكيمهم { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( المائدة: 43 ) أي ليس إيمانهم بكتابهم صحيحًا لأنهم أعرضوا عنه أولا فتحاكموا إليك يا محمد، ثم أعرضوا عن حكمك الموافق له ثانيًا، أو النفي لصفة الإيمان عنهم بالإطلاق، فيدخل فيها ما ذكر ويدخل فيها الإيمان بالنبي ﷺ وما جاء به، أي أنهم فسدت نفوسهم وبطلت ثقتهم بالدين مطلقًا حتى لا يرجى منهم أبدًا.
وظاهر أن القول بوجود حكم لله أو أحكام متعددة في كتاب الله لا يقتضي أن يكون ذلك الكتاب كله صحيحًا سالمًا من التحريف، مشتملا على جميع ما أنزله الله تعالى، فإنني أقول إن كتاب السيرة الحلبية مثلا فيه حكم الله، ولا أعتقد أن كل ما فيه من الله تعالى، وأنه سالم من التحريف ولا حاجة لغيره، بل أعتقد مع هذا أن فيه أقوالا اجتهادية وآراء للمؤلف ونقولا لا تصح، وإننا في حاجة إلى غيره.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش