البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل في بناء مسجده الشريف ومقامه بدار أبي أيوب
وقد أُختلف في مدة مقامه بها، فقال الواقدي: سبعة أشهر، وقال غيره: أقل من شهر والله أعلم.
قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد، قال: سمعت أبي يحدث فقال: حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبي، حدثنا أنس بن مالك.
قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤا متقلدي سيوفهم، قال: وكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ على راحلته وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجارى حوله حتى ألقي بفناء أبي أيوب، قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، قال: ثم أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاؤوا فقال: «يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا».
فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل، قال: فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله ﷺ بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع.
قال: فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون، ورسول الله ﷺ معهم
يقول: «اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة * فانصر الأنصار والمهاجرة»
وقد رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم من حديث أبي عبد الصمد وعبد الوارث بن سعيد.
وقد تقدم في (صحيح البخاري) عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مربدا - وهو بيدر التمر - ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما سهل وسهيل، فساومهما فيه رسول الله ﷺ فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا.
قال: وجعل رسول الله ﷺ يقول وهو ينقل معهم التراب: «هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر»
ويقول: «لا هم إن الأجر أجر الآخره * فارحم الأنصار والمهاجرة»
وذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بياضة، قال: وقيل: ابتاعه منهما رسول الله ﷺ.
قلت: وذكر محمد ابن إسحاق أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو فالله أعلم.
وروى البيهقي: من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الحسن بن حماد الضبي، ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن.
قال: لما بنى رسول الله ﷺ المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى أغبر صدره، فقال: «ابنوه عريشا كعريش موسى».
فقلت للحسن: ما عريش موسى؟
قال: إذا رفع يديه بلغ العريش - يعني: السقف - وهذا مرسل.
وروى من حديث حماد بن سلمة، عن أبي سنان عن يعلى بن شداد بن أوس، عن عبادة: أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي ﷺ فقالوا يا رسول الله: ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد؟
فقال: «ما بي رغبة عن أخي موسى، عريش كعريش موسى» وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن موسى، عن سنان، عن فراس، عن عطية العوفي، عن ابن عمر أن مسجد النبي ﷺ كانت سواريه على عهد رسول الله ﷺ من جذوع النخل، أعلاه مظلل بجريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع جريد النخل، ثم إنها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فما زالت ثابتة حتى الآن، وهذا غريب.
وقد قال أبو داود أيضا: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثني أبي، عن أبي صالح، ثنا نافع عن ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله ﷺ مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد النبي ﷺ باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا.
وغيره عثمان رضي الله عنه وزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني عن يعقوب بن إبراهيم به.
قلت: زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأولا قوله ﷺ: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة».
ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ولم يغيروه بعده، فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشد الرحال إليه، وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق زاده له بأمره عمر بن عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة وأدخل الحجرة النبوية فيه كما سيأتي بيانه في وقته.
ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم.
قال ابن إسحاق: ونزل رسول الله على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، وعمل فيه رسول الله ﷺ ليرغّب المسلمين في العمل فيه.
فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا فيه.
فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنبي يعمل * لذاك منا العمل المضلل
وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:
لا عيش إلا عيش الآخره * اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
فيقول رسول الله ﷺ: «لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار».
قال: فدخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللَّبِن فقال: يا رسول الله: قتلوني يحملون علي ما لا يحملون.
قالت أم سلمة: فرأيت رسول الله ﷺ ينفض وفرته بيده - وكان رجلا جعدا - وهو يقول: «ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما يقتلك الفئة الباغية».
وهذا منقطع من هذا الوجه بل هو معضل بين محمد بن إسحاق وبين أم سلمة وقد وصله مسلم في (صحيحه) من حديث شعبة، عن خالد الحذاء، عن سعيد والحسن - يعني: ابني أبي الحسن البصري - عن أمهما خيرة مولاة أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: «تقتل عمار الفئة الباغية».
ورواه من حديث ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ قال لعمار وهو ينقل الحجارة: «ويح لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الحسن يحدث، عن أمه، عن أم سلمة قالت: لما كان رسول الله ﷺ وأصحابه يبنون المسجد، جعل أصحاب النبي ﷺ يحمل كل واحد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبي ﷺ فمسح ظهره.
وقال: «ابن سمية، للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك شربة من لَبن وتقتلك الفئة الباغية».
وهذا إسناد على شرط (الصحيحين).
وقد أورد البيهقي وغيره من طريق جماعة عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخدري.
قال: كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين.
فرآه النبي ﷺ فجعل ينفض التراب عنه
ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».
قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
لكن روى هذا الحديث الإمام البخاري، عن مسدد، عن عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، وعن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء به إلا أنه لم يذكر قوله: «تقتلك الفئة الباغية».
قال البيهقي: وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم من طريق عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله ﷺ قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول: «بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية».
وقد رواه مسلم أيضا من حديث شعبة، عن أبي مسلم، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني - أبو قتادة - أن رسول الله ﷺ قال لعمار بن ياسر: «بؤسا لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا وهيب عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ لما حفر الخندق كان الناس يحملون لبنة لبنة، وعمار - ناقه من وجع كان به - فجعل يحمل لبنتين لبنتين قال أبو سعيد: فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله ﷺ كان ينفض التراب عن رأسه ويقول: «ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».
قال البيهقي: فقد فرق بين ما سمعه بنفسه وما سمعه من أصحابه.
قال: ويشبه أن يكون قوله: الخندق وهما أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد وفي حفر الخندق والله أعلم.
قلت: حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له، والظاهر أنه اشتبه على الناقل والله أعلم.
وهذا الحديث من (دلائل النبوة) حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه.
وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية.
ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر.
ومن زاد في هذا الحديث بعد تقتلك الفئة الباغية - لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة - فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله ﷺ، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم.
وأما قوله: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة.
وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم.
وسيأتي تقرير هذه المباحث إذا انتهينا إلى وقعة صفين من كتابنا هذا بحول الله وقوته وحسن تأييده وتوفيقه والمقصود ههنا إنما هو قصة بناء المسجد النبوي على بانيه أفضل الصلاة والتسليم.
وقد قال الحافظ البيهقي في (الدلائل): حدثنا أبو عبد الله الحافظ املاء، ثنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا عبيد بن شريك، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا حشرج بن نباتة، عن سعيد ابن جمهان، عن سفينة مولى رسول الله ﷺ.
قال: لما بنى رسول الله ﷺ المسجد جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه.
فقال رسول الله ﷺ: «هؤلاء ولاة الأمر بعدي».
ثم رواه من حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن حشرج، عن سعيد، عن سفينة.
قال: لما بنى رسول الله ﷺ المسجد وضع حجرا.
ثم قال: «ليضع أبو بكر حجرا إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر» فقال رسول الله ﷺ: «هؤلاء الخلفاء من بعدي»، وهذا الحديث بهذا السياق غريب جدا.
والمعروف ما رواه الإمام أحمد، عن أبي النضر، عن حشرج بن نباتة العبسي، وعن بهز وزيد بن الحباب وعبد الصمد وحماد بن سلمة كلاهما، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة قال: سمعت رسول الله يقول: «الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون من بعد ذلك الملك».
ثم قال سفينة: أمسك؛ خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين، هذا لفظ أحمد.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق، عن سعيد بن جمهان، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه ولفظه «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا عضوضا» وذكر بقيته.
قلت: ولم يكن في مسجد النبي ﷺ أول ما بني منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي ﷺ يخطب الناس وهو مستندا إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي فلما اتخذ له عليه السلام المنبر كما سيأتي بيانه في موضعه وعدل إليه ليخطب عليه.
فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحنَّ حنين النوق العشار لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده، فرجع إليه النبي ﷺ فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذي يسكت كما سيأتي تفصيل ذلك من طرق عن سهل بن سعد الساعدي، وجابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وأم سلمة رضي الله عنهم.
وما أحسن ما قال الحسن البصري بعد ما روى هذا الحديث عن أنس بن مالك: يا معشر المسلمين: الخشبة تحن إلى رسول الله ﷺ شوقا إليه، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه؟