البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وسبعمائة



ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وسبعمائة


استهلت وسلطان الشام ومصر الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، ونائبه بمصر الأمير سيف الدين يلبغا وأخوه سيف الدين منجك الوزير، والمشارون جماعة من المقدمين بديار مصر، وقضاة مصر وكاتب السر هم الذين كانوا في السنة الماضية، ونائب الشام الأمير سيف الدين أرتيمش الناصري، والقضاة هم القضاة سوى الحنبلي فإنه الشيخ جمال الدين يوسف المرداوي. وكاتب السر، وشيخ الشيوخ تاج الدين، وكاتب الدست هم المتقدمون، وأضيف إليهم شرف الدين عبد الوهاب بن القاضي علاء الدين بن شمرنوخ، والمحتسب القاضي عماد الدين بن العزفور، وشاد الأوقاف الشريف، وناظر الجامع فخر الدين بن العفيف، وخطيب البلد جمال الدين محمود بن جملة رحمه الله.

وفي يوم السبت عاشر المحرم نودي بالبلد من جهة نائب السلطان عن كتاب جاءه من الديار المصرية أن لا تلبس النساء الأكمام الطوال العرض، ولا الُبرد الحرير، ولا شيئا من اللباسات والثياب الثمينة، ولا الأقمشة القصار، وبلغنا أنهم بالديار المصرية شددوا في ذلك جدا، حتى قيل: إنهم غرقوا بعض النساء بسبب ذلك فالله أعلم.

وجددت وأكملت في أول هذه السنة دار قرآن قبلي تربة امرأة تنكز، بمحلة باب الخواصين حولها، وكانت قاعة صورة مدرسة الطواشي صفي الدين عنبر، مولى ابن حمزة، وهو أحد الكبار الأجواد، تقبل الله منه.

وفي يوم الأحد خامس شهر جمادى الأولى فتحت المدرسة الطيبانية التي كانت دارا للأمير سيف الدين طيبان بالقرب من الشامية الجوانية، بينها وبين أم الصالح، اشتريت من ثلثه الذي وصى به.

وفُتحت مدرسة وحوّل لها شباك إلى الطريق في ضفتها القبلية منها، وحضر الدرس بها في هذا اليوم الشيخ عماد الدين بن شرف الدين ابن عم الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بوصية الواقف له بذلك، وحضر عنده قاضي القضاة السبكي والمالكي وجماعة من الأعيان، وأخذ في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} الآية [فاطر: 2] .

واتفق في ليلة الأحد السادس والعشرين من جمادى الأولى أنه لم يحضر أحد من المؤذنين على السدة في جامع دمشق وقت إقامة الصلاة للمغرب سوى مؤذن واحد، فانتظر من يقيم معه الصلاة فلم يجيء أحد غيره مقدار درجة أو أزيد منها، فأقام هو الصلاة وحده.

فلما أحرم الإمام بالصلاة تلاحق المؤذنون في أثناء الصلاة حتى بلغوا دون العشرة، وهذا أمر غريب من عدة ثلاثين مؤذن أو أكثر، لم يحضر سوى مؤذن واحد، وقد أخبر خلق من المشايخ أنهم لم يروا نظير هذه الكائنة.

وفي يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة اجتمع القضاة بمشهد عثمان، وكان الفاضل الحنبلي قد حكم في دار المعتمد الملاصقة لمدرسة الشيخ أبي عمر يلبغا، وكانت وقفا، لتضاف إلى دار القرآن، ووقف عليها أوقاف للفقراء، فمنعه الشافعي من ذلك، من أجل أنه يؤول أمرها أن تكون دار حديث ثم فتحوا بابا آخر وقالوا: هذه الدار لم يستهدم جميعها، وما صادف الحكم محلا، لأن مذهب الإمام أحمد أن الوقف يباع إذا استهدم بالكلية، ولم يبق ما ينتفع به، فحكم القاضي الحنفي بإثباتها وقفا كما كانت، ونفذه الشافعي والمالكي، وانفصل الحال على ذلك، وجرت أمور طويلة وأشياء عجيبة.

وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة أصبح بواب المدرسة المستجدة التي يقال لها: الطيبانية إلى جانب أم الصالح مقتولا مذبوحا، وقد أخذت من عنده أموال من المدرسة المذكورة ولم يطلع على فاعل ذلك، وكان البواب رجلا صالحا مشكورا رحمه الله.

ترجمة الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية

وفي ليلة الخميس ثالث عشر رجب وقت أذان العشاء توفي صاحبنا الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، إمام الجوزية، وابن قيمها، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامع الأموي، ودفن عند والدته بمقابر الباب الصغير رحمه الله.

ولد في سنة إحدى وتسعين وستمائة، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين.

ولما عاد الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في سنة ثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علما جما، مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا، وكثرة الابتهال.

وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله.

وله من التصانيف الكبار والصغار شيءٌ كثير، وكتب بخطه الحسن شيئا كثيرا، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة، سامحه الله ورحمه.

وقد كان متصديا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين بن تيمية، وجرت بسببها فصول يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره، وقد كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه، وكمل له من العمر ستون سنة رحمه الله.

وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية عوضا عن أبيه رحمه الله فأفاد وأجاد، وسرد طرفا صالحا في فضل العلم وأهله، انتهى والله تعالى أعلم.

ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة.

وفرح أهل العلم بذلك، وأهل الديانة، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد، والاستيجار بالجامع الأموي، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن بن الملك النصار محمد بن قلاوون خلد الله ملكه، وشيد أركانه.

وكان الساعي لذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي بيض الله وجهه، وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني، وغيرهما في إبطال هذه البدعة، فأنفذ الله ذلك والله الحمد والمنة.

وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة وإلى زماننا هذا، وكم سعى فيها من فقيه، وقاضٍ، ومفتٍ، وعالم، وعابد، وأمير، وزاهد، ونائب سلطنة وغيرهم ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا، والمسؤول من الله إطالة عمر هذا السلطان، ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت، وكان هذا لا حقيقة له ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال.

وفي مستهل شهر رمضان اتفق أمر غريب لم يتفق مثله من مدة متطاولة، فيما يتعلق بالفقهاء والمدارس، وهو أنه كان قد توفي ابن الناصح الحنبلي بالصالحية، وكان بيده نصف تدريس الضاحية التي للحنابلة بالصالحية، والنصف الآخر للشيخ شرف الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق، فاستنجز مرسوما بالنصف الآخر.

وكانت بيده ولاية متقدمة من القاضي علاء الدين بن المنجا الحنبلي، فعارضه في ذلك قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي، وولى فيها نائبه شمس الدين بن مفلح، ودرّس بها قاضي القضاة في صدر هذا اليوم، فدخل القضاة الثلاثة الباقون ومعهم الشيخ شرف الدين المذكور إلى نائب السلطنة، وأنهوا إليه صورة الحال، فرسم له بالتدريس.

فركب القضاة المذكورون وبعض الحجاب في خدمته إلى المدرسة المذكورة، واجتمع الفضلاء والأعيان، ودرس الشيخ شرف الدين المذكور، وبث فضائل كثيرة، وفرح الناس.

وفي شوال كان في جملة من توجه إلى الحج في هذا العام نائب الديار المصرية ومدبر ممالكها الأمير سيف الدين يلبغا الناصري، ومعه جماعة من الأمراء، فلما استقل الناس ذاهبين نهض جماعة من الأمراء على أخيه الأمير سيف الدين منجك، وهو وزير المملكة، وأستاذ دار الاستادارية، وهو باب الحوائج في دولتهم، وإليه يرحل ذوو الحاجات بالذهب والهدايا، فأمسكوه وجاءت البريدية إلى الشام في أواخر هذا الشهر بذلك.

وبعد أيام يسيرة وصل الأمير سيف الدين شيخون، وهو من أكابر الدولة المصرية تحت الترسيم، فأدخل إلى قلعة دمشق، ثم أخذ منها بعد ليلة فذهب به إلى الإسكندرية فالله أعلم.

وجاء البريد بالاحتياط على ديوانه وديوان منجك بالشام وأيس من سلامتهما، وكذلك وردت الأخبار بمسك يلبغا في أثناء الطريق، وأرسل سيفه إلى السلطان، وقدم أمير من الديار المصرية فحلف الأمراء بالطاعة إلى السلطان، وكذلك سار إلى حلب فحلف من بها من الأمراء ثم عاد راجعا إلى الديار المصرية، وحصل له من الأموال شيءٌ كثير من النواب والأمراء.

وفي يوم الخميس العشرين من ذي القعدة مسك الأميران الكبيران الشاميان المقدمان: شهاب الدين أحمد بن صبح، وملك آص، من دار السعادة بحضرة نائب السلطنة والأمراء ورفعا إلى القلعة المنصورة، سير بهما ماشيين من دار السعادة إلى باب القلعة من ناحية دار الحديث، وقيدا وسجنا بها، وجاء الخبر بأن السلطان استوزر بالديار المصرية القاضي علم الدين زينور، وخلع عليه خلعة سنية، لم يسمع بمثلها من أعصار متقادمة، وباشر وخلع على الأمراء والمقدمين، وكذلك خلع على الأمير سيف الدين طسبغا وأعيد إلى مباشرة الدويدارية بالديار المصرية، وجعل مقدما.

وفي أوائل شهر ذي الحجة اشتهر أن نائب صفد، شهاب الدين أحمد بن مشد الشربخانات طلب إلى الديار المصرية فامتنع من إجابة الداعي، ونقض العهد، وحصن قلعتها، وحصل فيها عددا ومددا، وادخر أشياء كثيرة بسبب الإقامة بها والامتناع فيها، فجاءت البريدية إلى نائب دمشق بأن يركب هو وجميع جيش دمشق إليه، فتجهز الجيش لذلك وتأهبوا، ثم خرجت الأطلاب على راياتها، فلما برز منها بعض بدا لنائب السلطنة فردهم وكان له خبرة عظيمة، ثم استقر الحال على تجريد أربعة مقدمين بأربعة آلاف إليه.

وفي يوم الخميس ثاني عشره وقعت كائنة غريبة بمنى وذلك أنه اختلف الأمراء المصريون والشاميون مع صاحب اليمن الملك المجاهد، فاقتتلوا قتالا شديدا قريبا من وادي محسر، ثم انجلت الوقعة عن أسر صاحب اليمن الملك المجاهد فحمل مقيدا إلى مصر، كذلك جاءت بها كتب الحجاج، وهم أخبروا بذلك.

واشتهر في أواخر ذي الحجة: أن نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون الكاملي، قد خرج عنها بمماليكه وأصحابه، فرام الجيش الحلبي رده، فلم يستطيعوا ذلك، وجرح منهم جراحات كثيرة، وقتل جماعة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

واستمر ذاهبا وكان في أمله فيما ذكر أن يتلقى سيف الدين يلبغا في أثناء طريق الحجاز فيتقدم معه إلى دمشق، وإن كان نائب دمشق قد اشتغل في حصار صفد أن يهجم عليها بغتة فيأخذها، فلما سار بمن معه وأخذته القطاع من كل جانب ونهبت حواصله وبقي تجريدة في نفر يسير من مماليكه، فاجتاز بحماة ليهربه نائبها فأبى عليه، فلما اجتاز بحمص وطن نفسه على المسير إلى السلطان بنفسه، فقدم به نائب حمص وتلقاه بعض الحجاب وبعض مقدمين الألوف، ودخل يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين الشهر، وهو في أبهة، فنزل بدار السعادة في بعض قاعات الدويدارية. انتهى.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767