البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة



ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة


استهلت هذه السنة المباركة وسلطان المسلمين الملك الناصر ناصر الدين محمد بن الملك المنصور قلاوون، وهو مقيم بالكرك، قد حاز الحواصل السلطانية من قلعة الجبل إلى قلعة الكرك، ونائبه الديار المصرية الأمير سيف الدين آقسنقر السلاري، الذي كان نائبا بغزة، وقضاة الديار المصرية هم المذكورون في السنة الماضية، سوى القاضي الحنفي.

وأما دمشق فليس لها نائب إلى حينئذ غير أن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب كان استنابه الفخري بدمشق نائب غيبته، فهو الذي يسد الأمور مع الحاجب ألمش، وتمر المهمندار، والأمير سيف الدين الملقب بحلاوة، والي البر، والأمير ناصر الدين بن ركباس متولي البلد، هؤلاء الذين يسدون الأشغال والأمور السلطانية، والقضاة هم الذين ذكرناها في السنة الخالية، وخطيب البلد تاج الدين عبد الرحيم بن القاضي جلال الدين القزويني، وكاتب السر القاضي شهاب الدين بن فضل الله.

واستهلت هذه السنة والأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي نازل بقصر تنكز بطريق داريا، وكتب السلطان واردة في كل وقت بالاحتياط عليه والقبض، وأن يمسك ويرسل إلى الكرك، هذا والأمراء يتوانون في أمره ويسوفون المراسيم، وقتا بعد وقت، وحينا بعد حين، ويحملهم على ذلك أن الأحمدي لا ذنب له، ومتى مسكه تطرف إلى غيره، مع أن السلطان يبلغهم عنه أحوال لا نرضيهم من اللعب والاجتماع مع الأراذل والأطراف ببلد الكرك، مع قتله الفخري وطشتمر قتلا فظيعا وسلبه أهلهما وسلبه لما على الحريم من الثياب والحلي، وإخراجهم في أسوأ حال من الكرك، وتقريبه النصارى وحضورهم عنده.

فحمل الأمراء هذه الصفات على أن بعثوا أحدهم يكشف أمره، فلم يصل إليه، ورجع هاربا خائفا، فلما رجع وأخبر الأمراء انزعجوا وتشوشوا كثيرا، واجتمعوا بسوق الخيل مرارا وضربوا مشورة بينهم، فاتفقوا على أن يخلعوه، فكتبوا إلى المصريين بذلك، وأعلموا نائب حلب أيدغمش ونواب البلاد، وبقوا متوهمين من هذا الحال كثيرا ومترددين.

ومنهم من يصانع في الظاهر وليس معهم في الباطن، وقالوا لا سمع له ولا طاعة حتى يرجع إلى الديار المصرية، ويجلس على سرير المملكة، وجاء كتابه إليهم يعيبهم ويعنفهم في ذلك، فلم يفد.

وركب الأحمدي في الموكب وركبوا عن يمينه وشماله وراحوا إليه إلى القصر، فسلموا عليه وخدموه، وتفاقم الأمر وعظم الخطب، وحملوا هموما عظيمة خوفا من أن يذهب إلى الديار المصرية فيلف عليه المصريون فيتلف الشاميين، فحمل الناس همهم فالله هو المسؤول أن يحسن العاقبة. فلما كان يوم الأحد السادس والعشرين من المحرم ورد مقدم البريدية ومعه كتب المصريين بأنه لم بلغهم خبر الشاميين كان عندهم من أمر السلطان أضعاف ما حصل عند الشاميين، فبادروا إلى ما كانوا عزموا عليه، ولكن ترددوا خوفا من الشاميين أن يخالفوهم فيه ويتقدموا في صحبة السلطان لقتالهم.

فلما أطمأنوا من جهة الشاميين صمموا على عزمهم فخلعوا الناصر أحمد وملكوا عليهم أخاه الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن المنصور، جعله الله مباركا على المسلمين، وأجلسوه على السرير يوم الثلاثاء العشرين من المحرم المذكور، وجاء كتابه مسلما على أمراء الشام ومقدميه.

وجاءت كتب الأمراء على الأمراء بالسلام والأخبار بذلك ففرح المسلمون وأمراء الشام والخاصة والعامة بذلك فرحا شديدا، ودقت البشائر بالقلعة المنصورة يومئذ، ورسم بتزيين البلد فزين الناس صبيحة الثلاثاء السابع والعشرين منه، ولما كان يوم الجمعة سلخ المحرم خطب بدمشق للملك الصالح عماد الدنيا والدين إسماعيل بن الناصر بن المنصور.

وفي يوم الخميس سادس صفر درّس بالصدرية صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الذرعي إمام الجوزية، وحضر عنده الشيخ عز الدين بن المنجا الذي نزل له عنها، وجماعة من الفضلاء.

وفي يوم الاثنين سادس عشر صفر دخل الأمير سيف الدين تغردمر من الديار المصرية إلى دمشق ذاهبا إلى نيابة حلب المحروسة، فنزل بالقابون.

وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر صفر توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد عبد الله بن أبي الوليد المقري المالكي، إمام المالكية، هو وأخوه أبو عمرو، بالجامع الأموي بمحراب الصحابة.

توفي ببستان بقية السحف، وصلّي عليه بالمصلى ودفن عند أبيه رحمهما الله بمقابر باب الصغير، وحضر جنازته الأعيان والفقهاء والقضاة، وكان رجلا صالحا مجمعا على ديانته وجلالته رحمه الله.

وفي يوم الخميس العشرين من صفر دخل الأمير إيدغمش نائب السلطنة بدمشق ودخل إليها من ناحية القابون قادما من حلب، وتلقاه الجيش بكماله، وعليه خلعة النيابة، واحتفل الناس له وأشعلوا الشموع، وخرج أهل الذمة من اليهود والنصارى يدعون له ومعهم الشموع، وكان يوما مشهودا.

وصلى يوم الجمعة بالمقصورة، من الجامع الأموي، ومعه الأمراء والقضاة وقرئ تقليده هناك على السدة وعليه خلعته، ومعه الأمير سيف الدين ملكتم الرحولي، وعليه خلعة أيضا.

وفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر دخل الأمير علم الدين الجاولي دمشق المحروسة ذاهبا إلى نيابة حماة المحروسة، وتلقاه نائب السلطنة والأمراء إلى مسجد القدم، وراح فنزل بالقابون، وخرج القضاة والأعيان إليه، وسمع عليه من مسند الشافعي فإنه يرويه، وله فيه عمل، ورتبه ترتيبا حسنا ورأيته، وشرحه أيضا، وله أوقاف على الشافعية وغيرهم.

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين منه عقد مجلس بعد الصلاة بالشباك الكمالي من مشهد عثمان بسبب القاضي فخر الدين المصري، وصدر الدين عبد الكريم بن القاضي جلال الدين القزويني، بسبب العادلية الصغيرة، فاتفق الحال على أن نزل صدر الدين عن تدريسها، ونزل فخر الدين عن مائة وخمسين على الجامع.

وفي يوم الأحد سلخ الشهر المذكور حضر القاضي فخر الدين المصري ودرس بالعادلية الصغيرة وحضر الناس عنده على العادة، وأخذ في قوله تعالى: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65] .

وفي آخر شهر ربيع الأول جاء المرسوم من الديار المصرية بأن يخرج تجريدة من دمشق بصحبة الأمير حسام الدين السمقدار لحصار الكرك الذي تحصن فيه ابن السلطان أحمد، واستحوذ على ما عنده من الأموال التي أخذها من الخزائن من ديار مصر، وبرز المنجنيق من القلعة إلى قبل جامع القبيبات، فنصب هناك وخرج الناس للتفرج عليه ورمي به ومن نيتهم أن يستصحبوه معهم للحصار.

وفي يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر قدم الأمير علاء الدين الطنبغا المارداني من الديار المصرية على قاعدته وعادته.

وفي يوم الخميس عاشره دخل إلى دمشق الأميران الكبيران ركن الدين بيبرس الأحمدي من طرابلس، وعلم الدين الجاولي من حماة سحرا، وحضرا الموكب ووقفا مكتفين لنائب السلطنة: الأحمدي عن يمينه والجاولي عن يساره، ونزلا ظاهر البلد، ثم بعد أيام يسيرة توجه الأحمدي إلى الديار المصرية على عادته وقاعدته رأس مشورة، وتوجه الجاولي إلى غزة المحروسة نائبا عليها، وكان الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير على إمرة الطبلخانات بدمشق.

وفي يوم الخميس رابع عشره خرجت التجريدة من دمشق سحرا إلى مدينة الكرك، والأمير شهاب الدين بن صبح والي الولاة بحوران مشد المجانيق، وخرج الأمير سيف الدين بهادر الشمس الملقب بحلاوة والي البر بدمشق إلى ولاية الولاة بحوران.

وفي يوم الجمعة ثامن عشره وقع بين النائب والقاضي الشافعي بسبب كتاب ورد من الديار المصرية فيه الوصايا بالقاضي السبكي المذكور ومعه التوقيع بالخطابة له مضافا إلى القضاء وخلعة من الديار المصرية، فتغيظ عليه النائب لأجل أولاد الجلال، لأنهم عندهم عائلة كثيرة وهم فقراء، وقد نهاه عن السعي في ذلك، فتقدم إليه يومئذ أن لا يصلي عنده في الشباك الكمالي، فنهض من هناك وصلى في الغزالية.

وفي يوم الأحد العشرين منه دخل دمشق الأمير سيف الدين أريغا زوج ابنة السلطان الملك الناصر مجتازا ذاهبا إلى طرابلس نائبا بها، في تجمل وأبهة ونجائب وجنائب، وعدة وسرك كامل.

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه دخل الأمير بدر الدين ابن الخطيري معزولا عن نيابة غزة المحروسة فأصبح يوم الخميس فركب في الموكب وسير مع نائب السلطنة، ونزل في داره وراح الناس للسلام عليه.

وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر زينت البلد لعافية السلطان الملك الصالح لمرض أصابه، ثم شفى منه.

وفي يوم الجمعة السادس عشرينه قبل العصر ورد البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تقي الدين السبكي إليها حاكمها بها، فذهب الناس للسلام عليه ولتوديعه، وذلك بعد ما أرجف الناس به كثيرا.

واشتهر أنه سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الأيتام إلى الطنبغا وإلى الفخري، وكتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتيين فلم يكتب لهم أحد فيها غير القاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي، رأيت خطه عليها وحده بعد الصلاة، وسئلت في الإفتاء عليها فامتنعت، لما فيها من التشويش على الحاكم.

وفي أول مرسوم نائب السلطان أن يتأمل المفتون هذا السؤال ويفتوا بما يقتضيه حكم الشرع الشريف، وكانوا له في نية عجيبة ففرج الله عنه بطلبه إلى الديار المصرية، فسار إليها صحبة البريد ليلة الأحد، وخرج الكبراء والأعيان لتوديعه، وفي خدمته.

استهل جمادى الآخرة والتجريدة عمالة إلى الكرك والجيش المجردون من الحلقة قريب من ألف ويزيدون، ولما كان يوم الثلاثاء رابعه بعد الظهر مات الأمير علاء الدين أيدغمش نائب السلطنة بالشام المحروس في دار وحده في دار السعادة، فدخلوا عليه وكشفوا أمره وأحصروا وخشوا أن يكون اعتراه سكتة، ويقال إنه شفى فالله أعلم.

فانتظروا به إلى الغد احتياطا، فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة عليه فصلّي عليه خارج باب النصر حيث يصلّى على الجنائز، وذهبوا به إلى نحو القبلة، ورام بعض أهله أن يدفن في تربة غبريال إلى جانب جامع القبيبات، فلم يمكن ذلك، فدفن قبلي الجامع على حافة الطريق، ولم يتهيأ دفنه إلا إلى بعد الظهر من يومئذ، وعملوا عنده ختمة ليلة الجمعة رحمه الله وسامحه.

واشتهر في أوائل هذا الشهر أن الحصار عمال على الكرك، وأن أهل الكرك خرجت طائفة منهم فقتل منهم خلق كثير، وقتل من الجيش واحد في الحصار، فنزل القاضي وجماعة ومعهم شيء من الجوهر، وتراضوا على أن يسلموا البلد.

فلما أصبح أهل الحصن تحصنوا ونصبوا المجانيق واستعدوا فلما كان بعد أيام رموا منجنيق الجيش فكسروا السهم الذي له، وعجزوا عن نقله فحرقوه برأي أمراء المقدمين، وجرت أمور فظيعة، فالله يحسن العاقبة.

ثم وقعت في أواخر هذا الشهر بين الجيش وأهل الكرك وقعة أخرى، وذلك أن جماعة من رجال الكرك خرجوا إلى الجيش ورموهم بالنشاب فخرج الجيش لهم من الخيام ورجعوا مشاة ملبسين بالسلاح فقتلوا من أهل الكرك جماعة من النصارى وغيرهم، وجرح من العسكر خلق، وقتل واحد أو اثنان وأسر الأمير سيف الدين أبو بكر بن بهادرآص، وقتل أمير العرب، وأسر آخرون فاعتقلوا بالكرك، وجرت أمور منكرة.

ثم بعدها تعرض العسكر راجعين إلى بلادهم لم ينالوا مرادهم منها، وذلك أنهم رقهم البرد الشديد وقلة الزاد، وحاصروا أولئك شديدا بلا فائدة فإن البلد بريد متطاولة ومجانيق، ويشق على الجيش الإقامة هناك في كوانين، والمنجنيق الذي حملوه معهم كسر، فرجعوا ليتأهبوا لذلك.

ولما كان في يوم الأربعاء الخامس والعشرين منه قدم من الديار المصرية على البريد القاضي بدر الدين بن فضل الله كاتبا على السر عوضا عن أخيه القاضي شهاب الدين، ومعه كتاب بالاحتياط على حواصل أخيه شهاب الدين، وعلى حواصل القاضي عماد الدين ابن الشيرازي المحتسب، فاحتيط على أموالهما وأخرج من في ديارهما من الحرم، وضربت الأخشاب على الأبواب، ورسم على المحتسب بالعذراوية، فسأل أن يحول إلى دار الحديث الأشرفية فحول إليها.

وأما القاضي شهاب الدين، فكان قد خرج ليلتقي الأمير سيف الدين تغردمر الحموي، الذي جاء تقليده بنيابة الشام بدمشق وكان بحلب، وجاء هذا الأمر وهو في أثناء الطريق، فرسم برجعته ليصادر هو والمحتسب، ولم يدر الناس ما ذنبهما.

وفي يوم الأحد ثامن شهر رجب آخر النهار رجع قاضي القضاء تقي الدين السبكي إلى دمشق على القضاء، ومعه تقليد بالخطابة أيضا، وذهب الناس إليه للسلام عليه.

ودخل نائب السلطنة الأمير سيف الدين تغردمر الحموي بعد العصر الخامس عشرينه من حلب، فتلقاه الأمراء إلى طريق القابون، ودعا له الناس دعاء كثيرا، وأحبوه لبغضهم النائب الذي كان قبله، وهو علاء الدين أيدغمش سامحه الله تعالى، فنزل بدار السعادة وحضر الموكب صبيحة يوم الاثنين.

واجتمع طائفة من العامة وسألوه أن لا يغير عليهم خطيبهم تاج الدين عبد الرحيم ابن جلال الدين، فلم يلتفت إليهم، بل عمل على تقليد القاضي تقي الدين السبكي الخطابة ولبس الخلعة، وأكثر العوام لما سمعوا بذلك الغوغاء، وصاروا يجتمعون حلقا حلقا بعد الصلوات ويكثرون الفرحة في ذلك، لما منع ابن الجلال، ولكن بقي هذا لم يباشر السبكي في المحراب.

واشتهر عن العوام كلام كثير وتوعدوا السبكي بالسفاهة عليه إن خطب، وضاق بذلك ذرعا، ونهوا عن ذلك فلم ينتهوا، وقيل لهم ولكثير منهم: الواجب عليكم السمع والطاعة لأولي الأمر، ولو أمر عليكم عبد حبشي.

فلم يرعووا، فلما كان يوم الجمعة العشرين منه اشتهر بين العامة بأن القاضي نزل عن الخطابة لابن الجلال، ففرح العوام بذلك وحشدوا في الجامع، وجاء نائب السلطنة إلى المقوصرة والأمراء معه، وخطب ابن الجلال على العادة، وفرح الناس بذلك وأكثروا من الكلام والهرج.

ولما سلم عليهم الخطيب حين صعد ردوا عليه ردا بليغا، وتكلفوا في ذلك وأظهرا بغضة القاضي السبكي، وتجاهروا بذلك، وأسمعوه كلاما كثيرا، ولما قضيت الصلاة قرئ تقليد النيابة على السدة، وخرج الناس فرحى بخطيبهم، لكونه استمر عليهم، واجتمعوا عليه يسلمون ويدعون له.

وفي يوم الأربعاء ثالث شعبان درّس القاضي برهان الدين بن عبد الحق بالمدرسة العذراوية بمرسوم سلطاني بتوليته وعزل القفجاري، وعقد لهما مجلس يوم الثلاثاء بدار العدل، فرجح جانب القاضي برهان الدين لحاجته وكونه لا وظيفة له.

وفي يوم الجمعة خامسه توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن الجزري أحد المسندين المكثرين الصالحين، مات عن خمس وتسعين سنة رحمه الله، وصلّي عليه يوم الجمعة بالجامع المظفري ودفن بالرواحية.

وفي يوم الأربعاء السابع عشر منه توفي الشيخ الإمام العالم العابد الناسك الصالح الشيخ شمس الدين محمد بن الزرير خطيب الجامع الكريمي بالقبيبات، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ بالجامع المذكور، ودفن قبلي الجامع المذكور، إلى جانب الطريق من الشرق رحمه الله.

واشتهر في أوائل رمضان أن مولودا ولد له رأسان وأربع أيد، وأحضر إلى بين يدي نائب السلطنة، وذهب الناس للنظر إليه في محلة ظاهر باب الفراديس، يقال لها حكى الوزير، وكنت فيمن ذهب إليه في جماعة من الفقهاء يوم الخميس ثالث الشهر المذكور بعد العصر، فأحضره أبوه - واسم أبيه سعادة - وهو رجل من أهل الجبل، فنظرت إليه فإذا هما ولدان مستقلان، فكل قد اشتبكت أفخاذهما بعضهما ببعض، وركب كل واحد منهما ودخل في الآخر والتحمت فصارت جثة واحدة وهما ميتان، فقالوا أحدهما ذكر الآخر أنثى وهما ميتان حال رؤيتي إليهما.

وقالوا إنه تأخر موت أحدهما عن الآخر بيومين أو نحوهما، وكتب بذلك محضر جماعة من الشهود.

وفي هذا اليوم احتيط على أربعة من الأمراء وهم أبناء الكامل صلاح الدين محمد، أمير طبلخانات، وغياث الدين محمد أمير عشرة، وعلاء الدين علي، وابن أيبك الطويل طبلخانات أيضا، وصلاح الدين خليل بن بلبان طرنا طبلخانات أيضا.

وذلك بسبب أنهم اتهموا على ممالأة الملك أحمد بن الناصر الذي في الكرك، ومكاتبته، والله أعلم بحالهم، فقيدوا وحملوا إلى القلعة المنصورة من باب اليسر مقابل باب دار السعادة الثلاث الطبلخانات والغياث من بابها الكبير وفرق بينهم في الأماكن.

وخرج المحمل يوم الخميس خمس عشرة ولبس الخطيب بن الجلال خلعة استقرار الخطابة في هذا اليوم، وركب بها مع القضاة على عادة الخطباء.

وفي هذا الشهر نصب المنجنيق الكبير على باب الميدان الأخضر وطول أكتافه ثمانية عشر ذراعا، وطول سهمه سبعة وعشرون ذراعا، وخرج الناس للفرجة عليه، ورمي به في يوم السبت حجرا زنته ستين رطلا، فبلغ إلى مقابلة القصر من الميدان الكبير، وذكر معلم المجانيق أنه ليس في حصون الإسلام مثله، وأنه عمله الحاج محمد الصالحي ليكون بالكرك، فقدر الله أنه خرج ليحاصر به الكرك، فالله يحسن العاقبة.

وفي أواخره أيضا مسك أربعة أمراء، وهم أقبغا عبد الواحد الذي كان مباشرا الاستدارية للملك الناصر الكبير، فصودر في أيام ابنه المنصور، وأخرج إلى الشام فناب بحمص فسار سيرة غير مرضية، وذمه الناس وعزل عنها وأعطي تقدمة ألف بدمشق، وجعل رأس الميمنة، فلما كان في هذه الأيام اتهم بممالأة السلطان أحمد بن الناصر الذي بالكرك، فمسك وحمل إلى القلعة ومعه الأمير سيف الدين بلو، والأمير سيف الدين سلامش، وكلهم بطبلخانات فرفعوا إلى القلعة المنصورة، فالله يحسن العاقبة.

وفي هذا الشهر خرج قضاء حمص عن نيابة دمشق بمرسوم سلطاني مجدد للقاضي شهاب الدين البارزي، وذلك بعد مناقشة كثيرة وقعت بينه وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وانتصر له بعض الدولة، واستخرج له المرسوم المذكور.

وفيه أيضا أفرد قضاء القدس الشريف أيضا باسم القاضي شمس الدين بن سالم الذي كان مباشرها مدة طويلة قبل ذلك نيابة، ثم عزل عنها وبقي مقيما ببلده غزة، ثم أعيد إليها مستقلا بها في هذا الوقت.

وفي هذا الشهر رجع القاضي شهاب الدين بن فضل الله من الديار المصرية ومعه توقيع بالمرتب الذي كان له أولا كل شهر ألف درهم، وأقام بعمارته التي أنشأها بسفح قاسيون شرقي الصالحية بقرب حمام النحاس.

وفي صبيحة مستهل ذي القعدة خرج المنجنيق قاصدا إلى الكرك على الجمال والعجل، وصحبته الأمير صارم الدين إبراهيم المسبقي، أمير حاجب، كان في الدولة السكرية، هو المقدم عليه يحوطه ويحفظه ويتولى تسييره بطلبه وأصحابه، وتجهز الجيش للذهاب إلى الكرك، وتأهبوا أتم الجهاز، وبرزت أثقالهم إلى ظاهر البلد وضربت الخيام فالله يحسن العاقبة.

وفي يوم الاثنين رابعه توفي الطواشي شبل الدولة كافور السكري، ودفن صبيحة يوم الثلاثاء خامسه في تربته التي أنشأها قديما ظاهر باب الجابية تجاه تربة الطواشي ظهير الدين الخازن بالقلعة، كان قبيل مسجد الدبان رحمه الله، وكان قديما للصاحب تقي الدين توبة التكريتي، ثم اشتراه تنكز بعد مدة طويلة من ابني أخيه صلاح الدين وشرف الدين بمبلغ جيد وعوضهما إقطاعا بزيادة على ما كان بأيديهما. وذلك رغبة في أمواله التي حصلها من أبواب السلطنة، وقد تعصب عليه أستاذه تنكز رحمه الله في وقت وصودر وجرت عليه فصول، ثم سلم بعد ذلك، ولما مات ترك أموالا جزيلة وأوقافا رحمه الله.

وخرجت التجريدة يوم الأربعاء سادسه والمقدم عليها الأمير بدر الدين بن الخطير ومعه مقدم آخر وهو الأمير علاء الدين بن قراسنقر.

وفي يوم السبت سلخ هذا الشهر توفي الشاب الحسن شهاب الدين أحمد بن فرج المؤذن بمئذنة العروس، وكان شهيرا بحسن الصوت ذا حظوة عظيمة عند أهل البلد، وكان رحمه الله كما في النفس وزيادة في حسن الصوت الرخيم المطرب، وليس في القراء ولا في المؤذنين قريب منه ولا من يدانيه في وقته، وكان في آخر وقته على طريقة حسنة، وعمل صالح، وانقطاع عن الناس، وإقبال على شأن نفسه فرحمه الله، وأكرم مثواه، وصلّي عليه بعد الظهر يومئذ ودفن عند أخيه بمقبرة الصوفية.

وفي يوم الخميس خامس ذي الحجة توفي الشيخ بدر الدين بن نصحان شيخ القراء السبع في البلد الشهير بذلك، وصلّي عليه بالجامع بعد الظهر يومئذ، ودفن بباب الفراديس رحمه الله.

وفي يوم الأحد تاسعه وهو يوم عرفة حضر الإقراء بتربة أم الصالح عوضا عن الشيخ بدر الدين بن نصحان القاضي شهاب الدين أحمد بن النقيب البعلبكي، وحضر عنده جماعة من الفضلاء وبعض القضاة، وكان حضوره بغتة، وكان متمرضا، فألقى شيئا من القراءات والإعراب عند قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 178] .

وفي أواخر هذا الشهر غلا السعر جدا وقل الخبز وازدحم الناس على الأفران زحمة عظيمة، وبيع خبز الشعير المخلوط بالزيوان والنقارة، وبلغت الغرارة بمائة وستة وثمانين درهما، وتقلص السعر جدا حتى بيع الخبز كل رطل بدرهم، وفوق ذلك بيسير، ودونه بحسب طيبه ورداءته، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكثر السؤال وجاع العيال، وضعف كثير من الأسباب والأحوال، ولكن لطف الله عظيم فإن الناس مترقبون مغلا هائلا لم يسمع بمثله من مدة سنين عديدة، وقد اقترب أوانه، وشرع كثير من البلاد في حصاد الشعير وبعض القمح مع كثرة الفول وبوادر التوت، فلولا ذلك لكان غير ذلك، ولكن لطف الله بعباده، وهو الحاكم المتصرف الفعال لما يريد لا إله إلا هو.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767