البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة ست وستين وسبعمائة

استهلت هذه السنة والسلطان الملك الأشرف ناصر الدين شعبان، والدولة بمصر والشام هم هم، ودخل المحمل السلطاني صبيحة يوم الاثنين الرابع والعشرين منه، وذكروا أنهم نالهم في الرجعة شدة شديدة من الغلاء وموت الجمال وهرب الجمالين، وقدم مع الركب ممن خرج من الديار المصرية قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح، وقد سبقه التقليد بقضاء القضاة مع خالد تاج الدين يحكم فيما يحكم فيه مستقلا معه ومنفردا بعده.

وفي شهر الله المحرم رسم نائب السلطنة بتخريب قريتين من وادي التيم وهم مشغرا وتلبتاثا، وسبب ذلك أنهما عاصيان وأهلهما مفسدان في الأرض، والبلدان والأرض حصينان لا يصل إليهما إلا بكلفة كثيرة لا يرتقي إليهما إلا فارس فارس. فخربتا وعمر بدلهما في أسفل الوادي، بحيث يصل إليهما حكم الحاكم والطلب بسهولة، فأخبرني الملك صلاح الدين ابن الكامل أن بلدة تلبتاثا عمل فيها ألف فارس، ونقل نقضها إلى أسفل الوادي خمسمائة حمار عدة أيام.

وفي يوم الجمعة سادس صفر بعد الصلاة صلّي على قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن قاضي القضاة شرف الدين أحمد بن أقضى القضاة ابن الحسين المزي الحنفي، وكانت وفاته ليلة الجمعة المذكورة بعد مرض قريب من شهر، وقد جاوز الأربعين بثلاث من السنين. وليّ قضاء قضاة الحنفية، وخطب بجامع يلبغا، وأحضر مشيخة النفيسية، ودرّس بأماكن من مدارس الحنفية، وهو أول من خطب بالجامع المستجد داخل باب كيسان بحضرة نائب السلطنة.

وفي صفر كانت وفاة الشيخ جمال الدين عمر بن القاضي عبد الحي بن إدريس الحنبلي محتسب بغداد، وقاضي الحنابلة بها، فتعصبت عليه الروافض حتى ضرب بين يدي الوزارة ضربا مبرحا، كانت سبب موته سريعا رحمه الله. وكان من القائمين بالحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من أكبر المنكرين على الروافض وغيرهم من أهل البدع رحمه الله، وبل بالرحمة ثراه.

وفي يوم الأربعاء تاسع صفر حضر مشيخة النفيسية الشيخ شمس الديب بن سند، وحضر عنده قاضي القضاة تاج الدين وجماعة من الأعيان، وأورد حديث عبادة بن الصامت «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» أسنده عن قاضي القضاة المشار إليه.

وجاء البريد من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة تاج الدين إلى هناك، فسير أهله قبله على الجمال، وخرجوا يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول جماعة من أهل بيتهم لزيارة أهاليهم هناك، فأقام هو بعدهم إلى أن قدم نائب السلطنة من الرحبة وركب على البريد.

وفي يوم الاثنين خامس عشر جمادى الآخرة رجع قاضي القضاة تاج الدين السبكي من الديار المصرية على البريد وتلقاه الناس إلى أثناء الطريق، واحتفلوا للسلام عليه وتهنئته بالسلامة انتهى. والله أعلم.

قتل الرافضي الخبيث

وفي يوم الخميس سابع عشره أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي، وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنتهما، فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال: لا إله إلا الله علي ولي الله.

ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر، فالتهمه العامة فأوسعوه ضربا مبرحا بحيث كاد يهلك، فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك، فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة، وقال: كانوا على الضلال، فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله: بأنهم كانوا على الضلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه، فأخذ إلى ظهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله.

وكان ممن يقرأ بمدرسة أبي عمر، ثم ظهر عليه الرفض فسجنه الحنبلي أربعين يوما، فلم ينفع ذلك، وما زال يصرح في كل موطن يأمر فيه بالسب حتى كان يومه هذا أظهر مذهبه في الجامع، وكان سبب قتله قبحه الله كما قبح من كان قبله، وقتل بقتله في سنة خمس وخسمين.

استنابة ولي الدين ابن أبي البقاء السبكي

وفي آخر هذا اليوم - أعني يوم الخميس ثامن عشره - حكم أقضى القضاة ولي الدين بن قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء بالمدرسة العادلية الكبيرة نيابة عن قاضي القضاة تاج الدين مع استنابة أقضى القضاة شمس الدين العزي، وأقضى القضاة بدر الدين بن وهيبة، وأما قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح فهو نائب أيضا، ولكنه بتوقيع شريف أنه يحكم مستقلا مع قاضي القضاة تاج الدين.

وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين منه استحضر نائب السلطنة الأمير ناصر الدين بن العاوي متولي البلد ونقم عليه أشياء، وأمر بضربه فضرب بين يديه على أكتافه ضربا ليس بمبرح، ثم عزله واستدعى بالأمير علم الدين سليمان أحد الأمراء العشراوات ابن الأمير صفي الدين بن أبي القاسم البصراوي، أحد أمراء الطبلخانات.

كان قد ولي شد الدواوين ونظر القدس والخليل وغير ذلك من الولايات الكبار، وهو ابن الشيخ فخر الدين عثمان بن الشيخ صفي الدين أبي القاسم التميمي الحنفي.

وبأيديهم تدريس الأمينية التي ببصرى والحكيمية أزيد من مائة سنة، فولاه البلد على تكره منه، فألزمه بها وخلع عليه، وقد كان وليها قبل ذلك فأحسن السيرة وشكر سعيه لديانته وأمانته وعفته، وفرح الناس ولله الحمد.

ولاية قاضي القضاة بهاء الدين السبكي قضاء مصر بعد عزل عز الدين بن جماعة نفسه

ورد الخبر مع البريد من الديار المصرية بأن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة عزل نفسه عن القضاء يوم الاثنين السادس عشر من هذا الشهر، وصمم على ذلك، فبعث الأمير الكبير يلبغا إليه الأمراء يسترضونه فلم يقبل، فركب إليه بنفسه ومع القضاة والأعيان فتلطفوا به فلم يقبل وصمم على الانعزال.

فقال له الأمير الكبير: فعين لنا من يصلح بعدك.

قال: ولا أقول لكم شيئا غير أنه لا يتولى رجل واحد، ثم ولوا من شئتم، فأخبرني قاضي القضاة تاج الدين السبكي أنه قال: لا تولوا ابن عقيل، فعين الأمير الكبير قاضي القضاة بهاء الدين أبا البقاء فقيل: إنه أظهر الامتناع، ثم قبل ولبس الخلعة وباشر يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة قاضي القضاة الشيخ بهاء الدين بن قاضي القضاة تقي الدين السبكي قضاء العساكر الذي كان بيد أبي البقاء.

وفي يوم الاثنين سابع رجب توفي الشيخ علي المراوحي خادم الشيخ أسد المرواحي البغدادي.

وكان فيه مروءة كثيرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدخل على النواب ويرسل إلى الولاة فتقبل رسالته، وله قبول عند الناس، وفيه بر وصدقة وإحسان إلى المحاويج، وبيده مال جيد يتجر له فيه تعلل مدة طويلة ثم كانت وفاته في هذا اليوم فصلّي عليه الظهر بالجامع، ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله.

وفي صبيحة يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر الذي كان نائب الشام فنزل بداره عند مئذنة فيروز، وذهب الناس للسلام عليه بعد ما سلم على نائب السلطنة بدار السعادة، وقد رسم له بطبلخانتين وتقدمة ألف وولاية الولاة من غزة إلى أقصى بلاد الشام، وأكرمه ملك الأمراء إكراما زائدا، وفرحت العامة بذلك فرحا شديدا بعوده إلى الولاية.

وختمت البخاريات بالجامع الأموي وغيره في عدة أماكن من ذلك ستة مواعيد تقرأ على الشيخ عماد الدين ابن كثير في اليوم، أولها بمسجد ابن هشام بكرة قبل طلوع الشمس، ثم تحت النسر، ثم بالمدرسة النورية، وبعد الظهر بجامع تنكز، ثم بالمدرسة العزية، ثم بالكوشك لأم الزوجة الست أسماء بنت الوزير ابن السلعوس، إلى أذان العصر.

ثم من بعد العصر بدار ملك الأمراء أمير علي بمحلة القضاعين إلى قريب الغروب، ويقرأ (صحيح مسلم) بمحراب الحنابلة داخل باب الزيارة بعد قبة النسر وقبل النورية، والله المسئول وهو المعين الميسر المسهل.

وقد قرئ في هذه الهيئة في عدة أماكن أخر من دور الأمراء وغيرهم، ولم يعهد مثل هذا في السنين الماضية، فلله الحمد والمنة.

وفي يوم الثلاثاء عاشر شوال توفي الشيخ نور الدين علي من أبي الهيجاء الكركي الشوبكي، ثم الدمشقي الشافعي، كان معنا في المقري والكتاب، وختمت أنا وهو في سنة إحدى عشرة، ونشأ في صيانة وعفاف، وقرأ على الشيخ بدر الدين بن سيحان للسبع، ولم يكمل عليه ختمة.

واشتغل في (المنهاج) للنووي فقرأ كثيرا منه أو أكثر، وكان ينقل منه ويستحضر، وكان خفيف الروح تحبه الناس لذلك ويرغبون في عشرته لذلك رحمه الله، وكان يستحضر المتشابه في القرآن استحضارا حسنا متقنا كثير التلاوة له، حسن الصلاة يقوم الليل، وقرأ على (صحيح البخاري) بمشهد ابن هشام عدة سنين، ومهر فيه.

وكان صوته جهوريا فصيح العبارة، ثم وليّ مشيخة الحلبية بالجامع وقرأ في عدة كراسي بالحائط الشمالي، وكان مقبولا عند الخاصة والعامة، وكان يداوم على قيام العشر الأخير في محراب الصحابة مع عدة قراء يبتون فيه ويحيون الليل.

ولما كان في هذه السنة أحيا ليلة العيد وحده بالمحراب المذكور ثم مرض خمسة أيام، ثم مات بعد الظهر يوم الثلاثاء عاشر شوال بدرب العميد صلّي عليه العصر بالجامع الأموي، ودفن بمقابر الباب الصغير عنده والده في تربة لهم، وكانت جنازته حافلة وتأسف الناس عليه، رحمه الله وبل بالرحمة ثراه.

وقد قارب خمسا وستين سنة، وترك بنتا سباعية اسمها عائشة، وقد أقرأها شيئا من القرآن إلى تبارك، وحفظها الأربعين النووية جبرها ربها ورحم أباها آمين.

وخرج المحمل الشامي والحجيج يوم الخميس ثاني عشرة، وأميرهم الأمير علاء الدين علي بن علم الدين الهلالي، أحد أمراء الطبلخانات.

وتوفي الشيخ عبد الله الملطي يوم السبت رابع عشرة، وكان مشهورا بالمجاورة بالكلاسة في الجامع الأموي، له أشياء كثيرة من الطراريح والآلات الفقرية، ويلبس على طريقة الحريرية وشكله مزعج، ومن الناس من كان يعتقد فيه الصلاح، وكنت ممن يكرهه طبعا وشرعا أيضا.

وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة قدم البريد من ناحية المشرق ومعهم قماقم ماء من عين هناك من خاصيته إنه يتبعه طير يسمى السمرمر أصفر الريش قريب من شكل الخطاف من شأنه إذا قدم الجراد إلى البلد الذي هو فيه أنه يفنيه ويأكله أكلا سريعا، فلا يلبث الجراد إلا قليلا حتى يرحل أو يؤكل على ما ذكر، ولم أشاهد ذلك.

وفي المنتصف من ذي الحجة كمل بناء القيسارية التي كانت معملا بالقرب من دار الحجارة، قبلي سوق الدهشة الذي للرجال، وفتحت وأكريت دهشة لقماش النساء، وذلك كله بمرسوم ملك الأمراء ناظر الجامع المعمور رحمه الله.

وأخبرني الصدر عز الدين الصيرفي المشارف بالجامع أنه غرم عليها من مال الجامع قريب ثلاثين ألف درهم انتهى.

طرح مكس القطن المغزول البلدي والمجلوب

وفي أواخر هذا الشهر جاء المرسوم الشريف بطرح مكس القطن المغزول البلدي والجلب أيضا، ونودي بذلك في البلد، فكثرت الدعوات لمن أمر بذلك، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا ولله الحمد والمنة.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767