البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة خمس وستين وسبعمائة



ثم دخلت سنة خمس وستين وسبعمائة


استهلت هذه السنة وسلطان الديار المصرية والشامية والحرمين وما يتبع ذلك الملك الأشرف ناصر الدين شعبان بن سيدي حسين بن السلطان الملك الناصر محمد بن المنصور وقلاوون الصالحي. وهو في عمر عشر سنين، ومدبر الممالك بين يديه الأمير الكبير نظام الملك سيف الدين يلبغا الخاصكي، وقضاة مصر هم المذكورون في السنة التي قبلها، ووزيرها فخر الدين بن قزوينة، ونائب دمشق الأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي، وهو مشكور السيرة. وقضاتها هم المذكورون في السنة التي قبلها، وناظر الدواوين بها الصاحب سعد الدين ماجد، وناظر الجيش علم الدين داود، وكاتب السر القاضي فتح الدين بن الشهيد، ووكيل بيت المال القاضي جمال الدين بن الرهاوي.

استهلت هذه السنة وداء الفناء موجود في الناس، إلا أنه خف وقلّ ولله الحمد.

وفي يوم السبت توجه قاضي القضاة - وكان بهاء الدين أبو البقاء السبكي - إلى الديار المصرية مطلوبا من جهة الأمير يلبغا وفي الكتاب إجابته له إلى مسائل، وتوجه بعده قاضي القضاة تاج الدين الحاكم بدمشق وخطيبها يوم الاثنين الرابع عشر من المحرم، على خيل البريد.

وتوجه بعدهما الشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي، مطلوبا إلى الديار المصرية، وكذلك توجه الشيخ زين الدين المنفلوطي مطلوبا.

وتوفي في العشر الأوسط من المحرم صاحبنا الشيخ شمس الدين العطار الشافعي، كان لديه فضيلة واشتغال، وله فهم وعلق بخطه فوائد جيدة، وكان إماما بالسجن من مشهد علي بن الحسين بجامع دمشق، ومصدرا بالجامع، وفقيها بالمدارس، وله مدرسة الحديث الوادعية، وجاوز الخمسين بسنوات، ولم يتزوج قط.

وقدم الركب الشامي إلى دمشق في اليوم الرابع والعشرين من المحرم، وهم شاكرون مثنون في كل خير بهذه السنة أمنا ورخصا ولله الحمد.

وفي يوم الأحد حادي عشر صفر درّس بالمدرسة الفتحية صاحبنا الشيخ عماد الدين إسماعيل بن خليفة الشافعي، وحضر عنده جماعة من الأعيان والفضلاء، وأخذ في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا} [التوبة: 36] .

وفي يوم الخميس خامس عشره نودي في البلد على أهل الذمة بإلزامهم بالصغار وتصغير العمائم، وأن لا يستخدموا في شيء من الأعمال، وأن لا يركبوا الخيل ولا البغال، ويركبون الحمير بالأكف بالعرض، وأن يكون في رقابهم ورقاب نسائهم في الحمامات أجراس، وأن يكون أحد النعلين أسود مخالفا للون الأخرى، ففرح بذلك المسلمون ودعوا للآمر بذلك.

وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول قدم قاضي القضاة تاج الدين من الديار المصرية مستمرا على القضاة والخطابة، فتلقاه الناس وهنئوه بالعود والسلام.

وفي يوم الخميس سابعه لبس القاضي الصاحب البهنسي الخلعة لنظر الدواوين بدمشق، وهنأه الناس، وباشر بصرامة واستعمل في غالب الجهات من أبناء السبيل.

وفي يوم الاثنين حادي عشره ركب قاضي القضاة بدر الدين بن أبي الفتح على خيل البريد إلى الديار المصرية لتولية قضاء قضاة الشافعية بدمشق، عن رضا من خاله قاضي القضاة تاج الدين، ونزوله عن ذلك.

وفي يوم الخميس خامس ربيع الأول احترقت الباسورة التي ظاهر باب الفرج على الجسر، ونال حجارة الباب شيء من حريقها فاتسعت، وقد حضر طفيها نائب السلطنة والحاجب الكبير، ونائب القلعة وغيرهم.

وفي صبيحة هذا اليوم زاد النهر زيادة عظيمة سبب كثرة الأمطار وذلك في أوائل كانون الثاني، وركب الماء سوق الخيل بكماله، ووصل إلى ظاهر باب الفراديس، وتلك النواحي، وكسر جسر الخشب الذي عند جامع يلبغا، وجاء فصدم به جسر الزلابية فكسره أيضا.

وفي يوم الخميس ثاني عشره صرف حاجب الحجاب قماري عن المباشرة بدار السعادة، وأخذت القضاة من يده وانصرف إلى داره في أقل من الناس، واستبشر بذلك كثير من الناس، لكثرة ما كان يفتات على الأحكام الشرعية.

وفي أواخره اشتهر موت القاضي تاج الدين المناوي بديار مصر وولاية قاضي القضاة بهاء الدين بن أبي البقاء السبكي مكانه بقضاء العساكر بها، ووكالة السلطان أيضا، ورتب له مع ذلك كفايته.

وتولى في هذه الأيام الشيخ سراج الدين البلقيني إفتاء دار العدل مع الشيخ بهاء الدين أحمد بن قاضي القضاة السبكي بالشام، وقد وليّ هو أيضا القضاء بالشام كما تقدم، ثم عاد إلى مصر موفرا مكرما وعاد أخوه تاج الدين إلى الشام، وكذلك ولوا مع البلقيني إفتاء دار العدل الحنفي شيخا يقال له الشيخ شمس الدين بن الصائغ، وهو مفتي حنفي أيضا.

وفي يوم الاثنين سابع ربيع الأول توفي الشيخ نور الدين محمد بن الشيخ أبي بكر قوام بروايتهم بسفح جبل قاسيون، وغدا الناس إلى جنازته.

وقد كان من العلماء الفضلاء الفقهاء بمذهب الشافعي، درّس بالناصرية البرانية مدة سنين بعد أبيه، وبالرباط الدويداري داخل باب الفرج، وكان يحضر المدارس، ونزل عندنا بالمدرسة النجيبية، وكان يحب السنة ويفهمها جيدا رحمه الله.

وفي مستهل جمادى الأولى وليّ قاضي القضاة تاج الدين الشافعي مشيخة دار الحديث بالمدرسة التي فتحت بدرب القبلي، وكانت دارا لوافقها جمال الدين عبد الله بن محمد بن عيسى التدمري، الذي كان أستاذا للأمير طاز. وجعل فيها درس للحنابلة، وجعل المدرس لهم الشيخ برهان الدين إبراهيم بن قيم الجوزية، وحضر الدرس وحضر عنده بعض الحنابلة بالدرس، ثم جرت أمور يطول بسطها.

واستحضر نائب السلطنة شهود الحنابلة بالدرس واستفرد كلا منهم يسأله كيف شهد في أصل الكتاب - المحضر- الذي أثبتوا عليهم، فاضطروا في الشهادات فضبط ذلك عليهم، وفيه مخالفة كبيرة لما شهدوا به في أصل المحضر، وشنع عليهم كثير من الناس، ثم ظهرت ديون كثيرة لبيت طاز على جمال الدين التدمري الواقف، وطلب من القاضي المالكي أن يحكم بإبطال ما حكم به الحنبلي، فتوقف في ذلك.

وفي يوم الاثنين الحادي والعشرين منه، قرئ كتاب السلطان بصرف الوكلاء من أبواب القضاة الأربعة فصرفوا.

وفي شهر جمادى الآخرة توفي الشيخ شمس الدين شيخ الحنابلة بالصالحية ويعرف بالبيري يوم الخميس ثامنه، صلّي عليه بالجامع المظفري بعد العصر ودفن بالسفح، وقد قارب الثمانين.

وفي الرابع عشر منه عقد بدار السعادة مجلس حافل اجتمع فيه القضاة الأربعة وجماعة من المفتيين، وطلبت فحضرت معهم بسبب المدرسة التدمرية وقرابة الواقف ودعواهم أنه وقف عليهم الثلث، فوقف الحنبلي في أمرهم ودافعهم عن ذلك أشد الدفاع.

وفي العشر الأول من رجب وجد جراد كثير منتشر، ثم تزايد وتراكم وتضاعف وتفاقم الأمر بسببه، وسد الأرض كثرة وعاث يمينا وشمالا، وأفسد شيئا كثيرا من الكروم والمقاني والزروعات النفيسة، وأتلف للناس شيئا كثيرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الاثنين ثالث شعبان توجه القضاة ووكيل بيت المال إلى باب كيسان فوقفوا عليه وعلى هيئته ومن نية نائب السلطنة فتحه ليتفرج الناس به. وعدم للناس غلات كثيرة وأشياء من أنواع الزروع بسبب كثرة الجراد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فتح باب كيسان بعد غلقه نحوا من مائتي سنة

وفي يوم الأربعاء السادس والعشرين من شعبان اجتمع نائب السلطنة والقضاة عند باب كيسان، وشرع الصناع في فتحه عن مرسوم السلطان الوارد من الديار المصرية، وأمر نائب السلطنة وإذن القضاة في ذلك، واستهل رمضان وهم في العمل فيه.

وفي العشر الأخير من شعبان توفي الشريف شمس الدين محمد بن علي بن الحسن بن حمزة الحسيني المحدّث المحصّل، المؤلف لأشياء مهمة، وفي الحديث قرأ وسمع وجمع وكتب أسماء رجال (بمسند الإمام أحمد)، واختصر كتابا في أسماء الرجال مفيدا، وولّي مشيخة الحديث التي وقفها في داره بهاء الدين القاسم بن عساكر، داخل باب توما، وختمت البخاريات في آخر شهر رمضان.

ووقع بين الشيخ عماد الدين بن السراج قارئ البخاري عند محراب الصحابة، وبين الشيخ بدر الدين بن الشيخ جمال الدين الشريشي، وتهاترا على رؤوس الأشهاد بسبب لفظة يبتز بمعنى يدخر، وفي نسخة يتير، فحكى ابن السراج عن الحافظ المزي أن الصواب يبتز من قول العرب عزبز، وصدق في ذلك، فكأن منازعه خطأ ابن المزي. فانتصر الآخر للحافظ المزي، فقاد منه بالقول ثم قام والده الشيخ جمال الدين المشار إليه فكشف رأسه على طريقة الصوفية، فكأن ابن السراج لم يلتفت إليه، وتدافعوا إلى القاضي الشافعي فانتصر للحافظ المزي، وجرت أمور، ثم اصطلحوا غير مرة وعزم أولئك على كتب محضر على ابن السراج، ثم انطفأت تلك الشرور.

وكثر الموت في أثناء شهر رمضان وقاربت العدة المائة، وربما جاوزت المائة، وربما كانت أقل منها وهو الغالب، ومات جماعة من الأصحاب والمعارف، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وكثر الجراد في البساتين وعظم الخطب بسببه، وأتلف شيئا كثيرا من الغلات والثمار والخضراوات، وغلت الأسعار وقلت الثمار، وارتفعت قيم الأشياء فبيع الدبس بما فوق المائتين القنطار، والرز بأزيد من ذلك وتكامل فتح باب كيسان وسموه الباب القبلي، ووضع الجسر منه إلى الطريق السالكة، وعرضه أزيد من عشرة أذرع بالنجاري لأجل عمل الباسورة جنبتيه، ودخلت المارة عليه من المشاة والركبان. وجاء في غاية الحسن، وسلك الناس في حارات اليهود، وانكشف دخلهم وأمن الناس من دخنهم وغشهم ومكرهم وخبثهم، وانفرج الناس بهذا الباب المبارك.

واستهل شوال والجراد قد أتلف شيئا كثيرا من البلاد ورعى الخضروات والأشجار، وأوسع أهل الشام في الفساد، وغلت الأسعار، واستمر الفناء وكثر الضجيج والبكاء، وفقدنا كثيرا من الأصحاب والأصدقاء، فلان مات.

وقد تناقص الفناء في هذه المدة وقلّ الوقع وتناقص للخمسين.

وفي شهر ذي القعدة تقاصر الفناء ولله الحمد، ونزل العدد إلى العشرين فما حولها، وفي رابعه دخل بالفيل والزرافة إلى مدينة دمشق من القاهرة، فأنزل في الميدان الأخضر قريبا من القصر الأبلق، وذهب الناس للنظر إليهما على العادة.

وفي يوم الجمعة تاسعه صلّي على الشيخ جمال الدين عبد الصمد بن خليل البغدادي، المعروف بابن الخضري، محدث بغداد وواعظها، كان من أهل السنة والجماعة رحمه الله انتهى.

تجديد خطبة ثانية داخل سور دمشق منذ فتوح الشام

اتفق ذلك في يوم الجمعة الثالث، ثم تبين أنه الرابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة بالجامع الذي جدد بناءه نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، بدرب البلاغة قبلي مسجد درب الحجر، داخل باب كيسان المجدد فتحه في هذا الحين كما تقدم، وهو معروف عند العامة بمسجد الشاذوري، وإنما هو في تاريخ ابن عساكر مسجد الشهرزوري.

وكان المسجد رث الهيئة قد تقادم عهده مدة دهر، وهجر فلا يدخله أحد من الناس إلا قليل، فوسعه من قبليه وسقفه جديدا، وجعل له صرحة شمالية مبلطة، ورواقات على هيئة الجوامع، والداخل بأبوابه على العادة، وداخل ذلك رواق كبير له جناحان شرقي وغربي، بأعمدة وقناطر.

وقد كان قديما كنيسة فأخذت منهم قبل الخمسمائة، وعملت مسجدا، فلم يزل كذلك إلى هذا الحين، فلما كمل كما ذكرنا وسيق إليه الماء من القنوات، ووضع فيه منبر مستعمل كذلك.

فيومئذ ركب نائب السلطنة ودخل البلد من باب كيسان وانعطف على حارة اليهود حتى انتهى إلى الجامع المذكور، وقد استكف الناس عنده من قضاة وأعيان وخاصة وعامة، وقد عين لخطابته الشيخ صدر الدين بن منصور الحنفي، مدرّس الناجية وإمام الحنفية بالجامع الأموي.

فلما أذن الأذان الأول تعذر عليه الخروج من بيت الخطابة، قيل لمرض عرض له، وقيل لغير ذلك من حصر أو نحوه، فخطب الناس يومئذ قاضي القضاة جمال الدين الحنفي الكفري، خدمة لنائب السلطنة.

واستهل شهر ذي الحجة وقد رفع الله الوباء عن دمشق وله الحمد والمنة.

وأهل البلد يموتون على العادة ولا يمرض أحد بتلك العلة، ولكن المرض المعتاد، انتهى.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767