البداية والنهاية/الجزء الرابع عشر/ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسبعمائة



ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسبعمائة


استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية والشامية والحرمين وغير ذلك الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي، ولا نائب ولا وزير بمصر، وإنما يرجع تدبير المملكة إلى الأمير سيف الدين شيخون، ثم الأمير سيف الدين صرغتمش، ثم الأمير عز الدين مغلطاي الدوايدار.

وقضاة مصرهم المذكورون في التي قبلها سوى الشافعي فإنه ابن المتوفي قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز، وطرابلس الأمير سيف الدين منجك، وبصغد الأمير شهاب الدين بن صبح، وبحماة يدمر العمري، وبحمص علاء الدين بن المعظم، وببعلبك الأمير ناصر الدين الأقوس.

وفي العشر الأول من ربيع الأول تكامل إصلاح بلاط الجامع الأموي، وغسل فصوص المقصورة والقبة، وبسط بسطا حسنا، وبيضت أطباق القناديل، وأضاء حاله جدا، وكان المستحث على ذلك الأمير علاء الدين أيدغمش أحد أمراء الطبلخانات، بمرسوم نائب السلطنة له في ذلك.

وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة صلّي على الأمير سيف الدين براق أمير أرجو بجامع تنكز، ودفن بمقابر الصوفية، وكان مشكور السيرة كثير الصلاة والصدقة محبا للخير وأهله، من أكبر أصحاب الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى.

وقد رسم لولديه ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر كل منهما بعشرة أرماح، ولناصر الدين بمكان أبيه في الوظيفة بإسطبل السلطان.

وفي يوم الخميس رابع شهر جمادى الأولى خلع على الأميرين الأخوين ناصر الدين محمد وسيف الدين أبي بكر ولدي الأمير سيف الدين براق رحمه الله تعالى، بأميرين عشرتين.

ووقع في هذا الشهر نزاع بين الحنابلة في مسألة المناقلة، وكان ابن قاضي الجبل الحنبلي يحكم بالمناقلة في قرار دار الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي حاجب الحجاب إلى أرض أخرى يجعلها وقفا على ما كانت قرار داره عليه، ففعل ذلك بطريقة ونفذه القضاة الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي.

فغضب القاضي الحنبلي وهو قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي من ذلك، وعقد بسبب ذلك مجالس، وتطاول الكلام فيه، وادّعى كثير منهم أن مذهب الإمام أحمد في المناقلة إنما هو في حال الضرورة، وحيث لا يمكن الانتفاع بالموقوف، فأما المناقلة لمجرد المصلحة والمنفعة الراجحة فلا، وامتنعوا من قبول ما قرره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ذلك.

ونقله عن الإمام أحمد من وجوه كثيرة من طريق ابنيه صالح وحرب وأبي داود وغيرهم، أنها تجوز للمصلحة الراجحة، وصنف في ذلك مسألة مفردة وقفت عليها - يعني الشيخ عماد الدين بن كثير - فرأيتها في غاية الحسن والإفادة، بحيث لا يتخالج من اطلع عليها ممن يذوق طعم الفقه أنها مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

فقد احتج أحمد في ذلك في رواية ابنه صالح بما رواه عن يزيد بن عوف، عن المسعودي، عن القاسم بن محمد: أن عمر كتب إلى ابن مسعود أن يحول المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق التمارين، ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق، ففعل ذلك.

فهذا فيه أوضح دلالة على ما استدل به فيها من النقل بمجرد المصلحة فإنه لا ضرورة إلى جعل المسجد العتيق سوقا، على أن الإسناد فيه انقطاع بين القاسم وبين عمر وبين القاسم وابن مسعود، ولكن قد جزم به صاحب المذهب، واحتج به وهو ظاهر واضح في ذلك، فعقد المجلس في يوم الاثنين الثامن والعشرين من الشهر.

وفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الأولى وقع حريق عظيم ظاهر باب الفرج احترق فيه بسببه قياسير كثيرة لطاز ويلبغا، وقيسرية الطوشاي لبنت تكز، وأخر كثيرة ودور ودكاكين، وذهب للناس شيء كثير من الأمتعة والنحاس والبضائع وغير ذلك، مما يقاوم ألف ألف وأكثر خارجا عن الأموال، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد ذكر كثير من الناس أنه كان في هذه القياسير شر كثير من الفسق والربا والزغل وغير ذلك.

وفي السابع والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بأن الفرنج لعنهم الله استحوذوا على مدينة صفد: قدموا في سبعة مراكب وقتلوا طائفة من أهلها ونهبوا شيئا كثيرا وأسروا أيضا، وهجموا على الناس وقت الفجر يوم الجمعة، وقد قتل منهم المسلمون خلقا كثيرا، وكسروا مركبا من مراكبهم، وجاء الفرنج في عشية السبت قبل العصر، وقدم الوالي وهو جريح مثقل، وأمر نائب السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية فساروا تلك الليلة ولله الحمد.

وتقدمهم حاجب الحجاب وتحدر إليهم نائب صفد الأمير شهب الدين بن صبح، فسبق الجيش الدمشقي، ووجد الفرنج قد برزوا بما غنموا من الأمتعة والأسارى إلى جزيرة تلقاء صيدا في البحر، وقد أسر المسلمون منهم في المعركة شيخا وشابا من أبناء أشرافهم، وهو الذي عاقهم عن الذهاب، فراسلهم الجيش في إنفكاك الأساري من أيديهم فبادرهم عن كل رأس بخمسمائة فأخذوا من ديوان الأسارى مبلغ ثلاثين ألفا، ولم يبق معهم ولله الحمد أحد.

واستمر الصبي من الفرنج مع المسلمين، وأسلم ودفع إليهم الشيخ الجريح، وعطش الفرنج عطشا شديدا، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك فبادرهم الجيش إليه فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدة، فرحلوا ليلة الثلاثاء منشمرين بما معهم من الغنائم، وبعثت رؤوس جماعة من الفرنج ممن قتل في المعركة فنصبت على القلعة بدمشق.

وجاء الخبر في هذا الوقت بأن إيناس قد أحاط بها الفرنج، وقد أخذوا الربيض وهم محاصرون القلعة، وفيها نائب البلد، وذكروا أنهم قتلوا خلقا كثيرا من أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وذهب صاحب حلب في جيش كثيف نحوهم والله المسئول أن يظفرهم بحوله وقوته، وشاع بين العامة أيضا أن الإسكندرية محاصرة ولم يتحقق ذلك إلى الآن، وبالله المستعان.

وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قدم رؤوس من قتلى الفرنج على صيدا، وهي بضع وثلاثون رأسا، فنصبت على شرفات القلعة ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد.

وفي ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وقع حريق عظيم داخل باب الصغير من مطبخ السكر الذي عند السويقة الملاصقة لمسجد الشناشين، فاحترق المطبخ وما حوله إلى حمام أبي نصر، واتصل بالسويقة المذكورة وما هنالك من الأماكن، فكان قريبا أو أكثر من الحريق ظاهر باب الفرج فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحضر نائب السلطنة وذلك أنه كان وقت صلاة العشاء ولكن كان الريح قويا، وذلك بتقدير العزيز العليم.

وتوفي الشيخ عز الدين محمد بن إسماعيل بن عمر الحموي أحد مشايخ الرواة في ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، وصلّي عليه من الغد بالجامع الأموي بعد الظهر ودفن بمقابر باب الصغير.

وكان مولده في ثاني ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة، فجمع الكثير وتفرد بالرواية عن جماعة في آخر عمره، وانقطع بموته سماع السنن الكبير للبيهقي، رحمه الله.

ووقع حريق عظيم ليلة الجمعة خامس عشر رجب بمحلة الصالحية من سفح قاسيون، فاحترق السوق القبلي من جامع الحنابلة بكماله شرقا وغربا، وجنوبا وشمالا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي يوم الجمعة خامس شهر رمضان خطب بالجامع الذي أنشأه سيف الدين يلبغا الناصري غربي سوق الخيل، وفتح في هذا اليوم وجاء في غاية الحسن والبهاء، وخطب الشيخ ناصر الدين بن الربوة الحنفي.

وكان قد نازعه فيه الشيخ شمس الدين الشافعي الموصلي، وأظهر ولاية من واقفه يلبغا المذكور، ومراسيم شريفة سلطانية، ولكن قد قوي عليه ابن الربوة بسبب أنه نائب عن الشيخ قوام الدين الأتقاني الحنفي، وهو مقيم بمصر، ومعه ولاية من السلطان متأخرة عن ولاية الموصلي، فرسم لابن الربوة، فلبس يومئذ الخلعة السوداء من دار السعادة وجاؤوا بين يديه بالسناجق السود الخليفية. والمؤذنون يكبرون على العادة، وخطب يومئذ خطبة حسنة أكثرها في فضائل القرآن، وقرأ في المحراب بأول سورة طه، وحضر كثير من الأمراء والعامة والخاصة، وبعض القضاة، وكان يوما مشهودا، وكنت ممن حضر قريبا منه.

والعجب أني وقفت في شهر ذي القعدة على كتاب أرسله بعض الناس إلى صاحب له من بلاد طرابلس وفيه: والمخدوم يعرف الشيخ عماد الدين بما جرى في بلاد السواحل من الحريق من بلاد طرابلس إلى آخر معاملة بيروت إلى جميع كسروان، أحرق الجبال كلها ومات الوحوش كلها مثل النمور والدب والثعلب والخنزير من الحريق، ما بقي للوحوش موضع يهربون فيه، وبقي الحريق عليه أياما وهرب الناس إلى جانب البحر من خوف النار واحترق زيتون كثير، فلما نزل المطر أطفأه بإذن الله تعالى - يعني الذي وقع في تشرين وذلك في ذي القعدة من هذه السنة - قال: ومن العجب أن ورقة من شجرة وقعت في بيت من مدخنته فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث والثياب وغير ذلك، ومن حلية حرير كثير، وغالب هذه البلاد للدرزية والرافضة.

نقلته من خط كاتبه محمد بن يلبان إلى صاحبه، وهما عندي بقبان فيالله العجب.

وفي هذا الشهر - يعني ذي القعدة - وقع بين الشيخ إسماعيل بن العز الحنفي وبين أصحابه من الحنفية مناقشة سبب اعتدائه على بعض الناس في محاكمة، فاقتضى ذلك إحضاره إلى مجلس الحكم ثلاثة أيام كمثل المتمرد عندهم، فلما لم يحضر فيها حكم عليه القاضي شهاب الدين الكفري نائب الحنفي بإسقاط عدالته، ثم ظهر خبره بأنه قصد بلاد مصر، فأرسل النائب في أثره من يرده فعنفه، ثم أطلقه إلى منزله، وشفع فيه قاضي القضاة الحنفي فاستحسن ذلك ولله الحمد والمنة.

البداية والنهاية - الجزء الرابع عشر
698 | 699 | 700 | 701 | 702 | 703 | 704 | 705 | 706 | 707 | 708 | 709 | 710 | 711 | 712 | 713 | 714 | 715 | 716 | 717 | 718 | 719 | 720 | 721 | 722 | 723 | 724 | 725 | 726 | 727 | 728 | 729 | 730 | 731 | 732 | 733 | 734 | 735 | 736 | 737 | 738 | 739 | 740 | 741 | 742 | 743 | 744 | 745 | 746 | 747 | 748 | 749 | 750 | 751 | 752 | 753 | 754 | 755 | 756 | 757 | 758 | 759 | 760 | 761 | 762 | 763 | 764 | 765 | 766 | 767