الروح/المسألة الحادية والعشرون/فصل7
وتريه صورة الصدق مع اللّه وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالت الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم وأنه يعرض نفسه من البلاء لما لا يطيق وأنه يصير غرضا لسهام الطاعنين. وأمثال ذلك من الشبه التي تقيمها النفس السحّارة والخيالات التي تخيلها، ويريه حقيقة الجهاد في صورة تقتل فيها النفس وتنكح المرأة ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال، وتريه حقيقة الزكاة والصدقة في صورة مفارقة المال ونقصه وخلو اليد منه واحتياجه إلى الناس ومساواته للفقير وعوده بمنزلته، وتريه حقيقة إثبات صفات الكمال للّه في صورة التشبيه والتمثيل فيفر من التصديق بها وينفر غيره، ونريه حقيقة التعطيل والإلحاد فيها في صورة التنزيه والتعظيم.
وأعجب من ذلك أنها تضاهي ما يحبه اللّه ورسوله من الصفات والأخلاق والأفعال بما يبغضه منها، وتلبس على العبد أحد الأمرين بالآخر، ولا يخلص من هذا إلا أرباب البصائر، فإن الأفعال تصدر عن الإرادات وتظهر على الأركان من النفسي الأمّارة والمطمئنة ليتباين الفعلان في الباطن، ويشتبهان في الظاهر، ولذلك أمثلة كثيرة منها المداراة والمداهنة فالأول من المطمئنة والثاني من الأمّارة، وخشوع الإيمان وخشوع النفاق، وشرف النفس والنيّة والحمية والجفاء، والتواضع والمهانة، والقوة في أمر اللّه والعلو في الأرض والحمية للّه والغضب له والحمية للنفس والغضب لها، والجود والسرف، والمهابة والكبر، والصيانة والتكبر، والشجاعة والجرأة، والحزم والجبن والاقتصاد والشح، والاحتراز وسوء الظن، والفراسة والظن، والنصيحة والغيبة، والهدية والرشوة، والصبر والقسوة، والعفو والذل، وسلامة القلب والبله والغفلة، والثقة، والغرة والرجاء والتمني، والتحدث بنعم اللّه والفخر بها، ومرح القلب وفرح النفس. ورقة القلب والجزع، والموجدة والحقد، والمنافسة والحسد، وحب الرئاسة وحب الإمامة والدعوة إلى اللّه، والحب للّه والحب مع اللّه، والتوكل والعجز، والاحتياط والوسوسة، وإلهام الملك، وإلهام الشيطان، والإناة والتسويف، والاقتصاد والتقصير، والاجتهاد والغلو والنصيحة والتأنيب والمبادرة والعجلة، والأخبار بالحال عند الحاجة والشكوى.
فالشي ء الواحد تكون صورته واحدة وهو منقسم إلى محمود ومذموم كالفرح والحزن، والأسف والغضب، والغيرة والخيلاء، والطمع والتجمل، والخشوع والحسد والغبطة والجرأة والتحسر والحرص، والتنافس وإظهار النعمة والحلف والمسكنة والصمت والزهد والورع والتخلي والعزلة، والأنفة والحمية والغيبة، وفي الحديث: «أن من الغيرة ما يحبها اللّه ومنها ما يكرهه، فالغيرة التي يحبها اللّه الغيرة في ريبة، والتي يكرهها الغيرة في غير ريبة، وأن من الخيلاء ما يحبه اللّه ومنها ما يكرهه. فالتي يحب الخيلاء في الحرب» 1، وفي الصحيح أيضا: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه اللّه مالا وسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الحكمة فهو يقتضي بها ويعلمها» 2 وفي الصحيح أيضا: «إن اللّه رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» 3. وفيه أيضا: «من أعطى حظه من الرفق، فقد أعطى حظه من الخير» 4 فالرفق شي ء والتواني والكسل شي ء فإن المتواني يتثاقل عن مصلحته بعد إمكانها فيتقاعد عنها، والرفيق يتلطف في تحصيلها بحسب الإمكان مع المطاوعة وكذلك المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المداري يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله ويتركه على هواه فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق، ولقد ضرب لذلك مثل مطابق وهو حال رجل به قرحة قد آلمته فجاءه الطبيب المداوي الرفيق فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت أخذ في بطنها برفق وسهولة، حتى أخرج ما فيها ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده ويقطع مادته ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبه اللحم ثم يذر عليها بعد نبات اللحم ما ينشف رطوبتها ثم يشد عليها الرباط ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت، والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها وهذه لا شي ء فاسترها عن العيون بخرقة ثم آله عنها فلا تزال مدتها تقوى وتستحكم حتى عظم فسادها، وهذا المثل أيضا مطابق كل المطابقة لحال النفس الأمّارة مع المطمئنة فتأمله، فإذا كانت هذه حال قرحة بقدر الحمصة فكيف بسقم هاج من نفس أمّارة بالسوء، هي معدن الشهوات ومأوى كل فسق وقد قارنها شيطان في غاية المكر والخداع يعدها ويمنيها ويسحرها بجميع أنواع السحر حتى يخيل إليها النافع ضارا والضار نافعا والحسن قبيحا والقبيح جميلا، وهذا لعمروا اللّه من أعظم أنواع السحر، ولهذا يقول سبحانه: ﴿فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون:89] والذي نسبوا إليه الرسل من كونهم مسحورين هو الذي أصابهم بعينه وهم أهله لا رسل اللّه صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين، كما أنهم نسبوهم إلى الأنبياء والرسل وأمراء الأمم بالاستعاذة من شر النفس الأمّارة وصاحبها وقرينها الشيطان إلا لأنهما أصل كل شر وقاعدته ومنعته وهما متساعدان عليه متعاونان.
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما ... بألحم داج عوض لا نتفرق
قال اللّه تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ ٩٨﴾ [النحل:98] وقال: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَـٰنِ نَزۡغࣱ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٠٠﴾ [الأعراف:200] وقال ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنۡ هَمَزَ ٰتِ ٱلشَّيَـٰطِينِ ٩٧ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحۡضُرُونِ ٩٨﴾ [المؤمنون:97–98] وقال تعالى:﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ ١ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ٢ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ٣ وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّـٰثَـٰتِ فِی ٱلۡعُقَدِ ٤ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ٥﴾ [الفلق:1–5] فهذا استعاذة من شر النفس وقال: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ ١ مَلِكِ ٱلنَّاسِ ٢ إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ ٣ مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ ٤ ٱلَّذِی يُوَسۡوِسُ فِی صُدُورِ ٱلنَّاسِ ٥ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ ٦﴾ [الناس:1–6] فهذا استعاذة من قرينها وصاحبها وبئس القرين والصاحب، فأمر اللّه سبحانه نبيه وأتباعه بالاستعاذة بربوبيته التامة الكاملة من هذين الخلقين العظيم شأنهما في الشر والفساد؛ والقلب بين هذه العدوين لا يزال شرهما يطرقه وينتابه وأول ما يدب فيه السقم من النفس الأمّارة من الشهوة وما يتبعها من الحرب والحرص والطلب والغضب ويتبعه من الكبر والحسد والظلم والتسلط فيعلم الطبيب الغاش الخائن بمرضه فيعوده ويصف له أنواع السموم والمؤذيات. يخيل إليه بسحره أن شفاءه فيها. يتفق ضعف القلب بالمرض وقوة النفس الأمّارة والشيطان وتتابع إعدادها وأنه فقد حاضر ولذة عاجلة والداعي إليه يدعو من كل ناحية والهوى ينفذ والشهوة تهون والنفس بالأكثر والتشبه بهم والرضا بأن يصيبه ما أصابهم فكيف يستجيب مع هذه القواطع وأضعافها لداعي الإيمان ومنادي الجنة إلا من أمده اللّه بإمداد التوفيق وأيده برحمته وتولى حفظه وحمايته، فتح بصيرة قلبه فرأى سرعة انقطاع الدنيا وزوالها وتقلبها بأهلها وفعلها بهم وإنهاء الحياة الدائمة كغمس إصبع في البحر بالنسبة إليه.
هامش