مجموع الفتاوى/المجلد السادس/سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار


سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار عدل

وسئل رحمه الله: هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار أم لا؟

فأجاب:

الحمد لله، الليل والنهار الذي هو حاصل بالشمس هو تبع للسموات والأرض، لم يخلق هذا الليل وهذا النهار قبل هذه السموات والأرض، بل خلق هذا الليل وهذا النهار تبعًا لهذه السموات والأرض، فإن الله إذا أطلع الشمس حصل النهار وإذا غابت حصل الليل، فالنهار بظهورها والليل بغروبها، فكيف يكون هذا الليل وهذا النهار قبل الشمس، والشمس والقمر مخلوقان مع السموات والأرض.

وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1 وقال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2. قال ابن عباس وغيره من السلف: في فلكة مثل فلكة المغزل.

فقد أخبر تعالى أن الليل والنهار والشمس والقمر، في الفلك، والفلك هو السموات عند أكثر العلماء، بدليل أن الله ذكر في هاتين الآيتين أن الشمس والقمر في الفلك، وقال في موضع آخر: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} 3، فأخبر أنه جعل الشمس والقمر في السموات.

وقال تعالى: {الْحَمْدُ لله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} 4، بين أنه خلق السموات والأرض، وأنه خلق الظلمات والنور؛ لأن الجعل هو التصيير، يقال: جعل كذا إذا صيره.

فذكر أنه خلق السموات والأرض، وأنه جعل الظلمات والنور، لأن الظلمات والنور مجعولة من الشمس والقمر، المخلوقة في السموات، وليس الظلمات والنور والليل والنهار جسمًا قائمًا بنفسه، ولكنه صفة وعرض قائم بغيره، فالنور: هو شعاع الشمس وضوءها الذي ينشره الله في الهواء، وعلى الأرض.

وأما الظلمة في الليل فقد قيل: هي كذلك، وقيل: هي أمر وجودي، فهذا الليل وهذا النهار اللذان يختلفان علينا، اللذان يولج الله أحدهما في الآخر، فيولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخلف أحدهما الآخر، يتعاقبان كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} 5، وقال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 6. بين سبحانه أنه جعل لكل شيء قدرًا واحدًا لا يتعداه.

فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر وتلحقه، بل لها مجري قدره الله لها، وللقمر مجرى قدره الله له، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 7. أي لا يفوته ويتقدم أمامه حتى يكون بينهما برزخ، بل هو متصل به، لا هذا ينفصل عن هذا ولا هذا ينفصل عن هذا، {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.

فالمقصود أن هذا الليل وهذا النهار جعلهما الله تبعًا لهذه السموات والأرض، ولكن كان قبل أن يخلق الله هذه السموات وهذه الأرض، وهذا النهار كان العرش على الماء، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} 8.

وخلق الله من بخار ذلك الماء هذه السموات، وهو الدخان المذكور في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 9.

وذلك لما كان الماء غامرًا لتربة الأرض، وكانت الريح تهب على ذلك الماء، فخلق الله هذه السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، فتلك الأيام التي خلق الله تعالى فيها هذه.


هامش

  1. [الأنبياء: 33]
  2. [يس: 40]
  3. [نوح: 15، 16]
  4. [الأنعام: 1]
  5. [آل عمران: 190]
  6. [يس: 04]
  7. [يس: 3740]
  8. [هود: 7]
  9. [فصلت: 11، 12]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار