مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية
فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية
وقال الشيخ الإمام العالم العلامة حبر الأمة وبحر العلوم، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله ورضي عنه وأدخله الجنة:
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فيما ذكره الرازي في الأربعين في مسألة الصفات الاختيارية، التي يسمونها حلول الحوادث، بعد أن قرر أن هذا المذهب قال به أكثر فرق العقلاء، وإن كانوا ينكرونه باللسان.
قال: واعلم أن الصفات على ثلاثة أقسام:
حقيقية عارية عن الإضافات كالسواد والبياض.
وثانيها: الصفات الحقيقية التي تلزمها الإضافات، كالعلم والقدرة.
وثالثها: الإضافات المحضة، والنسب المحضة، مثل كون الشيء قبل غيره وعنده، ومثل كون الشيء يمينًا لغيره أو يسارًا له، فإنك إذا جلست على يمين إنسان، ثم قام ذلك الإنسان وجلس في الجانب الآخر منك، فقد كنت يمينًا له، ثم صرت الآن يسارًا له، فهنا لم يقع التغير في ذاتك، ولا في صفة حقيقية من صفاتك، بل في محض الإضافات.
إذا عرفت هذا، فنقول: أما وقوع التغير في الإضافات فلا خلاص عنه، وأما وقوع التغير في الصفات الحقيقية، فالكرامية يثبتونه، وسائر الطوائف ينكرونه فبهذا يظهر الفرق في هذا الباب بين مذهب الكرامية ومذهب غيرهم.
قال: والذي يدل على فساد قول الكرامية وجوه:
الأول: أن كل ما كان من صفات الله فلابد أن يكون من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فلو كانت صفة من صفاته محدثة، لكانت ذاته قبل حدوث تلك الصفة خالية عن صفة الكمال والجلال. والخالي عن صفة الكمال ناقص، فيلزم أن ذاته كانت ناقصة قبل حدوث تلك الصفة فيها، وذلك محال. فثبت أن حدوث الصفة في ذات الله محال.
قلت: ولقائل أن يقول: ما ذكرته لا يدل على محل النزاع، وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أن الدليل مبني على مقدمات لم يقرروا واحدة منها، لا بحجة عقلية ولا سمعية، وهو أن كل ما كان من صفات الله لابد أن يكون من صفات الكمال، وأن الذات قبل تلك الصفة تكون ناقصة، وأن ذلك النقص محال. وحقيقة الأمر لو قام به حادث لامتنع خلوه منه قبل ذلك. ولم يقم على ذلك حجة.
الثاني: أن وجوب اتصافه بهذا الكمال، وتنزيهه عن النقص، لم تذكر في كتبك عليه حجة عقلية، بل أنت وشيوخك كأبي المعالي وغيره تقولون: إن هذا لم يعلم بالعقل، بل بالسمع، وإذا كنتم معترفين بأن هذه المقدمة لم تعرفوها بالعقل، فالسمع إما نص وإما إجماع، وأنتم لم تحتجوا بنص، بل في القرآن أكثر من مائة نص حجة عليكم، والأحاديث المتواترة حجة عليكم. ودعوى الإجماع إذا كانت أزلية وجب أن يكون المقبول صحيح الوجود في الأزل.
والدليل عليه: أن كون الشيء قابلا لغيره نسبة بين القابل والمقبول، والنسبة بين المنتسبين متوقفة على تحقق كل واحد من المنتسبين، وصحة النسبة تعتمد وجود المنتسبين.
فلما كانت صحة اتصاف الباري بالحوادث حاصلة في الأزل، لزم أن تكون صحة وجود الحوادث حاصلة في الأزل.
فيقال لك: هذا الدليل بعينه موجود في كونه قادرًا، فإن كون الشيء قادرًا على غيره نسبة بين القادر والمقدور، والنسبة بين المنتسبين متوقفة على تحقيق كل واحد من المنتسبين، وصحة النسبة تعتمد وجود المنتسبين. فلما كانت صحة اتصاف الباري بالقدرة على الغير حاصلة في الأزل، لزم أن يكون صحة وجود المقدور حاصلة في الأزل، فهذا وزان ما قلته سواء بسواء.
وحينئذ، فإن جوزت وجود أحد المنتسبين، وهو كونه قادرًا في الأزل، مع امتناع وجود المقدور في الأزل، فجوز أحد المنتسبين، وهو كونه قابلا في الأزل، مع امتناع وجود المقبول في الأزل، وإن لم تجوز ذلك، بل لا تتحقق النسب إلا مع تحقيق المنتسبين جميعًا، لزم إما تحقق إمكان المقدور في الأزل وإما امتناع كونه قادرًا في الأزل، وأياما كان بطلت حجتك، سواء جوزت وجود أحد المنتسبين مع تأخر الآخر، أو جوزت وجود المقدور في الأزل، أو قلت: إنه ليس بقادر في الأزل، فإن هذا وإن كان لا يقوله لكن لو قدر أن أحدًا التزمه، وقال: إنه يصير قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا، كما يقولون: إنه يصير قابلا بعد أن لم يكن قابلا.
قيل له: كونه قادرًا، إن كان من لوازم ذاته وجب كونه لم يزل قادرًا، وامتنع وجود الملزوم وهو الذات بدون اللازم، وهو القدرة.
وإن لم تكن من لوازم الذات كانت من عوارضها، فتكون الذات قابلة لكونه قادرًا، وكانت الذات قابلة لتلك القابلية.
فقبول كونه قادرًا إن كان من اللوازم عاد المقصود، وإن كان من العوارض افتقر إلى قابلية أخرى، ولزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى قادرية تكون من لوازم الذات.
الجواب الثامن: أن يقال: فرقك بأن وجود القادر يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقدور، ووجود القابل لا يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقبول، فرق بمجرد الدعوى ولم تذكر دليلا، لا على هذا ولا على هذا، والنزاع ثابت في كلا الأمرين.
فمن الناس من يقول: لا يجب أن يكون القادر متقدمًا على إمكان وجود المقدور، بل ولا يجوز، بل يمكن أن يكون وجود المقدور مع قدرة القادر. وهذا كما يكون المقدور مع القدرة عند جماهير الناس من المسلمين وغيرهم، وإن كان وجود المقدور مع القادر يفسر بشيئين:
أحدهما: أن يكون المقدور أزليًا مع القادر في الزمان. فهذا لا يقوله أهل الملل وجماهير العقلاء، الذين يقولون: إن الله خالق كل شيء، وهو القديم وما سواه مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، وإنما يقوله شرزمة من الفلاسفة، الذين يقولون: إن الفلك معه بالزمان لم يتأخر عنه، ويجعلونه مع ذلك مفعولا مقدورًا.
وأما كون المقدور متصلا بالقادر، بحيث لا يكون بينهما انفصال ولكنه عقبه، فهذا مما يقوله أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم. ويقولون: المؤثر التام يوجد أثره عقب تأثره. ويقولون: الموجب التام يستلزم وجود موجبه عقبه لا معه، فإن الناس في المؤثر التام على ثلاثة أقوال:
منهم من يقول: يجوز أو يجب أن يكون أثره منفصلا عنه، فلا يكون المقدور إلا متراخيًا عن القادر، والأثر متراخيًا عن المؤثر، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام وغيرهم.
ومنهم من يقول: بل يجوز أو يجب أن يقارنه في الزمان، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة، ووافقهم عليه بعض أهل الكلام في العلة الفاعلية، فقالوا: إن معلولها يقارنها في الزمان.
والقول الثالث: إن الأثر يتصل بالمؤثر التام لا ينفصل عنه، ولا يقارنه في الزمان، فالقادر يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقدور لا ينفصل عنه.
وإذا قال القائل: وجود القادر يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقدور، قالوا: إن عنيت بالتقدم الانفصال فممنوع، وإن عنيت عدم المقارنة فمسلم، ولكن لا نسلم المقارنة.
وذلك يتضح بالجواب التاسع: وهو أن يقال: قولك إما وجوب وجود القابل فلا يجب أن يكوم متقدمًا على وجود المقبول، فلم تذكر عليه دليلا. وهي قضية كلية سالبة، وهي ممنوعة، بل المقبول قد يكون من الصفات اللازمة، كالحياة والعلم والقدرة، فيجب أن يقارن المقبول للقابل، فلا يتقدم القابل على المقبول، وقد يكون من الأمور الاختيارية التي تحدث بقدرة الرب ومشيئته.
فهذه المقبولات هي مقدورة للرب، وهي مع كونها مقبولة نوع من المقدورات، وأنت قد قلت: إن المقدور يجب أن يكون متأخرًا عن وجود المقدور، وهذا النوع من المقبولات مقدور، فيجب على قولك أن يكون القابل لهذه متقدمًا على وجود المقبول.
ثم التقدم، إن عنيت به مع الانفصال والبينونة الزمانية، ففيه نزاع. وإن عنيت به المتقدم وإن كان المقدور المقبول متصلا بالقادر القابل من غير برزخ بينهما فهذا لا ينازعك فيه أحد من أهل الملل، وجماهير العقلاء، بل لا ينازعك فيه عاقل يتصور ما يقول، فإن المقدور الذي يفعله القادر الأزلي بمشيئته، يمتنع أن يكون قديمًا معه لم يتقدم القادر عليه.
ولهذا كان العقلاء قاطبة على أن كل ما كان مقدورًا مفعولا بالاختيار، بل مفعولا مطلقًا، لم يكن إلا حادثًا كائنًا بعد أن لم يكن.
الجواب العاشر: أن وجود الحوادث شيئًا بعد شيء، إن كان ممكنًا كانت الذات قابلة لذلك، وإن كان ممتنعًا امتنع أن تكون قابلة له، بل وإن قيل: إن القبول من لوازمها فهو مشروط بإمكان المقبول، فلم تزل قابلة لما يمكن وجوده دون ما يمتنع.
وهذا هو الجواب الحادي عشر: وهو أن يقال: الذات لم تزل قابلة، لكن وجود المقبول مشروط بإمكانه، فلم تزل قابلة لما يمكن وجوده، لا لما لا يمكن وجوده.
الوجه الثاني عشر: أن يقال: عمدة النفاة أنه لو كان قابلا لها في الأزل، للزم وجودها أو إمكان وجودها في الأزل، وقرروا ذلك في الطريقة المشهورة: بأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده.
وقد نازعهم الجمهور في هذه المقدمة، ونازعهم فيها الرازي والآمدي وغيرهما. وهم يقولون: كل جسم من الأجسام فإنه لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن واحد من ذلك الجنس؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده؛ فلذلك عدل من عدل إلى أن يقولوا: لو كان قابلا لها لكان قبوله لها من لوازم ذاته، وهذا يقتضي أن يفسر: لو كان قابلا للحوادث لم يخل من الحادث أو من ضده. فقولهم: القابل للشيء، لا يخلو عن ضده، فقد يقال على هذه الطريقة: إن هذا يختص به لا بما سواه.
وقد يقال: هوعام أيضا، فيقول لهم أصحابهم: ما ذكرتموه في حقه منقوض بقبول سائر الموصوفات بما تقبله، فإن قبولها لما تقبله إن كان من لوازم ذاتها لزم ألاَّ تزال قابلة له، وإن كان من عوارض الذات فهي قابلة لذلك القبول.
وحينئذ، يلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى قابلية تكون من لوازم الذات، فيلزم أن يكون كل ما يقبل شيئًا قبوله له من لوازم ذاته، وليس الأمر كذلك، فإن الإنسان وغيره من الموجودات يقبل صفات في حال دون حال.
وجواب هذا: أن المخلوق الذي يقبل بعض الصفات في بعض الأحوال، لابد أن يكون قد تغير تغيرًا أوجب له قبول ما لم يكن قابلا له، كالإنسان إذا كبر حصل له من قبول العلم والفهم ما لم يكن قابلا له قبل ذلك، بخلاف من لم تزل ذاته على حال واحدة، ثم قبل ما لم يكن قابلا، فإن هذا ممتنع.
فالذين يقولون: القابل للشيء يجب أن يكون قبوله له من لوازم ذاته، إن ادعوا أن كل جسم فإنه يقبل جميع أنواع الأعراض، فإنهم يقولون: هذا القبول من لوازم ذاته.
ويقولون: لا يخلو الجسم من كل نوع من أنواع الأْعراض عن واحد من ذلك النوع، ويكون ما ذكروه من أن القبول من لوازم ذات القابل دليلا لهم في المسألتين، وإن لم يدعوا ذلك، فإنهم يقولون: الأجسام تتغير، فتقبل في حال ما لم تكن قابلة له في حالة أخرى، ولا يحتاجون أن يقولوا: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده.
والذين قالوا: إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، فيقال لهم: غاية هذا أن يكون لم تزل الحوادث قائمة به، ونحن نلتزم ذلك وتحقيق ذلك ب:
الوجه الثالث عشر: وهو أن يقال: هذا بعينه موجود في القادر؛ فإن القادرعلى الشيء لا يخلو عنه وعن ضده؛ ولهذا كان الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، والنهي عن الشيء أمرًا بأحد أضداده.
وقال الأكثرون: المطلوب بالنهي فعل ضد المنهي عنه، وقال: إن الترك أمر وجودي هو مطلوب الناهي. القادر على الأضداد، لو أمكن خلوه عن جميع الأضداد لكان إذا نهى عن بعض الأضداد لم يجب أن يكون مأمورًا بشيء منها، لإمكان ألاَّ يفعل ذلك الضد ولا غيره من الأضداد.
فلما جعلوه مأمورًا ببعضها، علم أن القادر على أحد الضدين لا يخلو منه ومن ضده، وحينئذ فإذا كان الرب لم يزل قادرًا، لزم أنه لم يزل فاعلا لشيء أو لضده، فيلزم من ذلك أنه لم يزل فاعلا، وإذا أمكن أنه لم يزل فاعلا للحوادث أمكن أنه لم يزل قابلا لها. ويمكن أن يذكر هذا الجواب على وجه لا يقبل النزاع.
الوجه الرابع عشر: فيقال: إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، فالقادر على الشيء لا يخلو عنه وعن ضده؛ لأن القادر قابل لفعل المقدور، وإن كان قبول القابل للحوادث يستلزم إمكان وجودها في الأزل، فقدرة القادر أزلية على فعل الحوادث يستلزم إمكان وجودها في الأزل، وإن أمكن أن يكون قادرًا مع امتناع المقدور، أمكن أن يكون قابلا مع امتناع المقبول.
وإن قيل: قبوله لها من لوازم ذاته، قيل: قدرته عليها من لوازم ذاته. وحينئذ، فإن كان دوام الحوادث ممكنًا، أمكن أنه لم يزل قادرًا عليها، قابلا لها، وإن كان دوامها ليس بممكن، فقد صار قبوله لها وقدرته عليها ممكنًا بعد أن لم يكن. فإن كان هذا جائزًا جاز هذا، وإن كان هذا ممتنعًا كان هذا ممتنعًا، وعاد الأمر في هذه المسألة إلى نفس القدرة على دوام الحوادث وهو الأصل المشهور، فمن قال به من أئمة السنة والحديث، وأنه لم يزل قادرًا على أن يتكلم بمشيئته وقدرته، ويفعل بمشيئته، جوز ذلك، والتزم إمكان حوادث لا أول لها.
فكان ما احتج به أئمة الفلاسفة على قدم العالم، لا يدل على قدم شيء من العالم، بل إنما يدل على أصول أئمة السنة والحديث، المعتنين بما جاء به الرسول، وكان غاية تحقيق معقولات المتكلمين والمتفلسفة يوافق ويعين ويخدم ما جاءت به الرسل، ومن لم يقل بذلك من المتكلمين بل قال بامتناع دوام الحوادث لم يكن عنده فرق بين قبوله لها وقدرته عليها.
وكان قول الذين قالوا: من هؤلاء بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته أقرب إلى المعقول والمنقول ممن يقول: إن كلامه مخلوق، أو أنه يقوم به كلام قديم، من غير أن يمكنه أن يتكلم بقدرته، أو مشيئته. وكل قول يكون أقرب إلى المعقول والمنقول، فإنه أولى بالترجيح، مما هو أبعد عن ذلك من الأقوال. والله تعالى أعلم.
هامش