مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل في السمع والبصر والنظر
فصل في السمع والبصر والنظر
عدلوكذلك السمع والبصر والنظر. قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} 1 هذا في حق المنافقين، وقال في حق التائبين: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وقوله: {فَسَيَرَى الله} دليل على أنه يراها بعد نزول هذه الآية الكريمة، والمنازع إما أن ينفي الرؤية، وإما أن يثبت رؤية قديمة أزلية. وكذلك قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2، ولام كي تقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول، فنظره كيف يعملون هو بعد جعلهم خلائف.
وكذلك: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} 3، أخبر أنه يسمع تحاورهما حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله، وقال النبي ﷺ: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم»، فجعل سمعه لنا جزاء وجوابًا للحمد، فيكون ذلك بعد الحمد والسمع يتضمن مع سمع القول قبوله وإجابته، ومنه قول الخليل: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} 4.
وكذلك قوله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} 5، وقوله لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 6.
والمعقول الصريح يدل على ذلك، فإن المعدوم لا يرى، ولا يسمع بصريح العقل واتفاق العقلاء، لكن قال من قال من السالمية: إنه يسمع ويرى موجودًا، في علمه لا موجودًا بائنا عنه، ولم يقل: إنه يسمع ويرى بائنًا عن الرب.
فإذا خلق العباد، وعملوا، وقالوا؛ فإما أن نقول: إنه يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم؛ وإما لا يرى ولا يسمع، فإن نفي ذلك فهو تعطيل لهاتين الصفتين، وتكذيب للقرآن، وهما صفتا كمال لا نقص فيه، فمن يسمع ويبصر أكمل ممن لا يسمع ولا يبصر.
والمخلوق يتصف بأنه يسمع ويبصر، فيمتنع اتصاف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق سبحانه وتعالى وقد عاب الله تعالى من يعبد من لا يسمع ولا يبصر في غير موضع، ولأنه حي، والحي إذا لم يتصف بالسمع والبصر، اتصف بضد ذلك وهو العمى والصمم، وذلك ممتنع، وبسط هذا له موضع آخر.
وإنما المقصود هنا أنه إذا كان يسمع ويبصر الأقوال والأعمال بعد أن وجدت؛ فإما أن يقال: إنه تجدد، وكان لا يسمعها ولا يبصرها، فهو بعد أن خلقها لا يسمعها ولا يبصرها، وإن تجدد شيء: فإما أن يكون وجودًا أو عدمًا، فإن كان عدمًا فلم يتجدد شيء، وإن كان وجودًا: فإما أن يكون قائمًا بذات الله، أو قائمًا بذات غيره والثاني يستلزم أن يكون ذلك الغير هو الذي يسمع ويرى، فيتعين أن ذلك السمع والرؤية الموجودين قائم بذات الله، وهذا لا حيلة فيه.
والكُلاَّبية يقولون في جميع هذا الباب: المتجدد هو تعلق بين الأمر والمأمور، وبين الإرادة والمراد، وبين السمع والبصر، والمسموع والمرئي، فيقال لهم: هذا التعلق إما أن يكون وجودًا وإما أن يكون عدمًا، فإن كان عدمًا فلم يتجدد شيء فإن العدم لا شيء، وإن كان وجودًا بطل قولهم.
وأيضا، فحدوث تعلق هو نسبة وإضافة، من غير حدوث ما يوجب ذلك، ممتنع. فلا يحدث نسبة وإضافة إلا بحدوث أمر وجودي يقتضى ذلك. وطائفة منهم ابن عقيل يسمون هذه النسبة أحوالا.
والطوائف متفقون على حدوث نسب، وإضافات وتعلقات، لكن حدوث النسب بدون حدوث ما يوجبها ممتنع. فلا يكون نسبة وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية، كالأبوة، والبنوة، والفوقية، والتحتية، والتيامن، والتياسر، فإنها لابد أن تستلزم أمورًا ثبوتية.
وكذلك كونه خالقًا، ورازقًا ومحسنًا، وعادلا، فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته؛ إذ كان يخلق بمشيئته، ويرزق بمشيئته، ويعدل بمشيئته، ويحسن بمشيئته. والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف: أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله؛ ولهذا كان النبي ﷺ يستعيذ بأفعال الرب وصفاته، كما في قوله ﷺ: «أعوذ برضاك من سَخَطِك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه.
وقد استدل أئمة السنة كأحمد وغيره على أن: كلام الله غير مخلوق، بأنه استعاذ به فقال: «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل منه» فكذلك معافاته ورضاه غير مخلوقة؛ لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن العبد مخلوقة، فإنها نتيجة معافاته.
وإذا كان الخلق فعله، المخلوق مفعوله، وقد خلق الخلق بمشيئته، دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته ويمتنع قيامه بغيره، فدل على أن أفعاله قائمة بذاته، مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته، وقد حكى البخاري إجماع العلماء على الفرق بين الخلق والمخلوق، وعلى هذا يدل صريح المعقول.
فإنه قد ثبت بالأدلة العقلية والسمعية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 7، فهو حين خلق السموات ابتداء، إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقًا للسموات والأرض، وإما ألا يحصل منه فعل بل وجدت المخلوقات بلا فعل، ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها ومع خلقها سواء، وبعده سواء، لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت، بلا سبب يوجب التخصيص.
وأيضا فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بداية العقل، وإذا قيل: الإرادة والقدرة خصصت. قيل: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء، وأيضا فلا تعقل إرادة تخصيص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجبالتخصيص، وأيضا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه، وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيًا، للزم وجوده قبل ذلك؛ لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور.
وقد احتج من قال: الخلق هو المخلوق كأبي الحسن ومن اتبعه مثل ابن عقيل بأن قالوا: لو كان غيره لكان إما قديمًا وإما حادثًا، فإن كان قديمًا لزم قدم المخلوق، لأنهما متضايفان، وإن كان حادثًا لزم أن تقوم به الحوادث، ثم ذلك الخلق يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل.
فأجابهم الجمهور وكل طائفة على أصلها فطائفة قالت: الخلق قديم وإن كان المخلوق حادثًا، كما يقول ذلك كثير من أهل المذاهب الأربعة، وعليه أكثر الحنفية، قال هؤلاء: أنتم تسلمون لنا أن الإرادة قديمة أزلية، والمراد مُحْدَث، فنحن نقول في الخلق ما قلتم في الإرادة.
وقالت طائفة: بل الخلق حادث في ذاته، ولا يفتقر إلى خلق آخر، بل يحدث بقدرته. وأنتم تقولون: إن المخلوق يحصل بقدرته بعد أن لم تكن، فإن كان المنفصل يحصل بمجرد القدرة، فالمتصل به أولى، وهذا جواب كثير من الكَرّامية والهاشمية وغيرهم.
وطائفة يقولون: هب أنه يفتقر إلى فعل قبله، فلم قلتم: إن ذلك ممتنع؟ وقولكم: هذا تسلسل. فيقال: ليس هذا تسلسلا في الفاعلين، والعلل الفاعلة، فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء، بل هو تسلسل في الآثار والأفعال، وهو حصول شيء بعد شيء وهذا محل النزاع.
فالسلف يقولون: لم يزل متكلمًا إذا شاء، وقد قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي
لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 8، فكلمات الله لا نهاية لها، وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل، فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له، فما من شيء إلا وبعده شيء لا نهاية له.
هامش
- ↑ [التوبة: 105]
- ↑ [يونس: 14]
- ↑ [المجادلة: 1]
- ↑ [إبراهيم: 93]
- ↑ [آل عمران: 181]
- ↑ [طه: 46]
- ↑ [الفرقان: 59]
- ↑ [الكهف: 109]