مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية
فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية
عدلقد عرف أن الأشياء لها وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، وهو: العيني، والعلمي، واللفظي، والرسمي.
ثم قال: من قال: إن الوجود العيني والعلمي لا يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، والأمم، بخلاف اللفظي والرسمي فإن اللغات تختلف باختلاف الأمم كالعربية والفارسية، والرومية والتركية.
وهذا قد يذكره بعضهم في كلام الله تعالى إنه هو المعنى الذي لا يختلف باختلاف الأمم، دون الحروف التي تختلف كما هو قول الكُلابيَّة والأشعرية، ويضمون إلى ذلك، إلى أن كتبه إنما اختلفت لاختلاف لفظها فقط؛ فكلامه بالعبرية هو التوراة، وبالعربية هو القرآن، كما يقولون: إن المعنى القديم، يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا، فهذه صفات عارضة له؛ لا أنواع له.
ويذكر بعضهم هذا القول مطلقًا في أصول الفقه في مسائل اللغات، ويذكره بعضهم في مسألة الاسم والمسمى، وأسماء الله الحسنى، كأبي حامد.
قلت: وهذا القول فيه نظر، وبعضه باطل، وذلك أن ألفاظ اللغات منها: متفق عليه، كالتنور، وكما يوجد من الأسماء المتحدة في اللغات.
ومنها: متنوع كأكثر اللغات. واختلافها اختلاف تنوع لا تضاد؛ كاختلاف الاسمين للمسمى الواحد.
وكذلك معاني اللغات، فإن المعنى الواحد الذي تعلمه الأمم، وتعبر عنه كل أمة بلسانها، قد يكون ذلك المعنى واحدًا بالنوع في الأمم، بحيث لا يختلف كما يختلف اللفظ الواحد بالعربية.
وقد يكون تصور ذلك المعنى متنوعًا في الأمم مثل: أن يعلمه أحدهم بنعت، ويعبر عنه باعتبار ذلك النعت، وتعلمه الأمة الأخرى بنعت آخر، وتعبر عنه باعتبار ذلك النعت، كما هو الواقع في أسماء الله وأسماء رسوله، وكتابه، وكثير من الأسماء المعبر بها عن الأشياء المتفق على علمها في الجملة: «فتكرى، وخداي، ونست شك»، ونحو ذلك، وإن كانت أسماء لله تعالى فليس معناها مطابقًا من كل وجه لمعنى اسم الله، وكذلك «بيغنير وبهشم» ونحو ذلك.
ولهذا إذا تأملت الألفاظ التي يترجم بها القرآن من الألفاظ الفارسية والتركية وغيرها تجد بين المعاني نوع فرق، وإن كانت متفقة في الأصل، كما أن اللغتين متفقة في الصوت، وإن اختلفت في تأليفه، وقد تجد التفاوت بينها أكثر من التفاوت بين الألفاظ المتكافئة الواقعة بين المترادفة والمتباينة كالصارم والمُهَنَّد، وكالرَّيب والشَّك، والمَوَر والحركة، والصراط والطريق.
وتختلف اللغتان أيضا في قدر ذلك المعنى، وعمومه وخصوصه، كما تختلف في حقيقته ونوعه، وتختلف أيضا في كيفيته وصفته وغير ذلك.
بل الناطقان بالاسم الواحد باللغة الواحدة، يتصور أحدهما منه ما لم يتصور الآخر حقيقته وكميته وكيفيته وغير ذلك؛ فإذا كان المعنى المدلول عليه بالاسم الواحد لا يتحد من كل وجه في قلب الناطقين، بل ولا في قلب الناطق الواحد في الوقتين، فكيف يقال: إنه يجب اتحاده في اللغات المتعددة؟
يوضح ذلك: أن ما تعلمه الملائكة منه ليس على حد ما يعلمه البشر، وما يعلمه الله فيه ليس على حد ما تعلمه الملائكة؛ لكن الاختلاف اختلاف تَنَوُّع لا تَضَادّ.
وأما قول من قال: إن معاني الكتب المنزلة سواء، ففساده معلوم بالاضطرار، فإنا لو عَبَّرْنا عن معاني القرآن بالعبرية، وعن معاني التوراة بالعربية، لكان أحد المعنيين ليس هو الآخر، بل يعلم بالاضطرار تنوع معاني الكتب واختلافها اختلاف تنوع أعظم من اختلاف حروفها، لما بين العربية والعبرية من التفاوت، وكذلك معاني البقرة ليست هي معاني آل عمران.
وأبعد من ذلك جعل الأمر هو الخبر، ولا ينكر أن هذه المختلفات قد تشترك في حقيقة ما، كما أن اللغات تشترك في حقيقة ما، فإن جاز أن يقال: إنها واحدة مع تنوعها، فكذلك اللغات سواء، بل اختلاف المعاني أشد.
أما دعوى كون أحدهما صفة حقيقية، والأخرى وضعية، فليس كذلك، وهذا موضع ينتفع به في الأسماء واللغات، وفي أصول الدين، والفقه، وفي معرفة ترجمة اللغات.
وأيضا، لم يجر العرف بأن اللغة الواحدة، واللفظ الواحد يكون النطق به من جميع الناطقين على حد واحد، ليس فيه تفاوت أصلا، فإن حصل المقصود بالجميع فكذلك المعنى الواحد، فإن اللغات وإن اختلفت فقد يحصل أصل المقصود بالترجمة، فكذلك المعاني، فإن الترجمة تكون في اللفظ والمعنى؛ ولهذا سمى المسلمون ابن عباس تُرْجُمَان القرآن، وهو يترجم اللفظ.
هامش