مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم


فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم

عدل

وقد ذكرنا أصلين:

أحدهما: أن ما يحتجون به من الحجج السمعية والعقلية على مذاهبهم إنما يدل على قول السلف وما جاء به الكتاب والسنة، لا يدل على ما ابتدعوه وخالفوا به الكتاب والسنة.

الثاني: أن ما احتجوا به يدل على نقيض مقصودهم وعلى فساد قولهم، وهذا نوع آخر، فإن كونه يدل على قول لم يقولوه نوع، وكونه يدل على نقيض قولهم وفساد قولهم نوع آخر. وهذا موجود في حجج المتفلسفة والمتكلمة.

أما المتفلسفة، فمثل حججهم على قدم العالم أو شيء منه؛ فإنهم احتجوا بأنواع العلل الأربعة: الفاعلية، والغائبة، والمادية، والصورية، وعمدتهم الفاعلية، وهو: أن يمتنع أنه يصير فاعلا بعد أن لم يكن، فيجب أنه ما زال فاعلا، وهذه أعظم عمدة متأخريهم كابن سينا وأمثاله، وهي أظنها منقولة عن برقلس.

وأما أرسطو وأتباعه، فهم لا يحتجون بها؛ إذ ليس هو عندهم فاعلا، وإنما احتجوا بوجوب قدم الزمان والحركة وهي الصورية، وبوجوب قدم المادة؛ لأن كل محدث مسبوق بالإمكان فلابد له من محل، فكل حادث تقبله مادة يقبله، وأما العلة الغائية فمن جنس الفاعلية فيقال لهم: هذه الحجج إنما تدل على مذهب السلف والأئمة، كما تقدم، وهي تدل على بطلان قولهم.

وأما قدم الفاعلية، وهو: أنه ما زال فاعلا، فيقال: هذا لفظ مجمل، فأنتم تريدون بالفاعل أن مفعوله مقارن له في الزمان، وإذا كان فاعلا بهذا الاعتبار وجب مقارنة مفعوله له فلا يتأخر فعله، فهذه عمدتكم، والفاعل عند عامة العقلاء وعند سلفكم، وعندكم أيضا في غير هذا الموضع هو الذي يفعل شيئًا فيحدثه، فيمتنع أن يكون المفعول مقارنًا له بهذا الاعتبار، بل على هذا الاعتبار يجب تأخر كل مفعول له، فلا يكون في مفعولاته شيء قديم بقدمه، فيكون كل ما سواه محدث.

ثم للناس هنا طريقان:

منهم من يقول: يجب تأخر كل مفعول له، وأن يبقى معطلا عن الفعل ثم يفعل، كما يقوله أهل الكلام المبتدع من أهل الملل، من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم. وهذا النفي يناقض دوام الفاعلية فهو يناقض موجب تلك الحجج.

والثاني: أن يقال: ما زال فاعلا لشيء بعد شيء فكل ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن، وهو وحده الذي اختص بالقدم والأزلية، فهو الأول القديم الأزلي ليس معه غيره، وأنه ما زال يفعل شيئًا بعد شيء.

فيقال لهم: الحجج التي تقيمونها في وجوب قدم الفاعلية، كما أنها تبطل قول أهل الكلام المحدث فهي أيضا تبطل قولكم؛ وذلك أنها لو دلت على دوام الفاعلية بالمعنى الذي ادعيتم، للزم ألا يحدث في العالم حادث؛ إذ كان المفعول المعلول عندكم يجب أن يقارن علته الفاعلية في الزمان، وكل ما سوى الأول مفعول معلول له، فتحدث مقارنة كل ما سواه فلا يحدث في العالم حادث، وهو خلاف المشاهدة والمعقول، وباطل باتفاق بني آدم كلهم، مخالف للحس والعقل.

وأيضا، إذا وجب في العلة أن يقارنها معلولها في الزمان فكل حادث يجب أن يحدث مع حدوثه حوادث مقترنة في الزمان، لا يسبق بعضها بعضًا ولا نهاية لها. وهذا قول بوجود علل لا نهاية لها، وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، ولا فرق بين امتناع ذلك في ذات العلة أو شرط من شروطها، فكما يمتنع أن يحدث عند كل حادث ذات علل لا تتناهى في آن واحد، وكذلك شروط العلة وتمامها فإنها إحدى جزئي العلة، فلا يجوز وجود ما لا يتناهى في آن واحد لا في هذا الجزء ولا في هذا الجزء، وهذا متفق عليه بين الناس.

وأما النزاع في وجود ما لا يتناهى على سبيل التعاقب، فقد زال جزء حجتهم ليس هو ما قالوه، بل موجبه هو القول الآخر وهو: أن الفاعل لم يزل يفعل شيئًا بعد شيء وحينئذ كل مفعول محدث كائن بعد أن لم يكن، وهذا نقيض قولهم؛ بل هذا من أبلغ ما يحتج به على ما أخبرت به الرسل من أن الله خالق كل شيء، فإنه بهذا يثبت أنه لا قديم إلا الله، وأنه كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن، سواء سمى عقلا، أو نفسًا أوجسمًا، أو غير ذلك.

بخلاف دليل أهل الكلام المحدث على الحدوث، فإنهم قالوا: لو كان صحيحًا لم يدل إلا على حدوث الأجسام، ونحن أثبتنا موجودات غير العقول، وأهل الكلام لم يقيموا دليلا على انتفائها، وقد وافقهم على ذلك المتأخرون؛ مثل الشهرستاني، والرازي، والآمدي، وادعوا أنه لا دليل للمتكلمين على نفي هذه الجواهر العقلية، ودليلهم على حدوث الأجسام لم يتناولها؛ ولهذا صار الذين زعموا أنهم يجيبونهم بالجواب الباهر إلى ما تقدم ذكره من التناقض، فقد تبين أن نفس ما احتجوا به يدل على فساد قولهم، وفساد قول المتكلمين، ويدل على حدوث كل ما سوى الله وأنه وحده القديم، دلالة صحيحة لا مطعن فيها.

فقد تبين ولله الحمد أن عمدتهم على قدم العالم إنما تدل على نقيض قولهم: وهو حدوث كل ما سوى الله ولله الحمد والمنة.

وأما الحجة التي احتجوا بها على أنه لم تزل الحركة موجودة والزمان موجودًا، وأنه يمتنع حدوث هذا الجنس وهذا مما اعتمد عليه أرسطو وأتباعه فيقال لهم: هذه لا تدل على قدم شيء بعينه من الحركات وزمانها، ولا من المتحركات، فلا تدل على مطلوبهم، وهو قدم الفلك وحركته، وزمانه، بل تدل على نقيض قولهم، وذلك أن الحركة لابد لها من محرك، فجميع الحركات تنتهي إلى محرك أول.

وهم يسلمون هذا، فذلك المحرك الأول الذي صدر عنه حركة ما سواه، إما أن يكون متحركًا، وإما ألا يكون، فإن لم يكن متحركًا لزم صدور الحركة عن غير متحرك، وهذا مخالف للحس والعقل، فإن المعلول إنما يكون مناسبًا لعلته، فإذا كان المعلول يحدث شيئًا بعد شيء، امتنع أن تكون علته باقية على حال واحدة، كما قلتم: يمتنع أن يحدث عنها شيء بعد أن لم يكن، بل امتناع دوام الحدوث عنها أولى من امتناع حدوث متجدد، فإن هذا يستلزم وجود الممتنع أكثر مما يستلزم ذاك.

فإنه إذا قيل: من المعلوم بصريح العقل أن ما لم يكن فاعلا فلابد أن يحدث له سبب يوجب كونه فاعلا، وأنه إذا كان حال الفاعل على الحال التي كان عليها قبل الفعل، لم يفعل شيئًا ولم يحدث عنه شيء، قيل لهم: وهذا المعلوم بصريح العقل موجب أنها لا يحدث عنها في الزمان الثاني شيء لم يكن في الزمان الأول إلا لمعنى حدث فيها، فإذا لم يحدث فيها شيء لم يحدث عنها شيء.

فإذا قيل بدوام الحوادث عنها من غير أن يحدث فيها شيء، كان هذا قولا بوجود الممتنعات دائمًا، فإنه ما من حادث يحدث إلا قبلت الذات عند حدوثه لما كانت قبل حدوثه، وكانت قبل ذلك يمتنع عنها حدوثه، فالآن كذلك يمتنع عنها حدوثه.

أو يقال: كانت لا تحدثه فهي الآن لا تحدث، فهي عند حدوث كل حادث كما كانت قبل ذلك، وقبل حدوثه لم تكن محدثة له بل كان ذلك ممتنعًا، فكذلك الحين الذي قدر فيه حدوثه، يجب أن يكون الحدوث فيه ممتنعًا.

وهذا مما اعترف حذاقهم بأنه لازم، كما ذكر ذلك ابن رشد والرازى وغيرهما واعترفوا بأن حدوث المتغير عن غير المتغير مخالف للعقلاء، وابن سينا تفطن لهذا.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس
فصل: تقرب العبد إلى الله | وقال الشيخ رحمه الله تعالى | فصل: ما قاله الشيخ في إثبات القرب وأنواعه | فصل: هل يتحرك القلب والروح إلى محبوبها | سئل عمن يقول إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم | فصل قول القائل: كلما قام دليل العقل على أنه يدل على التجسيم كان متشابها | فصل في جمل مقالات الطوائف في الصفات | فصل الأشياء العينية والعلمية واللفظية والرسمية | فصل طريقة اتباع الأنبياء هي الموصلة إلى الحق | سئل عن تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | المقدمة الأولى أن الكمال ثابت لله | المقدمة الثانية لا بد من اعتبار أمرين | فصل ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول | فصل قول الملاحدة أن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره | فصل: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها | فصل: قول القائل الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب | فصل: قول القائل لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث | فصل: نفي النافي للصفات الخبرية المعينة | فصل: قول القائل المناسبة لفظ مجمل فقد يراد بها التولد والقرابة | فصل قول القائل الرحمة ضعف وخور في الطبيعة | فصل: قول القائل الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام | فصل: قول القائل إن الضحك خفة روح | فصل قول القائل التعجب استعظام للمتعجب منه | فصل قول القائل لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا | فصل: قول منكري النبوات ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا | فصل قول المشركين إن عظمته تقتضي ألا يتقرب إليه إلا بواسطة | فصل: قول القائل لو قيل لهم أيما أكمل | فصل: قول القائل الكمال والنقص من الأمور النسبية | فصل قوله تعالى: ولله الأسماء الحسنى | فصل القاعدة العظيمة في مسائل الصفات والأفعال | رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى | فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا | فصل: ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا بالقرآن قبل أن يخلق الخلق | فصل مما يجب على أهل الإيمان التصديق به أن الله ينزل إلى سماء الدنيا | فصل ومما يجب التصديق به مجيئه إلى الحشر يوم القيامة | القول في القرآن | قاعدة في الاسم والمسمى | فصل الذين قالوا إن الاسم غير المسمى | سئل عمن زعم أن الإمام أحمد كان من أعظم النفاة للصفات | فصل في الصفات الاختيارية | فصل في الإرادة والمحبة والرضا | فصل في السمع والبصر والنظر | فصل في دلالة الأحاديث على الأفعال الاختيارية | فصل المنازعون النفاة منهم من ينفي الصفات مطلقا | فصل: رد فحول النظار حجج النفاة لحلول الحوادث | فصل في اتصافه تعالى بالصفات الفعلية | فصل فيما ذكره الرازي في مسألة الصفات الاختيارية | فصل: الرد على الرازي في قصة الخليل إبراهيم وقوله لا أحب الآفلين | قاعدة أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة إنما تدل على الحق | فصل: مسلك طائفة من أئمة النظار الجمع بين أدلة الأشاعرة والفلاسفة | فصل: الحجة الثانية لمن قال بقدم الكلام | فصل: فيما احتج به الفلاسفة والمتكلمون في مسألة حدوث العالم | فصل في دلالة ما احتجوا به على خلاف قولهم | سئل عن جواب شبهة المعتزلة في نفي الصفات | الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز والصفات | فصل المعترض في الأسماء الحسنى | سئل عن قول النبي: الحجر الأسود يمين الله في الأرض | حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة | فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة | سئل عن لقاء الله سبحانه هل هو رؤيته أو رؤية ثوابه | فصل: قول السائل: كيف يتصور منا محبة ما لا نعرفه | فصل قول السائل إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم فالمحبة للنعيم | رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار ربهم | قوله في حديث: نور أنى أراه | فصل الذي ثبت: رأى محمد ربه بفؤاده | سئل عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا | سئل عن حديث إن الله ينادي بصوت | فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد | الرسالة العرشية | سئل هل العرش والكرسي موجودان أم مجاز | سئل عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض | سئل عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب | سئل هل خلق الله السموات والأرض قبل الليل والنهار | سئل عن اختلاف الليل والنهار