مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا
فصل قال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل لم يزل الله متكلما عالما غفورا
عدلقال القاضي: قال أحمد في رواية حنبل: لم يزل الله متكلمًا عالمًا غفورًا. وقال في رواية عبد الله: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، ووجدتها في المحنة رواية حنبل لما سأله عبد الرحمن بن إسحاق قاضي المعتصم فلامه، فقال: ما تقول في القرآن؟ قال: فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت. فقلت لعبد الرحمن: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله، قال: فسألت عبد الرحمن فلم يرد علي شيئًا، وقال لي عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن، فقلت: كان الله ولا علم؟ فأمسك. ولو زعم أن الله كان ولا علم لكفر بالله.
ثم قال أبو عبد الله: لم يزل الله عالمًا متكلمًا، يعبد الله بصفاته غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه، ونرد القرآن إلى عالمه، إلى الله فهو أعلم به، منه بدأ وإليه يعود.
وقال في موضع آخر: سمعت أبا عبد الله يقول: لم يزل الله متكلمًا، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى كل جهة، ولا يوصف الله بشيء أكثر مما وصف به نفسه.
وقال أبو بكر عبد العزيز في الجزء الأول من كتاب السنة، في المقنع لما سألوه إنكم إذا قلتم: لم يزل متكلمًا كان ذلك عبثًا، فقال: لأصحابنا قولان:
أحدهما: لم يزل متكلمًا كالعلم؛ لأن ضد الكلام الخرس، كما أن ضد العلم الجهل.
قال: ومن أصحابنا من قال: قد أثبت لنفسه أنه خالق، ولم يجز أن يكون خالقًا في كل حال بل قلنا: إنه خلق في وقت إرادته أن يخلق، وإن لم يكن خالقا في كل حال، ولم يبطل أن يكون خالقًا، كذلك وإن لم يكن متكلمًا في كل حال لم يبطل أن يكون متكلمًا، بل هو متكلم خالق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولا متكلمًا في كل حال.
قال القاضي أبو يعلى، في كتاب إيضاح البيان في مسألة القرآن لما أورد عليه هذا السؤال فقال: نقول: إنه لم يزل متكلمًا، وليس بمكلم ولا مخاطب ولا آمر، ولا ناه، نص عليه أحمد في رواية حنبل، وساق الكلام إلى أن ذكر عن أبي بكر ما حكاه في المقنع ثم قال: لعل هذا القائل من أصحابنا يذهب إلى قول أحمد بن حنبل في رواية عبد الله: لم يزل متكلمًا إذا شاء.
قال: والقائل بهذا قائل بحدوث القرآن، وقد تأولنا كلام أحمد: «يتكلم إذا شاء» في أول المسألة، ولا يشبه هذا وصفه بالخلق والرزق، لأن تلك الصفات يجب أن تقدر فيها ذلك؛ وذلك لأننا لو قدرنا وجود الفعل فيما لم يزل أفضى إلى قدم العالم، فأما الكلام فهو كالعلم.
وقال القاضي في أول المسألة: قول أحمد: «لم يزل غفورًا» بيان أن جميع الصفات قديمة، سواء كانت مشتقة من فعل كالغفران، والخلق والرزق، أو لم تكن مشتقة. وقوله: «لم يزل متكلمًا إذا شاء» معناه: إذا شاء أن يسمعه.
قلت: وطريقة القاضي هذه هي طريقة أصحابه وأصحابهم، وغيرهم: كابن عقيل وابن الزاغوني.
وأما أكثر أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكثير من أهل الكلام أيضا فيخالفونه في ذلك، ويقولون في الفعل أحد قولين:
أحدهما وهو القول الآخر للقاضي، الذي هو الصحيح عند أصحابنا: إما أن الفعل قديم والمفعول مخلوق، كما نسلم ذلك لهم في الإرادة، والقول المكون: أي الإرادة قديمة، والمراد مُحدَث، وكما أن المنازع يقول: التكوين قديم فالمكون مخلوق.
والثاني: أن الفعل نفسه عندهم كالقول كلاهما غير مخلوق، مع أنه يكون في حال دون حال؛ إذ هو قائم بالله، والمخلوق لا يكون إلا منفصلا عن الله.
ويقولون: إن قول أحمد موافق لما قلناه؛ لأنه قال: لم يزل متكلمًا إذا شاء ولم يقل: لم يزل مكلمًا إذا شاء، والمتعلق بالمشيئة عند من يقول: إنه قديم واجب إنما هو التكليم الذي هو فعل جائز لا التكلم.
فبين ذلك أن أحمد رضي الله عنه قال في الموضع الآخر: لم يزل الله متكلمًا عالمًا غفورًا. فذكر الصفات الثلاث: الصفة التي هي قديمة واجبة وهي العلم، والتي هي جائزة متعلقة بالمشيئة وهي المغفرة. فهذان متفق عليهما.
وذكر أيضا التكلم، وهو القسم الثالث، الذي فيه نزاع، وهو يشبه العلم من حيث هو وصف قائم به، لا يتعلق بالمخلوق، ويشبه المغفرة من حيث هو متعلق بمشيئته، كما فسره في الموضع الآخر.
فعلم أن قدمه عنده: أنه لم يزل إذا شاء تكلم، وإذا شاء سكت، لم يتجدد له وصف القدرة على الكلام التي هي صفة كمال، كما لم يتجدد له وصف القدرة على المغفرة، وإن كان الكمال هو أن يتكلم إذا شاء، ويسكت إذا شاء.
وأما قول القاضي: إن هذا قول بحدوثه، فيجيبون عنه بجوابين:
أحدهما: ألا يسمى محدثًا أن يسمى حديثًا، إذ المحدث هو المخلوق المنفصل، وأما الحديث فقد سماه الله حديثًا، وهذا قول الكرامية، وأكثر أهل الحديث، والحنبلية.
والثاني: أنه يسمى محدثًا، كما في قوله: {مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ}1 وليس بمخلوق. وهذا قول كثير من الفقهاء، وأهل الحديث والكلام، كداود بن علي الأصبهاني صاحب المذهب لكن المنقول عن أحمد إنكار ذلك، وقد يحتج به لأحد قولي أصحابنا.
قال المروذي: قال أبو عبد الله: مَنْ داود بن علي الأصبهاني؟ لا فرج الله عنه جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري، أن داود الأصبهاني، قال كذبًا: إن القرآن محدث، وذكر أبو بكر الخلال هذه الرواية في كتاب السنة، وقال عبد الله بن أحمد: استأذن داود على أبي فقال: من هذا؟ داود؟ لا جبر ود الله قلبه، ودَوَّد الله قبره، فمات مُدوَّدًا.
والإطلاقات قد توهم خلاف المقصود، فيقال: إن أردت بقولك: محدث أنه مخلوق منفصل عن الله كما يقوله الجهمية، والمعتزلة، والنجارية فهذا باطل لا نقوله، وإن أردت بقولك: إنه كلام تكلم الله به بمشيئته، بعد أن لم يتكلم به بعينه وإن كان قد تكلم بغيره قبل ذلك، مع أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء فإنا نقول بذلك. وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو قول السلف، وأهل الحديث، وإنما ابتدع القول الآخر الكُلابيَّة والأشعرية، ولكن أهل هذا القول لهم قولان:
أحدهما: أنه تكلم بعد أن لم يكن متكلمًا، وإن كان قادرًا على الكلام، كما أنه خلق السموات والأرض، بعد أن لم يكن خلقهما، وإن كان قادرًا على الخلق. وهذا قول الكَرَّامية وغيرهم ممن يقول: إنه تَحُلُّه الحوادث، بعد أن لم تك تحله، وقول من قال: إنه محدث يحتمل هذا القول، وإنكار أحمد يتوجه إليه.
والثاني: أنه لم يزل متكلمًا يتكلم إذا شاء، وهذا هو الذي يقوله من يقوله من أهل الحديث.
وأصحاب هذا القول قد يقولون: إن كلامه قديم، وأنه ليس بحادث ولا مُحدَث، فيريدون نوع الكلام؛ إذ لم يزل يتكلم إذا شاء، وإن كان الكلام العيني يتكلم به إذا شاء، ومن قال: ليست تحل ذاته الحوادث، فقد يريد به هذا المعنى، بناء على أنه لم يحدث نوع الكلام في كيفية ذاته.
وقال أبو عبد الله بن حامد في أصوله: ومما يجب الإيمان به والتصديق أن الله يتكلم، وأن كلامه قديم وأنه لم يزل متكلمًا في كل أوقاته بذلك موصوفًا، وكلامه قديم غير محدث، كالعلم والقدرة، وقد يجىء على المذهب أن يكون الكلام صفة متكلم لم يزل موصوفًا بذلك، ومتكلمًا كلما شاء وإذا شاء، ولا نقول: إنه ساكت في حال ومتكلم في حال، من حين حدوث الكلام.
والدليل على إثباته متكلمًا على ما وصفناه: كتاب الله، وسنة نبيه، وإجماع أهل الحق، إلا طائفة الضلال المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، فإنهم أبوا أن يكون الله متكلمًا، وذكر بعض أدلة الكتاب والسنة.
هامش
- ↑ [الأنبياء: 2]