مجموع الفتاوى/المجلد الأول/آثار عن السلف أكثرها ضعيفة
آثار عن السلف أكثرها ضعيفة
عدلوفي الباب آثار عن السلف أكثرها ضعيفة.
فمنها حديث الأربعة الذين اجتمعوا عند الكعبة وسألوا، وهم: عبد الله ومصعب ابنا الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الملك بن مروان، وذكره ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء ورواه من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي، عن سفيان الثوري عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي أنه قال: لقد رأيت عجبًا، كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله ابن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم كل رجل منكم فليأخذ بالركن اليماني، وليسأل الله حاجته فإنه يعطى من سعة. ثم قالوا: قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، فقام فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز، ويسلم على بالخلافة، ثم جاء فجلس.
ثم قام مصعب فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك رب كل شيء، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني بسكينة بنت الحسين.
ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك به عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحقك على خلقك. وبحق الطائفين حول عرشك... إلى آخره.
قلت: وإسماعيل بن أبان الذي روى هذا عن سفيان الثوري كذاب، قال أحمد بن حنبل: كتبت عنه، ثم حدث بأحاديث موضوعة فتركناه. وقال يحيى بن معين: وضع حديثا على السابع من ولد العباس يلبس الخضرة يعني المأمون، وقال البخاري ومسلم وأبو زرعة والدارقطني: متروك. وقال الجوزجاني: ظهر منه على الكذب. وقال أبو حاتم: كذاب. وقال ابن حبان: يضع على الثقات. وطارق بن عبد العزيز الذي ذكر أن الثوري روى عنه لا يعرف من هو. قال: فإن طارق بن عبد العزيز المعروف الذي روى عنه ابن عجلان ليس من هذه الطبقة.
وقد خولف فيها فرواها أبو نعيم عن الطبراني: حدثنا أحمد بن زيد بن الجريش، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا الأصمعى قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله أبناء الزبير وعبد الله بن عمر فقالوا: تمنوا. فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنال كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له). قلت: وهذا إسناد خير من ذاك الإسناد باتفاق أهل العلم، وليس فيه سؤال بالمخلوقات.
وفي الباب حكايات عن بعض الناس أنه رأى مناما قيل له فيه: ادع بكذا وكذا، ومثل هذا لا يجوز أن يكون دليلا باتفاق العلماء، وقد ذكر بعض هذه الحكايات من جمع الأدعية، وروى في ذلك أثر عن بعض السلف مثل ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء، قال: حدثنا أبو هاشم، سمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد بن أبجر فجس بطنه فقال: بك داء لا يبرأ. قال: ما هو؟ قال: الدُّبَيْلة 1
قال: فتحول الرجل فقال: الله، الله، الله ربي لا أشرك به شيئا، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ﷺ تسليما، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي. قال: فجس بطنه فقال: قد برئت، ما بك علة.
قلت: فهذا الدعاء ونحوه قد روى أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي ﷺ في الدعاء، ونهى عنه آخرون. فإن كان مقصود المتوسلين التوسل بالإيمان به وبمحبته وبموالاته وبطاعته فلا نزاع بين الطائفتين، وإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول.
وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة، فإن كثيرا من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين ويحصل ما يحصل من غرضهم، وبعض الناس يقصدون الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضهم. فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحًا، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها، نهى الله ورسوله عنها، كما أن كثيرا من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع.
فهذا أصل يجب اعتباره، ولا يجوز أن يكون الشيء واجبا أو مستحبا إلا بدليل شرعي يقتضي إيجابه أو استحبابه. والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة. والدعاء لله تعالى عبادة إن كان المطلوب به أمرا مباحا.
وفي الجملة، فقد نقل عن بعض السلف والعلماء السؤال به، بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين والاستغاثة بهم والشكوى إليهم، فهذا مما لم يفعله أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا رخص فيه أحد من أئمة المسلمين.
وحديث الأعمى الذي رواه الترمذي والنسائي هو من القسم الثاني من التوسل بدعائه، فإن الأعمى قد طلب من النبي ﷺ أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره، فقال له: (إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك) فقال: بل ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلى ركعتين ويقول: (اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهم فشفعه في) فهذا توسل بدعاء النبي ﷺ وشفاعته، ودعا له النبي ﷺ، ولهذا قال: (وشفعه في) فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه.
وهذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي ﷺ ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه ﷺ ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره.
وهذا الحديث حديث الأعمى قد رواه المصنفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره: رواه البيهقي من حديث عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضريرا أتى النبي ﷺ فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال له: (إن شئت أخَّرْت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت) قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلى ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتى هذه فيقضيها لي، اللهم فشفعه في وشفعني فيه) قال: فقام وقد أبصر، ومن هذا الطريق رواه الترمذي من حديث عثمان بن عمر.
ومنها: ما رواه النسائي وابن ماجه أيضا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي، هكذا وقع في الترمذي، وسائر العلماء قالوا: هو أبو جعفر الخطمي وهو الصواب، وأيضا فالترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء، بل رووه إلى قوله: (اللهم شفعه في).
قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير البصر أتى النبي ﷺ فقال: ادع الله أن يعافيني قال: (إن شئت صبرت فهو خير لك) قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتى هذه لتقضى، اللهم شفعه في)، قال البيهقي: رويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح عن روح بن عبادة عن شعبة، قال: ففعل الرجل فبرأ، قال: وكذلك رواه حماد ابن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.
قلت: ورواه الإمام أحمد في مسنده عن روح بن عبادة كما ذكره البيهقي، قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني، سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضريرا أتى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يعافيني، قال: (إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك) قال: لا، بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يصلى ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى الله في حاجتى هذه، فتقضى لي وتشفعني فيه وتشفعه في) قال: ففعل الرجل فبرئ.
رواه البيهقي أيضا من حديث شبيب بن سعيد الحَبَطِي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني وهو الخطمي عن أبي أمامة سهل بن حنيف، عن عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله ﷺ وجاءه رجل ضرير يشتكى إليه ذهاب بصره فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد وقد شق على؛ فقال رسول الله ﷺ: (ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيجلى عن بصرى، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي) قال عثمان بن حنيف: والله ما تفرقنا ولا طال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.
فرواية شبيب عن روح عن أبي جعفر الخطمي خالفت رواية شعبة وحماد بن سلمة في الإسناد والمتن، فإن في تلك أنه رواه أبو جعفر عن عمارة بن خزيمة، وفي هذه أنه رواه عن أبي أمامة سهل، وفي تلك الرواية أنه قال: فشفعه في وشفعني فيه، وفي هذه: وشفعني في نفسي. لكن هذا الإسناد له شاهد آخر من رواية هشام الدُّسْتِوائي عن أبي جعفر.
ورواه البيهقي من هذا الطريق وفيه قصة قد يحتج بها من توسل به بعد موته إن كانت صحيحة رواه من حديث إسماعيل بن شبيب بن سعيد الحبطى عن شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان، في حاجة له وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر، في حاجته، فلقى الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيقضى لي حاجتى، ثم اذكر حاجتك، ثم رح حتى أروح معك. قال: فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى بَعْدُ عثمان ابن عفان، فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطِّنْفِسَة وقال: انظر ما كانت لك من حاجة. فذكر حاجته فقضاها له.
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتى ولا يلتفت إلىّ حتى كلمته في. فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته ولكن سمعت رسول الله ﷺ يقول، وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي ﷺ: (أو تصبر؟) فقال له: يا رسول الله ﷺ، ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال: (ائت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيجلى لي عن بصرى، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي) قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وما طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.
قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب بن سعيد. قال: ورواه أيضا هشام الدستوائى عن أبي جعفر عن أبي أمامة بن سهل عن عمه وهو عثمان بن حنيف ولم يذكر إسناد هذه الطرق.
قلت: وقد رواه النسائي في كتاب عمل اليوم والليلة من هذه الطريق من حديث معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف. ورواه أيضا من حديث شعبة وحماد بن سلمة كلاهما عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة، ولم يروه أحد من هؤلاء لا الترمذي ولا النسائي ولا ابن ماجه من تلك الطريق الغريبة التي فيها الزيادة: طريق شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم.
لكن رواه الحاكم في مستدركه من الطريقين، فرواه من حديث عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المدني، سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضريرا أتى النبي ﷺ فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: (إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت). قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلى ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتى هذه، اللهم فشفعه في وشفعني فيه) قال الحاكم: على شرطهما.
ثم رواه من طريق شبيب بن سعيد الحبطى وعون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أنه سمع النبي ﷺ وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره وقال: يا رسول الله، ليس لي قائد وقد شق على، فقال: (ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قال: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيجلى لي عن بصرى، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي) قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأن لم يكن به ضر قط. قال الحاكم: على شرط البخاري.
وشبيب هذا صدوق روى له البخاري، ولكنه قد روى له عن روح بن الفرج أحاديث مناكير رواها ابن وهب، وقد ظن أنه غلط عليه. ولكن قد يقال مثل هذا إذا انفرد عن الثقات الذين هم أحفظ منه مثل شعبة وحماد بن سلمة وهشام الدستوائى بزيادة كان ذلك عليه في الحديث، لا سيما وفي هذه الرواية أنه قال: (فشفعه في وشفعني في نفسي) وأولئك قالوا: (فشفعه في وشفعني فيه) ومعني قوله: (وشفعني فيه) أي في دعائه وسؤاله لي فيطابق قوله: (وشفعه في).
قال أبو أحمد بن عدي في كتابه المسمى بالكامل في أسماء الرجال ولم يصنف في فنه مثله: شبيب بن سعيد الحبطى أبو سعيد البصري التميمى حدث عنه ابن وهب بالمناكير، وحدث عن يونس عن الزهرى بنسخة الزهرى أحاديث مستقيمة، وذكر عن على ابن المديني أنه قال: هو بصرى ثقة، كان من أصحاب يونس، كان يختلف في تجارة إلى مصر وجاء بكتاب صحيح، قال: وقد كتبها عنه ابنه أحمد بن شبيب. وروى عن عدي حديثين عن ابن وهب عن شبيب هذا عن روح بن الفرج:
أحدهما: عن ابن عقيل، عن سابق بن ناجية، عن ابن سلام قال: مر بنا رجل فقالوا: إن هذا قد خدم النبي ﷺ.
والثاني: عنه، عن روح بن الفرج، عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة حديث دخول المسجد، قال ابن عدي: كذا قيل في الحديث عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة بنت رسول الله ﷺ، قال ابن عدي: ولشبيب ابن سعيد نسخة الزهرى عنده عن يونس عن الزهرى وهى أحاديث مستقيمة. وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير.
وحدثنى روح بن الفرج اللذين أمليتهما يرويهما ابن وهب عن شبيب، وكان شبيب ابن سعيد إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة الزهرى، ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير التي يرويها عنه، ولعل شبيبا بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو ألا يتعمد شبيب هذا الكذب.
قلت: هذا الحديثان اللذان أنكرهما ابن عدي عليه، رواهما عن روح بن القاسم، وكذلك هذا الحديث حديث الأعمى رواه عن روح بن القاسم. وهذا الحديث مما رواه عنه ابن وهب أيضا كما رواه عنه ابناه، لكنه لم يتقن لفظه كما أتقنه ابناه.
وهذا يصحح ما ذكره ابن عدي، فعلم أنه محفوظ عنه، وابن عدي أحال الغلط عليه لا على ابن وهب، وهذا صحيح إن كان قد غلط، وإذا كان قد غلط على روح بن القاسم في ذينك الحديثين أمكن أن يكون غلط عليه في هذا الحديث، وروح بن القاسم ثقة مشهور روى له الجماعة، فلهذا لم يحيلوا الغلط عليه.
والرجل قد يكون حافظا لما يرويه عن شيخ غير حافظ لما يرويه عن آخر، مثل إسماعيل بن عياش فيما يرويه عن الحجازيين، فإنه يغلط فيه، بخلاف ما يرويه عن الشاميين. ومثل سفيان بن حسين فيما يرويه عن الزهرى. ومثل هذا كثير، فيحتمل أن يكون هذا يغلط فيما يرويه عن روح بن القاسم إن كان الأمر كما قاله ابن عدي وهذا محل نظر.
وقد روى الطبراني هذا الحديث في المعجم من حديث ابن وهب عن شبيب بن سعيد، ورواه من حديث أصبغ بن الفرج: حدثنا عبد الله بن وهب، عن شبيب بن سعيد المكى، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فلقى عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد ﷺ نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضى لي حاجتى. وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قاله له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطِّنْفِسة، وقال: حاجتك، فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فائتنا.
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقى عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا، ما كان ينظر في حاجتى ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته في. فقال له عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله ﷺ وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي ﷺ: (أفتصبر؟) فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له رسول الله ﷺ: (ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات) فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل، كأنه لم يكن به ضر قط.
قال الطبراني: روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر عن شعبة، قال أبو عبد الله المقدسى: والحديث صحيح.
قلت: والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح، يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر، وطريق ابن وهب هذه تؤيد ما ذكره ابن عدي، فإنه لم يحرر لفظ الرواية كما حررها ابناه، بل ذكر فيها أن الأعمى دعا بمثل ما ذكره عثمان بن حنيف، وليس كذلك بل في حديث الأعمى أنه قال: (اللهم فشفعه في وشفعني فيه أو قال في نفسي).
وهذه لم يذكرها ابن وهب في روايته، فيشبه أن يكون حدث ابن وهب من حفظه كما قال ابن عدي فلم يتقن الرواية. وقد روى أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه حديث حماد بن سلمة فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، أنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف، أن رجلا أعمى أتى النبي ﷺ فقال: إني أصبت في بصرى فادع الله لي. قال: (اذهب فتوضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة. يا محمد، أستشفع بك على ربي في رد بصرى، اللهم فشفعني في نفسي وشفع نبيي في رد بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك) فرد الله عليه بصره.
قال ابن أبي خَيْثَمَة: وأبو جعفر هذا الذي حدث عنه حماد بن سلمة اسمه عمير ابن يزيد وهو أبو جعفر الذي يروى عنه شعبة، ثم ذكر الحديث من طريق عثمان بن عمر عن شعبة. قلت: وهذه الطريق فيها "فشفعني في نفسي" مثل طريق روح بن القاسم، وفيها زيادة أخرى وهى قوله: "وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك أو قال فعل مثل ذلك".
وهذه قد يقال: إنها توافق قول عثمان بن حنيف، لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى، وقوله: (وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك) قد يكون مدرجًا من كلام عثمان لا من كلام النبي ﷺ فإنه لم يقل: (وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك)، بل قال: "وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك).
وبالجملة، فهذه الزيادة لو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة، وإنما غايتها أن يكون عثمان ابن حنيف ظن أن الدعاء يدعى ببعضه دون بعض، فإنه لم يأمره بالدعاء المشروع، بل ببعضه، وظن أن هذا مشروع بعد موته ﷺ، ولفظ الحديث يناقض ذلك، فإن في الحديث أن الأعمى سأل النبي ﷺ أن يدعو له، وأنه علم الأعمى أن يدعو وأمره في الدعاء أن يقول: (اللهم فشفعه في)، وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبي ﷺ داعيا شافعا له، بخلاف من لم يكن كذلك، فهذا يناسب شفاعته ودعاءه للناس في محياه في الدنيا ويوم القيامة إذا شفع لهم.
وفيه أيضا أنه قال: (وشفعني فيه)، وليس المراد أنه يشفع للنبي ﷺ في حاجة للنبي ﷺ وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه، وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: (من قال إذا سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلتْ له شفاعتى يوم القيامة).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإن من صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سَلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة).
هامش
عدل- ↑ [الدبيلة: داء في الجوف. انظر: القاموس المحيط، مادة [دبل]].